رواية لعبة عاشق بقلم يسرا مسعد الفصل التاسع عشر
أكون أو لا أكون تلك المقولة التي انطلق بها قلم شيكسبير على لسان هاملت بطل مسرحيته الشهيرة، لتصبح قاعدته الذهبية في الحياة مایکونه جاسر سليم وما لن يصبحه مادام دق أيسره ينبض هو حامي الحمى والمدافع الأول والأخير عن عائلته الصبور والمندفع في الوقت ذاته المخلص رغم كل ما تعرض له من خیانات، حتى من أقرب الناس إليه ولن يكون خائنا متخاذلا قط وأبدا لن يكون راجيا لصفح وإشارات عطف ومنة من بشر وبخاصة عندما تكون إمرأة وعلى وجه التحديد زوجته السابقة.
باقي من الزمن أربع وعشرون ساعة وتنتهي أشهر العدة وعقارب الساعة عنيدة مثله، تتقدم ولن تعود للوراء أبدا كما لن يتراجع هو عن عهدا قطعه على نفسه لن يجبر إمرأة على العيش معه تحت سقف واحد مادمت به حياة لمعت عيناه بدكنة الظلام واستدار محدقا في عقارب ساعة الحائط التي تجاوزت الثانية عشر وهو لايزال ساهرا بحجة أعمال متأخرة وقد غادر الجميع منذ ساعات طويلة واستفاق من ظلمة أفكاره ليعود لأرض واقعه واقع أصبح لزاما عليه أن يقره سنوات مضت بحياته مع من أحبها قلبه حتى تخلت عنه وتركته ولم تعد حتى اليوم ربما يحمل وزرا فهو من تشبث بالعناد ولكنها كانت صاحبة القرار وهو ليس مراهقا متشبثا بأحلام يقظة أو متعلقا بنهاية فيلم رومانسي من حقبة الستينيات ليظنها ستعود له في اللحظة الأخيرة ومع ذلك توجت حياتهما بالكلمة التي تختتم كل قصة وفيلم وحكاية " النهاية " ببساطة لقد انتهيا وطوت صفحتهما سويا ولا سبيل لإعادة النقش فوق صفحات اهترأت بالأوجاع وانتهت بختم الفراق.
عاد للقصر الساكن وصعد بهدوء فوق الدرجات الرخامية ثم توقف لبرهة أمام غرفة أمه الموصدة اقترب مترددا من الباب ولكنه توقف عندما أمسكت يداه المقبض، فعلى أية حال لقد تعدى الوقت منتصف الليل والأفضل ألا يوقظها ويدعها لتنام بسلام، فاتجه لغرفته بخطى مسرعة .
دلف دون ضوضاء وخلع ملابسه ليستقر في فراشه إلى جوار النائمة التي يبدو أنه سيمضي ماتبقى من عمره إلى جوارها فهي متشبثة به رغم تقلبات حالاته النفسية طيلة الأيام الماضية بإصرار عجیب ذلك الإصرار الذي ينبع منها بأقل مجهود والمتمثل في الوقت الحالي بذراعيها اللتان بسطتهما براحة فوق صدره وهي تغمغم من بين سبات نوم بإسمه باسمة.
ضمت ساقيها لصدرها واتكات للخلف وهي تتنهد متعبة فيبدو أن عقلها يرفض الانصياع لرغبتها في النوم والتغافل وربما التناسي، فعادت ذكرياتها لتؤرق مضجعها الأول لقاء وربما أول إبتسامة اللحظاتهما المنسية بالمطعم ورحلتهما النيلية لولادة سلمى للحظات تقاربهما ليلا لكل الذكريات المحلاة بطعم السعادة ومعها تنهمر دموعها بطعم ملوحة مريرة لقاء آخر ذكرى لهما سويا الذكرى الفارقة بحياتهما وكأنما تعاد على مسامعها تلك الكلمتان مرة أخرى لتدمي قلبها من جديد " أنت طالق " أنها لم تكن شيئا مذكورا لاقيمة لها والحياة ستسیر حتما بدونها واختنقت أنفاسها بالعبرات وتشنجت النهنهات بصدرها.
وتصاعد آذان فجر يوم جديد يوم أخيرا فقامت لتوضأ ورغما عنها انهمرت دموعها في سجودها المطول بين أيادي الرحمن ورغما عنها دعت له بالخير وصلاح الحال فلا حيلة لها مع قلبها الملتاع لفراقه نغمة المنبه لم تكن ذات فائدة إذ أنه مستيقظا بالفعل وربما لم ينل النعاس من عينيه بزفرة إنتصار قام من فراشه ليغتسل وليبدأ يومه كما اعتاد بإتصال بأخيه الأصغر الذي على مايبدو انقطعت أحباله الصوتية فهو يستقبل إتصالاته المتكررة عبر البريد الصوتي ويكتفي بالرد عبر الرسائل النصية بكلمات معدودة ولكنها تطمئنه أنه على الأقل لم يصبه مكروه قال ضائقا:
- أنا مش عارف هتفضل لحد إمتی رافض حتى تسمعني صوتك، تكونش فاكر نفسك كاظم الساهر ياخي؟!
زفر ولم يجد طائل من وراء كلماته المؤنبة فعلى مدى شهران ونصف ظلت تلك وسيلة إتصالهما الوحيد ويبدو أن الصغير سيظل صغيرا حتى نهاية العمر وسرح في أمر الأكبر الذي حادثه منذ يومان وكان الرفض القاطع ردا على إقتراح بتوسطه لإعادة الوصل بينهما فكانت كلماته بالتحديد " عاوزة ترجع، ترجع بإرادتها أنا مش هتحايل عليها ولا هيا هتشيلهاني جميلة أنها كتر خيرها اتنازلت " عندها" ظن أنه يحادث صنما من عهد الفراعنة البائدین، لا يستمع لكلمات المحيطين، ولا يكاد يصل إليه سوي صدى زفراته وصفير الهواء من حوله فهز رأسه یائسا وخرج يتمتم والآخر يسمعه " مافيش فايدة فيك، عمرك ما هتتغير " ورسالة نصية تصل لتقطع أفكاره ولكنها لم تكن من المأفون أخيه الأصغر بل كانت من الطبيبة الحسناء التي قضى معظم ساعات الليل برفقتها بسهرة موسيقية بمسرح الأوبرا وبعدها انطلقت أرجلهما تجوب أحياء الإسكندرية القديمة دون كلل أو تعب وانتهت أمسيتهما بقبلة خاطفة وضعتها أعلى وجنته ثم استدركت فعلتها بأعين متسعة كظبي مذعور وإحمرار شدید أصابها من أعلى رأسها حتى أخمص أقدامها واختفت من أمام ناظریه بثوان معدودة فوق دراجتها البخارية الثائرة تاركة إياه يتخبط بأنفاس كللت بالحيرة وقرار إتخذه ليريح ضميره بأنه غير مجبر على إتخاذ قرار من الأصل فتحت عيناها والتفتت إلى جوارها في الحال وابتسمت براحة عندما طالعته غارقا بسبات ولمعت عيناها بجزل واتسعت إبتسامتها وهي تتنهد بأنفاس حارة خافتة لكأنما انتهت من مارثون جري حر " آآآآآآخر يوم ".
قامت بهدوء شديد كي لا توقظه وأخرجت من حقيبتها تلك العلبة الصغيرة التي حملتها ليلة الأمس بطريق عودتها من إحدى الصيدليات الشهيرة وانتظرت مرور الدقائق كما هو موضح بالتعليمات وهي تدعو من قلبها ألا يخيب الله رجائها تسترق نظرات من حين لآخر لشريط الاختبار وجاءت مشيئة الأقدار مطمئنة لها بما ردده لسانها من دعاء حار فكان الخطان الورديان يرتسمان بوضوح أمام عيناها اللتان اغروقتا بدموع الفرحة وحملته بأنامل مرتجفة لاتصدق وتطالع من جدید کتیب التعليمات نعم بالفعل النتيجة إيجابية هي حامل بطفله بطفل جاسر سليم وهي أمه وضعت يدها على صدرها الذي يدق بسرعة جنونية لعله يهدأ ويدها الأخرى تمتد لتحتضن مستودع جنينها بحنان ثم أخذت نفسا عميقا وطالعت وجهها في المرآة وفكت أسر خصلاتها ومشطتها ومنحت عنقها مباركة من عطر اللافندر الأخاذ الذي اكتشفت عشق جاسر له وخرجت بأقدام حافية وصعدت للفراش مرة أخرى تناوش وجهه النائم بطرف خصلة من شعرها ليستيقظ غمغم من بين سباته بإسم لم تكن هي صاحبته إسم ظل يؤرق مضجعها ولازال ولكنها طردت كل تلك الأفكار السلبية وتظاهرت بعدم سماعه من الأساس ومسحت برقة شديدة فوق وجنته ووضعت قبلات متفرقة على أنحاء وجهه الذي تذوب فيه عشقا حتى فتح عيناه وعبس فاستقبلت عبوسه بإبتسامة عريضة فتخلى عنه مرغما عندما قالت بدلال شديد:
- صباح الفل على عيون أحلى راجل في الدنيا انحنائة فمه الساخرة لم تعد تغضبها بل على العكس تشكل لها دوما تحديا، فقال وهو يتكأ للخلف بهدوء:
- صباح الخير يا داليا هزت رأسها نافية لتقول له:
- توء توء توء، من هنا ورايح ماتقوليش داليا فنظر لها متعجبا وقال متفکها:
- غيرتي اسمك يعني ولا إيه أومال أناديكي بإيه ؟
فقالت له بدلال أعظم:
- تقولي يا أم ابني وغابت الفكاهة عن عيناه أولا ثم ازداد شحوب وجهه وأردفت هي بسعادة بالغة وهي تلقي بنفسها بين أحضانه:
جاسر أنا حامل فغر فاهه دهشة هو لم ينتظر مفاجأة عودة سالي لحياته کتسليم بقضائه ولكنه لم يتوقع أيضا ذاك الخبر وکرد من ذرات الهواء حوله على تلك المفاجأة حملت له صرخة من نعمات لكأنما تشاركه صدمته ولم تمض ثوان حتى استفاق منها وهو يدفع بها بعيدا عنه وينتفض هلعا من الفراش وكل ما يحتل تفكيره " أمه" كاد أن يصطدم بنعمات وهي تقف أمام غرفة أمه، تشهق بیکاء لعنه وهو يزجرها معنفا ويتخطاها بسرعة نحو الداخل:
- اخرسي، اخرسي واقترب سريعا من جسد أمه بخشوع ومد أنامله مترددا خائفا من الحقيقة التي يقرها صدرها الساكن لقد غابت دقات قلبها وأضحت أنفاسها غائبة وبرودة جسدها لا يمكن أن يخطئها بشر لم يتمالك دموعه وهو يقول بهمس راجف:
- ليه يا أمي، ليه ده أنا كنت جاي أسلم عليكي بالليل، سيبتك عشان ترت . . تاااحي وخرت قدماه ولم تتحمل ثقل أحزانه إلى جوارها وجسده يهتز ببكاء عنيف وبعد مرور لحظات ملؤها الحزن اقتربت نعمات بوجه صلد وقد هدأت أنفاسها بالمقابل وقالت بصوت میت کمخدومتها:
كفاية يا جاسر بيه ماتعذبهاش بعد ما ارتاحت . رفع رأسه إليها ونظر مرة أخرى لوجه أمه الشاحب وعلامات الرضا مرسومة بوضوح على محاياها المتجمد ولم تكن أصابعه من امتدت لتغطيته بل كانت نعمات المسئولة والتي أردفت بنفس الجمود:
- اتصل بأخواتك، وزياد لازم يجي بس ماتقولوش في التليفون على حاجة وظلت بعددها تردد بهمس خاشع " إنا لله وإنا إليه راجعون " خرج من الغرفة ليجد داليا تقف بإنتظاره کتمثال متحجر وملامح الصدمة تعلو وجهها، وما أن اقترب منها حتى لاحظ ظل أطفاله المنزویان بأحد الأركان بخوف وعيون سلمي الباكية تطعنه في مقتل ووجه صغيره كصفحة خاوية من كل التعابير ولكن نظرة الاتهام في عيناه لم يكن ليخطئها فهو من تحمل أحضانه ظل أخته الصغرى ولكن أين التي كانت تحملهما معا بأحضانها الدافئة أيضا ؟
فاقترب منهما وأغرقهما بأحضانه وقالت سلمى باكية:
- هيا تيته ماتت يا بابا فرد جاسر وهو يتماسك دموعه قائلا بصوت منکسر:
- هيا دلوقت مبسوطة عند ربنا ياسلمی فهزت سلمى رأسها وقالت راجية:
- أنا عاوزة ماما حدق بهما جاسر وكانت تلك أيضا رغبة سليم التي تشع من عيناه فهز رأسه متفهما وقال:
- هخليها تيجي دلوقت حالا، أدخلو أوضتكو يالا استنوها جوه دلف الصغيران إلى غرفتهما واستدار هو عائدا لغرفته ليغير ملابسه ويقوم بما يتوجب عليه من واجبات صامتا ظلت داليا تحدق بحركاته السريعة والمنضبطة في الوقت ذاته حتى تجرأت أخيرا على الإقتراب منه فهو بهيئته يبدو كليث أعمي غاضب محبوس يتوق للحظة تحرره وما أن مدت أنامل مرتعشة نحوه حتى انتفض قبل أن تقترب، فقط قال بنبرة صوت حازمة قاطعة:
- مش وقته یا داليا، سيبيني من فضلك وضعت كفها المرتعش فوق فمها ورغم ذلك تماسكت وقالت بقوة:
- البقاء لله يا جاسر رفع أنظاره لها واللعنة عليها فهو لم يكن مستعدا بعد لتلقي عزاءا في فقيدته الغالية لو كانت سالي مكانها لالتزمت الصمت وانزوت برکن مختفي وظهرت عندما يحتاج إليها دون أن ينبت بشفهه وتحت إثر عيناه الغاضبتان فوق رأسها اختفت من أمام أنظاره داخل الحمام وخرج هو بدوره بعدما ارتدى حلة رسمية وتخلص فقط من ربطة عنقه فهو بالفعل يفتقد الأنفاس رفع سماعة الهاتف ليصله صوت أخيه الأوسط فقال:
- أنت فين ؟
عبس أسامة وقال:
- خير مال صوتك ؟
رد بإقتضاب:
- تعالی توقف أسامة بالسيارة فجأة غير عابئا بصوت الأبواق الزاجر حوله وقال بصوت يرتجف:
- ماما؟!
ظل جاسر صامتا لوهلة ورفض لسانه أن ينطقها فقال آمرا بخشونة- تعالى واتصل بأخوك وانقطع الاتصال المبتور بينهما واتسعت حدقتا أسامة غير مصدقا وتنهد بأنفاس متحشرجة ببكاء كتمه بصعوبة ثم أدار سيارته للطريق المعاكس بعنف أزعج صريره المارة حوله وقادها بسرعة جنونية نحو القصر وفي طريقه لم يجد سوى البريد الصوتي يستقبله فصرخ غاضبا:
- تقب من تحت الأرض وتيجي حااالا على القصر سامع، وعزة جلال الله یا زیاد لو ماجتش لتندم عمرك كله ظل طوال الطريق يكذب ما سمعه من أخيه الأكبر حتى وصل للقصر فكانت الدلائل والإشارات واضحة أمامه كرؤى العين نعمات وبقية الخدم الذين اتشحوا بالسواد، صوت المذياع الذي ينطلق بأعذب الآيات، آیات الذكر الحكيم وأخيرا جسد أمه المغطى والذي وقف أمامه متجمدا لا يجرؤ على إقتراب ضم قبضته إلى فمه يمنع نفسه من البكاء وأغمض عيناه وانهمرت دموعه بصمت على صفحة وجهه ثم تقدم بخطى بطيئة ورفع الغطاء ووضع قبلة حارة بأنفاسه المتهدجة فوق جبينها ومنح نفسه نظرة أخيرة لمحياها الذي كان يوما ينبض بالحياة ثم أخفاه بغطائه من جديد والتفت نحو ذاك الدرج الذي يحمل ما أوصت به وكما توقع فالدرج خاوي ولابد أن يكون أخاه من حمل ما بداخله خرج من الغرفة بهدوء وتوقف برهة في الردهة وتذكر أمر الصغار فمضى نحو غرفتهم وطرق الباب ودخل ليجد سليم الصغير وقد ارتدي حلة سوداء تناسب جسده وتفوق عمره وسلمی ارتدت بالمقابل ردءا أبيض بنقوش زرقاء يعلوه سترة مخملية بلون أزرق داكن فابتسم لهم حزينا واندفعت سلمى بأحضانه وقالت كأنما تواسيه بصوتها الملائكي:
- ماتخافش تیته فوق عند ربنا مبسوطة ابتسم رغما عنه وهز رأسه وهو يكتم دموعه وقال وهو يربت على وجنتها الوردية:
- آه هيا مبسوطة والتفت لسليم الساكن مكانه وقال:
- مش كده ولا إيه يا سليم ؟
ومد يده نحوه فتقدم سلیم بخطوات متثاقلة وقال بهدوء:
- ربنا يرحمها یا عمو فاحتضنه أسامة وردد مثله:
- ربنا يرحمها ثم استطرد بجدية:
- فطرتوا هزوا رأسهم نافيين وقالت سلمى:
- مالناش نفس فهز أسامة رأسه رافضا وقال:
- لاء ماينفعش، لازم تفطروا فقالت سلمى بعند:
- هنفطر لما ماما تيجي سكن أسامة لبرهة ثم قال:
- خلاص ماشي، أنا هنزل دلوقت أشوف بابا وخرج أسامة من غرفتهما وترجل الدرجات بسرعة حتى وصل الغرفة مكتبه فدفع الباب ليرى أخيه وهو يقلب بأوراق أمامه أثناء حديثه لأحدهم عبر الهاتف ثم وضع السماعة وقال بصوت جامد- ده كان التربي . . واتصلت بمتعهد الأكل و . . . . المغسلة، دلوقتي أنا رايح أشوف مكتب الصحة وأطلع شهادة الوفاة فهز أسامة رأسه وقال:
- طب فيه حاجة أقدر أعملها ؟:
- اتصل بالناس عرفهم و . . . . الظرف ده مكتوب فيه . . . وصمت ولم يستطع النطق فاقترب أسامة وجذبه من بين أنامله وفتحه ليطالع خط أمه الراحلة ومر على أسطره القليلة بسرعة ثم تنهد وقال:
- عاوزه سالي تكون حاضرة الغسل فهز جاسر رأسه وتحاشى النظر له وقال وهو يستعد للخروج:
- اتصل بيها وشوف بقية الأظرف فيها إيه عشان ألحق أطلع الشهادة قبل صلاة الضهر وأكد عليه قبل أن يختفي من أمام ناظريه:
- وماتنساش أخوك لازم يجي فهز أسامة رأسه وقال بصوت متعب:
- كلمته على الله يرد ويبدو أن أختها اعتادت ترك منزل زوجها غاضبة في أي وقت ليلا أو نهارا فعندما انتهت من تناول فطورها البسيط المكون من شريحة جبن خفيف وكوب من الشاي سمعت جرس الباب يدق بقوة فعبست بوجل واتجهت نحوه لتطالع وجه أختها برفقة أطفالها فتنهدت سالي بضيق ورحبت بالصغار وقالت وهي تنهر أختها الكبرى:
- وبعدين معاك ياسيرين كل شوية سايبة بيتك فالتفتت لها سيرين وقالت بدفاع:
- أنا ماسیبتش البيت أنا جيت عشان أكون جمبك في يوم زي ده ارتفع حاجبي سالي بدهشة وقالت ساخرة:
- ليه إن شاء الله ؟
وأردفت غاضبة وهي تتابع طريقها نحو المطبخ لتجلي صحون الإفطار خاصتها:
- شيفاني مفطورة من العياط ولا بقطع هدومي من الغلب فأتبعتها سيرين وقالت بإلحاح:
- إنت عمرك ماكنت عنيدة كدة، فيها إيه أما تتصلي بيه؟!
فقالت سالي معنفة أختها:
- عوزاني أترجاه ولا أوطي على رجله أبوسها عشان يردني؟!
حدقت سیرین بمحيا أختها الغاضب العنيد وتنهدت:
- وولادك ياسالي جففت سالي يديها وقالت بإصرار:
- هاخدهم منه فاتسعت عينا سیرین بغیر تصدیق وقالت بتصميم:
- وسليم، هیسبيهولك همت سالي بالرد فقاطعتهم أمهم التي قالت بصوتها الهاديء:
- ماتتعبیش روحك يا سيرين أنا مش عارفة أختك جابت نشوفية الدماغ دي كلها منین، ماكنتش کده فتنهدت سالي وقالت بضيق صدر:
- أنا كده هتأخر على شغلي، أنا طلعت حاجة الغدا تفك ياماما، ماتستنیش عشان هروح فقالت أمها بالنيابة عنها وهي ترمقها بنظرة شاملة:
- لولادك . . اللي سيباهم في حضن غيرك . . ربنا ييسرلك طريقك تجمدت سالي وقالت بصوت يرتعش كمدا وقهرا:
- فکرکوا مش بتقطع من جوايا، فکرکوا مش حاسة، بس قولولي أعيش إزاي مع واحد رماني وماعدش عاوزني، مستنيني أرجع وأحب على إيده وأقوله حقك عليا أنا غلطانة . . . . وندمانة فأغروقت عينا أمها بالدموع رأفة على حالها وقالت وهي تقترب منها وتدفنها بأحضانها الدافئة باكية هي الأخرى:
- لا عاش ولا كان اللي يذلك ياسالي يابنت محسن . . . لا عاش ولا كان ثم تركت سالي أحضان أمها مرغمة لتبحث عن حقيبتها وترحل هارية من وجعها المسيطر على أنفاسها وأنفاس القريبين منها فقالت سيرين بخجل:
- خسيتي على فكرة فانسلت ضحكة من بين شفتي سالي رغما عنها وقالت بحبور:
- بجد؟!
. . . أنا بطلت أوزن نفسي عشان ما يجليش إحباط فقالت أمها لتشجعها بإصرار:
- يوووه، دا أنتي رجعتي قرقوره زي زمان وقاطعهم صوت رنين الهاتف المصر فالتفتت سالي لأختها لائمة- دا أكيد جوزك يا هانم فقالت أمها وهي تتجه للهاتف لتجيب:
- أنا هرد يالا أنت عشان ما تتأخريش على شغلك رفعت مجيدة الهاتف ليأتيها صوت أسامة الراجي يحيها بود ويسأل عن سالي فقالت متعجبة:
- الحمد لله بابني مين معايا ؟
أجابها أسامة:
- أنا أسامة سليم . . أخو . . قاطعته مجيدة بنبض ملئه الرجاء:
- أيوا . . أيوا أزيك يابني معلش ما تأخذنيش سالي أهيه التفتت سالي عابسة واقتربت من الهاتف وهي تشير لأمها متوجسة فقالت أمها لتطمئنها وإشارات الفرح ترتسم على وجهها- ده أسامة أخو جاسر ورغما عنها انقبض قلب سالي، فرغم كل ما تتمناه أمها إلا أنه مستحيل الحدوث بتلك الطريقة فهو لم يكن ليرسل مرسالا ليتوسط بينهما، لم يكن يوما جبنا أو متخاذلا وبالتأكيد لن يكون يوما خائفا فالتقطت الهاتف وقلبها ينبأها بالنبأ الذي يحمله لها أسامة وتقبلته جامدة وهي تغمغم بأنفاس متسارعة:
- البقاء لله يا أسامة، نص ساعة بالكتير وهكون عندك فقال أسامة:
- تحبي أبعتلك السواق فردت قاطعة بسرعة:
- لاء . أنا جاية حالا وانقبض قلب مجيدة وهي تراقب وجهها الذي أظلم فجأة ولم تقدر على النطق وهتفت سیرین جزعة:
- خیر ؟
هزت سالي رأسها نافية وتنهدت بكلمات مبتورة:
- طنط سوسن . . . فغمغا الإثنان:
- لا إله إلا الله وربتت أمها على كتفها مواسية فقالت سالي:
-- أنا هدخل أغير هدومي وخرجت لتتجه للقصر وهي تشحن نفسها بالقوة اللازمة للقيام بتلك المهمة التي لم تقم بها من قبل، ترتب في ذهنها المتقد ما يتوجب عليها فعله وكان على رأس أولوياتها تحاشیه فهي لن تدعه يظن أنها ستستغل ذلك الموقف للتقرب منه خاصة بيومهما الأخير لا تعلم كيف مر النهار بسرعة البرق بل كيف خرج جسدها من القصر مهرولا نحو مثواه وكيف تآزرت بنفسها لنفسها فقط كي تنفذ وصية أخيرة لتلك المرأة اليي تراها بعد نزع أثواب الحياة البالية عنها مسكينة رغم كل شيء أعدت طعام الغداء لطفليها وأطعمتهما بنفسها وتماسكت أمامهما وقلبها ينفطر ألما وذكريات نعش والدها المسجی تستقر جنبا إلى جنب جوار مشهد نعش حماتها القريب وقفت لتلقي واجب العزاء من النسوة القريبين بعضهن تعرفت عليهن في الحال.
فکانت درية ومدام هدی رئيسة الحسابات بالشركة من أقبلن عليها بتحية حارة والآخريات لم تكن رأتهن من قبل وتلك الفاتنة تقف على مقربة منها تعرف نفسها للغرباء عنها بزوجة الابن الأكبر بفخر لكأنما حازت على جائزة نوبل في الفيزياء قامت بواجب الضيافة، كانت كالنحلة الطنانة تدور ولا تهدأ تكاد تستمع لكلماتهن ينبذونها من وراء ظهرها بعضهن تحدثن بجرأة عن فقدان وزنها إثر عملية جراحية قامت بها بعد أن حصلت على أموال طائلة من الأكبر المنكوب في أمه والآخريات تشدقن بألسنة حداد عن جحود الأمهات في ذلك الزمن الغابر والذي جعلها تترك فلذة كبدها لتعيش حياتها بحرية كلمات وأحاديث لاتمت لرهبة وعظم المشهد بصلة تنالها وتتلقاها بظهرها وقلبها يأن وجعا، وترسم إبتسامة ودودة بمقابل وجوههن المنافقة التي تحييها على عملها النبيل تجاه الراحلة وتلك الحية تراقبها بأعين كالصقر تخشى أن تغيب عن ناظريها وتستأثر بطيف من كان يوما زوجها فبكلمة واحدة لا بل بلمسة واحدة أو بإشارة يعيدها اليوم قبل أن تغيب شمسه لعصمته وداخلها يشتعل بالغيرة فالبدينة ماعادت بدينة وردائها المحتشم المكون من قطعتين ينحسر عن خصر رشیق وأرداف مثالية والأسود يليق بشحوب وجهها الخالي من مساحيق الزينة بعكسها وبشدة واختارت اللحظة الملائمة عندما عادت سالي للسكون بأحد المقاعد القريبة من درية قائلة للنسوة حولها بصوت عذب يصيب سمع المحيطين بأجمعهم وهي تحيط بكفيها حدود رحمها المسطح:
- الله يرحمها كانت غالية علينا أوي بس كأن ربنا بيعوضنا بغيابها عننا، ياخد مننا روح ویوهبنا روح فشهقت المرأة التي تجاورها:
- مبروك يا حبيبتي ألف مبروك، سبحانك يارب، ليه حكمة أكيد والتفتت سالي تراقب ذاك الجمع المفترض به حزينا فإذا به ينبعث بالتهاني لتلك التي يرونها لأول مرة بحياتهم متناسين القريبة التي وارها الثرى كأنها لم تكن يوما ! وطعنة أخرى تقبلتها بهدوء وارتسمت على وجهها إبتسامة كإبتسامة الموناليزا أثارت حيرة وغضبا وحنقا داخل الزوجة السعيدة بنبأ حملها فقامت لتنصرف بعد أن أدت مهمتها التي كانت تتوق لها منذ بداية النهار على أكمل وجه وهي تقول بصوت منهك:
- معلش مضطرة استأذن فردت إحداهن:
- روحي ياحبيتي إرتاحي ربنا يتمملك على خير وما أن اختفت حتى قالت أخرى وهي تمصمص شفتيها:
- ياشيخة وليها عين دي قدمها قدم شوم واكتفت سالي بهذا القدر من النفاق غريبة هي وسطهن وداخلها عاري كرجل يستظل بجدار وسط الصحارى ففقده إثر هبوب رياح أطاحت به وبكل ما يحيطه أو كطفل فقد أمه فطفق يبحث عنها بظلام الليل تحت زخات مطر منهمر ولم يجدها وتحت إلحاح من درية التي طالبتها بالانصراف فهي تبدو متعبة للغاية وطمأنتها أنها ستقوم بالواجب انصاعت مرحبة بهذا العرض، فهي بحاجة لاستنشاق الهواء النظيف بعيدا عن زفرات الكذب والنفاق وانصرفت لغرفة أطفالها الساكنين واحتمت بأحضانهم حتى قالت سلمى بعيون واسعة ملئت رجاءا:
- هتباتي معانا يا ماما، أنا خايفة، ماتسيبناش لوحدنا فهزت سالي رأسها نافية وقالت بعزم لن يردعه أحد على ظهر الخليقة:
- هتيجوا تباتوا معايا عند تیته مجيدة فأشرقت وجوه أطفالها وقالت لهم بعد برهة وهي تحمل بعضا من متاعهم:
- يالا بينا وفي طريقهم نحو الخارج قابلت أسامة الذي استوقفها قائلا:
- سالي أنا مش عارف أشكرك إزاي على وقفتك دی هزت سالي رأسها لتنكر فضلا لم يكن إلا واجبا بالأساس- إحنا أهل يا أسامة . . . وهيا كانت زي أمي بالظبط، الله يرحمها هز أسامة رأسه وهو يكبح دموعه فطرد بعضا من أنفاسه الخشنة وقال راجيا:
- سالي أنا ليا عندك رجاء ونظر للصغار المتشبثين بكفوف أمهم فقال مشيرا لأحدى الأركان المنزوية:
- سلیم خد أختك وروح أقعد هناك أطاع سلیم رغبة عمه والتفت أسامة مرة أخرى بعد أن ابتعدا الصغار وقال وهو يضع كفه على صدره راجيا:
- خليها عليا المرادي، هوا محتاجك بس بيقاوح، عشان خاطر الولاد ياسالي نظرت له سالي وقالت وهي تقر الحقائق أمامه:
- أنا كنت عارفة أنك هتقول كده، بس أنا هقولك على اللي أنا محتجاه وياريت تقدره أنا اللي محتاجه أبعد عن أخوك ومراته خصوصا بعد ما بقت حامل واللي محتجاه أكتر منك أنك تخليه يسيب الولاد معايا على الأقل لحد الفترة دي ماتعدي فرد أسامة مصعوقا بالخبر الذي لم يتوقعه بالمرة:
- حامل ! أنت متأكدة يا سالي ؟
أخفضت ناظريها وهي توما برأسها بالإيجاب وقالت ساخرة:
- هيا كانت أكتر من حريصة عشان توصلي الخبر وأكيد حقيقي، وعموما خلاص دي صفحة وانطوت والتفت لأطفالها المنتظرين لإشارة منها وهمست بأعين أغروقت بالدموع:
- وكفاية وجع لحد كدة أنا ماعملتش اللي أستاهل عليه كل ده زم أسامة شفتيه وهز رأسه وهو يقول مؤكدا بحق:
- أنت تستاهلي كل خير يا سالي، أنا هخلي السواق يوصلكوا ماينفعش تمشي بيهم والدنيا ليل كده لوحدكوا فهزت سالي رأسها ورافقها أسامة نحو الخارج حتى تقابلا بوجه آخر لم يتوقعا رؤيته واقتربت صاحبته من أسامة قائلة:
- البقاء لله يا أسامة أنا لسه عارفة والله دلوقت تناقلت عيناه من محيا اشري الصادق لمحيا سالي العذب فيبدو أنه مقدرا على رجال تلك العائلة بفقدان النسوة الرائعات اللاتي مروا بحياتهم وقال بحزن:
- البقاء لله وحده یا آشري، اتفضلي فالتفتت آشرى لسالي وللأطفال وقالت راجية:
- سالي استني ماتمشيش أنا كنت عوزاكي مش هأخرك فهزت سالي برأسها وقالت:
- طب هستناك في العربية مضت سالي في طريقها والتفتت آشري نحو أسامة قائلا:
- ما تأخذنيش يا أسامة أنا ماعرفش حد من الليدز اللي جوه وبابي دخل صوان الرجالة بس كنت عاوزة أعزي جاسر و . . زیاد تنهد أسامة قائلا:
- هوا جاسر في الصوان جوه هروح أندهه دلوقت، لكن زیاد هتلاقيه في أوضة المكتب ضوءا طفيفا ينبعث من جانب الحجرة المظلمة والسكون يغلف أركانها فتوقفت برهبة أن تقطع خشوع صوته أثناء تلاوته للقرآن الكريم ومع ذلك شعر بوجودها فالتفت لها رأته بعد غياب أشهر ويبدو كمن كبر عشرون عاما فتقدمت هامسة:
- البقاء لله یازیاد انتصب قائما وتقدم منها بخطوات واثقة وتلقى كفها برحابة صدر قائلا:
- متشكر إنك جيت يا آشري فقالت آشري مستنكرة:
- ده واجب عليا يا زياد هز زیاد رأسه بألم وقال مؤكدا:
- طول عمرك صاحبة واجب وساد الصمت بينهما وخفقت صدورهم بالكلمات المحتبسة لا صرح هو عن ندم يغتال لياليه ولا صرحت هي عن شوق تأن به أضلعها فقالت في محاولة لجذب أطراف الحوار:
- اختفيت هز رأسه بإيجاب وقال مصرحا بذنبه الذي أدمى قلبه:
- استقريت في القاهرة فتحت مشروع کده صغير، كافية مع واحد صاحبي معرفة، وكنت مشغول شوية الفترة اللي فاتت، أول ماعرفت الخبر جیت، بس كعادتي متأخر فقالت آشري وهي تشد من أزره:
- بس المهم أنك جيت في الآخر هز زیاد رأسه بإيجاب:
- لحقت الدفنة بس كان نفسي . . . . . . وصمت واختنقت أنفاسه فهزت آشري رأسها باكية هي الأخرى وجذبته لأحضانها فهو سيظل طفلها الوحيد:
- کله مكتوب ومقدر یا زیاد ضحك زیاد من بين دموعه المنهمرة وخفقات صدرة العشوائية الإيقاع رغما عنه وقال وهو يبتعد عنها:
- اسمها مقدر ومكتوب، أنا هفضل أعلم فيكي لحد أمتي؟!
رفعت آشري كفها بلا مبالاة ساخرة:
- مهما تعمل، وبعدين ما أنت خلاص سيبتني أصابته كلماتها بحرقة بالغة لتزيد أحزانه للضعفين ثم قال مقرا:
- أنت تستاهلي الأحسن مني حدقت فيه بقوة من بين دموعها وعيناها تصرخ أنها لا تريد سواه ولكنها بعزة نفس رفعت رأسها بكبرياء وقالت:
- أشوف وشك على خير يا زياد خرجت آشري مسرعة لتستوقف مرة أخرى أمام الرجلين فحيت جاسر قائلة:
- البقاء لله يا جاسر شد حيلك رد جاسر بصوت هادىء متماسك عكس حالة أخويه المتصدعة بحزن دامي:
- مانجلكيش في حاجة وحشة آشري فهزت آشري رأسها بتحية وانصرفت نحو السيارة التي تقل سالي والأطفال مما جذب إنتباه جاسر الذي التفت لأخيه الساكن الجواره وقال:
- هيا سالي أخدت الولاد هز أسامة رأسه وقال بعند:
- أيوة، هيا طلبت مني أقولك بس ده أمر مفروغ منه، مش مستحب يقعدوا في أجواء زي دي فانصاع جاسر بعقلانية للأمر وقال:
- کده أفضل فعلا