قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع

وداع..
اليوم السابع! لقد حل بغيوم سوداء تكتنف عالمها هي فقط، لاشمس. لاهواء، لامهرب، دقت طبول الحرب لتزفها نحو منصة اعدامها! ارتكز المنزل على هدوء تام، ليس فرح ليصفقو ويرقصو، وليس عزاء ليصرخو!.

لم تنم طوال الليل الذي مضى. ولم تأخذ المهدئات. فحالياً تريد ان تعيش واقعها. لاتريد الهرب منه. تريد ان تعيش اخر لحضاتها في هذا المنزل وسط ذكريات اخيها، حقائبها موضبة في احدى زوايا الغرفة تحوي كل اشيائها لينقلوها غداً نحو منزل زوجها. عدا غرض واحد كان بيدها. قميص رجالي يعود لهزيم. كانت تعصره بقوة بين يديها وتضغطه فوق انفها لتشم عبقه اكثر، بدأت رأئحته تتلاشى منه يوماً بعد يوم وهذا يرعبها. وكأن طيفه الذي تتمسك به بقوة ينسحب قصراً من بين يديها. صرخات صامتة ترافقها دموع حارقة فوق ثنايا قميصه الابيض، ابيض مع بقع من الدماء، انه القميص الذي قُتل فيه! يحمل رائحة دمائه وذكريات موته. بدأت حنجرتها تطالبها بصراخ يخنقها ويمنعها من التنفس. اصبح جسدها يشتهي الانتفاض واجواء المنزل الساكنة لاتساعد على هذا فركبت سيارتها وانطلقت نحو متنفسها ومكان شكواها المعتاد!.

جلست امام قبره واطراف خيوط الشمس بدأت تنساب بهدوء من بين سواد السماء تحارب اصرار الظلام في التمسك اكثر، عكست اشعتها الذهبية التماع عينيها بدموع اذبلت تلك الزرقة المشرقة، بشرتها البيضاء شاحبة وعيونها متوجة بالهالات السوداء وجسدها نحيل، من يراها يحسبها احد الموتى خرج ليرى عزيز له، في الحقيقة هي ميتة منذ ثلاث سنوات. ولكن جثتها لم تنزل الى القبر بعد لتجاور عزيزها هزيم!

احتضنت ركبتيها امام صدرها وارتكزت بجبينها فوق قمتهما. صرخت تلك الصرخة التي تكتمها فأرتجف جسدها وكأنها افزعته من سبات عميق، صرخت وصرخت. وتلى صرخاتها دموع مجنونة ترفض النزول بتعقل واحدة تلو الاخرى! ولكن لا الدموع اخمدت نيرانها ولا الصرخات ساعدتها بهدم جبال الالم التي ترسخت بداخلها! مهما فعلت. ومهما بكت وصرخت. فواقعها لن يتغير مهما حاولت!

لحظات بكائها استمرت طويلاً الى ان اجبرها ضوء الشمس على رفع رأسها الذي تدفنه في الظلام المخلوق بين ركبتيها وصدرها. كانت بالكاد تفتح عينيها المتورمتين لتحدق في اسمه المحفور فوق شاهد القبر وكأنه محفور في قلبها. جبراً أخرجت صوتها المبحوح وهي تقول بضعف من بين شهقاتها: اليوم سأرحل، سيأخذوني عنك ياهزيم، سيبعدوني! ماذا لو لم يسمح لي ذاك الغريب بزيارة قبرك؟ ماذا لو منعني من البكاء عليك؟ او ذكر اسمك؟ او شم قميصك؟ ماذا لو شعر بالملل من كثرة حدادي عليك؟

انحنت فوق قبره اكثر تعصر ترابه بين يديها وتقول: ماذا لو اذاني ياهزيم؟ انا خائفة، مرعوبة. وعائلتي ترميني نحو الجحيم ليخلصو انفسهم منه!.
توسدت بجانب القبر واغمضت عينيها لتستشعر ذلك الامان للمرة الاخيرة. لتتخيله يهمس لها للمرة الاخيرة بتلك العبارات المضحكة التي يشجعها بها دائما، اخر همسات. اخر ذكريات، اخر صرخات، واخر غفوة تحملها نحو احلام بيضاء تحوي هزيم ومزاحه!.

كان المنزل قائماً على التوتر والساعة تدق الحادية عشر صباحاً وريم مفقودة! حضر آدم ليأخذها فتفاجئ بالجميع يبحث عنها. اتصلو بهاتفها مراراً وتكراراً ولكن الاجابة واحدة. الهاتف مغلق حالياً. جلسو في الصالة احدهم يحدق في عيني الاخر ليتأكد ان السؤال ذاته يدور في عقولهم ثم يوجهون ابصارهم اخيراً نحو آدم الذي يستند بمرفقيه فوق فخذيه ويعانق كفيه ببعضهما ويكورهما امام فمه مقطب الحاجبين وصامت بشكل غريب دون ان يعلق بشيء!

هل يعقل انها هربت؟
جملة نسرين هذه جعلته يرفع كرتا عينه بأتجاهها دون ان يحرك اي شيء اخر من جسده. وكأنه داخل تمثال حجري لا حياة فيه سوى بعينيه...
اجابت بلقيس بثقة وهي ترمق ابنتها بتحذير لتكف عن زلاتها السخيفة هذه امام ادم: لو ارادت ان تهرب لأخذت سامي معها، فهي لن تجازف بتركه هنا والرحيل ابداً.
زفر سيف بضيق وهو يقول: اتمنى ان يمضي الامر على خير فقط.

وسط اجواء كئيبة ومتوترة استمرت لساعات دخلت ريم فجأة. لم تدخل بغضب. ولا بقوة. بل كانت في اشد حالات ضعفها وانكسارها، صامتة بشكل غريب ولكن متوقع بالوقت ذاته، عينيها ذابلتين. ملابسها ملوثة بيعض حبيبات التراب. لايدل اي شيء من مظهرها ان اليوم هو يوم زواجها، قام الجميع من اماكنهم من دون تعليق واستنتج ادم فوراً اين كانت اميرته العنيدة.
التفتت اليه فوقعت دمعتين منها من دون ارادة وهي تقول:
انا جاهزة. أنذهب؟

اومئ موافقاً من دون تعليق فكانت ميسم اول من اخترقت الواقفين لتسحب ريم المنكسرة اليها وعانقتها بقوة، اغمضت ريم عينيها فأخرجتا ماتحويانه من دمع ورفعت يديها بضعف لتضم ميسم اليها لتشعر بأخر لحظات لديها وسط الامان قبل ان تغتالها مخالب الذئاب!
همست لها ميسم بصوت مسموع للجميع:
هزيم كان ينتظر هذا اليوم بفارغ الصبر. ولكن لم يكن ينتظره بهذه الطريقة!.

ثم ابعدتها عنها قليلاً وكوبت وجه ريم المخذولة بكفيها ومسحت دموعها بأبهاميها وقالت:
كان سيتمنى لو انه معكِ في يوم كهذا عزيزتي!
ثم التفتت نحو ادم بوجه مقتضب اتحدت حاجبيه فوراً وهي تقول بنبرة جافة:
قد عاهدت نفسي مسبقاً انه مهما اجبرتني الظروف فلن انظر بوجه واحد من آل مراد او اخاطبه. ولكن ريم شيء خاص بالنسبة الي.
صمتت لثواني وهي تبكي ثم اكملت:
انا اتوسل اليك، كن جيداً معها...

منحها ادم ابتسامة تعاطف وهو يقول:
كوني مطمئنة...
اومأت له بأمتنان ثم عادت خطوتين نحو الوراء بعد ان منحت ريم قبلة فوق جبينها لتسمح لنسرين بالتقدم وتوديعها. تقدمت نسرين وعانقتها بقوة عناقاً نادماً اكثر من كونه مودعاً وهي تقول:
اعلم اني لم اكن تلك الاخت الجيدة لكي مثل هزيم. ولكني حقاً احبكِ. ويؤذيني رؤيتك تعانين. ولكن لم املك القوة لأسندكِ.

وقبل ان تكمل نسرين كلمات ندمها التي جاءت متأخرة قاطعتها ريم بهدوء:
لابأس اختي، لست غاضبة منكِ.

ما ان انسحبت نسرين من بين يديها حتى تجهم وجه ريم واقتضب وهي تلاحظ بلقيس تتقدم نحوها. وبخطوات مترددة تخشى من انفجار وشيك قد تقدمت بلقيس! كانت عينيها متوسلة التعاطف من عيني ريم الناريتين ونظراتها الحادة، مدت يدها وعانقتها بحب ولكن ريم لم تبادلها العناق وابقت يديها مسدلة بجانبها. ولكنها ايضاً لم تدفعها عنها. فقد ارادت بشدة ان تعرف ماذا عسى امها ان تقول وماذا ستبرر بعد كل هذه السنين؟ فاليوم هم يودعون ريم كمن يودعون مريض يلفظ انفاسه الاخيرة وسيقولون كلما يعتمر قلبهم وسيعترفون بأثامهم. قالت بصوت منكسر:.

اعلم انه من الصعب ان تفعلي. ولكني حقاً اتمنى ان تسامحيني في يوماً ما.
همست لها ريم بصوت لم بسمعه سوى ادم. يحمل كل قسوة قلبها وعذابه:
من الجيد انكِ تعلمين انه صعب امي!

ثم ابعدت يدي والدتها عنها بهدوء وانسحبت من بين احضانها. فهذه الاحضان احتاجتها في وقت سابق ولم تجدها وقد تأخر الوقت لتهبها لها الان! بقيت تنظر ببرود وحدة في عيني والدتها الدامعتين. تصرف جعل ادم يصاب بالدهشة فعلاً من وداع كهذا. ولكنه نوعاً ما عذرها بعد تلك الاعترافات التي وهبتها له بجانب قبر اخيها!

حان الوقت ليتقدم ابيها اليها، كلمات مصبوغة بحنان مزور ستنهال على مسامعها مجدداً. امسك يدها بعطف وقال وهو يربت فوقها:
اعلم انكِ قوية. لطالما كنتِ كذلك. وستتخطين هذه المحنة عزيزتي.
أمالت رأسها للجانب قليلاً وقالت ببرود:
ألم تفكر ولو للحظة يا أبي اني قد لااكون بتلك القوة؟
سحبت يدها منه كما فعلت مع والدتها وقالت:.

انا لست قوية ابي. وجميعكم تعلمون هذا، قوتي هذه انتم من اخترعتموها لتبررو اهمالكم لي، قل لي. هل انا مخطئة؟

وقبل ان يجيبها تخطته تاركة اياه ومتجهة نحو سامي. تاركة خلفها تمثال مصدوم بواقع كان ينكره ويزيف الصورة امامه كي لايحظى بعذاب الضمير. فجأة ابتعدت تلك الانسانة الباردة والقاسية لتحل محلها فتاة مرحة وعطوفة وهي تتحدث مع سامي بدموع ترفض التخلي عنها. احاطت وجهه بكلتا يديها وقربته منها كثيراً واسندت جبهته فوق جبهتها واغمض كلاهما عينيهما بصمت لعدة ثواني ثم قالت:.

اريدك ان تتذكر. وان لاتنسى ابداً، اني فعلت كل هذا من اجلك انت فقط. انت وحدك لاغير! فأياك ان تتهور بالمستقبل لتذهب تضحيتي سدى، اريدك ان تتذكر دائماً اني احبك كثيراً. كثيراً جداً، أتفهمني ياصغيري؟

اومئ برأسه من دون ان تسمح له دموعه لفراقها بأن يتحدث. قبلته قبلة طويلة وعطوفة فوق جبينه لتعانقه بعد ذلك عناقاً اطول تشم به رائحة شعره الزكية التي تعشقها. رائحة ابيه التي لاتزال عالقة به. رائحة مميزة يمتلكها كلاهما!

كان اطول عناق واطول وداع منحته لسامي لاغير. منحت هيلين قبلة وداع وعناق قبل ان تخرج مبتعدة عن دموع يذرفوها لوداعها وكأنهم قد كانو مهتمين لوجودها او منتبهين ليشكل الان رحيلها فراغاً سيؤذيهم! وداع ممل لم تلتمس مصداقيته سوى من البعض ولم يؤثر بها كثيراً. الوحيد الذي كانت حقاً اسفة لفراقه كان سامي. فمن اجله تعيش. ومن اجله ضحت. ومن اجله ترفض الوداع كي لاتبتعد عنه وعن ذكرى اخيها! كلمات نطقتها امها وابيها لم تكن تعني شيئاً ولم تكن ملائمة لهذا الوقت، أسفاً جاء متأخراً. وندم لم تعد ترى منه اي فائدة ستنفعها، فألى اللحظة الاخيرة وهم لايزالون يبررون لأنفسهم الاخطاء ويلتمسون لأنفسهم الاعذار عنها كي لايشعرو بالاثم، اثم ارتكبوه بحقها وبحق ذكرى اخيها التي يحاولون نسيانها كي تمضي الحياة، وبالفعل الحياة قد مضت لهم. ولكنها وقفت عندها ترفض التقدم ثانية واحدة!.

جلست في السيارة بصمتها المعتاد يشاركها به ادم ولايخترق المسامع سوى دوي المحرك، حدقت في منزلها بنظرات مودعة ومتألمة وطيف اخيها يترأى لها. اغمضت عينيها لتخرج اخر دموع تحويها ولم تفتحهما ألا بعد ان ابتعدت عن المنزل تماماً، مسحت دموعها بظاهر يدها وكأن وقت الضعف قد انتهى وعليها الاستعداد لمعركة جديدة!.
قال بصوت هادئ وكأنه يحاول عدم استفزازها قدر المستطاع:.

لم يكن من المفترض ان تعاملي والدتك بهذه الطريقة.
اجابته فوراً بأقتضاب واختصار:
لاتحكم على مالاتعرفه!
صمت ولم يعلق. فماالذي قد يعرفه عنها وعن اسرتها ليناقش بشأنه؟.
استمر الطريق لمدة عشر دقائق ولكن قبل ان يصلو الى الشقة وجدته ينعطف على حديقة عامة يركن السيارة بجانبها. التفتت اليه بأستغراب قاطعة عن نفسها سلسلة ذكرياتها وتخيلاتها وقالت:
لِما توقفت؟
اخرج المفتاح من مكانه وقال:
دعينا ننزل لنتحدث قليلاً.

وقبل ان تعترض وجدته ينزل قبلها ويفتح لها الباب. تأفأفت بملل ثم نزلت وقالت:
ألايمكن للحديث ان يتأجل لاحقاً؟ انا متعبة واريد ان ارتاح.
لن يستغرق الامر طويلاً.
واغلق بابها خاتماً نقاشها وهو يتقدمها مجبراً اياها على السير معه.

جلسا متقابلين حول طاولة تسمح لهما برؤية البحر القابع على مسافة من الحديقة. كان المنظر كفيلاً بأطفاء نيرانها وانزال شعيراتها المتحفزة للأحتدام. هدوء كانت تحتاجه بشدة ليغتال الضجيج المقيم بروحها، راقبها بصمت وهي تراقب البحر بتلك الملامح الهادئة التي يلمحها للمرة الاولى. كان منظرها اجمل لديه من مراقبة منظر البحر، فعينيها تحمل الزرقة ذاتها. وشعرها الذي يتراقص في الهواء يتشابه مع تلك الامواج الشرسة. وغموضها هو الاعماق التي يتمنى ان يغوص فيها ليكتشف اسرارها، فجأة التفتت اليه لتلتقي ابصارهما وتلمح تلك النظرة لأول مرة في عينيه. نظرة التأمل! فأرتبك فوراً وتنحنح مدعياً التماسك امام ملامحها المقتضبة وهو يسمعها تقول:.

ألن تتكلم؟
أتحبين شرب شيء قبل ان نتحدث؟
لا. تحدث فحسب.
اخذ نفساً عميقاً يكفي لأخراج حروفه المستكينة بداخله تنتظر بلهفة خروجها للضوء. استند بمرفقيه فوق الطاولة امام يديها المكتفة بتحفز امام صدرها وقال:.

اسمعي، اليوم ستدخلين الى شقتي. وستبدأين حياة جديدة. حياة لسنا مخيرين بالاستمرار فيها او التخلي عنها. فكلانا قد خضعنا لهذا الواقع وقبلنا بهذا الزواج لحماية عزيز علينا. وانا اخبرتك بالامر مسبقاً ياريم. لست اطالبك بالحب ولابأي شيء اخر، لااطلب منكِ ان نتعامل كخطيبين او كزوجين او كحبيبين. ولكن مااطلبه ان نتعامل على الاقل كأثنين يتشاركان المنزل ذاته. ومن غير المعقول ان نتشارك المنزل لسنين ونبقى طوال الوقت يُسمع احدنا الاخر كلام جارح والمعارك قائمة بيننا. هذه لن تكون حياة. ستكون جحيم. وستأذين نفسك وتؤذيني، لاتحبيني. ولكن لاتكرهيني لهذا الحد ايضاً ارجوكِ، انا اخبرتك مسبقاً. فعلت هذا الشيء لأني اردت انقاذك فلاتجعليني اندم.

اشاحت وجهها ناحية البحر مجدداً بحاجبين مقطوبين ولكن من دون تعليق فأكمل:
وايضاً انا لن ابقى معكِ طويلاً في المنزل ذاته.
التفتت اليه بفضول وقد استرعى كامل انتباهها لتشاركه حديثه قائلة:
ماذا تعني؟
قال جملته بتردد فهو لايعرف طبيعة تفكيرها بعد فحتى وان لم تحبه قد لاتقبل بشيء كهذا:
اعني. بالتأكيد لاتتوقعين مني ان ابقى طوال عمري داخل حياة كهذه، يوماً ما سأجد الفتاة التي احبها وسأتزوج.

ولأول مرة يشاهد ابتسامة سعادة يتزين بها ثغرها وهي تقول:
ألم يمكنك اخباري بهذا الامر مسبقاً؟
قال بتوجس:
أليس لديكِ اعتراض؟
تبسمت اكثر وهي تقول:
اعتراض؟ أأنت جاد؟ لما قد يكون لدي اعتراض؟ هذا اكثر شيء اسعدني قد سمعته منذ سنين، فأنا وانت لن نكون مجبورين ان نعش طوال حياتنا معاً.
نوعاً ما اجل. ولكن حتى بعد زواجي من غيرك ستبقين زوجتي. فأنتي تعلمين، انفصالنا يعني عودة المشاكل بين الاسرتين.

حسناً، ولكن سأبقى في منزل اسرتي. اليس كذلك؟
عندها قام فجأة ولوح لها معترضاً وهو يقول:
لاياعزيزتي الصغيرة هذه الفكرة لاتفكري بها من الاساس، زوجتي لن تبقى سوى في بيتي، تودين الذهاب نحو منزل اسرتك لتعانقي اليوم رأفت وغداً تجلسي لتمزحي مع لااعرف من. لالا. انسي.
فقامت بأنتفاضة وهي تقول:
ماهذا الكلام السخيف؟ وثانياً انا لااطيقك أتريدني ان اطيقك انت وزوجتك معاً في الشقة؟

ان كانت هذه هي مشكلتك فقط فلا تقلقي انا لن ابقى في الشقة سأستأجر واحدة اخرى.
ولما تستأجر شقة اخرى وهذه المصاريف الاضافية وانت لديك شقة من الاساس؟
لاتتدخلي انتِ. المصاريف سأدفعها من مالي مامشكلتك انتِ؟
زفرت بضيق ثم قالت:
حسناً. هذه مشكلتك. الاهم ان تبقى على رأيك وتتزوج ولاتغيره.
تناول مفاتيحه من فوق الطاولة وقال:
ولما سأغيره؟ سأقع في غرامك مثلاً؟

ثم سار بأتجاه السيارة مولياً اياها ظهره وهو مبتسم ويعرف كم استفزتها جملته الاخيرة...
كادت ان ترفع الكرسي وتضربه في الارض بكل حماقة تود ان تفرغ غضبها من عباراته المستفزة هذه، ولكن لاتريد ان تتحامق الان، فهي تريده ان يبقى ثابتاً على رأيه قبل ان يتحامق هو ايضاً ويغيره.

جلست بالمقعد المجاور له في السيارة بتغيير ملحوظ. قد لاتشاركه حديث. وقد لاتمنحه ابتسامة. ولكن كان جلياً السعادة والارتياح الذي ظهر عليها. ارتياحها اسعده بعد ان كان السبب به. ولكنه لاينكر انه اصابه بخيبة الامل نوعاً ما!.
وصلا نحو الشقة وانزل هو حقيبتها من صندوق السيارة وسار يتقدمها كالعادة وهي تتبعه.

دخلت نحو البناية وفد انقشع جزء من الخوف الذي كان يتملكها حين خروجها من منزلها بعد حديث الحديقة ذاك. فتح الشقة ودخل تبعته هي وتوقفت تحدق حولها بعد خطوة واحدة داخل مملكته الخاصة هذه!.

كانت نظيفة ومرتبة بشكل لايدل انه قد بالغ او قد نظفها فقط لحضورها بل كان يبدو ان الشقة دائماً في حالة ترتيب هكذا! كانت هادئة تمنحك شعوراً بالدفئ ماان تدخلها. اثاثها فخم ولكنه لم يبالغ به. مصمم ومرتب بشكل جميل يوحي بلمسة آدم الخاصة عليه، ينتشر في الاجواء عطراً مميزاً ممزوج مع العطر الذي يضعه آدم في الغالب! يبدو كل شيء في مكانه المناسب بشكل مثالي، نعم قد لاتكون الشقة بذات فخامة منزلها ولكنها منحتها شعوراً لم تحظى به في منزلها، بل شعوراً لم تحظى منه منذ وفاة هزيم!.

وجدته يسحب حقيبتها نحو غرفتين متجاورتين لم تعلم ايهما سيدخل. تبعته وشاهدت احدى الغرفتين بابها مفتوح، سرير عريض ذو غطاء رمادي. جدران مطلية باللون الازرق القاتم. مرآة تزيين تنتشر عليها عطوره الرجالية وفرشاة شعره، استنتجت ان هذه هي الغرفة، هنا سيدخل حقيبتها. بقيت تركز بصرها بأقتضاب الى ان انفرج وهي تسمع باباً اخرى يُفتح. التفتت بأستغراب لتجده يفتح الباب الثاني المجاور لغرفته ويضع حقيبتها عند بابها ويقول:.

تفضلي. هذه هي غرفتك.
اجابته بكل بلاهة وغباء:
هل سأنام بالغرفة وحدي؟
كتف يديه امام صدره مدعياً الاشمئزاز وهو يقول:
وهل تنوين ان تشاركيني غرفتي؟
احمّر وجهها مابين خجل ومابين غضب وهي تقول بتلعثم:
بالطبع لا! كنت اتسائل فقط...

ضحك ودخل نحو الغرفة يدخل حقيبتها بجوار خزانتها وهي تتبعه، كانت جدرانها مطلية باللون الذهبي وغطاء سريرها بلون الكراميل تزينه زهور حمراء وطاولة تزيينها مجهزة بأنواع العطور ومستحضرات التجميل كان واضحاً ان احداً ساعده بأنتقائها. قطعت تأملها على صوته وهو يقول:
لااعرف نوعية العطور ولا تلك الاشياء الاخرى التي تفضليها فأحضرت لك ِهذه بالوقت الحاضر نصحتني بهم موظفة البيع لذلك ان اردتي ان.

قاطعته فوراً بهدوء وبرود:
لست مهتمة.
زفر بضيق وكتف يديه امام صدره واتكأ بجانبه الايمن على باب خزانتها وقال:
هل انتي دائماً وقحة هكذا؟
رفعت كتفيها بعدم مبالاة وهي تقول:
انا صريحة. ولااحب المجاملة.
لكن نحن البشر الاسوياء نحب المجاملة. مثل(شكراً لك) او (اوه لقد اعجبني)، حاولي ان تتعلمي كلمات كهذه. ستنفعك صدقيني.
منحته ابتسامة مستهزئة باردة فمط شفتيه وقال بتلقائية من دون قصد:
هذه هي خزانتك. رتبي ملابسك فيها.

نظرت اليه بوجه جامد وهي تقول:
أحقاً؟ جيد انك اخبرتني لم اكن سأعرفها.
احاول ان اكون نافعاً ولكن لاشيء ينفع معكِ حقاً.
أذ تركتني الان وحدي لأحظى ببعض الراحة سينفع هذا معي كثيراً وسأكون ممتنة.
هل هذا يعني انكِ تطرديني؟!
ان كان هذا سيجعلك تخرج. فنعم انا اطردك لو سمحت.
انتِ تعلمين ان كلمة لو سمحت لاتتلائم مع كلمة اطردك ابداً.

زفرت بضيق وحدة وكادت ان تبدأ شجار معه فضحك وهو يرفع يديه امام صدره بأستسلام وكأنه يطلب منها التوقف وقال:
حسناً حسناً. انا خارج.
لم يخطو خطوته الثانية خارج الغرفة حتى احس بأنصفاع الباب من خلفه ثم دوران المفتاح فيه لتقفله، نعم. انها ايام طويلة وصعبة معها!

اتجهت نحو سريرها واول شيء اخرجته من حقيبتها كانت صورة داخل اطار خشبي لها ولأخيها يرتدون تلك البلوزتين المتشابهتين. رفعتها نحو فمها لتطبع قبلة طويلة فوق وجه اخيها لتغسله بدموعها. وضعتها على منضدة كانت بجانب سريرها وتناولت مهدئاتها كالعادة لتسحبها نحو سبات عميق تحاول ان تنسى بذلك وجودها داخل هذه الزنزانة التي تقيد روحها وانفاسها وليس جسدها فقط، ايام حملت لها هماً جديداً يحتاج كل يوم الى علبة مهدئات ولن يكفيها القرصين لتسحب نفسها قصراً عن هذا الواقع!

طرقاته الخفيضة فوق باب غرفتها لم تكن كفيلة بأيقاظها من سباتها بعد يوم طويل وسهر ليل متعب بالاضافة الى اقراص المهدئ. كلها عوامل جعلتها تغط بنوم عميق لاتود الاستيقاظ منه ابداً!
قطع طرقاته على صوت هاتفه. تبسم وهو يرمق اسم اخته سلوى ذات 25 عاماً تتصل به بألحاح. اجاب الاتصال وهو يبتعد عن باب الغرفة ويقول ممازحاً:
ماذا تريدين؟
سمع صوت شهقتها وهي تدعي التفاجئ وتقول:.

هل هناك شاب محترم يجيب على الهاتف بهذه الطريقة؟!
لا اعلم. لم اصادق شاب محترماً من قبل.
سمع صوت ضحكتها قبل ان تجيبه:
كيف حالك حبيبي؟ وكيف حال زوجتك؟
بالنسبة لي انا بخير. اما بالنسبة لزوجتي فهي اما ميتة او في غيبوبة لأنه من المستحيل ان يكون نوم احدهم عميق لهذا الحد!
لماذا؟!
انا اطرق عليها الباب منذ ساعة ولاتجيب!
ربما هي تتجاهلك فحسب ياعزيزي فأنت مزعج.

في الحقيقة خطر هذا الاقتراح على بالي ايضاً ولكن اردت ان اكون ذو شخصية وماشابه امامك ولااخبرك به!
ضحكت مرة اخرى وهي تقول:
حسناً ياسيدي المحترم عندما تستيقظ عزيزتك من نومها ابلغها سلامي ومباركتي.
سلامك اجل ولكن مباركتك ستسفزها وستبدأ بألقاء محاضرة على وانها لن تتقبل التهاني في عزاء كهذا. لذلك ارحميني!
اعذرها ياعزيزي. فهذا صعب على كل فتاة.

سمعت تنهيدته على الطرف الاخر واحست بمقدار الهم الذي يعتمر صدره فغيرت الموضوع قائلة فهي لاتريد ازعاجه:
قل لي. هل تغديت؟ وهل اعجبك الطعام الذي حضرناه لكم بالثلاجة؟
فتح الثلاجة وهو يرمق اصناف الطعام الشهية المصطفة هناك وقال بأبتسامة:
اجل. كنت افكر بالانقضاض عليها الان قبل ان تتصلي وحاولت ان اكون لبقاً وايقض ريم لتشاركني الاكل. لكن هي الخاسرة. ستفوتها الوجبة!

حسناً ياعزيزي. ولكن ابقي لها البعض. لاداعي ان تكشف شخصيتك الفظيعة في الاكل في اول يوم زواج.
سلوى. هل ستبقين مطولاً تثرثرين؟ ألم تباركي لنا ماذا تريدين بعد؟
يااللهي لافائدة، تبقى عديم اللباقة.

ضحك واغلق الخط في وجهها كما اعتادا في نهاية كل مكالمة واخرج بعض الطعام ليأكله وهو يرمق باب غرفة ريم بين لحظة واخرى. ولكن لايسمع لها اي حركة، راقب المقبض بلهفة راجياً منه ان يستدير ليرى تلك العيون الزرقاء تطل من خلفه. ولكن لم يحصل. حل الليل ومقبض الباب لم يستدر بعد. طرق الباب عليها مجدداً دون ان يسمع لها رد، بدأت فكرتين تتفاقم بداخله فحسب. هي اما قد فقدت الوعي فعلاً او انها تتجاهل الرد عليه ولاتريد رؤيته او التحدث اليه. والفكرة الثانية كانت الاكثر احتمالاً!

وايضاً تناول عشائه بمفرده وهو لايزال يراقب مقبض بابها، انقطع امله عندما دقت الساعة الحادية عشر ليلاً. علم ان سندريلا لن تظهر من اجله. حمل كوب مائه وذهب نحو غرفته لينام. عند اطراف باب غرفته وقبل ان يدخلها انفتح مقبض بابها. استدار بلهفة وهو لايزال يحوي مقبض بابه بين يديه، خرجت اميرته من غرفتها بشعر مشعت وعيون متورمة وملابسها الصباحية ذاتها التي اتت بها. بقي ينظر اليها بدهشة وذهول. كل هذا الوقت نوم؟ من المستحيل ان يفعل احدهم هذا. رمقته بنظرة جانبية وهي تعيد خصلات شعرها الى الوراء فقال ساخراً:.

حتى ال مساء الخير لاتنفع. يجب ان اقول لكِ تصبحين على خير!
اهملت اجابته وكأنه لم يتحدث من الاساس واتجهت نحو المطبخ. تبعها الى هناك فوجدها تخرج قنينة ماء وترتشفها بجرعة واحدة وكأنها كانت تخوض سباق جري اصابها بضمأ شديد. اتكأ على حافة باب المطبخ وهو لايزال يمسك كوب الماء بيده وقال:
هناك طعام في الثلاجة. تناولي بعضه.
اكملت ارتشاف المياه الى ان ارتوت ثم قالت ببرود:
ان شعرت بالجوع سأكل.

ماذا تعنين ان شعرتي بالجوع؟ انتِ لم تتناولي اي وجبة اليوم.
التفتت اليه وقالت بنبرة اعلى قليلاً عن نبرتها السابقة:
انا لست طفلة. متى اردت ان اكل فسأكل.
رفع كتفيه بعدم مبالاة وقال:
كما تشائين. هذه مشكلتك.
ثم اردف فوراً وهو يستدير راحلاً:
اتصلت اختي سلوى وهي تبلغكِ سلامها.
همست لنفسها بتذمر:
دعني اطيقك اولاً ثم سأطيق اختك!
مد رأسه فجأة من الباب وقال:
سمعتك بالمناسبة!

احمر وجهها فوراً وتلعثمت الحروف فوق شفتيها ولاتعلم سبب هذا التعلثم وهي قد قصدت ماقالت وتمنت لو انه يسمعها. ولكنها ندمت فوراً لأنه فعل!
ثم تركها ودخل نحو غرفته مبتسماً من منظرها ومن ارتباكها!
رحل لتقضي هي ليلة اخرى ساهرة لوحدها كما اعتادت. بالطبع تناولت شطيرة ما لتقمع ثورة معدتها ثم اتجهت نحو غرفتها دون ان تبالي بأستكشاف باقي الشقة. دخلت اليها وتركت الباب مفتوح الى النصف بعد ان ضمنت نوم ادم.

شغلت نفسها بعدة امور لتقضي فيها هذا الليل الطويل ومن بين هذه الامور كان اخراج ملابسها من حقيبتها ونثرهم فوق سريرها لتبدأ بترتيبهم داخل الخزانة. فتحت باب الخزانة على مصارعيها وبدأت تتحرك ذهاباً واياباً حاملة الملابس مابينها ومابين السرير، وربما قد احدثت بعض الضوضاء من دون قصد جعلت ادم ينتبه انها لاتزال مستيقظة. طرقات خفيفة فوق باب غرفتها ثم مد رأسه اليها بشعر مشعث وعينان بالكاد يفتحهما فالنعاس لايزال متمسك بهما وضوء غرفتها يصر على ازعاجهما. مسح على رأسه ذهاباً واياباً ثم انزل يده ودعك عينيه ليستفيق قليلاً ويتمكن جيداً من رؤية ساعة جدار غرفتها التي اوشكت ان تصبح الثانية بعد منتصف الليل.

لما لازلتي مستيقظة؟
منحته نظرة سريعة دون ان تتوقف عن السير والترتيب واجابته اثناء ذلك:
انا ارتب ملابسي.
ألا ينفع ان ترتبيها في الصباح؟
سأحاول ان لااحدث ضجة كي لا اوقظك.
ليس من اجل اني استيقظت. ولكن. هذا سيجعلك تبقين ساهرة.
لقد نمت كثيراً ولا اشعر بالنعاس.

صمت للحظة ثم كتف يديه امام صدره يراقبها بأبتسامة لايملك القدرة على اخفائها. ولما سيخفي شيئاً لن تنتبه له من الاساس؟ ركز في البداية في هيئتها التي تبدو دوماً مهملة. ولكن جميلة بطريقة ما. بذلك الشعر الناعم الذي دائماً ماترفعه فتتطاير منه بعض الخصلات العنيدة ترفض ان تتقيد مع رفيقاتها. بتلك العيون اللامعة التي كلما ركز فيها شعر بنفسه يغوص ويبتعد تماماً عن الواقع ولايسحبه مجدداً ألا هي. كل شيء فيها يبدو بريئاً. عنيداً. قوي ولكن بضعف. وضعيف بكبرياء. شيء يجعله يود لو يتمسك بها اكثر. لو يتكلم معها اكثر. يبقى اكثر. ولكن كبريائها يمنعه. والخوف من جرحها يبعده عنها، اكتفى بمراقبتها من بعيد فقط، بالضبط كما كان يفعل معها في الثلاث سنوات الاخيرة!

تقدم خطوتين داخل الغرفة وسحب انظاره قصراً عنها وحولها بأتجاه ملابسها المرتبة داخل الخزانة وتلك المنثورة فوق السرير، هذا وردي. ذلك ابيض. وذاك اسود. هذا بنطال. وذلك قميص. وهناك فستان قصير، لاشيء من هؤلاء هو يعرفه، لاشيء مما اشتراه. والحقيبة خالية. ولايوجد حقيبة اخرى احضرتها معها، التفت اليها وسألها بأستغراب:
لاارى اياً من الملابس التي اشتريناها هنا؟

كانت تقف امام خزانتها تدير ظهرها اليه وهو يقف قرب السرير. التفتت اليه والفستان لايزال بيدها لم تضعه بعد في مكانه ورفعت حاجبيها بسخرية وهي تقول:
التي اشتريناها؟ تعني التي اشتريتها انت.
مط شفتيه بتضايق وقال:
حسناً ياانستي اسف. اين الفساتين التي اشتريتها انا لكِ؟
اعادت وجهها بأتجاه الخزانة مرة اخرى وقامت بتعليق الفستان بينما تقول بكل برود وعدم اهتمام:
قمت بتمزيقهم!

انقبض وجهه فوراً وضيق عينيه بعدم استيعاب وهو يقول بأستغراب:
فعلتي ماذا؟
التفتت اليه مجدداً وهي تتقدم نحو السرير لتأخذ فستان اخر لترتبه. حملت الفستان ولكنها لم تتجه الى الخزانة بل بقيت واقفة على مقربة منه وقالت وهي ترفع حاجبها بثقة:
مزقتهم. ألم تسمعني؟
هل تقولين هذا فقط لتستفزيني ام انكِ مزقتهم فعلاً؟

انا ان اردت ان استفزك فسأوقوم بالشيء فعلاً واستفزك به ولن اقوم بالكذب، وثانياً انا لم اطلب منك شراء شيء. فأنا لااريد اي شيء منك، يكفيني هذا الخاتم الذي يحوط اصبعي ليذكرني كل لحظة بوجودك بحياتي. لاداعي ان تذكرني حتى ملابسي بك.

حدق في عينيها بجمود وبجبين مقتضب وهي تحدق فيه ببرود، برود يحمل خلفه نيران. تكره صمته هذا. يستفزها غموضه عندما تجرحه بالحديث ويبقى صامتاً لاتعرف بالضبط مايدور بداخله. ومن دون ان تدرك كانت تحاول بشتى الطرق ان تفهمه وتفهم تفكيره. ولكنه كان عميق ومتناقض!

فجأة وجدت نفسها تضعف امام هذا التمثال الصامت. وجدت الحروف تتبعثر فوق مخارج صوتها وتتشتت كلماتها من الخروج مجدداً، يخيفها فعلاً عندما يغضب. ولكن ليس اي غضب. بل غضبه الصامت! تتمناه ان يشاركها شجارها. ان يحتدم مع كلماتها. ولكنها تعلن هزيمتها فوراً اذا رأته يكتم غضبه ويفضل الصمت...

بعد تحديق طال لثواني في عيني بعضهما البعض مد ادم يده بهدوء وامسك يدها. حاولت سحبها بنفور وكادت ان تهاجمه بالكلمات مجدداً ولكنها صمتت فوراً بذهول عندما شاهدته يشدد القبض على يدها اكثر ويسحب خاتم زواجهما من اصبعها، ترك يدها ورفع ابصاره النارية نحو عينيها المدهوشتين وقال بأقتضاب:
لستِ مجبرة على ارتدائه اذاً. الورق فقط من سيجمع بيننا!

ثم عاد خطوتين نحو الوراء وهو يحدق فيها ثم استدار وخرج مغلقاً الباب بهدوء من بعده. هدوء لايتناسب مع بركانه! اما هي كانت لاتزال تقف في مكانها بجمود ويدها ممدودة الى الامام وكأنه لايزال يمسك بها، شيئاً فشيئاً استعادت ادراكها وعادت بخطوات ضعيفة وجلست على سريرها وهي تتلمس وتحدق بمكان خاتمها الخالي بشعور غريب! التفتت نحو صورة هزيم التي تضعها فوق المنضدة بجانب سريرها ثم تنهدت بألم وهي تطرق رأسها مجدداً تحدق في اصبعها الخالي وهي تقول مع بعض دمعات ضعيفة:.

اعلم انك ستلومني على قسوتي هذه. ولكن لايمكنني ان اكون لطيفة معه، لاسيما معه! انه ينتمي اليهم اخي!
ثم التفتت مجدداً نحو الصورة وكأن هزيم قد حدثها:
اعلم انه لطيف معي. ولكنه من آل مراد ياهزيم، وآل مراد سلبوك مني. بالنسبة لي جميعهم قتلوك. لذلك لاتلومني على قسوتي معه ارجوك!.

ثم استندت على الجدار تضم ركبتيها الى صدرها لتطوي نفسها داخل عالمها المظلم المعتاد والذي لاتخرج منه ألا نادراً! عالم وحدتها الذي تكون من قسوتها مع الاخرين وبرودها الذي جعل الجميع يبتعد عنها ويتركوها بمفردها، ولكن هل سيكون ادم كالاخرين ويتركها وحيدة؟ ام انه سيخترق عالمها هذا حتى لو ابعدته هي بكل قسوة؟
عاد ادم نحو غرفته ولأول مرة يشعر بهذا القدر من الغضب وخيبة الامل في آن واحد!

جلس على حافة سريره يرتكز بمرفقيه على فخذيه ويمسك الخاتم بأطراف اصبعيه السبابة والوسطى ويحدق فيه بعمق ممزوج بغضب، انها تجبره ان يضعف امامها. ان يفضل الصمت على الاحتدام معها. تجرحه بكل برود متجاهلة نيرانه التي تحرقة ببطئ من جفائها هذا. قد تكون عرفته من ايام قليلة. ولكنه عرفها من سنين طويلة. ولم يظن يوماً ان القدر سيجمعه بها. ولم يرد ان يجمعه بها بهذه الطريقة! هو يعلم انها تكرهه. وهذا مايقتله ويذبحه ببطئ!

قام فجأة من مكانه واتجه نحو درج المكتب الذي في غرفته واخرج سلسلة فضية ادخل فيها الخاتم وارتداها حول عنقه ولكن يخفيها تحت ملابسها كي لايجعلها تشاهد الخاتم، الخاتم الذي احاط يوماً اصبعها الرقيق جعله قريب جداً من قلبه. مثل قربها تماماًً! سيأتي اليوم الذي سيفارقها فيه. وسيبتعد عن هذا المنزل، وسيتزوج بأخرى، ولكنه لن يبعد ابداً خاتمها من حول رقبته ألا ليحوط به اصبعها مجدداً. واما عدا ذلك فلن يجعله بعيداً عن قلبه ابداً!

كان يعلم ان حبه ساذج ولن يكون متبادلاً يوماً، ولكن معها فمشاعره تنتفض وتخرج عن ارادته، فيها شيء يجعله يتمسك اكثر واكثر بها. ويتعاطف اكثر معها. شيء لايمكن ان يدرك ماهو، فكل مايدركه انها رغم عنادها فهي تحتاجه بشدة، وهو لن يتخلى عنها ابداً!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة