قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية في قبضة الأقدار الجزء الأول للكاتبة نورهان العشري الفصل الثاني

رواية في قبضة الأقدار الجزء الأول للكاتبة نورهان العشري الفصل الثاني

رواية في قبضة الأقدار الجزء الأول للكاتبة نورهان العشري الفصل الثاني

كل الأشياء التي تمنيتها لم أحصُل عليها، و بالمقابل رفضت كل الأشياء التي أرادتني، و هكذا إستمرت معاناتي مع الحياة و لا أدري إلى أين يأخُذني طريقي؟ و لكني أتلهف لنهايه سعيدة لم تكن يومًا في الحسبان...
نورهان العشري.

لم تنتهي مُعاناتي مع الحياة بل أظنها بدأت. فبالرغم من كل ما مررت به إلا أن ذلك الألم الذي أشعر به الآن كان ثقيلًا للحد الذي جعلني أود الهرب من كل شئ حتى من نفسي...
نورهان العشري.

مهما بلغت قوتك و صلابتك يومًا ما ستجد نفسك بحاجه للهرب من كل شئ. هكذا كانت تشعر و هي تسير بذلك الرواق الذي بدا طويًلا لا ينتهي كمعاناتها تمامًا فلطالما إختبرت الحياة صبرها بأقسي الطرق بداية من خسارتها لوالدتها في عمر التاسعه عشر و توليها أمر العنايه بطفلة صغيرة لم تتجاوز العاشرة من عمرها و مرض والدها الذي لم يكن يتحمل فراق زوجته و ظل يُنازِع في الحياة حتى لحق بها بعد سبعة أعوام قضاها بين أروقة المشافي و هي خلفه تُسانده بكل لحظات مرضه و تعتني بشقيقتها الصغيرة دون كلل لتتوالي الصعاب حين أجبرتها الحياة عن التخلي عن حلمها بعد أن اجتازت السنه الأولي من كليه الطب بتفوق لتجد أن أحوالهم الماديه و العائليه لا تسمح لها بالإستمرار بها و إضطرت إلى تحويل أوراقها لكليه التجارة و التي لا تتطلب حضورًا مستمرًا و لا أموال كثيرة و هذا أحزن والدها كثيرًا و لكنها كانت تتظاهر أمامه بأنها لا تهتم و أن هذا الأفضل لها و أستمر الحال حتى أسترد الخالق أمانته و تركها والدها تواجه مصاعب الحياة وحدها و قد كانت شقيقتها مازالت بعمر المراهقه مما جعلها تُثابِر و تُجاهِد حتى حصلت على عمل في إحدي الشركات الكبيرة و بإجتهادها و برغم كل العراقيل و الصعوبات التي واجهتها إلا أنها استطاعت أن تُثبِت أقدامها و تثبت نفسها في العمل و إستمرت الحياة تارة هادئه و تارة صاخبه حتى ظنت بأنها ابتسمت لها اخيرًا حين تعرفت على «حسام الصاوي» كان زميلها في العمل و قد تعرفت عليه بعد أن كان قادمًا من فرع الشركه بمدينه الإسكندريه للعمل في الفرع بالقاهرة و قد سرق فؤادها فور أن وقعت عيناها عليه و قد وقع في حبها هو الآخر و ظنت بأنها أخيراً وجدت طريق السعادة حين طلب منها أن يتقدم لخُطبتها و بالفعل تمت الخطبه و قد كانت في قمة سعادتها معه فقد كان كالحلم وسيم، لبق، ذو بنيه قويه، متوسط الطول، بشوش الوجه و ذو حس فكاهي كان يهون عليها الكثير و يدعمها بكل الطرق و استمرت الحياة الورديه بينهم لبضعة أشهر و لكن دائمًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن و فجأة تغير كل شئ حين جاءتة ترقيه و التي تتطلب السفر للعمل في فرع الشركه بالخارج و قد طلب منها حسام الزواج و السفر معه و لكنها كانت مُكبله بواجبها تجاه شقيقتها التي ليس لها أحد في تلك الحياة سواها و هكذا وجدت نفسها في مواجهه صعبه وضعها بها حسام الذي اتهمها بأنها لا تحبه و لا تفكر في مستقبلهما و لم تنفع محاولاتها في التأثير عليه و إقناعه بحبها له لذا اضطرت أن تأخذ جانب شقيقتها في النهاية فهي أبدًا لن تتخلي عنها حتى لو كان الثمن سعادتها معه. و أخبرها قلبها بأنه إن كان حقًا يُحبها سوف يتفهم دوافعها و لكن أتتها الصدمه حين علمت بزواجه من زميله لها و السفر معها إلى الخارج. حينها شعرت بأن كل عالمها أنهار حولها. الأمر كان مروعًا لدرجه إصابتها بالحمي التي جعلتها طريحه الفراش لشهر كامل تهذي بإسمه تنتفض كل ليله كعصفور صغير ضربته صاعقه البرق فمزقته إلى أشلاء لتهرول إليها شقيقتها تحتضنها محاولة تهدئتها كل ليلة و قد أستمر الحال طويلًا إلى أن استيقظت ذات يوم و هي تشعر بالنفور من ما وصلت إليه حالتها و قد نفضت عنها ثوب الضعف و إرتدت قناع القوة و اللامبالاة و قد أقسمت حينها بألا تدع شئ في الحياة يهزمها.

و لكن الضربه هذه المرة لم تكن قويه و لا مؤلمه بل كانت مميته للحد الذي جعلها عاجزة عن التنفس تشعر و كأن كل شئ إنهار فجأة.
لأول مرة بحياتها تتمني الموت بل و تشتهيه عله يريحها من هذا الألم الذي تشعر به فقد كانت الخسارة فادحه فمن كانت تقاوم لأجلها و تتحدي كل الصعاب في سبيل الحفاظ عليها هي السبب في هلاكهما معًا.

كانت تجر قدماها لتصل إلى غرفة شقيقتها و لا تعرف ما الذي عليها فعله و لا كيف ستواجهها و لكنها مُجبرة على تلك المواجهه.

تقدمت إلى الدخل بخطً ثقيله فوجدت جنه التي كانت تتسطح على ظهرها و وجهها في الناحيه الآخري و قد كانت ترفرف برموشها كمن يحارب واقعًا أصبح مفروضًا عليه و لكنها ما أن سمعت صوت الباب يغلق خلفها حتى تجمدت الدماء بعروقها و شعرت بضربات قلبها و كأنها إبر تنغز بكامل جسدها فتؤلمه بطريقه لا تُحتمل و لا تتناسب مع سنوات عمرها الواحد و عشرون.

توقفت فرح أمامها تناظرها بملامح جامدة و عينان جاحظه و كأنها تمثال جميل نقش على ملامحه الوجع و لونت الخيبه تقاسيمه فلم تستطع جنة إيقاف سيل الدموع الجارف الذي أجتاح مُقلتيها و أخذت شفتيها ترتعش حين سمِعت تلك الكلمه البسيطه المكونه من ثلاث أحرف كانت حادة كنصل سكين إنغرز بقلبها
ليه!

كانت تلك الكلمه التي استطاعت فرح التفوه بها و التي كانت يتردد صداها بعقلها الذي كان كالمسعور يريد معرفه الإجابه علها تهدئ من نيران غضبه و لو قليلًا و لكن لم يصل إلى مسامعها سوي صوت بكاء جنة التي كانت شهقاتها تشق جوفها من شدة الألم و لم يستطع لسانها سوي التفوه بعبارات إعتذار واهيه لا تسمن و لا تغني من جوع
أنا أسفه يا فرح سامحيني.
لا تعرف كيف خرج صوتها بتلك القوة حين صرخت و هي تقول بقلب ممزق.

ردي عليا. عملتي في نفسك كدا ليه؟

إرتجفت جنة رعبًا من مظهر شقيقتها التي بدت و كأن الصدمه أصابتها بالجنون و قد أنشق قلبها لنصفين كونها السبب في حالتها تلك لذا حاولت التحرك من مكانها لتصل إليها فلم تستطع من شدة الألم فحاولت مد يدها لتمسك بيد شقيقتها التي كانت على بعد خطوتين منها و لكن حدث ما لم تتوقعه إن أبتلعت فرح بفزع عن ملامسه يدها و كأنها شئ مقرف تتقزز منه مما جعل تنفسها يزداد بشدة و كأن قلبها قد فاض به الوجع فقرر الخروج من مكانه و إزداد إرتعاش فمها الذي خرجت الكلمات منه بصدمة ممزوجه بعتاب و ندم.

فرح. أرجوكي تسمعيني
ناظرتها فرح بعينان إرتسم بها الخيبه و الغضب و القهر في آن واحد و قالت بمراره
سمعاكي. سمعاكي يا مدام جنة!
كانت تلك الكلمه مُرة كالعلقم في فمها حين تفوهت بها و لكن كان بداخلها شعاع أمل بسيط بأن تنفي شقيقتها ذلك العار الملصق بها و لكنها قابلتها بدموع الإقرار بذنبها العظيم مما جعلها تسقط جالسه فوق أقرب مقعد قابلها و هي تقول بضعف ممزوج بخيبه أمل.

هتقولي إيه يا جنه. عندك إيه تقوليه؟ في إيه ممكن يمحي الجريمه إلى عملتيها في حق نفسك و حقي؟ ليه يا جنة؟ ليه رخصتي نفسك كدا؟ ليه دانا ضيعت عمري كله عشانك! ليه يا جنه ليه؟

كانت كلمات شقيقتها حادة كنصل سكين أخذ يمزق قلبها إربًا و هي لا تستطيع سوي البكاء فقط فقد تبخر كل شئ من عقلها في تلك اللحظه حين رأت شقيقتها منهارة بتلك الطريقه فقد إعتادت عليها قويه شامخه و قد كانت تراها الجدار الذي تتكئ عليه دائمًا و لكن الآن إنهار جدارها الحامي و كانت هي الفأس التي حطمته!

للحظه لم تدرك ما حدث و لكنها إرتعبت حين رأت «فرح» تهب من مكانها تقف أمامها و قد إرتسم الجنون بنظراتها و قست ملامحها و إمتدت يدها تمسك بكتفيها تهزها بعنف و هي تقول بلهجه قاسيه و نبرة قويه
عملتي كدا ليه؟ ردي عليا
و كأن لسانها فقد قدرته على الحديث فلم تستطع سوي أن تبكي بعنف و هي تهز رأسها يمينًا و يسارًا و قلبها يرتجف رعبًا و ألمًا كُلما هزتها شقيقتها التي قالت بصراخ
ردي عليا.

أتبعت جملتها بصفعه قويه سقطت من يدها على خد جنة التي برقت عيناها مما حدث و توقف جسدها عن الأهتزاز و تجمدت الدموع بمقلتيها من فرط الصدمه التي كانت أضعافها من نصيب فرح التي تراجعت خطوتان للخلف و هي تنظر إلى كفها تارة و خد جنة تارة آخري غير مصدقه ما فعلته و لكن تلك البقعة الحمراء على وجنة شقيقتها جعلتها تُدرِك ما حدث لتجد نفسها تهرول للخارج دون أن يكون لها القدرة على إيقاف قدميها و لم تشعر سوي و هي خارج بناء المشفي فتوقفت تحديدًا أمام الباب الرئيسي لتستعيد أنفاسها الهاربه و أخذ صدرها يعلو و يهبط فسقط جزعها العلوي إلى الأمام و أسندت يدها فوق ركبتيها و هي تلهث بقوة و عبراتها ترتطم بالأرض أمامها دون توقف.

مرت لحظات و هي على هذه الحالة إلى أن إستطاعت أن تستقيم في وقفتها و أخذتها قدماها إلى الحديقه و ما أن خطت خطوتان حتى تسمرت في مكانها حين وجدت ذلك الجسد الضخم يقف أمامها بشموخ يعطيها ظهره و دخان سجائره يشكل سحابه هائله فوقه فقادها الفضول لتتقدم خطوتان إلى حيث يقف و وجدت نفسها تقول بصوت مبحوح
أنت بتعمل إيه هنا؟

لا يعلم كيف و لكنه علم بهوية ذلك الصوت الذي كان منذ بضعة أيام مليئ بالتحدي و العنفوان و الآن أصابه الضعف و الخيبه حتى خرج مبحوحًا جريحًا بهذا الشكل
نفس السبب اللي مخليكِ هنا
هكذا أجابها بإختصار دون أن يستدير لينظر إليها فقد توقع ملامحها من المؤكد أنها تحمل ألم نبرتها.
تقدمت خطوتان حتى وقفت بجانبه و قد بدأت تعي ما يحدث حولها فأخذت تنظر أمامها بضياع قبل أن تسمعه يقول بنبرة جامدة
كان عندك حق!

صمتت لبرهه قبل أن تقول بنبرة خافته
هو عامل إيه دلوقتي؟
أخذ نفسًا طويلًا فشعرت بأنه يجاهد حتى يخرج الكلام من بين شفتيه حين قال بجمود
أدعيله
لم تنظر إليه فقد كانت تشعر بأنها عاريه تقف على رمال متحركه و لا تملك سوي الدعاء الذي لا يقدر على ذلك القدر المظلم سواه لذا رددت بصوت خفيض و لكنه مسموع
اللهم إني لا أسألك رد القضاء و لكني أسألك اللطف فيه.

وجد نفسه لا إراديًا يردد ذلك الدعاء و لكن بداخله فقد كان لأول مرة بحياته يقف عاجزًا مُكبل بقيود القدر الذي وضع شقيقه الأصغر قاب قوسين أو أدني من مفارقة الحياة.

فوضعه خطر للغايه هكذا أخبرهم الطبيب و هو لم يستطع الإنتظار بالداخل فقط شعر بالإختناق و بالضعف الذي لا يليق به خاصةً و أنه الداعم الرئيسي لعائلته لذا ترك شقيقته و والدته و بجانبهم سليم أخاه الأصغر في الدخل و خرج إلى الهواء الطلق عله يستطيع التنفس و إخراج شحنات ألمه بلفائف سجائره التي تناثرت أسفل قدميه بإهمال فشكلت صورة من يري عددها يُجزِم بأن هذا الشخص حتمًا يُريد الإنتحار.

معرفتش إلى حصل دا حصل إزاي؟
لا تعلم لما خرج هذا السؤال السخيف من فمها فما حدث لا يكن بالشئ الهام أمام عواقبه و لكنها أرادت قطع الصمت القائم حتى تهرب من الأحدايث التي تدور بعقلها و تقوده إلى الجنون.
لا. بس هعرف
كانت إجابة قاطعه كلهجته و لكن ما بعدها كان يحمل الوعيد في طياته أو هكذا شعرت حتى جاءها صوته صلبًا تشوبه بعض الخشونه حين قال
أختك عامله إيه؟

كانت تود لو تصرخ بالإجابه التي كانت تمزق قلبها إلى أشلاء و لكنها كتمت بكائها الذي كان يهدد بالإنفجار و أبتلعت غصه مريرة قبل أن تقول بنبرة ثابته
الحمد لله
الحمد لله هي الكلمه المُعبِرة دائمًا عن الحال مهما بلغ سوءه و لكن دائمًا هناك يقينً راسِخًا بقلب المؤمن يُخبره بأن ذلك القدر الذي أختاره الله له ليس إلا خيرًا مهما حوا من الصعاب و الأزمات لذا أغمضت عيناها رددت بقلبها.

الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه
ما أن أنهت جملتها حتى أخترق مسماعها صوت صراخ و عويل قادم من الداخل إنتفض على إثره هو الآخر و ردد بقلب مرتعب
حلا!

بلمح البصر وجدته يهرول للداخل و دونًا عنها أخذتها قدماها خلفه حتى تفاجئت من هذا المشهد المرعب حين وجدت فتاه بعمر أختها أو ربما أصغر قليلًا و هي تنوح و تنتحب و بجانبها رجل آخر يحتضنها و قد كان هو الآخر في حالة من الإنهيار الصامت الذي تجلي في عيناه التي تناظرها بصدمه و ضياع. حينها توقفت غير قادرة على التقدم خطوة واحده فقد وقعت الصدمه عليها هي الآخري فجمدتها بمكانها خاصةً عندما وجدته يسقط على الكرسي خلفه بضعف غريب يتنافي تمامًا مع حدة ملامحه و شموخه السابق الذي كان يحيط به و تبددت تلك الهالة من الهيبه التي تحيط به و تحولت إلى ضعف كبير فهي عندما شاهدته أول مرة كان تعلم أن عمره أربعون عامًا و قد بدا أصغر بكثير أما مظهره الآن يوحي بأنه قد تجاوز السبعين من عمره...

فألم الفقد قادر على سحق الإنسان بين طياته و إنهاك الروح للحد الذي يجعلها كثوب مُهلهل تبعثرت خيوطه
حتي أن كل فلسفه العالم لا تستطع إصلاحه و لا مواسات إنسان عما فقد.
فلا بكاء ينفع و لا صراخ يشفع و الصمت مُميت و البوح ليس بكلمات تُقال بل يشبه تفتت الجبال.
(أعاذانا الله و إياكم من فقد عزيز)
نورهان العشري.

شعرت بنغزة كبيرة في صدرها و الذي أخذها جرًا إلى غرفة شقيقتها بقلبً لهيف ففتحت الباب بقوة مندفعه إلى السرير الذي تستلقي عليه جنة التي ما أن شاهدتها حتى اإتمعت عيناها الباكيه و همت بالحديث لتتفاجئ بفرح تحتضنها بقوة لم تتوقعها و يدها تشدد من عناقها بكل ما أوتيت من حب و ضعف و خوف فهيوصغيرتها التي ربتها و أعتنت بها طوال حياتها و إن كان خطأها جسيمًا بل مروعًا فهي لا تستطيع سوي أن تحمد ربها على نجاتها.

أخذت جنة هي الآخري تشدد من عناق فرح و هي تبكي بقوة و داخلها ينتفض تزامنًا مع شهقاتها التي تردد صداها في أنحاء الغرفه التي شهدت على شتي انواع المشاعر في تلك اللحظه فقد كان الندم و الإعتذار من جانب جنه و الخوف و الغضب من جانب فرح و قد كان الألم شعور مشترك بينهما لذا طال العناق لدقائق حتى أفرغت الفتاتان ما بجوفهما من مشاعر و كانت أول المنسحبين فرح التي كانت تحني رأسها بتعب فامتدت يد جنة تحت ذقنها ترفع رأسها إليها و هي تقول بنبرة بها الكثير من الاعتذار و الندم.

والنبي ما توطي راسك كدا أبدًا. انا معملتش حاجه في الحرام. حازم جوزي
لوهله لمع بريق الأمل بعيناها ما أن سمعت حديث شقيقتها فخرجت الكلمات مرتجفه من بين شفتيها و هي تقول بترقب
جوزك؟
أهتزت نظرات جنه للحظه قبل أن تقول بتوتر.

آه جوزي. إحنا أتجوزنا عرفي. بس الورقتين معايا في البيت و هو بيحبني اوي وعمره ما هيتخلي عني. انا واثقه من دا والله هو طلب مني نعمل كدا عشان نضغط عليكي و على أهله عشان توافقوا على جوازنا. و لو مش مصدقاني هخليه يقولك كدا بنفسه.
قالت جملتها الأخيرة بلهفه بعدما لمحت تلك النظرة المنكسرة بعين شقيقتها و إختفاء تلك اللمعه التي ظهرت عندما ذكرت زواجها منه.

كانت كالغريق الذي وجد زورق النجاة بعد إنقلاب سفينته في بحر هائج و الذي إتضح بعد ذلك بأنه زورق مثقوب قابل للغرق في أي لحظه هذا كان حالها عندما سمعت جملتها عن ذلك الزواج العرفي الذي لن يعترف به أحد خاصةً بعد وفاة حازم فانطفئ شعاع الامل من عيناها و شعرت بالشفقه على حالها ما أن تعلم بما حدث و نظرًا لعذاب شقيقتها الظاهر جليًا على محياها و إصابتها العضويه و النفسيه آثرت تأجيل الحديث لحين أن تستعيد صحتها و كذلك لتستطيع التفكير هي بهدوء في تلك الكارثه التي بدت و كأنها حلقة مغلقه لا مخرج منها ابدًا.

نامي دلوقتي و لما تصحي نبقي نتكلم.
هكذا خرج صوتها جافًا به بحه بكاء مكتوم لم يعد وقته الآن فحاولت جنة الحديث لتوقفها كلماتها الصارمه حين قالت
قولتلك نامي دلوقتي و بعدين نبقي نتكلم.

أبتلعت حروفها و هي تنظر إلى شقيقتها التي كان ثوب القسوة جديد كليًا عليها و قد آلمها ذلك كثيرًا و لكنها داخليًا تعترف بأنها تستحق أسوء من ذلك و بأن الموت هو الجزاء الذي تستحقه على جُرم أقحمها به غبائها و إنسياقها خلف قلبها.

كانت ليله طويله على الجميع لم ينم بها أحد سوي جنة التي أعطاها الطبيب مهدئًا حتى يحميها من ذلك الألم الكبير في ذراعها المكسور و تلك الكدمات التي إنتشرت في أماكن متفرقة في جسدها و لكنه لم يستطع حمايه روحها المعذبه و لا قلبها المكدوم و قد تمكنت منها الكوابيس التي أيقظتها مرات كثيرة و هي تنتفض صارخه لتتلقفها يد فرح التي كان عذابها كبيرًا للحد الذي منعها من النوم و من البكاء و من أي شئ قد يريحها فقط أنفاس قويه تقذفها من جوف وجعها و كأنها جمرات حارقه حتى عندما كانت تهرول لإحتضان شقيقتها التي كانت ترتجف لم تستطع التفوه بكلمه واحده فقط تعانقها و تمسد بيدها فوق خصلات شعرها إلى أن تهدأ و تعود للنوم.

أخيرًا بزغ نور الصباح ليُعلِن عن بِدأ يوم جديد مُحملًا بأوجاع الأمس التي سيكون الشفاء منها أمرًا مستحيلًا و قد تترك ندوب ستستمر معهم طوال حياتهم.
وضعت فرح يدها على عيناها التي لم تستطع التأقلم بعد على نور الصباح الذي دخل من النافذة فنهضت بتعب من مقعدها و دلفت إلى المرحاض تغسل وجهها و خرجت لتجد الممرضه و الطبيب الذي كان يعاين شقيقتها و أمر الممرضه بإعطاءها أدويتها فبادرته فرح بالحديث بصوت مبحوح.

حالتها عامله إيه يا دكتور؟
الطبيب بعمليه
زي ما قولتلك حالتها مش خطر و مع الانتظام على الأدويه أن شاء الله هتبقي أحسن بس طبعًا مش هينفع تروح قبل ما نطمن عليها.
فرح بهدوء
يعني قدامنا قد إيه كدا؟
لاح بعض التوتر على ملامح وجهه و لكنه سرعان ما أختفي و قال بعمليه
ممكن أسبوع مش اكتر أن شاء الله
ثم تابع بإشفاق لامسته من بين كلماته
أنتي إلى واضح عليكي الإرهاق أوي ودا غلط.

لاحت إبتسامه ساخرة على شفتيها قبل أن تقول بصوت لا حياة به
مش هتفرق كتير يا دكتور. المهم هي تقوم بالسلامه.
الطبيب بإشفاق
هكتبلك على شويه مقويات عشان مينفعش أنتي كمان تقعي. أنا عرفت منها أنك عيلتها الوحيدة. و لازم تكوني جمبها خصوصًا في الوقت دا.
لم تجادله فرح التي كانت في تلك اللحظه نفذت كل قواها فأخذت منه الورقه بصمت و ما أن أوشك على المغادرة حتى قالت بلهفه.

دكتور معلش ممكن تخلي حد من الممرضات يفضل جمبها ساعه بس أروح البيت أجيب هدوم ليا وليها و شويه حاجات كدا. زي ما حضرتك شفت انا جيت جري و معناش أي حاجه هنا.
الطبيب بتفهم
مفيش مشكله. أنا هعين ممرضه مخصوص تفضل جمبها لحد ما تروحي و ترجعي
كان إهتمامًا مبالغ فيه و لكنها في وضع لا يسمح لها بالسؤال و لا حتى بالتفكير لذا هزت رأسها و تمتمت بعض عبارات الشكر قبل أن تشرع في تجهيز نفسها للمغادرة.

تلك اللحظه حين تضع قبله أخيرة فوق جبين ميت كان يعني لك الحياة و أكثر، حين تشعر برجفه قويه تضرب أنحاء جسدك ما أن تُلامس برودة و سكون ذلك الكف الذي لاطالما كان يعج بالدفء و الحياة. نظرتك الأخيرة حين تشاهد جزءًا كبيرًا من روحك ينشق عنك ليتواري معه تحت الثري. تلك اللحظات لا تُنسي ابدًا بل تظل عالقه في ذاكرة القلب و كأنها نُحتت من رحم النار التي تبقي مشتعله إلى أن يحين اللقاء بهم في العالم الآخر...

(اللهم إنا نعوذ بك من فواجع الأقدار و فقد الأهل و الاحبه)
نورهان العشري.

كان في طريقه للمشفي لإستلام جثمان أخيه حتى يتم دفنه ليذهب إلى مثواه الأخير و كم كان ذلك الأمر شاقً على قلبه الذي للآن لم يستوعب تلك المصيبه التي حلت بهم. لم يدرك ماذا يحدث حوله أصوات النحيب و البكاء تحيط به في كل مكان، النساء متشحات بالسواد الرجال ملامحهم جامده مكفهرة، أعينهم تمتلئ بالقطرات التي تأبى الهطول. حزن عميق يسيطر على الهواء حولهم لأول مرة لا يسمع زقزقة العصافير عند الصباح حتى أن الشمس مختبئه خلف السحاب تأبي الظهور. السماء تُرعِد و المطر ينهمر بغزارة و كأن الطبيعه تشاطرهم حزنهم الغائر و مصابهم الكبير.

ما أن أوقف سيارته أمام باب المشفي حتى وجد سيارة سليم التي كان جانبها الأيمن مهشم و كأن جدارًا سقط فوقها أو أن أحدهم كان يحاول إنهاء ألمه و شحنات غضبه في قطعه جماد لا ذنب لها.
ترجل سليم الوزان من السيارة الخاصه به و قد كانت بعض قطرات الدماء تنساب فوق جبهته و يبدو أن هناك جرحًا غائر لا يأبه له صاحبه الذي كان يحمل بقلبه جرحًا أكبر مما يستطيع تحمله.

أقترب منه سالم و عيناه تحمل من القلق ما تعجز الشفاه عن التعبير عنه و قد إمتدت يداه لملامسه الدماء المنسابه من جبهه أخاه و هو يقول بخشونه
حصل ايه؟
تراجع سليم خطوة للخلف و هو يقول بلهجه جافه
متقلقش حادثه بسيطه.
ضيق سالم عيناه و أشتد به الغضب حتى أرتجف جفنه الأيمن و قال بلهجه قاسيه
سلييم.
سليم بلهجه حادة
مش إلى في بالك يا سالم. دي كانت حادثه زي ما قولتلك.
أطلق سالم زفرة حادة قبل أن يقول بنبرة قاطعه.

هخلي الدكتور يشوفك قبل ما ناخد حازم و نمشي.
عند ذكره لاسم أخاه الراحل إرتجفت شفتيه و أختنق الحديث بجوفه و كان سليم لا يقل تأثرًا عنه و لكنه دون أن يشعر أفرجت عيناه عن دمعه حبيسه تحكي مقدار الوجع بصدره فأخذ عدة أنفاس حادة قبل أن يقول بصوت متحشرج
عايز أشوفه يا سالم. عايز أطلب منه يسامحني.

لم يتحدث فلم تسعفه الكلمات جل ما أستطاع فعله هو أن تمتد يداه تمسك بكتف أخيه و أبتلع غصه مريرة قبل أن يقول بلهجه جافه
متحملش نفسك ذنوب معملتهاش. إلى حصل دا قدر و مكتوب.
لم يستطع سليم الحديث و أشتبكت عيناه مع عين شقيقه في حديث صامت دام للحظات و كان سالم أول من قطعه حين أستعاد هدوءه الظاهري و قال بصرامه
يالا بينا عشان الدكتور يشوف جرحك. مينفعش ماما تشوفك كدا. كفايه اللي هي فيه.

و بالفعل إنصاع سليم لأوامره دون جدال و توجها معًا لإستلام الجثمان و لكن أستوقفهم الطبيب الذي ما أن رآهم حتى تحدث قائًلا بعمليه
سالم بيه. كان في موضوع مهم عايز أتكلم مع حضرتك فيه
سالم بجمود
موضوع إيه؟
الطبيب بتوتر
ممكن تتفضل معايا على مكتبي عشان نقدر نتكلم براحتنا
دون التفوه بأي حرف توجه الأخوان إلى مكتب الطبيب لمعرفة ماذا يريد.

علي الجانب الآخر كانت جنة ترقد على مخدعها بهدوء يتنافي تمامًا مع ضجيج قلبها الذي كان ينتحب ألمًا و شعور الخوف الذي أخذ يتسلل إلى صدرها الذي لا تعلم لما انقبض فجأة فشعرت بأن التنفس بات ثقيلًا عليها فأخذت تحاول تنظيم أنفاسها بصعوبه و لسوء الحظ فالممرضه التي عينها الطبيب لترافقها حالما تأتي شقيقتها قد أستأذنت لبعض الوقت و لا تعلم لما تأخرت فأخذت تحاول التحرك فآلمها ذلك أكثر و قامت بإسناد رأسها للخلف مُغمِضه عيناها و أخذ صدرها يعلو و يهبط بسرعه كبيرة إلى أن سمعت باب الغرفه الذي فتح بعنف مما جعلها تشهق بصدمه تحولت لذعر كبير و هي تري ذلك الرجل الضخم الذي كان يناظرها بعينان تشبهان الجمر في إحمرارهما و ملامح قاسيه مع فم مشدود بقوة و كأن أحدهم يجاهد حتى لا يطلق وحوشه لتفترسها فأخذت ترتجف رغمًا عنها من فرط الخوف خاصةً حين أخذ يتقدم بخطً سُلحفيه و عيناه لا تحيد عنها و كأنها مذنبه و هو جلادها فأخذت تتراجع في جلستها إلى أن التصقت بظهر السرير خلفها و هي تقول بهمس خافت.

أنت مين؟
أظلمت عيناه و قست ملامحه أكثر و هو يقترب منها حتى أصبح أمامها مباشرة و قام بالإنحناء لتصبح عيناه المستعره بجحيم الغضب أمام عيناها التي ترتجف من فرط الخوف و قال بوحشيه و لهجه تحمل الكثير من الوعيد بين طياتها
أنا عزرائيل إلى هياخد روحك بعد ما يخليكي تشوفي جهنم على الأرض.
إزدادت رجفتها و أخذت أنفسها تتخبط بصدرها الخافق بعنف و هي تقول بشفاه مرتعشه
أنت عايز مني إيه؟

إزدادت وحشيه ملامحه و هو يقول بقسوة
عايز أدمرك و أخليكي تلعني اليوم إلى خرجتي فيه من الحادثه دي و أنتي لسه فيكي الروح
إزداد رعبها و هطلت العبرات كالفيضان من بين عيونها وقد كانت كل عضله في جسدها ترتجف بعنف من ذلك المجنون الذي يقف أمامها يلقي على مسامعها تلك التهديدات البشعه التي لم تستطع تحملها فقالت من بين دموعها
حرام عليك أنا عملتلك إيه؟

إمتدت يداه تقبض على خصلات شعرها تكاد تقتلعه من جذوره فخرجت منها صرخه قويه لم تؤثر به بل تابع حديثه و هو يزمجر بقوة و كأن كلمتها كان جرمًا كبيًرا قد أقترفته.

أخرسي. ليكي عين تتكلمي. بسببك هدفن أخويا الصغير تحت التراب. أخويا مات و هو زعلان مني و أنتي السبب. هو مات و واحده رخصيه زيك لسه عايشه. بس وحياة غلاوته عندي لهخليكي تدفعي التمن غالي أوي. و تعرفي أن ولاد الوزان لحمهم مسموم إلى يفكر يقرب منهم مصيره الموت.

قال جملته الأخيرة صارخًا بوعيد و لكن للحظه توقف جسدها عن الإهتزاز بين يديه و جحظت عيناها و بهتت ملامحها و شحب لونها فمن يراها يظن أنها على مشارف الموت بينما عقلها أضاء بحقيقه مرة كالعلقم و هو أن المقصود بذلك الحديث ليس سوى حازم!
و كأن شفتيها ترجمت ما يدور بعقلها حين قالت بخفوت
حازم مات؟

لم تكن تعلم هل كان جوابًا أن سؤالًا و لكنها بكل الأحوال حقيقه ترفضها بشدة و أخذت رأسها تتحرك يمينًا و يسارًا و شفتاها تطلقان عبارات الرفض و قد كان كل ذلك يحدث أمام عيناه الصقريه التي كانت تتابع إنهيارها بزهول سرعان ما تحول لغضب عندما ظن بأنها تحاول خداعه فقام بالصراخ في وجهها الذي كان قريب منه بدرجه كبيره
بطلي الحركات دي. لو مفكره أنك ممكن تضحكي عليا بيها تبقي غلطانه.

لم يتوقع أبدًا انهيارها بهذا الشكل بل صُدِم بشدة حين وجدها تضرب صدره بقوة بقبضتيها و أخذت تصرخ بحرقه قائله من بين صرخاتها
أخرس. حازم ممتش. حازم مسابنيش. حااااااازم.

و كأنها كانت تقول مايريد قوله، كان هذا الانهيار الذي يشتهيه تمامًا، كانت تلك الكلمات تتردد بصدره هو الآخر، هذه الدموع يتمني لو يستطع إخراجها. كانت حالتها تلك هي ما يتمني أن يعيشه و لو للحظات حتى يفرغ غضبه و ألمه الذي يكاد يقضي عليه. فجأة شعر بشئ يبلل صدره فاخفض بصره فوجدها تلقي برأسها فوق موضع قلبه مباشرة و يدها تقبض بشدة على قميصه و صوت بكائها يخترق سمعه و لدهشته وجد يداه تحيط بها في غفلةً منه و حينها لم يستطع السيطرة على دموعه التي سقطت لتغرق خصلات شعرها. و كأنه يشكو لها ألمه و ذنبه و ضعفه.

كانت لحظه عجزت حواسه بها عن الاستجابة لإشارات عقله. ففجأة توقف الزمن من حولهم و كأنهم تشاركا الألم سويًا. لحظه قطعها هرولة فرح التي سمعت صراخ شقيقتها فانتابها الفزع و سقط كل ما بيدها و هرولت إلى غرفتها لتتفاجئ بذلك المشهد جنة تبكي و تنوح و رأسها ملقي على رأس ذلك الرجل الغريب عنها و الذي ما أن سمع ارتضام باب الغرفه بالحائط حتى استفاق من تلك الغيبوبه التي غرق بها للحظات و قام بدفعها و الإرتداد للخلف ليصعق من مظهرها المبعثر و دموعها المناسبه من عيناها لتختلط بدماء سالت من أنفها و أخذت تتساقط على وجهها فمن يراها الآن يجزم بأن تلك الفتاة على وشك الموت حزنًا و ألمًا.

قاطع نظراتهم صراخ فرح التي اندفعت تجاه شقيقتها و هي تقول بعنف و قسوة
أبعد عن أختي؟ أنت عملت فيها إيه؟
خرجت الكلمات من فمه كأسهم نيران حارقه
كان في كلمتين بيني و بينها و خلاص قولتهم.
وجه أنظاره لجنة و هو يقذف الكلمات من فمه بينما عيناه ترسلان إشارات التهديد الصريحه
خليكي فاكرة اسم سليم الوزان دا كويس عشان نهايتك هتكون على إيده.

إندفعت فرح نحو شقيقتها و قد تملكها الغضب الشديد و تولدت بداخلها غريزة الحمايه لشقيقتها و طفلتها فقالت بقوة توازي قوته
أنت أتجننت يا جدع انت. جاي تهددنا بكل بجاحه
إزداد غضبه أكثر و قال بشراسه
البجاحه دي أختك واخدة دكتوراه فيها. بس أنا بقي هعرف أربيها و أربيكي كويس أوي
ما أن أنهي جملته حتى أتاه صوت سمره بمكانه و الذي لم يكن سوي لشقيقه الأكبر الذي قال بلهجه قاسيه
سليم!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة