رواية لازلت أتنفسك للكاتبتان آية عبد العليم و نهال مصطفى الفصل الختامي
بعد مرور ثلاثة أعوام تجلس داليدا أمام شط إسكندرية لتدون آخر خواطرها التي ستختتم بها روايتها التي شرعت في كتابتها منذ اليوم الذي غربت فيه شمس حبيبها عنها، قررت أن تدونه بدموع حبر على ورق كي تأنس به في كل مكان وزمان، كي لا تخلو منه إلا إليه .
على ناصية حُبنا كُنت جبانة لا أمسك إلا بمظلة قلمي لأكتبك وأكتب عنك وعن حُبي لك بحبر باهت كفراقك ، كُل ما كنت أريده هو إقامة دائمة في قلبك مُحاطة من مخاوف العالم بسياج صدرك كل ما تمنيته أكتب على صوت لحن قلبك بدلًا من لحن القهر والألم الذي يُناديك، وإنك لا تأتي، أصبحت هرمة ضحية حب قُتل أصحابه قبل أن يحتضر .. أصبحت معلقة في حبال انتظار من لايعود اليوم أخبرك بأن حبالي قد هُلكت ولكنني لم أيأس استبدلتها بحبال أقوى لتحمل انتظار أطول .
منذ ثلاثة أعوام أخبروني بأنك رحلت عن العالم، تركت عالمي وتركت روحي وقلبي للأبد ولكن شيء ما بداخلي كان يُربت عليّ بلُطف ملائكة الرحمة، أول مكان لجأت له هو قلبي لأطمئن على دقاته ونبضه، إنها تدق بهدوء مستريحة لم يُصيبها فزعة الفراق والوحدة، لم تقف للحظة حدادًا على روحك، مازال الدم يتدفق في مجرى شراييني باسترخاء، أنفاسي لم تخلط إلا بنيران اشتياق خاليًا من لهيب الموت، تلقيت خبر أكذوبة وفاتك بجسد لا يُبال ولكن سرعان ما أخذني قلبي نحو النسخة المُصغرة منك لأتحسس نبضه .. إذن فهى خالية أيضًا من أي ضجيج مُريب يعلن فجعة مغادرتك، اكتفيت باحتضان ابننا لأختبئ فيه بعيدًا عن هراء العالم .
اليوم تم ابننا الثلاثة أعوام، كنت أود أن نحتفل به سويًا لنخلد ذكريات كل ما مضى ولكنني اليوم احتفل به بمفردي معك .. أقصد مع شبحك المُختبئ بين حروفي .. اسميته زين كي أزرع فيه هوية من أحببت، عزمت على أن أجعل أوهام عشقي لك حقيقة أتحسسها كُلما اشتقت، ولكن يؤسفني أن أخبرك باسمه الحقيقي فاسم ابننا يليه نفس كنيتى زين فريد نور الدين لأم فرنسية مارتن ترامب هذا يحزنني ولكنك أنت من تركت يدي قبل العتاب، رحلت قبل ما تترك لي عذرًا واحدًا كي أغفر لك، اكتفيت بتركي في نيران الفراق والوجع مولدًا شعور ناحيتك بالكره الشديد .. تنافري منك، في لحظة ضعفي حاولت كثيرًا هدم آخر جسر بيننا وهو قتل ابنك كي اتحرر من أسوار سجنك اللعين، ولكن إرادث القدر كانت أقوى، وبمرور الأيام اكتشفت أنني لم أكرهك ولكنني كرهت بعدك .. فراقك .. يدك التي لم تثنى للحظة كي اتشبث بها .
بالرغم من قسوتك وبعدك وأنانيتك إلا أنني لازلت أحبك، عزمت ألا أعود إليك حتى ولو نسجت خيوط حُبك حول الكرة الارضية وجذبتها بين يدي لم أغفر لك .. واليوم أعترف أنني كاذبة كونى دومًا أبحث عما يجعلك في مُخيلتي بأسمى صورك حتى عرفت من طبيبك النفسي أنك مريض، مشاعرك وتصرفاتك خارج السيطرة، كنت أخبرتني وأنا ما تركت يدي حتى ولو تركتها أنت ؛ خشيت علىّ من بقائك ولم تخش علىّ من أشباح فراقك ! أقسم لك بأنني لو خُيرت بين نار قربك أم جنة بعدك لأخترت نارك وأضفتها برياح ولهى لك لتحول لجنة لم تسع سوانا، كنت أود أن تبسط لي ذراعك لأستند عليه في حين سأحاوطك بأجنحة امتلاكي لك ..
ولكنك نفذت الحكم قبل بدء جلسة المحاكمة، حاوطت عنقي بحبال البعد في حين أن الحكم كان قابلًا للنقض من إعدام بُعدك للتخفيف وهو السجن المؤبد في حضنك، أعلم أنك قريب مني جدًا .. عد مازال باب قلبي مواربًا، اقتحمه بدون استاذن كما فعلت سابقًا ..
تنهدت بقوة وهى تضع قلبها بين صفحات دفترها عندما استمعت لنداء صغيرها يهلل نحوها بمرح
- ماااام يااامام .. شوفتي أونكل ( مالك ) جابلي إيه ؟
التفتت إليه بحب وهى تنظر للحلوي بين كفي صغيرها مردفة
- قولتله merci ياأونكل ..
أومأ الطفل إيجابًا ببراءة طفولية، اقترب منه رجلاً في أواخر الثلاثينيات مرتفع القامة .. مفتول العضلات ذو الجسد المتناسق مرتديًا قميصًا باللون الأبيض وبنطال فضفاض باللون البيج وهو يصفف شعر الصغير بحب ويجلس بجوار داليدا مرددًا
- زين باشا بس يطلب واحنا ننفذ على طول ..
نظرت إليه بيأس لتقول
- مالك أنا بجد مش عارفة أودي جمايلك عليا فين، أنت قدمتلي مساعدات كانت سبب إني أحقق نجاح في وقت قياسي .. أنا لو عشت عمري كله لوحدي مش هحقق جزء من النجاح دا .. أنا من أول ماحطيت رجلي في باريس وأنت واقف جنبي وساعدتني إن مقالاتي توصل لبلاد كتير وتترجم بلغات أكتر .. أنا ممتنة ليك جدًا .
ابتسم بفظاظة مردف.ا
- ساعات مفاتيح حياتنا بتكون مع ناس غيرنا، عشان كدة القدر بيكون قاصد يجمعنا بالناس دول بس لو خسرناهم مش هنعرف نكسب حاجة لآخر العمر .. فاهمة قصدي!
أطرقت عينيها لأسفل ثم أردفت بخفوت
- صح .. بس اللي عاوزة افهمه أنا لقيت مفتاح نجاحي معاك .. أنت بقى لقيت إيه معايا ؟!
رمق أمواج البحر المُتلاطمة بنظرة خاطفو ثم قال
- لقيت معاكي روحي اللي عشت أدور عليها أكتر من تلاتين سنة .. ودا سبب كافي يخليني مااسبكيش حتى ولو هعيش العمر كله استناكي مقابل نظرة رضا منك .
فهمت مغزى كلماته فحاولت التهرب من أسهم نظراته التي لم تراها في أعين رجلٍ من قبل التفتت إلى ابنها قائلة
- زيزو مش يلا نروح عشان نجهز لحفلة جدو بالليل .
وضع ابنها قطعت الحلوى في فمه قائلا بنبرة طفولية
- لا هلعب مع أونكل مالك شوية .
بللت ريقها بحسرة قائلة
- زينه وعمر في البيت هيلعبوا معاك .
فوجئت بكف مالك تلمس كفها بحنان قائلاً بلوم
- زين مالهوش ذنب في اللي ما بينا .. مهما حصل هيفضل أغلى حاجه عندي .
نظرت لكفه المحاصر لكفها الصغير بفتور، ظلت جفون أعينها تتراقص بين كفه وعنينه، سحبت كفها بهدوء واصطنعت ابتسامة مزيفه
- أنت بجد تستاهل واحدة أحسن مني .
- حتى الأحسن منك مش عاوزها .. أنتي أثمن وأغلى من إنك تتحطي في مقارنة مع حد ..
كانت جملته باندفاعية من بين ثغره كمن يكمن بين طيات قلبه كلمات حب تملأ قلوب عشاق الأرض .. لاحظ مالك صمتها فسرعان ما غير مجرى الحديث قائلًا
- خلصتي الرواية بتاعتك ؟!
ابتسمت بخفوت وهى تومئ بحماس
- خلاص خلصتها ..
- طيب وإيه كانت النهاية، البطلة اتحررت من عشقها وقررت تسمح للزمن يصلح أخطاءه السابقه معاها ولا لسه بتجدف بمجاديف مركبتها فوق رمال الصحرا .. !
تعبث بأصابعها بارتباك ملحوظ، انعقد لسانها عن الرد اكتفت بالاتكاء على عكاز الصمت والهروب من جيوش أسئلته التي تزلزلها .. أكمل مالك حديثه بيأس قائلاً
- تعرفي أنا اسمي مالك وملكت كل حاجه اتمنيتها إلا حاجه واحدة بس وهى أنتِ .. ولو خيروني بين كل حاجة وبينك ! هرمي العالم كله ورا ضهري وأجيلك .. ليه أنا لأ مع إنك بتقول لى ألف واحدة تتمناك اشمعنا أنتِ !
رفعت عنينها لبرهه في بحور عينيه الهائجة بأمواج العشق فقالت بثبات
- ساعات بيصعب علي العاصي يتمنى دخول الجنة .
- حتى ولو كنتِ في النار هسيب جنتي وأجيلك ..
- المشكلة إن القلب المستعمر بشخص مستحيل يكون ملك حد ..
احمر وجه مالك بغضب مردفًا بنبره مرتفعة قليل.ا تحمل وتيرًا من نفاذ الصبر
- ليه مستحلية عذابك ! داليدا أنتي حبيتي بكيانك كله وملقتيش البدل .. وربنا عادل وبيعوض أنتي من حقك تتحبي أضعاف ما تحبي، من حقك تاخدي أضعاف ما تدي .. ساجنة نفسك في أسر أوهامه ليه وأنتي عارفة إنه ملهوش وجود ..
ابتسمت بثبات وهى تقبض على كف ابنها بحنان متأهبة للذهاب
- له وجود في قلبي .. وجوده وشم ملعون طابق على روحي مانع دخول حد غيره .. أنا مقيدة بيه ودا غصب عني .. أنا حبيته أظن إن القلب مابينبضش في العمر غير لشخص واحد بس حتى ولو كان سبب كل الغُلب في حياتي .
لملمت شتات شملها سريعًا متأهبة للمغادرة تحت أنظار مشتعلة بالحب وأخرى باللهفة ردد مالك قائلا بصوت مرتفع ممزوجًا مع هواء البحر .
- بس أنا مش هيأس وهفضل مستنيكي لآخر عمري .. مش بتقولي القلب مابينبضش غير لشخص واحد ! وأنا قلبي مادقش غير ليكي ومسيرنا هنكون لبعض مهما عاندتي وكابرتي .. !
تجاهلت كلماته وهى تمشي فوق صخور إسكندرية متذكرة مقططفات معسولة من حياتهم سويًا منذ اللحظه التي اقتحم فيها حياتها لللحظة التي خيم فطر غيابه على روحها شاكية شوقها للبحر بصوت عالي وهى تنظر لابنها الذي يرث ملامح أباه المتمردة قائله
لازلت أراك .. لازلت أتذكرك .. لازلت أحبك .. لازلت أتنفسك ... لازلت اكتبك حتى أتفرغ منك
-لازلت أقرؤك حتى امتلئ بكِ أكثر فأكثر
صوت آخر لفت انتباه قلبها مختفيًا خلف جريدته ونظارته السوداء يراقبها منذ اليوم الذي فشل فيه حتى في محاولة انتحاره .. يحاصرها بشبح وجوده ويأسرها بنار بعده لم يقترب ليضفي نار شوقها ولم يبتعد ليفك قبضته عليها .. خلع نظارته السوداء التي تكمن خلفها هوية المجهول قائلاً
- فأنا المنتظر الذي لا يعود .. والساكن الذي لم يقيم في موطنه سوى ليلة واحدة، ملأت عيونى بكِ حان الوقت لأملئ قلبي منكِ.