رواية لعبة عاشق بقلم يسرا مسعد الفصل الرابع عشر
شعور بالاختناق يكتنف صدره والأفق حوله يزداد ضيقا والهرب يبدو حلا مثاليا وتعثرت خطواته في الحديقة أمام صغاره، جرت سلمی نحوه وتشبثت بعنقه بينما ظل نسخته المصغرة مكانه لم يتزحزح أنملة وبعيناه أسوء ما قد يراه أب " خيبة أمل " طعمت صغيرته وجنته بقبلة دافئة وهي تقول:
- وحشتني أوي يا بابا أنت كنت فين إمبارح؟!
ولم لم يقرر الهرب باكرا؟!
فهو فعليا عاجز عن الرد أو الإتيان بسبب مقنع فتنحنح وهو يسوق كذبة لأسماعها البريئة وهو يضعها أرضا:
- معلش ياحبيبتي أضطريت أبات في الشغل إمبارح فباغتته سلمي بقولها:
- شوفنا ماما النهاردة هم بإعتدال ولكنه توقف واقترب أكثر ليحدق بعيناها التي تشع سعادة وتصاعدت خطوات سريعة من سلیم نحوها وهو يزجرها:
- سلمی يالا ندخل جوه عشان نعمل الواجب فالتفتت له العنيدة كأبيها:
- لاء مش هعمل حاجة لحد ما ماما تيجي زي ماقالت وتذاكر معانا وتصريح آخر ينبثق من شفتيها لتنتفخ أوادجه، كان يعلم أنها لن تستطيع الصمود طويلا وحتما ستعود فلمعت عيناه وابتسم بسعادة الصغارة قائلا:
- بالراحة ياسليم وبعدين إنت فكرك إني مش عارف أنا وماما متفقين على كدة من الأول فتعلقت أعين الصغير به قائلا برجاء:
- طب مانروح نقعد معاها وتيجي أنت تشوفنا أنت كدة كدة بترجع متأخر وساعات كتير مش بنشوفك زم شفتيه ضائقا فولده محق أين هو من حياة صغاره؟!
أين كان بالأمس؟!
هاربا من خيبة واقع بأحضان أخرى لم يألف حتى أنفاسها عقد حاجبيه وقال:
- یالا ادخلوا اتشطفوا وغيروا هدومكو . . عمو أسامة جوه وتهللت ملامح الصغار فهم يشتاقون لعمهم الطيب وانصاعوا لأمره مذعنين وانصرف وهو يعدهم بوجبة عشاء برفقتهم لم تصدق عيناها وهي تطالع ساعة معصمها فقالت بدهشة ضائقة - الساعة بقت واحدة ! فالتفت لها كريم قائلا:
- إيه عندك معاد ياكتورة ؟ فابتسمت له بخجل قائلة:
- ولادی بيطلعوا من المدرسة الساعة ۱۲ ونص يادوب ألحقهم فارتفع حاجبية بدهشة وعيناه متعلقة بإصبعها الخالي من خاتم زواج قائلا:
- حضرتك متجوزة؟!
هزت رأسها وقالت بصوت خافت:
- کنت فتوارى بأعينه حرجا هو الآخر وقال:
- أنا آسف . . بس . . . یعنی احنا . . . أصل في المركز فقاطعته قائلة:
- أنا فاهمة يادكتور طبعا معظم المراكز بتفضل حد متفرغ وأنا آسفه أن ماقولتش لحضرتك قبل كده بس زي ماقلت أنا ماعييش سی في ثم حملت حقيبتها وهمت بالإنصراف قائلة:
- أنا آسفة إني ضيعت وقتك فاستوقفها سريعا.
- لا لا لا أنا ماقصدتش، إحنا بس كده محتاجين نعمل تنظیم جديد للمواعيد يناسبك يادكتورة هزت سالی برأسها قائلة:
- أوكيه أنا يناسبي فترة الصبح ولو يعني لازم فترة مسائية أفضل تكون من ۸ بس ساعتين مش أكتر صفق بكفة مرة واحدة قائلا بحماسة:
- تمام مناسب جدا وسار إلى جوارها حتى وصلا لباب المدخل الزجاجي وفتحه لها وهو يقول:
- أشوفك على خير بكرة بس ياريت تجيبي السي في عشان نحطها في الملف ردت بإبتسامة صافية:
- إن شاء الله وعندما خطت بخطواتها نحو الشارع تصاعد رنين هاتفها فردت وهي تعلم أن المتصل حتما والدتها التي كانت بالفعل غاية في القلق عليها إذ قالت:
- یعني استنيت تكلميني تطمنيني عليك وأنت ولا أنت هنا ضحكت سالی بصفاء لا تعلم مصدره قائلة:
- معلش ياماما والله أما أرجع هحكيلك فعبست مجيدة:
- أنت راجعة دلوقت مش رايحة للولاد زي ماقولت ؟ نفت سالي سؤالها وهي تشير لسيارة أجرة:
- لا ياماما رابحة أهو . . أأقصد لما أرجع زعقت بها والدتها غاضبة:
- یعنی هتسيبني على عمايا لحد بالليل ردت سالي وهي تقفز داخل سيارة الأجرة:
- كفر عبدة لو سمحت، ثم همست لتهدأ أمها:
- خلاص يا ماما ولا تزعلي روحك، أنا كنت بلف ولقيت شغل الحمد لله اعتدلت مجيدة في جلستها بسرعة قائلة:
- إنتى بتتكلمي جد ؟ فين ؟ فقالت سالي متفكهة:
- هيكون فين يعني، في مركز أسنان طبعا فقالت أمها ممازحة:
- أوعي يكون سكرتيرة فروت سالی بمرارة:
- لا ماتخافيش لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين تمنت مجيدة لو كانت تمالكت لسانها الذي تسبب في غياب البهجة عن صوت صغيرتها فقالت بحرج:
- أنا ماقصدتش، حقك عليا هزت سالي رأسها طاردة شبح الدموع بعيدا فهي فعليا تقود حياتها نحو تغير لا رجعة بعده قائلة بصلابة حديثة عليها:
- ولا يهمك هكلمك لما أوصل سلام لم يتغير شيء بحياته بضعة أيام اختل فقط توازنه والآن وبعد تصريح شمس حياته الصغيرة كل شيء عاد لمكانه الصحيح أو بات قريبا جدا التمتع بقيادة حياته بعيدا عن عبث المحيطين بها وإحكام السيطرة من جديد كان هذا سبب أكثر من كاف للبريق الوحشي الذي يلتمع بعيناه وهو يخترق الردهة هاتفا بأمر لا يقبل الجدال:
- دراية، ورايا كانت تتمنى لو استطاعت فعليا تجاهله ولكن عيناه تنذر بشيء خطير جعلها تؤثر السلامة وداخلها يتوعده برد صادم إن تجاوز الحد دخلت لتراه متخذا مجلسه بعنجهية مفرطة لا تليق إلا بجاسر سليم دون البشر فقال دون مقدمات:
- عاوزة تستقيلي، مع السلامة مش هلزمك بحاجة، راجعتي نفسك وعاوزة تكملي شغل معايا أنا أكتر من مرحب، هاه إيه قرارك ؟ ألا يعلم الرجال أن إتخاذ قرار وتحديد خيار في التو واللحظة لهو أعظم فخ تقع به إمرأة ربما يجهل الكثير ولكن ليس هو والخيار لدرية لم يكن بين وظيفة واللاوظيفة بین راتب مجز وبين عوز لوالد الخيار لدرية كان بين الكرامة ولا خيار دونها ضاقت عيناها وهي تجيب:
- وياترى غيرت رأيك ليه ؟، مش كان لازم شرط جزائي ولحد إمبارح كنت هتلففني على الأقسام . . . قاطعها بحسم:
- لحد إمبارح، النهاردة غير . . من غير مراوغة يادرية آه ولا لاء رفعت كتفيها بشموخ تمثال إغريقي:
- أنا زي ما أنا مش هتغير فرد بالمقابل:
- ولا أنا بتغير وساد الصمت بينهما هو لم يستجدي بقاء زوجة وبالتأكيد لن يستجدي بقاء سكرتيرة وهي لن تقدم تنازلات ولا إعتذارا عما بدر منها بالأمس وعندما يتلاقی خصمان كلاهما يمتلكان عزة وكبرياء يناطح إحداهما الآخر يستوجب التدخل فورا للحد من الخسائر فقال أسامة مقاطعا والذي اقتحم الغرفة على نحو مباغت لهما:
- ومافيش حاجة هتتغير هتفضلي هنا في شغلك يادرية، أظن نشوف اللي ورانا بقا ولكم كان تدخله محمودا بنظر أخيه الأكبر الذي قال:
- أنا شايف كده برضة فقالت درية وهي تقول بعند أنثوى أخرق:
- عشان خاطرك بس یاباشمهندس إذ أن الأخير ما لبث أن تمسك بجملتها فبعد ساعة زمنية تلقی هاتفها رسالة نصية عبثية جعلت الدم يتوارد بلا حساب لوجنتها وأناملها تتشبث بالهاتف لكأنه قارب نجاة وعيناها تعيد قراءة السطور ومابين السطور " لو كنت أعرف أن خاطري غالي أوي كده عندك أنا كنت عليت سقف مطالبي " والأسوء أن هناك شاهدا ناظر هذا التورد بمكر حصري لأفراد آل سليم وهو يقول هازئا:
- بعد ماتخلصي الشات اللطيف ده عاوز آخر إحصائيات الأسهم في البورصة يادرية ألحت نعمات عليها للمرة الثالثة على التوالي:
- طب مش هتاكلي ليه ياست سالي ؟ فالتفتت لها سالي بأعين عاتبة:
- قولتلك شبعانة يانعمات ترك سليم طعامه وقال:
- مش هاكل إلا لما تاكلي أخذت نفسا عميقا وأغمضت عيناها بألم، كيف لها أن تتذوق طعاما ببيته؟!
كيف لها أن تضع بمعدتها غذاءا لم تصنعه هي هي ليست بضيفة ولا هي صاحبة البيت كما تصر نعمات ولا تملك الحق حتى بشربة ماء هي أشبه بکائن طفيلي يسترق الساعات بمنزل دون علم أصحابه لتكون فقط بصحبة أولادها بالماضي كانت صاحبة حق حتى تنازلت هي بملى إرادتها عن تلك الحقوق فالتفتت لصغيرها وقالت بصوت متألم من تلك الحقائق ساعدها في إثبات إدعائها:
- أنا بطني وجعاني أوری یا سليم أما تخف هاكل يالا اتغدي أنت عشان نلحق نقعد مع بعض تركت سلمى طعامها وهي تقول بصوت باك:
- إنت هتمشي ياماما مش هتباتي معانا ؟ فالتفتت للصغرى قائلة بصوت متنهد:
- وبعدين معاك ياسلمی، ما تیته وبابا بیباتوا معاك فاندفعت سلمی بیکاء طفولي:
- بابا مابتش معانا إمبارح وتيته نامت بدري وسابتنا وانتقلت دموع طفلتها لعيناها غير أنها سجنتها بمهارة وقالت:
- معلش أكيد كان عنده شغل ولا حاجة فقال سليم ضائقا:
- هوا قال هيرجع يتعشا معانا ياسلمى بطلي عياط فتمسكت سلمى بكفها قائلة:
- طب لو مارجعش باتي أنت معانا يا ماما ربتت سالي على كف صغيرتها وقالت:
- يحلها حلال ياسلمی يالا بقا خلصي أكلك ظاهريا كانت تغتصب الإبتسامات من داخلها لتظهر أمام أطفالها بمظهر مشرق عکس کل خیالاتهم السوداء بهجر الأب والأم لهم في آن واحد وداخليا كانت بالفعل تنتحب حتى أوشكت الصرخات على شق أضلعها لتذكر نفسها مرة أخيرة أنها لم تعد زوجته وأن يحق له التمتع بأحضان غيرها ونفسها الحمقاء المتدثرة بغطاء أحلام وردية عن معاناته دونها تنازعها بسؤال لا تجد له إجابة شافية بتلك السرعة ؟ بل والأدهى كيف ؟ كيف جعلته يترك أمه المريضة وأولاده الصغار ويبتعد عنهم ؟ كيف استطاعت تملك قلبه وتغيير مفاهیم عقله المتحجر؟!
كيف فعلت بليلة واحدة ما عجزت هي عن الإتيان به طيلة سبع سنوات ماضية؟!
ربما لم تكن بالقوة كافية لتوقف إعصار جاسر سليم ربما كان الضعف من يكمن بها واستكانت هي له كما كانت تخبرها آشرى دوما وترفض هي تصديق تلك الحقيقة وتغلفها بأكذوبة أن هذا ما يتوجب عليها كزوجة لكم تكره سماع صوت تلك المتحذلقة ولكنها اضطرت للإتصال به عبر هاتف الشركة حيث أنه لم يجب على أي من اتصالاتها المتكررة قالت درية بصوت يقطر سأما وسما تمنت لو نال من شرايين تلك الحرباء:
- ثواني . . . هحولك ليه ثم قالت بعد مضي لحظات بصوت جاهدت أن تغلفه بالبرود:
- المدام على التليفون عقد حاجبيه قائلا بلامبالاة طاغية:
- حوليها كمان خمس دقايق فاتسعت عيناها وقالت:
- نعم فقال بصوت قاطع:
- سمعتي عادت مرة أخرى لتجيبها:
- عنده إجتماع خليك معايا ولم تمهلها فرصة للرد ووضعتها تحت إنتظار الفرج " من جاسر سليم بنغمة موسيقية هي الأكثر مللا على الإطلاق لقد طلب منها خمس دقائق فقط ولكنها كانت في مزاج" اکرم دري " بالغ فزادتهم عشرا حتى اشتعلت الأخرى غضبا، صبته فوق رأسه عندما رد بصوته الذكوري العميق:
- بتصل بيك من الصبح مابتردش والسكرتيرة تلطعني كل ده على الويتنج یاجاسر ! ! فرد بهدوءه القاتل:
- وطي صوتك وإلا هقفل السكة اتسعت عيناها وحبست شهقة حانقة وبدلتها فورا بصوت باك کاذب:
- ده جزاتي إني عاوزة اتطمن عليك وعلى طنطا نفث سيجارته وقال:
- إحنا الحمد لله كويسين ومتشكر على إتصالك فقالت بدلال:
- مالك يا جاسر أنت زعلان مني؟!
أغمض عيناه ثم قال بصرامة:
- داليا أنا ورايا شغل متلتل ومش فاضي وياريت بعد كده تتصلي للضرورة فقالت غاضبة:
- مافيش حاجة اسمها كده أنا مراتك مش موظفة عندك ووقت ماتصل بيك دي ضرورة بالنسبالي فقال بعنده الموروث:
- أنا كمان مش بالضرورة أرد عليك كل مرة هتتصلي فيها فقالت بلا مبالاة:
- أوكيه براحتك، مستنياك تعدي عليا نروح سوا فقال بنفي قاطع:
- سكة البيت ماتوهش يا داليا وانقطع الخط وعالمها الوردي يتزلزل من تحت أقدامها فقد ظنت أنها استطاعت سبر أغواره والغوص بأعماقه والتغلغل بكافة إحتياجاته وفرض قوانین عرفية بينهما وتلقينه كيف ينبغي له أن يعاملها واتضح أنها كانت حالمة أكثر مما ينبغي وضعت سماعة الهاتف والحيرة تلتمع بعيناها الفيروزية وشعور بالخواء والضياع يجتاحها وللمرة الأولي بحياتها لاتدري بالفعل " الخطوة التالية " فالحياة كما علمها والدها دوما رقعة شطرنج والحصان الأسود دوما بيدق رابح ودوما عاشت الملكة ألقى نظرة غاضبة على ساعته الثمينة وهو يلعن انشغاله بعمله حتى أنه لم يشعر بمرور الوقت وتسابقت خطواته نحو الخارج ليلحظ درية لازالت غارقة بالعمل هي الأخرى فزجرها قائلا قبل أن يختفي من أمامها:
- روحي لولادك يادرية كفياكي شغل رفعت هي الأخرى أبصارها نحو الساعة التي كانت لم تتجاوز السادسة بعد متعجبة فمنذ متى يهرول جاسر سليم عائدا لبيته بتلك السرعة في ذلك الوقت المبكر أم إنها ست الحسن والجمال؟!
عقدت حاجبيها غاضبة وهي تلملم أشيائها بصوت متقطع:
- مالكیییش دعوة، يتفلق، يتحرق، يولع . . . وقاطعها صوته المرتاب:
- ده یارب مایکون أنا فحملقت به بغضب وقالت موبخة لكأنما تخاطب صغيرها أيهم:
- يظهر أنك اتعودت تنط كل شوية زي عفريت العلبة فقفز قفزة بهلوانية ساخرا فعبست وهي تمنع ضحكة غير ملائمة ثم قالت بعتب:
- أنا اتأخرت ولازم أروح قال لها:
- شفت بقا أنا مستحمل كل ده إزاي ؟ فحملقت به بريبة:
- مستحمل إيه ؟ رد أسامة وهو يدعوها لداخل المصعد:
- قاعد مخلص شغلي ومستنيكي كل ده . أخرتيني أووي على فكرة فقالت وهي ترفع رأسها آنفة:
- وأنا ماطلبتش منك تستنا فقال بنبرة فكاهية عكس العبوس الكاذب الذي تدفع به لملامحها:
- وأنا مش مستني منك تقوليلي استنا فابتعدت بأنظارها عن مجال عيناه الذي يطوقها من رأسها لأخمص قدميها لترسم وجها فولاذيا بالمقابل وهي تخرج بخطوات مسرعة من حجرة المصعد الواسعة والتي كان يحتل هو بحضوره أكثر من نصفها فسار إلى جوارها صامتا وفتح لها باب السيارة وعيناه تخبرانها أنه لن يقبل الرفض ردا فقالت بهدوء:
- شکرا یا باشمهندس تعبتك معايا أومأ لها برأسه وهو يقول بتقدير بالغ:
- تعبك راحة يادرية كان يصارع الطريق وعقله يعمل كآلة حاسبة والناتج كان مابین دقائق وساعات، يلزمها ساعة على الأقل لتناول طعام الغداء برفقتهم، واستذكار الدروس لا يعلم بالضبط، أما اللعب واللهو فحدث ولا حرج فهي تكاد تمضي يومها بالكامل كطفلة بالخامسة من عمرها برفقتهم فابتسم بحنين لتلك اللحظات التي أهدرها هو دون أن يدری قيمتها الفعلية يتمنى لو تقدم تنازلا واحدا فقط لا أكثر وتعود وبعدها يقسم أنه قد يتنازل عن نصف كبريائه وعناده ولطالما كان محظوظا، محظوظا جدا في الواقع إذ إستطاع اللحاق بآخر لحظات الوداع بينها وبين أطفالهما والصغيرة تتشبث بأحضان أمها بقوة قائلة:
- طب هتتأخري بكرة؟!
واتاه الرد الذي أخبره أنه لم يعد محظوظ بل هو في الواقع " ملعون " - أول ما أخلص شغل هاجي على طول مش هتأخر أوعدكم عقد حاجبيه واسودت ملامحه بغضب وحشي حتى أنه لم ينتبه لهمسة سليم القلقة:
- بابا جه ! ! فالتفتت بفزع أثار ضيقها ورفعت قامتها بكبرياء ناشدت به الضلوع لتستقيم أمامه وربتت على كتفي صغارها ليلقوا التحية على والدهم فساروا نحوه فاحتضنهم مرحبا هو الآخر وهو يكاد يتمالك أنفاسه وفي الوقت ذاته يستبق خطواتها ليمنعها من الهرب قبل أن تؤكد له أو كما يتمني تنفي صحة ماسمعه قائلا بتصميم:
- سلیم خد أختك واطلعوا فوق عاوز اتكلم مع ماما شوية وقبلتهم مرة أخيرة قبل أن تشير لهم مودعة وهي تراقب صعودهم الدرجات وسارت بخطوات سريعة متجاهلة وجوده حرفيا حتى استوقفها بسؤال قاطع:
- اشتغلت ؟ عقدت حاجبيها وهمت بإجابة وقحة ولكنها تمالكت أنفاسها فهي أولا وأخيرا ضيفة بمنزله لتجيبه بهدوء بارد:
- أيوه فاقترب منها وعيناه تلتهم تفاصيل وجهها الذي غاب عنه ليلتان إثنتان لا أكثر قائلا بإتهام وأنفاسه المتسارعة تكاد تمزق صدره:
- بالسرعة دي ولا دي حاجة كانت من ضمن تدبيراتك السرية اللي ماكنتش أعرف عنها حاجة فقالت بضيق وهي ترغب في الأختفاء بعيدا عن أنظاره التي تحرقها ووجوده الذي يسبب لها الإختناق:
- يهمك في إيه؟!
زم شفتيه وقال:
- أنا كنت كلمت المحامي النهاردة يحطلك بكرة في البنك المؤخر والنفقة . . . يعني أنا شايف مافيش لازمة للشغل وللبهدلة ابتسمت له هازئة وقالت بنبرة ساخرة مرة لتذكره بموقعه الفعلي بحياتها:
- والله ماعدتش من حقك إنك تشوف وزار الأسد بأعماقه فاقترب منها على نحو خاطف واحتبس ذراعها بقبضته قائلا بصوت خفيض:
- أنا ممكن أردك ياسالي، المأذون ماوثقش الطلاق بس أنا , سايبك ترجعي براحتك، ساعتها... قاطعته بعند وهي تنفض ذراعها بعيدا عن مرمي قبضته:
- ماتلمسنيش... وأعلى مافي خيلك أركبه یا جاسر والتفتت لتطالع وجه الأخرى الغاضب التي كانت تراقب مشهد زوجها المفتون کليا بأيقونة ماضيه يقف وحواسه كلها منصبة عليها وعيناه تحملان رجاءا لم تره من قبل وكيانه کله موجه نحوها ولكن للغضب الأعمى بداخلها لم تكن تبصره هي فقط تبصر خيالا لليلتان قضاهم من كان يوما زوجها بأحضان غيرها، حتى أنه قضى ليلة الأمس برفقتها فقط فمضت تخطو مسرعة لتتجاوز بعدها تلك الفاتنة التي اقترن اسمها به نحو الخارج نحو هواء لايحمل أنفاسهما نحو أفق لا يحمل مشهد حميم يجمعهما نحو دفء يقبع بیت محسن ومجيدة وكما اعتادت فور وصولها الصعود للأعلى حيث مكان أبيها المفضل وتعثرت بالدرجات الخشبية فأحدثت ضجة فدموعها كانت تهطل بغزارة دموع الفقد للظهر والسند دموع الاشتياق للمسة حانية تخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام دموع الحاجة للشعور بالأمان وأن هناك من يقف خلفها تماما يراقب ويحمي دموع تحتاج وبشدة لمن يمحيها ويبدلها ببسمة ولكنها وجدت أحضان أمها من تتلقفها فتشبثت بها قبل أن تغرق أكثر ببحر دموعها قائلة:
- بابا واحشني أوي ياماما ولمس وجهها وجنة أمها التي كانت غارقة هي الأخرى بنفس الطوفان فردت هامسة:
- أدعيله بالرحمة باسالي