رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الثالث عشر
اندفعت كسبانة لداخل غرفة حمزة فى قلق هاتفة لولدها البكر متسائلة:- خبر ايه يا حمزة.. هو حامد مش اتاخر و لا انى اللى جلجانة و مش على بعضى!؟..
نهض حمزة رابتا على كتف امه مطمئنا:- اهدى ياما.. ان شاء الله خير..
كان يعرف ان أخيه بالفعل تأخر عن المعتاد و قد حاول التواصل معه ليعرف اخر الأخبار لكن جواله كان مغلقا و هذا ما استرعى المزيد من قلقه.. فعلى أقصى تقدير كان لابد و ان يكون حامد هنا منذ اكثر من ساعة.. لكن هاهو العِشاء قد أقيمت صلاته منذ ما يقارب النصف ساعة و لا اى اخبار تذكر من أخيه..
هتفت كسبانة تخرجه من شروده بنبرة طغى فيها القلق بالفعل:- لاااه.. كِده كَتير.. الواد دِه راح فين بس !!.. شكل ابو عروسته رفضه.. انى كنت حاسة ان الموضوع دِه مش هيكمل على خير.. استر يا رب..
نظر اليها حمزة فى إشفاق و لم ينبس بحرف واحد فهو كان فى قمة قلقه ايضا و لا يلومها على ما هى فيه.. لكنه لم يستطع الجلوس مكتوف الأيدى و هو لا يعرف اين يكون اخاه ذاك المتهور الذى قد يقترف اى رد فعل جراء ما يمكن ان يكون حدث مع والد حبيبته.. اندفع خارج الحجرة و منها لخارج الدار يبحث عنه ربما يجده قادما على مشارف النجع او يجلس متسامرا مع احد أصحابه..
كان يعلم ان تلك الافكار غير منطقية فى ظل الظرف الذى خرج لأجله حامد و كان لابد عائد فى عجالة لإبلاغهم ما حدث.. غيابه هذا لا ينبئ بالخير ابدا..
مر حمزة بجانب السور الخلفى للدار و ما ان تخطى حجرة التعريشة حتى توقف فى صدمة..
ظل لثوان متسمرا فى موضعه و قد وجد حامد متمددا على احد المراتب القطنية الممتدة على ارضها و قد تكور على نفسه فى وضع جنينى يضم جسده بذراعيه متلمسا الدفء و الأمان...
اندفع اليه حمزة هاتفا بإسمه في قلق:- حامد.. خبر ايه.. حامد رد علىّ.. حاامد..
ضم حمزة أخيه الأصغر بين ذراعيه فى لوعة محاولا إفاقته لكن بلا جدوى.. حمله بين ذراعيه مندفعا لداخل الدار لتصرخ كل من سكينة و كسبانة ما ان وعت لهما على هذه الحالة..
اندفع حمزة لداخل غرفتهما ممددا أخاه على الفراش لتدثره كسبانة فى سرعة و هى تنتحب لا تعرف ما يحدث.. لتصرخ سكينة بحمزة:- ماله اخوك يا حمزة.. لجيته فين و ايه اللى چرى له!؟..
اندفع حمزة خارج الغرفة هاتفا فى عجالة:- مش وجته يا ستى.. انى رايح اجيب له داكتور و إنتوا بلغوا ابويا ياجى يشوف ولده..
و خرج مهرولا من الدار باحثا عن طبيب.
هتفت هداية فى ابنة عمها عائشة متعجلة إياها فى ضيق:- ياللاه يا عيشة.. اتأخرنا جووى على الچامعة..
اندفعت عائشة خلفها هاتفة بإعتذار:- اهاا.. انا چيت اها متجلجيش هنلحجوا معاد المحاضرة..
نظرت هداية لساعة جوالها هاتفة:- مش باين.. اتاخرنا النهاردة بچد..
اندفعت كلتاهما خارج حدود دار العمدة حامد الحناوى فى انتظار السيارة المخصصة التى تقلهما للجامعة الا إنها لم تكن موجودة كعادتها كل صباح لتهتف هداية فى غضب:- اهى كملت.. عم محروس اتاخر بالعربية النهاردة.. اصلها ناجصة تأخير.. !!..
هتفت عائشة فى رعب و هى تتدارى خلف هداية هاتفة بالقرب من اذنيها و هى تتطلع لنقطة ما:-هى كملت بچد.. اطلعى مين اللى چاى علينا دِه.
أدارت هداية ناظريها باتجاه النقطة التى اشارت اليها عائشة بطرف خفى ليطالعها مرأى جاسم بن عمها و الذى وصل لموضع انتظارهما فهتف فى تعاليه المعتاد و هو يتطلع لهداية بنظرات فاجرة لا تليق ابدا بنظرات بن عم الاجدر به حمايتها و صَونها:- كيفكم يا بنات!؟.. نازلين رايحين فين ع الصَباح الفتاح كدِه!؟..
هتفت هداية فى نزق:- و ايه يخصك انت رايحين فين و لا چايين منين!؟.
احمرت عيناه نذيرا لتطاير حمم غضبه لتهتف عائشة بسرعة على غير عادتها:- رايحين الچامعة يا واد عمى.. هنروحوا فين يعنى دلوچت!؟..
هتف جاسم غاضبا و هو يوجه حديثه لهداية التى كانت تقف ساكنة فى شموخ غير عابئة بغضبه الذى تزداد وتيرته:- چامعة ايه.!!؟. احنا مش كنّا فضيناه الموال دِه يوم ما چيت و طلبت يدك من عمى!؟..
اندفعت هداية هاتفة فى حنق بالغ:- طلبك مترديش عليه بالموافجة من اساسه عشان تتشرط و تتحكم.. انى لسه فى بيت ابويا و هو اللى ليه الكلمة الاولى و الاخيرة معاى.. غير كِده انى معرفش.. و ياللاه يا عيشة ناخدوا اى عربية من ع الطريج نلحجوا اللى باجى من محاضرات..
و اندفعت كلتاهما من أمامه الا انه لم ييأس مندفعا خلفهما بدوره هاتفا فى ثورة:- عربية من ع الطريج!؟.. بت العمدة حامد الحناوى تركب عربية من ع الطريج.. ليه من جلة العربيات.. انى هوصلكم لحد الچامعة بعربيتى..
توقفت هداية عندما وصل حديثه لهذه النقطة و جذبت عائشة من يدها لتعود ادراجها هاتفة فى تحدى:- دِه لو هتودينى فين مهروحش معاك.. ياللاه بينا يا عيشة نرچع الدار و بلاها محاضرات من اساسه النهاردة.. هو اليوم كان باين من أوله..
و عادت كلتاهما بالفعل لحدود دار ابيها العمدة و اختفيتا خلف بوابته الخشبية و هو يقف تتعلق أنظاره بتلك الفرسة الجامحة التى يعشقها حد الجنون و التى لن يهدأ له بال حتى تكون من نصيبه بأى شكل من الأشكال..
لم يكن من الصعب ادراك النتيجة التى وصلت اليها مقابلة حامد مع والد حبيبته فقد ظل قرابة ثلاثة ايّام لا ينطق حرفا فقط يتطلع للجميع بلا استثناء بنظرات عجيبة ملؤها الغضب و القهر و لم يكن يغادر غرفته الا للحمام بخطى وئيدة منكسرة و لم يضع الا القليل من الماء فى جوفه
كان بالفعل هزيلا منكسرا روحه ما عادت روح حامد الذى ما كان يكف عن المشاكسة و المزاح..
بكت امه لمرأه بهذا الشكل و كذلك سكينة جدته التى هتفت فى حسرة:- هنسيبوا الواد كِده.. !؟الواد هيروح مننا..
انتحبت كسبانة بمزيد من القهر و العجز لرؤيتها ولدها بهذه الحالة و لا قدرة لديها لمد يد العون له حتى يونس ابيه كان يمر على غرفته يتطلع اليه فى إشفاق و يرحل فى حسرة..
حمزة وحده الذى لم يستطع ان يقف متفرجا على هذه الحالة التى تلبست حامد و لا يتصرف حيالها
فهتف به و هو يندفع للغرفة:- ايه مش كفاية الرجدة اللى ملهاش عازة دى!؟.. كان ايه اللى حصل لكل دِه!؟..
نظر اليه حامد و لم يعلق بحرف ليجذبه حمزة مخرجا اياه من تحت غطاء فراشه ساحبا اياه خارج الغرفة ليجلس بينهم و هم يعدون العشاء
نظرت كسبانة فى فرحة ممتنة لحمزة فعلته فما كان احد قادر على فعلها غيره..
هتف يونس مرحبا:- الله اكبر.. ايوه كِده.. تعال اجعد وسطينا..
و ربت على كتفه و حمزة يجلسه بينه و بين ابيه...
ألتف الجميع حول الطعام و هو صامت لم يأتِ اى رد فعل تجاه ترحيبهم او دعواتهم له لتناول الطعام و كل يضع ما يجود به من طعامه على صحنه لعله يشتهيه فيتناوله.. الا انه لم يفعل..
فهتفت سكينة فى ضيق على حاله:- خبر ايه يا حامد.. !!.. غارت مَرة تاجى غيرها.. دِه انت تتمناك بت الباشا..
انفجر حامد بضحكة هستيرية أجفلت الجميع لينفضوا أيديهم من الطعام محملقين فيه بقلق بعد ان نهض فى انتفاضة هاتفا فى صوت يأتى من اعماق روحه:- بت الباشا تتمنانى انى!؟.. و ضحك من جديد نفس الضحكة الهستيرية التى تؤكد على مدى عمق ذاك الجرح الذى يعانى منه.. ليردف فى صوت خفيض متسائلا:- و بت الباشا هتوافج علىّ ليه يا ستى.. هااا.. على اصل العيلة اللى يشرف صح.. !!.. لا اصل و لا فصل.. اب خريج سچون ميعرفلوش اب و امه كانت غازية ف الموالد.. نسب مفيش بعد كِده الصراحة.. وضحك بسخرية ممزوجة بالحسرة هاتفا... بت الباشا يا ستى هاتبجى مش سيعاها الفرحة كمان ع واد رد السچون اللى جبل بيها..
نهض حمزة صارخا فى غضب محاولا اسكات أخيه و إيقاف تجريحه لكل من ابيه و جدته:- حامد.. انت اتچننت..
هتف حامد و قد اصبح خارج السيطرة تماما:- اه اتچننت.. اتچننت يوم ما فكرت انى عادى اروح أخطب واحدة جلبى رايدها لكن اول ما چت سيرة الاصل و الفصل.. جالولى معلش.. طلبك مش عندينا.. لو انت يا حمزة اللى اتجدمت لهم كانوا عِملوا معاك كِده!؟.. لاااه طبعا.. ما انت بن الهوارية وواحد منيهم.. و اسمهم بيرن ورا اسمك يخلى الكل يوسع السكة و تعدى و انت رافع راسك فوج.. إنما انى.. انى مين.. !؟. و لا حد.. حامد واد يونس واد.. مين!؟..
صرخ بكلماته الاخيرة هاتفا بجنون و هو ينظر لأبيه الذى نكس رأسه فى خجل ليستطرد بإحتقار مشيرا لأبيه:- هو نفسه ميعرفش لانه واد..
لم يكمل حامد المزيد من جنونه الذى كاد يتفوه به ناعتا والده بإبن الحرام لانه صمت جراء صفعة دوت بقوة على وجهه أخرسته و لجمت لسان الجميع.. كانت يد سكينة قد انزاحت عن وجه حفيدها و هى تلهث فى غضب هاتفة فى جبروت لم يشهده عليها احد منهم منذ قدمت للمعيشة معهم:- اياك تكلم ابوك بالطريجة دى تانى.. ابوك دِه تاچ راسك يا عويل.. و ان مكنتش امك عرفت تربيك.. يبجى تربيتك علىّ انى..
ثم اندفعت الى ذاك المصحف الذى أهداه حمزة لجدته بخيتة و الذى لا يفارق يدها مطلقا على الرغم انها غير قادرة على القراءة فيه و الذى كان يجاور مجلسها الان و هى قابعة على اريكتها فى صمت تتابع ما يحدث و لم تتفوه بحرف واحد تتمتم ببعض الادعية فى قلق على ما تسمعه يجرى حولها لتنتزعه سكينة و تضعه على عينيها تقسم فى صدق هاتفة:- و حج المصحف دِه على عنايا عمرى ما كنت مَرة شينة و لا لمسنى راچل الا ف الحلال.. ايوه كنت غازية ف الموالد لكن عمرى ما عِملت الحرام ابدا.. و ابوك اللى انت بتستجل بيه ده واد عمدة كد الدنيا.. راچل مأصل من عيلة كَبيرة..
نهض يونس فى تثاقل متوجها لأمه فى حزن هاتفا محاولا تهدئتها:- انتِ بتجولى ايه ياما.. متخليش كلام الواد المخبل دِه.. و أشار لحامد
مستطردا:- يخليكى تدعى على نفسك بالكدب.. انى راضى ياما.. و انتِ على دماغى من فوج.. بس هاتى المصحف دِه و استهدى بالله..
صرخت سكينة فى ثورة:- انى مبكدبش و لا بجول اى كلام و خلاص... دى الحجيجة.. الحجيجة اللى فضلت مخبياها عليك لسنين و سنين من خوفى عليك يوصلوا لك يا حبة عينى..
تطلع اليها يونس فى شك بينما هتف حامد فى سخرية:- الفيلم دِه هيخلص ميتا و على ايه ان شاء الله!؟..
هتفت سكينة فى غضب:- ماهواش فيلم و لا حدوتة بخرسك بيها يا واد الغالى.. دى الحجيجة
ابوكِ يبجى يونس حامد محمد عبدالصمد..
قاطعها حامد ساخرا:- عارفين.. و انى متسمى على اسم چدى.. حامد.. ايه الچَديد!؟..
لتصرخ فى وجهه مستطردة كأنه لم يقاطعها:- الحنااااوى.. يونس حامد محمد عبدالصمد الحناوى..
انتفض يونس غير مصدق يتلفت حوله فى تيه و بكت كسبانة فى صمت شاهقة و هى تضع كفها على فمها تكتم شهقاتها بينما وقف حمزة فى احد جوانب الغرفة فى صمت يتطلع الى ما يحدث فى تعجب و جدته بخيتة زادت من وتيرة دعائها الهامس..
الوحيد الذى نطق فى صدمة غير مصدق كان حامد الذى هتف متسائلا:- بتجولى الحناوى.!؟..
جصدك العمدة حامد الحناوى ابو عبدالله الله يرحمه!؟..
هزت رأسها فى تأكيد هاتفة فى وهن:- إيوه هو.. عبدالله الله يرحمه دِه يبجى عمك الصغير يا حامد..
هم حامد بالتحدث الا ان يونس اندفع لأمه صارخا و هو يمسك بعضديها فى غضب:- انتِ بتجولى ايه.. بتجولى ايه!؟.. هنتبلوا ع الناس ياما.. ارحمينى و ارحمى روحك و بكفاياكى بجى..
همست رغم ألم ذراعها التى كان يضغط عليها يونس بقوة غير واع:- انى حلفت ع المصحف و انى مبكدبش.. و ابوك عايز يشوفك يا يونس.. انت اللى باجى له بعد موت عبدالله.. مكنتش عارفة اجولك ازاى و لا أوصلك طلبه كيف.. بس كن اللى حصل دِه كله عشان ربنا يظهر الحج و تعرف ابوك و يعرفك..
ترك يونس ذراعيها فى بطء قاتل يتطلع اليها فى شرود غير مدرك ما يجب عليه فعله او قوله.. تطلع حوله فى اضطراب لعل احد من الموجودين يخبره ان ما يسمعه الان ما هو الا مزحة ثقيلة او حلم يقظة سيستيقظ منه سريعا على حياته الرتيبة التى اعتادها و على يونس الذى كان يظن طوال عمره انه لن يعرف له ابا ابدا..
تطلع لحمزة الذى كان ينظر اليه بشفقة غير قادر على الرد بأى كلمة و كسبانة التى لازالت على صدمتها المتمثّلة فى بكائها الصامت و شهقاتها الشبه مكتومة حتى حامد الذى فجر الموقف برمته لم يكن بأقل منه صدمة و عدم تصديق..
و اخيرا اندفع يونس خارج الدار كالإعصار مبتعدا يكافح حتى يستطيع ان يرى الطريق امام عينيه من شدة هرولته و قدماه التى تلتف ببعضها تكاد تعرقله من شدة اضطرابه..
هتفت بخيتة عندما عم الصمت بتنهيدة متحسرة خرجت من اعماق روحها:- بخيتة هى سكينة هى كسبانة.. و غسان الهوارى هو ولده سليم هو حامد الحناوى.. بس عيالنا هم اللى بيدفعوا التمن ف الاخر.. يا خوفى من اللى چاى..
و كانت على حق تماما فى توجسها.. فالقادم يحمل رياح عاصفة فُتح لها الباب على مصرعيه..
كان صوت الاذان صادحا حين دخل مهران بهدوء لحجرة جدته التى كانت تأخذها الان سِنة من نوم فى موضعها على تلك الأريكة المفضلة لديها.. دخل مهران الحمام الملحق بحجرتها و ملأ كعادته ذاك السطل بالماء و حمل معه ابريقه و خرج اليها.. تنبهت جدته لحضوره فهتفت فى سعادة:- مبتفوتش فرض يا مهران و تاجى لستك.. ربنا يذكرك بالشهادة يا ولدى و يرزجك راحة البال.. جلت لك متتعبش روحك انى هتيمم لكن مچيتك عندى يا ولدى بتفكرنى انى لساتنى عايشة بدخلتك عليا يا واد الغالى..
انحنى مهران مقبلا هامتها و تنهد و هو يضع السطل المعدنى ارضا و يبدأ فى صب الماء لجدته حتى تتم وضوءها و اخيرا يقوم بغسل قدميها حتى ينتهى و يحمل الماء للحمام من جديد..
هم مهران بالخروج ليلحق بصلاة الجماعة فى المسجد الا ان الحاجة فضيلة استوقفته هاتفة:- لساتك على حالك يا مهران!؟.. سامح يا ولدى..
تعجب مهران من سؤالها و زاد تعجبه من طلبها بالسماح..
هتف مهران مستفسرًا:- أسامح مين يا ستى!؟..
هتفت الحاجة فضيلة:- سامح جلبك يا ولدى.. سامح روحك.. هتلاجى مهران رچع مهران..
همس مهران فى نفسه:- صدجتى يا ستى.. بس أسامح كيف!؟.. أسامح جلبى و لا روحى كيف و هى أسراهم كأنهم ملكها هى.. مش جادر اسامحهم لأنهم مش مطوعينى.. جلبى و روحى طوعها و دِه اللى واچعنى.. تسبهم يا ستى و انا هسامحهم انهم كانوا ف يوم معاها ضدى.. هسامحهم و الله بس يرچعوا لى و يبعدوا عنيها.. يبعدوا عشان ارتاح.
تنهد مهران و ما ان هم بالخروج من غرفة جدته حتى اصطدم بجسدها ذاك الشهى الذى حرمه بغباء منقطع النظير على نفسه يوم زفافهما.. انتفضت هى بدورها متراجعة عندما ترأى لها محياه.. كانت نظراته تلك اللحظة تقتلها و تثير فيها وجعا ينوء بحمله الجبال.. نظراته منكسرة ذليلة.. نظرات تعكس مدى قهر روحه و أحزان قلبه و على قدر خيبة أملها فيه على قدر وجعها لحاله الان و هو ينظر اليها عاتبا للمرة الاولى.. ينظر اليها يكاد يقتله ألمه يخبرها انه جَبُن... انه غير قادر على اتخاذ قرار موجع كأبتعاده و حتمى كأبتعادها.. جَبُن ان يمنع قلبه عن حبها و ان يمنع روحه عن التعلق بها..
حاولت ان تنطق حرفا ان تستغل تلك الفرصة التى تراه فيها راغبا فى الغفران او حتى الاستماع لها على اقل تقدير لكن ذاك النداء القريب من مسجد جدهما الكبير صادق الهوارى جاء معلنا إقامة الصلاة فهرول من امامها و لم ينبس بحرف.. يسير الى المسجد جسدا بلا روح ملبيا نداء الصلاة لعلها تريحه من ذنب لم يجنه.. ووجع صار مختلطا بأنفاسه.
دخل باسل دارهم بعد رحلة استغرقت ثلاث ليال خارج النجع
فطالعته امه تجلس فى صحن الدار تولى جم انتباهها للتلفاز أمامها حتى انتبهت اخيرا لقدومه..
هتفت فى سعادة:- حمدالله بالسلامة يا جلب امك..
انحنى فى مودة يقبل رأسها ويتمدد على الأريكة المجاورة لها فى إرهاق.. فاندفعت هى فى سرعة هاتفة:- هحضر لك حاچة تاكلها تلاجيك چعان يا حبة عينى..
هتف باسل:- لاه.. مش چعان ياما.. انا عايز انام.. هروح اخد دش وانام.
عادت ادراجها وهى تربت على كتفه فى محبة:- طيب.. روح نام واستريح على بال ما اروح وارچع من بيت خالك.. تكون صحيت وچعت.
انتبه عندما ذكرت بيت خاله.. بيت الحبيبة المتباعدة تلك النجمة العالية التى لن يستطيع الوصول اليها ابدا..
فتساءل فى ترقب:- ليه خير.!!؟. مش بعادة تروحى فى وجت زى دِه لبيت خالى.. ده احنا داخلين ع المغرب.. !!؟..
قالت فى حبور و هى تتطلع لشاشة التلفاز:- بت خالك سندس چالها عريس وهو..
انتفض كمن لدغته عقربة هاتفاً:- بتجولى ايه.. !!؟..
انتفضت سهام على صراخه:- ايه يا واد.. خلعتنى.. ايوه عايزنى اروح عشان اجعد مع زهرة وجت مچية العريس.. سبنى بجى لحسن اتأخرت و زمانه وصل.. و..
لم تكمل جملتها ليندفع كالقطار من أمامها خارج الدار وهى تضرب كف بكف على ولدها الذى كان يتضور جوعا للنوم منذ لحظات وها هو يندفع للخارج فى اللحظة التالية..
لتهتف ضاحكة:- مچنون بن مچانين.. ولدى.. مش جايبة من بره.. وتعاود قهقهاتها فيظهر حسام متوجها اليها وقد استمع لتعليقها الاخير.. لينفجر ضاحكاً بدوره وهو يعقب:- اول مرة تجولى حاچة صح فى حج ولدك..
لتعاود هى قهقهاتها على تعليقه..
ليهتف متسائلا:- هو ولدك راح فين يچرى كِده!؟..
هتفت متعجبة:- و النبى ما عارفة.. دِه لساته واصل م السفر و اول ما جلتله انى رايحة بيت خاله عشان عريس سندس فلجيته..
صمتت و تنبهت فجأة لغبائها لتنتفض هاتفة فى حسام:- هم يا حسام وصلنى بسرعة ع السرايا..
تعجب بدوره هاتفا:- ايه فى!؟.. ما كنتِ زينة.. و لا الچنان طالك انتِ وولدك!؟..
صرخت فى ذعر:- بجولك هم يا حسام مش وجت هزار.. هم نلحج ولدك..
لم يعقب حسام على قولها و اندفع بدوره خارج الدار ليوصلها الى سراىّ أهلها غير مدرك لذاك السبب الذى دفعها لتتعجل بهذا الشكل..
هتفت هداية صارخة و هي تخلع عنها خمارها الأسود:- لحد ميتا اللى اسميه چاسم دِه هايفضل ورايا كِده!؟..
ربتت عائشة على كتفها مهدئة فى محاولة لتطييب خاطرها:- استهدى بالله يا بت عمى.. ما انتِ مش بتسكتيله برضك و بتديله على دماغه..
هتفت هداية حانقة:- طب و انى هعمل ايه طيب.. و الله لولا اللى احنا فيه لكان ليا كلام تانى مع ابويا..
اكدت عائشة:- اهااا.. اديكِ جولتيها.. اللى احنا فيه.. عمى حامد مش ناجص يا هداية.. مصيبة اخوكِ عبدالله كَبيرة جوووى عليه و كسرت ضهره.. و البَعيد اللى اسميه چاسم عارف دِه كويس و اديكِ وعياله مبيفارجش عمى لا ف صبح و لا عشية.. استهدى بالله كِده.. و اول ما عمى يشد حيله جوليله.. و انتِ عارفة عمى مبيرفضلكيش طلب.. دِه انتِ بالذات مبيحملش عليكِ النسمة..
هدأت هداية قليلا و هي تصدق على كلام ابنة عمها و الأقرب اليها من اخت.. فقد نشأتا سويا كأختين بعد وفاة أبوي عائشة و رغبة حامد عمها في الاحتفاظ بها لتربيتها عوضا عن أخيه الأصغر و منذ تلك اللحظة لم يفترقا قط..
تنهدت هداية في حزن هاتفة:- ربنا يعدى الأيام اللى چاية دى على خير يا عيشة.. چاسم شادد حيله و شايف حاله بعد ما راح عبدالله و حس بكسرة ابويا عليه.. فاكر ان مبيجلناش راچل يوجف له.. بس و الله ما انولهاله ابدا و لا هيطولنى و لا ف أحلامه.. دِه انى بت العمدة حامد الحناوى..
هتفت كلماتها الأخيرة بعزم و صلابة يلين لها الحديد..
تنهدت كسبانة و هى تجلس فى وهن بجوار حماتها لتسألها الاخيرة:- لساته جاطع الزاد و مبيكلمش مخلوج!؟.
هزت كسبانة رأسها فى إيجاب دون ان تنطق بحرف لتنهض سكينة هاتفة فى عزم:- طب انى جامية ادخله..
هتفت كسبانة فى تضرع:- بلاش يا خالتى الله يخليكى.. دِه على اخره ومش ناجص.. اللى عرفه مش هين برضك..
لم تعر سكينة لتوسل كسبانة بالا بل اندفعت تجاه حجرة ولدها بنفس العزم و فتحت الباب فى هدوء تتطلع فى جنبات الغرفة المعتمة نوعا ما حتى وقعت عيناها على وحيدها القابع فى احد الأركان..
مدت كفها لذر الضوء ليسطع ف الغرفة و دخلت و اغلقت خلفها الباب و استدارت تتطلع اليه هامسة:- لساتك مجاطعنى و مش عايز تتحدت معاى يا واد سَكينة!؟..
رفع نظراته الغاضبة المقهورة اليها و لم يتفوه بحرف لكن تلك النظرات كانت كفيلة بالرد على تساؤلها مما حاداها لتسير الى حيث كان يجلس و تجلس بالقرب منه هامسة:- عِندك حج.. لكن لو كنت وعيت للشر اللى كان طالل من عين صابر الحناوى ياميها مكنتش هتزعل من امك كِده!؟..
استطاعت اثارة فضوله ليهمس بصوت متحشرج لطول صمته الأيام الماضية:- مين صابر دِه!؟..
تنهدت سكينة هاتفة و هى تتطلع لنقطة بعيدة فى احد أركان الغرفة:- دِه يبجى عمك الله يرحمه يا ولدى.. بس كان راچل چبار و عليه چبروت يهد چبل.. يوم ما عِرف ان ابوك بياجينى المولد جه برچالته و كسروا المولد كلاته و طردونا من مُطرحنا و جالى بالحرف الواحد.. " لو وعيت لك تانى هنا انتِ واهلك هجطع خبركم" كان فاكر انى غازية بتلوف على اخوه الصغير و هاتتلف أمله مكنش يعرف انى مرته على سنة الله و رسوله و انى كنت حامل فيك..
خرست من خوفى على حالى و على اللى ف بطنى.. ساعتها هربت لبعيد و كل ما أفكر ارچع.. اسأل و اعرف ان عمك لساته عايش و چبروته بيزيد اخاف عليك و ابعد من تانى لحد ما خلاص جلت بعد ببعد.. هناخد منيه ايه جربنا منيهم.. و انت اتچوزت و بجى ليك عيال و عايش الحمد لله بعيد عن مواويلهم.. لحد ما چه عبدالله معزوم مع ولدك حامد ف يوم و سبحانه اللى بيسبب الأسباب.. عرفت هو مين و بن مين..
جعدت أفكر اجول و لا لاه.. و لو جلت هيعترف بيك ابوك و لا لاه.. جلت اروح له.. وساعتها حصل اللى حصل لولده عبدالله و رحت له أعزيه.. يوميها مصدجش حاله و طلب يشوفك لانه محتاچ لك چاره و عايز يعوضك بعادك عنيه السنين دى كلها.
صمت يونس و لم يعقب و رأسه منكس مكدود من الافكار التى تتصارع به بلا هوادة.. شعرت سكينة بما يعتمل بعقل ولدها و صدره من صراعات فربتت على كتفه فى حنو هامسة:- عارفة اللى انت فيه.. ربنا يعينك على حالك يا ولدى.. سامحنى يا يونس كل اللى عِملته كان عشانك..
عشان خايفة عليك و كنت فاكرة ان دِه الصالح.. جلت تفضل معرفش ابوك احسن ما تعرف انه متبرى منيك او عمك يعرف مكانك و يجتلك.. و نهضت تربت على كتفه من جديد هامسة فى صوت باكٍ بنبرات متحشرجة:- سامحنى يا يونس.. انى محجوجة لك يا حبة عينى...
و انحنت تقبل هامته المنكسة و ترحل خارجة من الغرفة فى هدوء تاركة اياه فى صراع محتدم و حيرة قاتلة.. هل عليه ان يذهب لأبيه و يكون سندا له كما يرغب و ينعم بالعوض عن كل ما عاناه فى الماضى.. ام يترك كل هذا خلف ظهره كأنه لم يعرف قط و يظل يونس الذى كان يعيش حياته فى سكينة و رتابة لا يعكر صفوه شيئا!؟.. و ما بين هذا الخيار و ذاك دارت رحى حربه الداخلية التى لا يعرف هو نفسه على ماذا ستنتهى و لمن ستكون الغلبة فى النهاية..
ليونس القديم.. سنجأ سابقا..
ام ليونس الجديد..
... يونس الحناوى!؟..
هلل عاصم مرحبا بالضيف الكريم... تنحت زهرة جانبا فى الصالون الملحق بمقعد الرجال.. حتى وصلت سندس اخيرا فألقت التحية فى سرعة على ابيها وأخيها و عريسها الاستاذ سامى.. وكيل النيابة الذى باشر قضية مهران.. و الذى رأها عدة مرات اثناء سير التحقيقات مع الاستاذ موافى المحامى الذى تعمل بمكتب المحاماة خاصته.. والذى كان يتولى الدفاع عن اخيها.. لتفاجأ برغبته فى التقدم لخطبتها..
جلست بالقرب من أمها التى أولتها جم اهتمامها ما ان رأتها تدخل عليهم
تبادل الرجال اطراف الحديث فى شتى الموضوعات حتى حانت لحظة تنحنح فيها سامى هاتفاً:- انا جيت النهاردة يا عاصم بيه عشان أتشرف بطلب ايد كريمتكم الانسة سن..
وفجأة.. وعلى غير المتوقع يجد سامى نفسه مرفوعاً من على الارض قدميه لا تلامسها وفى جانب رأسه تلتصق فوهة مسدس باردة.. وصوت يقطر غضبا وحقدا يهمس به:- انطج اسمها على لسانك و شوف هاتبجى فين بعديها!؟..
وقفت زهرة مشدوهة من المنظر الغير متوقع لباسل وهو يستأسد على عريس ابنتها بهذه الطريقة.. فمدت بصرها لعاصم الذى وجدته لم يحرك ساكنا حتى الان.. و يبدو انه منع مهران بطريقة ما من التدخل هو الاخر.. فهمست فى نفسها:- ماذا تخبئ فى جعبتك يا عاصم!؟..
وما الذى يدفعك للوقوف صامتا امام مشهد كهذا.. !!... ثم تذكرت فجأة بعض الكلمات التى ألقاها على مسامعها منذ فترة بخصوص باسل و سندس.. "ان كان باسل مش جادر يتجدم انى اللى هخليه ياجى زاحف يطلبها و انى اللى هرفضه.. " الم يقل هذا بالحرف.. !!؟.. بلا فعل.. لكن هل هذا ما كان يقصده بالفعل!؟.. ان هذا لجنون..
مدت كفها تمسك بكف ابنتها البارد والتى وقفت بدورها مبهوتة يغيب اللون عن محياها من هول ما يحدث.. ولسان حالها يسأل سؤال واحد.. ماذا يفعل هذا المجنون المدعو باسل.!!؟.. .ولما يتهجم على عريسها بهذا الشكل الهمجى.. !!؟.
هنا جاءتها الأجابة التى انتظرتها طويلا.. جاءتها بشكل لم تتخيله فى اكثر أحلامها روعة وباسل يهتف فى ثورة:-محدش هيتچوزها غيرى..
ليتدخل هنا عاصم صارخا فى ثورة مماثلة:- انت بتجول ايه يا واد!؟.. .
وارتفعت كف عاصم ليهوى بها على وجه باسل.. ليستفيق ويترك تلابيب سامى و ينساب سلاحه من بين أصابعه ليسقط محدثاً صوتا كالرعد فى ظل ذاك الصمت الذى خيم على القاعة.. لكن لم يكن ذاك هو الصوت الوحيد الذى سمعه الحاضرون.. إنما كان الصوت التالى.. صوت ارتطام جسد سندس بالأرض فاقدة وعيها.. فى نفس لحظة دخول سهام و حسام شاهقين فى لوعة لمنظر ولدهما بين يدىّ خاله عاصم الهوارى ممسكا بتلابيه.. بين يدىّ الغول..