رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل الرابع والثلاثون
عظيمة اللُغة حينما أسعفت في اختيار اسمك.
فمنه كنتِ الحقيقة وكنتِ الخيال، وأتى الدور لي لكي أُعلمكِ من أنا، في باديء الأمر أنا منبوذٌ من العالم بأكمله حتى نفسي، ففي ريعان شبابي فَلت عني أمي وتركتني وحدي، ثم بعد عامين لحق بها والدي الحبيب، فغدوت أنا العائل لعائلةٍ صغيرة تحتوي على شقيقةٍ وفقط، إبان كل ذلك كانت كل الطُرقات يملؤها الظلام ولم أرْ في حياتي قط النور، طُرقاتي بأكملها كانت معسورة ودربي لم يكن بميسور، فعلت كُل الآثام والأخطاء حتى كدت أن أصل لمرحلة الفجور، لكنني لما وجدتُكِ علمت أن بعض الجرائم ألذ في إرتكابها، وأفضل في العيش بها، وكانت جريمتي الكُبرى يوم أحببتُ حُبكِ فدعيني أعود لسيرتي الأولي وأخبرك عن جزءٍ مما أرتكبته، فأنا قُمت ببيع كل ماهو غالي ونفيس، وقد استبدلت الخير بكل رَخيص، فرغ عالمي من بعد رحيل أحبائي والوجدُ في قلبي هو الباقي. فَ للمرةِ الثالثة أختبر الفقد ويتم حرماني من شقيقتي لأصبح في هذا العالم وحيدًا وشريدًا لم يألفوني البشر، ولم يحاوطني إلا الخطر، تُهت وتشردتُ ويوم أن استهديت للنور أحببتُ، فمن وسط عتمة الظلام أتيتِ أنتِ يا نور الأيام، نورٌ ملأ الطريق، وأنتشل من وسط الطوفان الغريق، نورٌ أزال الشر من القلب وأعاده مُجددًا كما البريء، اليوم يخبركِ رجلٌ بقلب طفل صغير أنه يُحبك ولم يُحب الحُب إلا إن كان حُبك، الحُب الذي حول الشيطان المُظلم إلى إنسانٍ وهاج، وأعاد من جديد النور في قلب السراج، فإن كان الحُب جريمةً والعشق ذنبًا وفاعليه مُرتكبين، فأنا ففي فؤادك أُحارب لكي أكون أول الآثمين.
آفة العقل الكُبرى هي التوقع.
حيث يرسم العقل بعض الخيالات ولا يقبل بغيرها، فحتى الحقيقة لم تزاحم على مكانها وسط تكدس العقل بالعديد من الخيالات الزائفة، هذا العقل الذي لم يرحم نفسه ولا صاحبه حتى أصبح عليلًا بمرض التوقع والدواء عِلته أكبر.
هقتلك يا نادر والله العظيم هقتلك.
ظهر الوجع في عينيه وأبتسم ساخرًا وهو يتفوه بحديثٍ لم تمسه الروح بل خرج من صوتٍ مقتولٍ خرج من وسط غِصة ممتدة من القلب للحَلق:.
أنتِ أصلًا دبحتيني يا شهد أعملي كدا وريحيني.
أرتجف كفها وهي تقف أمامه وهو يُطالعها بتلك النظرة التي جعلت قلبها ينتفض لأجل تلك النظرة لكن سرعان ما أبى عقلها كل ذلك وذكرها بإهانتها أمام العاملين في المكان وحينها قامت بالضغط فوق زناد السلاح لتُحرر العيار الناري من محجره ويُصيب نادر الذي لم يظنها أن تفعلها، لكنها كما عادتها تأتي بما لم يتم توقعه منها وتفعله، ومع إرتجافة كفها وضغطها فوق الزِناد تحرك العيار الناري في طرفة عينٍ جعلت نادر يقف موضعه لكن العيار الناري خدش ذراعه.
لم تكن يومًا ماهرة في استخدام الأسلحة لكن العقل المريض هو ما دفعها لذلك، أرادت الثأر لنفسها منه وقتله نصب عينيها، وفي تلك اللحظة كان العيش أصعب من الموت بمراحل لم يستعبها العقل ولا يُصدقها القلب، فهل يُعقل أن تُحاربك المدينة التي قُمت بجمع جيشك لأجل حماية حصونها وتُشن عليك الحرب؟ في تلك اللحظة أُعتصر قلبه وزاغ بصره ولم يتكترث بالدماء التي تُزرف من ذراعه ولا بحالة الهياج التي أصيبت قصر الملك! عبراته ظهرت وهو يراها تطعنه صراحةً بنفس السيف الذي يحميها هو به.
قميصه الأبيض تلطخ بالدماء نتيجة أندفاع الدماء في أوردته بلحظة خوفٍ لم تُحتَسب، وقد أنتوى الرحيل وهو يستند فوق عكازه بينما هي فوقفت تنظر في أثره بتيهٍ، أرتكبت جُرمًا في حقه وهو الذي لم ترْ منه إلا كل الخير وناولها الود، وهي كادت أن تقتله؟ أقترب منها والدها يتفحصها بكفين مُرتجفين وبخوفٍ وترك الآخر ولم يهتم به، أما نادر فكان كما اليتيم الذي ولج أعتاب قصرٍ ليرى فيه ذُلًا ثم ينفوه بعيدًا.
أحتضنها والدها وهي ترتجف أمامه وكذلك أمها التي ظهرت عقب إطلاق النيران وصوت نادر وهو يُهاجم حرس البيت، أما هي فظلت تُطالع الباب المفتوح وأثر رحيله بعينين دامعتين على حبيبٍ لم تدرك حُبه إلا لتوها.
أما هو ففي الخارج وبمجرد ابتعاده عن البيت وقف في الطُرقات وأخرج صرخة عالية مُلتهبة من نيران جوفه وروحه وهو يبكي بصوتٍ عالٍ، فما أصعبها من لحظةٍ يُدرك فيها المرء الخسائر الفادحة من كل الأطراف وأولهم هو نفسه، وقد أختل توازنه وترنح جسده وسقط أرضًا بجوار سيارةٍ يستند عليها بثقل جسده بفعل الدماء التي نزفها والطلقة التي مرت بجوار كتفه وحمدًا لله لم يُصاب بها أو تخترق جسده.
بعض الذكريات آليمة، وبعضها الآخر رحيمة.
فثمة بعض الذكريات يهرب العقل منها لأنها تُقاتله بضراوةٍ والبعض الآخر يتشبث بها لأنها دومًا تُعد بمثابة دواءً يُشفي الجروح المتروكة إثر الذكريات الأليمة، فدع لعقلك فُرصة التسجيل لكل ذكرى رحيمة تزور أيامك.
في منطقة السمان.
أمر نَعيم بتحضير الأطعمة للجميع وكانت بمثابة وليمة كبيرة تم إعدادها للغُرباء قبل القريبين، وقد نظم في مكانٍ هاديءٍ جلسة شبه شاعرية تُضفى عليها الأجواء الرومانسية بأضواءٍ ذهبية لامعة في موضع الجلسة العربية لكي تليق بالعروسين سويًا، ووضع الطعام بها لكليهما، وقد ولج إسماعيل وهو يمسك بكف ضُحى وساعدها على نزول الدرجات الرُخامية وقد شهقت هي بإنبهارٍ وضحكت بسعادةٍ وهي تُطالعه بعينيها اللامعتين فضحك هو بخفةٍ ثم أعتدل يقف في مواجهتها قائلًا بصوتٍ رخيمٍ:.
دي أول مرة هناكل فيها مع بعض بصفتك مراتي، يعني حبينا نخليها ذكرى مُميزة تليق بيكِ يا حرم ابن الموجي أتمنى المفاجأة دي تعجبك وتكون مميزة وتفتكريها علطول.
أشرأبت برأسها تُطالع المكان ثم عادت له بعينيها وهتفت بصوتٍ رقيق حينما أرتُسِمَت البسمة فوق وجهها وزينت عينيها:.
حلوة أوي، عارف؟ أول مرة جينا هنا أنا مش بنساها خالص علشان شوفتك هنا ورخمت عليك، بصراحة كنت سمج ومنرفزني، وعلشان كدا رخمت عليك، بس بعد كدا أتمنيت أقرب منك أكتر بعدها أتمنيت نكون مع بعض، أنا لسه شايفاك زي أول مرة، بريء وطيب ونقي أوي، أنا محظوظة إن عوض ربنا كان بيك أنتَ، وزي ما قولتلك قبل كدا أنا هكون ليك الدنيا كلها، ومعاك في وش الدنيا كلها.
من جديد تمسح فوق جروح سبق الزمن وفتحها وتركها غائرة تنزف بغير توقفٍ، أتت له كما تمناها وأضحت له كما حلِمَ ورآها، والنور للظلام كان من عينٍ قلبه اصطفاها، وقتها لم يشعر بنفسه إلا وهو يضمها له وجعل رأسها يتوسد صدره ثم هتف بنبرةٍ رخيمة ودافئة أدفئت صقيع روحها:
وأنا عاوزك من كُل الدنيا ومش عاوز غيرك أنتِ.
أبتسمت بجواره وظلت تستند عليه وهي تضحك مثل البلهاء، فهو أتى كما كانت تتمنى فارس الأحلام، ليس بليغًا في كلمات الشعر، ولا مثاليًا في التعامل الحياتي، ولا رجل حتى يملك السطوة والنفوذ، إنما رجلٌ حظى بِحُب الناس وحسن معاملتهم وهو لها أحب الناس على قلبها.
في الخارج من وسط الجميع قام بخطفها من كفها بخلسةٍ تشبه خلسة نِبلة المُفترسِ وقد تأكد أن الجميع لم يرونه وهو يقوم بجرها من يدها وولج بها بجوار حظيرة الأحصنة وقد أوقفها أمام صديقه الوفي وهتف مُفسرًا سبب فعلته:
ليل عاوز يشوفك والله.
ضيقت عهد جفونها بريبةٍ ثم تنهدت مُرغمة وأقتربت من الخيل تمسح فوقه بنعومة وهي تبتسم حينما وجدته أذعن لها ونكس رأسه فوق كفها، فذكرها بصاحبه الذي يشعر بالسكينة بقربها وهتفت بوجهٍ مبتسمٍ:
تصدق فعلًا تليق تكون صاحبه بجد؟ شبهه.
ضحك يوسف لها ثم ألتصق بها من الخلف حتى أجفل جسدها من قربه المُفاجيء لكنه مسح فوق كتفها يُطمئنها وهو يقول بنبرةٍ هادئة ومُتفهمة لمخاوفها كافةً:.
أنا قولتلك متخافيش مني، هعلمك حركة هو بيحبها أوي حتى لو متعصب بعملهاله وساعتها بيرتاح شوية، أعلمك؟
أومأت موافقةً بنظراتٍ مُرتبكة فيما أمسك هو كفها ثم حركه عند عرقٍ نافرٍ أسفل عُنق الخيل الطويلة ووقتها يبدو أن الخيل غمغم كما الطفل الصغير بأصواتٍ غير مفهومة فمال يوسف على أذنها يهتف بمراوغةٍ:
خلي بالك علشان ليل صايع، بيقدر الناس كويس وأنتِ مش فاهم بصراحة بتعملي فيه إيه يخليه يسيح قدامك كدا؟
كتمت ضحكتها ورفعت رأسها بزهوٍ تُلاقي بعينيها عينيه الصافيتين بوميضٍ دافيء:
حبيته، علشان هو يستاهل يتحب.
رفع كلا حاجبيه وسألها موجزًا بدهاءٍ لم يخفْ عليها:
هو مين دا؟
استشفت الدهاء فيه وأرتبكت للحظةٍ لكنها تخلت عن إرتباكها وحركت رأسها نحو الخيل وهي تقول بزهوٍ:
ليل طبعًا.
زاحمت ضحكة طفيفة ملامحه وهتف بكلمات متوارية خلف حقيقةٍ يراوغها بها كما سبق وفعلت هي وبدأت في مسلك الطُرق الملتوية:.
وهو برضه حبك أوي، كأنك أمله الوحيد.
حركت رأسها بإلتفاتة نحوه تسأله بعينيها عن مقصد كلماته فوجدته يهتف بنفس المراوغة التي تحدثت هي بها:
دا ليل طبعًا.
كادت أن تضحك لكنه مال على أذنها ينطق بثباتٍ:
وصاحب ليل كمان شايفك زيه بالظبط، مُذهلة.
تراقص فؤادها بين الضلوع وتراقصت المُقل فرحًا خلف لمعة الدموع وصوت الفرح من أبواب الفؤاد صداه مسموع، وقد ضمها لعناقه بكفٍ ومرر الكف الآخر فوق ظهر الخيل واضعًا كفها بالأسفل، كانت لحظة صافية في أمسية رائعة، لم يجد فيها غوغاءً برأسه، ولم يجد الألم من ناسه، وجد الراحة في عينيها من عبء دُنياه، تائهٌ هو ومن الخوف لم يجد إلا قلبها لكي يسكنه ويطمئن.
في الخارج كان أيوب وسط الشباب وقد وجد قمر تقف مع نساء بيته وهي تبتسم للجميع وقد تعجب من مجموعة فتيات يُطالعن موضع تواجدها بنظراتٍ لم تُطمئنه وهن يتهامسن عليها ويضحكن أيضًا، فحرك عينيه نحوها يتتبعها من جديد وقد تحرك لها وأشار من على بُعدٍ لكي تقترب هي منه وبالفعل وقفت أمامه تسأله بعينيها عن سبب طلبه لها فسألها بقلقٍ:
هو أنتِ عاملة مشاكل مع حد؟
استنكرت حديثه وبدا ذلك واضحًا في عينيها وقد أشار نحو موضع الفتيات وهتف بلُطفٍ حتى لا يُثير الفتن في نفسها:
أصل هما عمالين يشاوروا عليكِ من بدري وأنا بصراحة مش متطمن، فبقولك لو فيه مشاكل لمي الدنيا وأنا في ضهرك بس علشان ضُحى متزعلش، أنتِ تعرفيهم؟
أنتبهت لهن وحينها أبتسمت بسخريةٍ وعادت له بنظراتها تفسر السبب بقولها الحزين:.
دول صحاب ضُحى القُدام، لا بيحبوني ولا بحبهم وبيغيروا مني على ضُحى وأنا بصراحة مش بحب شغل العيال دا، وهتلاقيهم بيبصوا علشان كنت واقفة مع يوسف من شوية، أو بيمسكوا غلطة يروحوا يقولوا بيها ل ضُحى أني بكرههم وببصلهم بقرف، سيبك منهم.
لاحظ الحُزن البادي عليها فسحب كفها من جديد حتى أصبحت في مواجهته مُباشرةً وحينها سألها بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
هما مضايقينك؟
ضحكت بخفةٍ وأضافت تجاوب سؤاله بعدما سبق وفعلتها النظرات:
طول عمرهم مضايقني أصلًا، أنا مكانش عندي صحاب وهما مكانوش عاوزيني أصاحبهم، أنا و ضُحى مش شبه بعض وإهتمامتنا مش زي بعض، علشان كدا متفقتش معاهم لأنهم مش شبهي وكانوا سبب خطوبتها على الزفت الأولاني، فأنا مش بحبهم ومش هحبهم، ولو هما جُم علشان هي عزمت الكُل.
أومأ بتفهمٍ ثم حرك إبهاميه فوق عينيها كأنه يُمسدهما ثم هتف بصوتٍ رخيمٍ يمسح فوق قلبها بكلماته الهادئة:
سيبك منهم، أنا بحبك وأوي كمان، هما لو يعرفوكِ بجد هيعرفوا إنهم خسروا أطيب قلب في الدُنيا كلها وأجدع واحدة تدافع عن اللي بتحبهم وتنصفهم، مش مهم هما، المهم اللي حابينك بجد، وهواهم راميهم عند أبوابك.
أغرورقت عيناها بعبراتٍ أبت أن تُفصح عن نفسها فمسح فوق عينيها مُجددًا ومال على أذنها يهتف بمراوغةٍ لعوبة قلما تجتاحه موجتها:
عارفة إن الأندلس كان فيها حاجات حلوة أوي أهمها الموشحات الأندلسية؟ فيهم موشح حلو أوي بحبه، كل مرة بشوفك بفتكر هما ليه قالوا:
چادك الغيثُ إذا الغَيثُ هما
يا زمان الوصل بالأندلسِ
لم يكن وصلكَ إلا حُلمًا
في الكرى أو خلسة المختلسِ.
أنهى ذكر الأبيات وتنهد وهو يُطالع عمق عينيها ثم أضاف مُكملًا بقصد التفسير لما سبق وذكره بلسانه:.
عارفة قالوا الكلام دا ومعناه إيه؟ الشاعر كان يقصد الفترة اللي قضاها في الأندلس وكان بيدعي بوصل المحبوب وشبهه بالغيث وربط المطر بوجوده مع فترة الأندلس اللي كانت أحسن فترات حياته، وقال إن الوصل بينهم زي الحلم اللي بييجي للإنسان وهو نايم، أو الخِلسة يعني سرقة زي النوم الخفيف كدا، تفتكري فيه حد ممكن يحلم بوصل حد ويكون اللي في قلبه شوية ليه؟
سألها بأهتمامٍ يأمل في الحصول على الجواب وحينها تنهدت هي بعمقٍ ثم ألقت رأسها فوق كتفه بصمتٍ كتعبيرٍ منها عن لغة الحُب الخاصة بها وهو يقرأ أكثر تعابيرها كما الكتاب المفتوح بكل سهولةٍ ويسرٍ ويقوم بفك شفراتها وحل أعتى ألغازها.
جُزءٌ من الماضي كان مخفيًا في محلهِ إلا من كُتلة هواءٍ باردة زعزعت كل شيءٍ وكشفت ما كان مخفيًا، كُتلة تتنافى مع مصدرها الباعث، فحينما أُرسَلت كانت آتية من نيران الحقد، لكن تذكر أن النيران في نهاية الأمر تنتهي بالإنطفاء وتصبح رمالًا فوق الأرض تدهسها الأقدام.
كان يجلس في بيته برفقة شقيقته بعدما أنهى عمله الحكومي وإلتزاماته والمسئوليات الواقعة فوق عاتقه في منصبه الحكومي، وقد سألته زيزي بنبرةٍ مُتعبة:
اليوم كان صعب أوي النهاردة في الأتيليه وصدعت جدًا، كان عندي واحدة باباها مناسب أخو وزير السياحة، شايفة نفسها بشكل رهيب بجد، تعبتني أوي يا عادل.
أبتسم هو لها بسمة وقورة وهتف بهدوء:.
مش دا شغفك وحُبك؟ يبقى خلاص أختارتي ذوقك وحُبك يبقى تتحملي الطريق بكل عواقبه ومشاقاته، مفيش دخان من غير نار، مش هفكرك باللي حصل لما كل واحد فيكم أختار حاجة بيحبها، خلاص دافعي عن حُبك بقى.
ضيقت جفونها وهي تَرمقه بغيظٍ ثم سألته بإهتمامٍ عن ابنته:
هي نور فين؟
تبدلت ملامحه وهتف بتكلفٍ يستشعر ثقل الجواب:.
مع الأستاذ سراج في فرح إسماعيل قولتله مشغول قالي مش مهم أنتَ تيجي هات نور وجه خدها وهيجيبها بليل بس الوقت أتأخر أوي، الساعة داخلة على واحدة وأكتر.
تحرك بجسده للأمام يفتح الحاسوب الخاص به وبعمله فوجد رسالة مُرسلة على البريد الإلكتروني الخاص به فظنها من العمل لذا فتحها مُسرعًا، لكنه صُعِق حينما وجد صور ابنته في أيام فترتها الجامعية تقريبًا وسط مجموعة شباب وفتيات هيئتهم غريبة، صور مُلتقطة لهم برفقة بعضهم في أماكن مُحرمة مثل الخمور والرقص وكان مزدحمًا بشبابٍ طائشين مُرفهين، في تلك الفترة كانت المسافات بينه وبين ابنته بعيدة فلم يعرف عنها الكثير، لكنه لم يتوقع أن تكن الأوضاع وصلت لذاك الحد المُشين لكرامته كرجلٍ شرقي.
غلت الدماء في رأسهِ وشعر بضيق صدره وهو يحاول أن يتنفس لكن كل ذلك ذهب سدى لذا أغلق الحاسوب بعنفٍ جعل شقيقته تُركز عسليتيها عليه بتعجبٍ وقبل أن تسأله عن سبب التحول الملحوظ فُتِح الباب وطلت منه نور برفقة سراج الذي أوصلها للبيت وكانت تضحك وهي تقول بنبرةٍ مرحة:
بس شكلك بجد مش لايق خالص على كلامك وطريقتك مع الناس هناك، على رأي إيهاب الصوت سابق الصورة فعلًا، بحسك مسلسل تركي مُدبلچ مصري.
تابعت الضحكات عاليًا وهو معها يضحك مُرغمًا حتى أنتفض والدها الذي سألها بصوتٍ جهوري ملأ البيت بأركانه:
كُنتِ فين يا نور كل دا؟
أجفل جسدها نتيجة صوته الهادر وتعجب سراج من طريقته وكاد أن يجاوبه لكن إندفاع الآخر نحوهما جعله يقف في وجهه ويخفيها خلفه وحينها طلب منه والدها بأندفاعٍ:
تعالي هنا قدامي، اتأخرتي ليه؟
أرتعبت من هيئته وفرت الكلمات من طرفها وهي تُحرك بؤبؤيها في أماكن مُشتتة وقد تولى نصفها الآخر المهمة وجاوب بدلًا عنها بثباتٍ وكأنه يُسلحها خلف ظهره:
أنتَ عارف كنا فين، وعارف إنها كانت معايا والفرح لسه خلصان دلوقتي ويدوبك جينا علطول على هنا، وأنا مكلمك وقايلك هي معايا وهجيبها ليك، يبقى إيه الجديد بقى؟
ازداد غضب عادل أكثر وسحب الحاسوب يضعه نصب عينيها بعدما فتح البريد الإلكتروني وسألها بصوتٍ عالٍ وغضبٍ جمٍ:
دا إيه يا نور؟ الصور دي كانت أيام الجامعة صح؟ الفترة اللي كنتِ غايبة عني فيها وشبه مقطعاني، هما دول ساعتها اللي كنتِ سايباني علشانهم؟ دول اللي خليتيني أحس إنك كرهاني وحاولت بكل الطرق أرجعك تاني ليا؟
توسعت عيناها بنظراتٍ هَلِعة وهَرُعت العبرات من مُقلتيها وهي تُذبح بسكين الذكريات ويقطع نُحرها بألمٍ رآته تجلى في عيني والدها وهو يرمقها بتلك النظرة وحينها لمح سراج الألم البادي في عينيها فتنهد بقوةٍ ثم أغلق الحاسوب وهتف بعمليةٍ مدروسة يتولى خلالها مُرافعة الدفاع عنها:.
مش من حقك تلومها على حاجة فاتت خصوصًا لو كانت الظروف وقتها مختلفة، واحدة مامتها توفت وعانت من صدمة وهما وقتها ساعدوها تخرج من الحالة اللي كانت فيها خصوصًا لو أنتَ سيبت نفسك للشغل وأهملتها، أنا معاك إنهم كانوا غلط واللي حصل مفيش راجل حُر يقبله، بس خلاص كل دا أتصلح، هي كبرت وسافرت وأشتغلت وفاقت لنفسها وهي قالتلي كل حاجة وقالتلي إن يوسف ساعتها أتدخل ولحقها هو و إسماعيل ووقتها أنا ماكنتش لسه عرفتها، بنتك مفيش منها وقلبها طيب وبريئة لسه زي ماهي، وأنا مش هسمحلك تزعلها، ولا حتى تضايقها بكلامك، وعن إذنك الأسبوع الجاي فرحنا أنا وهي، بيتي خلصان وأنا أولى بمراتي.
حركت رأسها نحوه بتعجبٍ وهي لازالت تبكِ كما هي فيما وزع عادل نظراته بينهما ثم هتف موجزًا وهو يولج غرفة مكتبه:
أعملوا اللي تعملوه براحتكم.
لوح لهما بذراعه ثم أختفى من أمامهما ولحقته شقيقته تُنادي عليها بصوتٍ عالٍ فيما بكت نور بإنكسارٍ أمام الآخر الذي ألتفت لها يسألها بنبرةٍ أقرب لبراءة طفلٍ صغيرٍ:
بتعيطي ليه بس؟ هو مستحيل يزعل منك دا روحه فيكِ.
أنتحبت أكثر ونطقت من بين شهقاتها بصوتٍ مُتقطعٍ:.
علشان حسيته مكسور أوي كأنه متخيلهاش مني، أنا ساعتها خبيت عليه حياتي القديمة وقولتله إني كنت مع صحابي بس هو ميعرفش هما أنهي بالظبط، ووعدته أنساهم بس هو ميسألش عنهم تاني، أنا بتعبه أوي يا سراج كل شوية أتعبه وأخليه يحس إني وحشة بس والله أنا بحبه أوي وماليش غيره.
رق قلبه لها وأراد أن يحتضنها ولم يمنعه إلا سببين، الأول أنها لازالت غريبة ولا يَحق له أن يتخطى الحدود معها والثاني لم يضعه في الحُسبان لكن لابُد من تواجده في رحاب العقل وهو أنه في بيت والدها، لذا تنهد بثقلٍ ثم تحرك يسحب كوب المياه الموضوعة فوق الطاولة وجعلها ترتشفها جُرعة واحدة ثم ناولها المحارم الورقية لتمسح وجهها وحينها رفعت عينيها الباكيتين له فخاطبها قائلًا:.
هو بيحبك ووجودك عنده بالدنيا كلها، بس معذور برضه لأنه أب وشاف صور مش كويسة حتى لو قديمة، بس هو حاليًا فاهم حاجة واحدة بس وهي إنه راجل وأنتِ بنت مسلمة وعربية وشرقية والحاجات دي مش بتاعتنا، بس متزعليش نفسك، هو هيروق وكل حاجة هتتصلح كمان، خصوصًا مع فرحنا، هو مش هيزعل كتير وفرحته هتحركه ليكِ.
رفعت كفها تمسح بظهره وجهها المُلطخ بالدموع كما قلبها المُلطخ بآثار الجروح والأحزان:.
عارف؟ كل شوية أحس فيها إني ينفع أعمل حاجة كويسة أحس بعدها إني مش نافعة في حاجة، كل شوية أفشل وييجي اللي فات يزعلني يا سراج كأني بمشي في طريق لا هو بيخلص ولا أنا طاقتي بتكمل أخلصه، فبرجع لنقطة الصفر تاني من أول وجديد، نفسي أحس إني ليا لازمة وإني على الأقل مش وحشة في حق نفسي قبل التانيين.
من جديد تبكي أمامه وتُخرج ضعفها بينما هو فكان يُريد فس لحظته تلك أن يُكرر مجازافات هرقل ويحارب لأجلها، أراد أن يتحدى أساطير العالم بأكملها لكي يُنصفها أمام نفسها التي أول من أعلنت عليها الخصومة، أراد وأراد وأراد ونطق بالحديث المُراد:.
عارفة أنتِ طيب؟ أنا يمكن أول مرة هقولك كدا بس هقولك علشان يمكن يكون دا الوقت المناسب لكلامي، أنا عيشت حياتي كلها الناس بتفارقني حتى صحابي نفسهم، أمي بعدها أبويا، بعدها أختي بعدها مشيت من عند الحج نَعيم كل دا كنت فيه لوحدي من غير حد، بس بعد كدا لقيتك وحبيتك كمان وبقيتي كل حاجة ليا، زي ما چودي شايفاني كل دنيتها، أنا شايفك كل حاجة عندي، أنا سيبت الحرام بسببك، ونضفت حياتي بسببك، وأتقيت ربنا في بنت أختي الصغيرة بسببك، وبقيت بدور على الحلال برضه بسببك، يبقى تفتكري بقى أنتِ بعد كل دا مالكيش لازمة؟ طب حرام عليكِ يا ست ظالمة أنتِ.
ضحكت من بين عبراتها المُنسابة وحركت عينيها تُناظره بإمتنانٍ جلي جعله يركز بعينيه في عينيها التي كانت ولازالت نظرتهما بريئة مثل قلب الصغار، ووقتها خرج عادل من مكتبه فوجدهما معًا فهتف بنبرةٍ جامدة:
أنا عاوز أعرف برضه إيه اللي آخركم كدا؟
ضحكت شقيقته في الخلف فيما أنتبهت له أبنته التي أقتربت منه فوجدته يسألها بنظرةٍ أكثر لينًا عن ذاك الجمود السابق وهتفت بتفسيرٍ:
أصله كان راكب خيل وشكله حلو وفضلت معاه.
لم تعتاد الكذب أو حتى الإخفاء، بل هي دومًا تتعامل بكل صراحةٍ وهذا أجمل ما يميزها ويُضفي لقلبها رونقًا خاصًا فوق برائتها وقد أشار والدها نحو الآخر برأسهِ وسألها ممازحًا خلف قتاع الجمود الزائف:
والواد دا بيعرف يركب خيل كويس؟
ضحكت حينما وجدت الماء المُعكر يعود لصفوه من جديد بينهما وأن جموده ماهو إلا حفظ ماء الوجه وحينها هتف سراج بمراوغةٍ:
ما تيجي وأعلمك.
أرشقه عادل بنظرات كارهة ثم ألتفت لابنته بعينيه وهتف بحنوٍ بالغٍ كأنه يعتذر منها عن غضبه سابقًا:
روحي يلا مع زيزي علشان تجهزلك الفستان يلا يا عروسة، وأنا هقعد مع الواد دا أشوف آخره إيه، وأشوف إذا كان خيال ونفسه طويل ولا على صيت على الفاضي.
أحضنته نور ببكاءٍ وهي تشعر بعودة الأمان لها مُجددًا فيما مسح هو فوق رأسها وضمها بكلا ذراعيه يعتذر منها بصمتٍ، ففي النهاية هو الأب المُذنب الذي أهمل ابنته بعد فاجعة زوجته، هو من ترك لها أبواب الهجر على مصراعيها فلا يُحق له أن يسأل لما هاجرته وحده، أما سراج فبجانب ابتسامته الصافية، كان هناك جُزءًا في شخصه أشبه بالغموض وهو يقوم بربط الحلقات ببعضها لتُكمل السلسال الآخير وهو أن شهد لا غيرها المُستفيد من ذلك، كأنها بذلك ترد لها الصفعة، يبدو أنها تناسب أنه يملك كفًا هو الآخر، فهل سيقبل أن يُصفع ويصمت؟
في واحدةٍ من المرات القليلة أخبرني أحد الحُكماء
أن الزمان يدور بقدر ما دفعت أنتَ مُحركه كان المقصد حينها هي النوايا التي بداخل البشر، النية هي العامل الوحيد الذي تُبنى على أساسه الأفعال وتصدر بناءً عليها الردود، الأفعال لا تُحتسب دومًا من نظير الفعل، لكن يُنظر لها بعين السببية، فأفعل ما شئت لكن تذكر أن النهاية تتبع النية.
لا يعلم كيف آل به الحال إلى ذلك البيت في تلك المنطقة، فبعدما سقط أرضًا غارقًا في دمائه أخذه رجلٌ من عمر أبيه تقريبًا وأجلسه في بيته ثم قام بتنظيف جرحه وتطهيره وتمضيضه ثم جلس يرعاه حتى استفاق نادر من غفوته وتعجب مما آل به الوضع لكن الرجل طمئنه ونطق يُطمئنه:.
أنا مش عاوزك تقلق مني، أنا دكتور وساكن هنا لقيتك برة ساند على عربيتي وهدومك غرقانة دم، جيبتك هنا وغيرتلك على الجرح، بالمناسبة دا أثر رصاصة بس باين كدا حد كان بيهوشك بس أيده أترعشت ومقدرش ينشل، المهم أنتَ بخير، وأنا مرضيتش أعمل محضر رغم إنها مخاطرة.
أومأ لها موافقًا بصمتٍ ولازال مُتعبًا حتى فقد النُطق، وقد ظل معه الآخر ووضع له كوبًا من العصير ثم جعله يرتشفه وهتف بثباتٍ:.
أنتَ نزفت دم كتير ودا سببلك هبوط وحالة إغماء مفاجأة، أسمحلي برضه أقولك إني فتحت محفظتك وعرفت أنتَ مين ودا نوعًا ما طمني يا سيادة القُبطان.
استعاد نادر جُزءًا من وعيه وثباته ثم شكره بإمتنانٍ وأراد أن يرحل لكن الآخر أصر أن يبقى معه فلم يجد نادر بُدًا من وسط تلك الحلول إلا حلًا وحيدًا كان هو أصعب وأيسر ما توصل إليه، بدا حله كما السلاح ذي حدين لكنه رضخ له في نهاية الأمر.
بعد مرور كثيرًا من الوقت وصل يوسف إلى بيت الطبيب بعدما هاتفه نادر وطلب مجيئه وأكد على ذلك الطبيب الذي خاطبه وتحدث معه، في الحقيقة هو أعتاد ذلك كثيرًا فكلما شعر بالفرح أنتهت أمسيته بالحزن من نفس الطرف في كل مرةٍ، لكن حينما وصل إلى هناك أصابه التشتت.
حينها وجد نادر غارقًا في دمائه رغم قميصه الممزق وقد بدا أكبر من ضعفي عمره، نظراته كانت مُنكسرة ومنطفأة، جسده العريض أنحنى على عكس عادته، أقل ما يُقال رآه أمامه ذليلًا، جزءٌ منه أنتشى وشعر بالإنتصار، وجزءٌ آخر أشفق عليه كثيرًا، عيناه حينها كانت كما لوحةٍ فنية برع الفنان في وصف تفاصيلها، حيث ظهرت واحدةٌ منهما مُشفقة والأخرى مُتشفية.
أقترب منه الطبيب يعرفه بنفسه ثم شرح له الوضع بكافة التفاصيل ووقتها شكره يوسف ثم قام بخلع سترته ووضعها فوق جسد نادر الصامت وتحرك به بعدما شكر الطبيب وأمتن له فعليًا، وما إن خرجا من البيت أجلسه في السيارة فتأوه من ذراعه وقدمه، ووقتها تعجب يوسف لكنه لم يكترث به وسأله بفظاظةٍ:
أودي سيادتك فين؟
شقة التجمع عند ماما، هديك العنوان.
هكذا أخبره نادر بصوتٍ مُتعبٍ بالكاد خرج من بين شفتيه فيما تحرك يوسف بسيارته ووقتها صدح صوت هاتفه برقم رفيقه فأبتسم وهو يقول ساخرًا بقلة حيلة:
خير يا بابا أيوب؟ هتقفل الباب عليا ومش هتدخلني لو أتأخرت أكتر من كدا ولا خايف أكون ماشي مع عيال مش كويسة يعلموني أشرب سجاير؟
ضحك رفيقه على الطرف الآخر وهتف يمازحه:.
والله يا يوسف يا ابني أنتَ يتخاف على البلد كلها منك، وحتة عيال مش كويسة دي مش عاوز أصدمك بس أنتَ العيال اللي مش كويسة دي، المهم فين معاليك؟ مامتك قلقانة عليك وأنتَ مشيت فجأة، و عُدي حاول يلحقك معرفش.
حرك يوسف عينيه نحو نادر ثم عاد ينظر للطريق من جديد ونطق بثقلٍ كأنه بدا مُرغمًا على الحديث:.
هاجي وأقولك بس طمنهم وقولهم أنا بخير، هو مشوار يدوبك ساعتين وراجع ولو تليفوني فصل عرفهم ميقلقوش علشان للآسف مش معايا أي وسيلة تانية أوصلهم بيها، يلا سلام يا غالي.
أغلق مع رفيقه ثم وضع الهاتف في جيبه ونظر لمن يجاوره فوجده ينظر أمامه بصمتٍ ذكره بصمت كليهما في صغره، كان سامي وقتها يتوالى بضرباته عليهما فيجلسان بملامح مُتهجمة ووجهٍ مُقتضبٍ، لكن تلك المرة أنعكست الأدوار فأصبح يوسف هو الملك بالقصر والآخر يقف على أعتاب القصر لا هو يُطرد منه ولا هو بداخلهِ، وقد سأله أخيرًا بلامبالاةٍ:
إيه اللي عمل فيك كدا؟ شربت تاني وسكرت؟
أبتسم نادر بسخريةٍ وهتف بوجعٍ ظهر في عينيه وبعدها صوته المبحوح:
ياريت، ياريت أسكر ولا حتى عقلي يطير مني وأخلص، بس المصيبة أني فايق وموجوع، زي بالظبط اللي بيعمل عملية وهو مش متبنج، يعني شايفهم بيخيطوا الجروح وبيفتحوها وشايفهم برضه وهما بيدوسوا فوق الجرح وأنا مش لاحق أتوجع، أصل هتوجع منين يعني ولا منين؟
تلك المرة أشفق عليه بحقٍ، تلك المرة تفهمه يوسف، تلك المرة كان يراه بعينٍ أخرى لكنه لم يتحدث، لازال غُبار الخصومة عالقًا بينهما والقلوب غلف محبتها الصدأ، الكثير والكثير لم يعد كسابقه، وقد ساد الصمت وخيم فوقهما وبدأ النهار يظهر حتى وصل يوسف وأوصل نادر للشقة وما إن فتحت لهما فاتن برقت بعينيها تُطالعهما وقد ولج نادر وخلع سترة يوسف فظهر الدم العالق بقميصه الأبيض، وقتها صرخت هي وألتفتت ل يوسف فهتف بوقاحةٍ:.
إيه؟ هتتهميني المرة دي كمان؟
ألمها بحديثه لكنه أيضًا يملك الحق لذا أغلقت الباب وأقتربت من ابنها تسأله بلهفةٍ أقرب لصوتٍ باكٍ مُلتاعٍ:
كل دا كنت فين؟ وحصل إيه منهم هناك، وإيه الدم دا كله، عملت فيك إيه هي وأبوها؟ قولتلك متروحش وتوجع قلبي عليك، سيبها تغور في ستين داهية خلاص وربنا هيكرمك في غيابها عنك، دي وش شر طول عمرها، عمال تدفع في التمن لحد دلوقتي، حصل إيه بس؟
بكت وهي تسأله حتى دفع هو العصا وصرخ بقهرٍ:.
كانت هتقتلني، مكفهاش الدبح اللي دبحته ليا كمان كانت هتقتلني، وقفت قدامي ومسكت سلاح أبوها تهددني ولما قولتلها أعمليها عملتها بجد، في غمضة عين كانت هتضربني بالسلاح، أنا هنا مكسور ماليش حد، ماليش حد يقف في ضهري ولو فيه فهما عاملين كدا بس علشان يأمنوا شر أبويا، أنا معنديش حد يقف في ضهري ويجيب حقي منها، حتى أبويا هيقف في صفها هي علشان هيخاف من أبوها، أبوها اللي زعلان أوي على منظر بنته وهي بتتذل ومش زعلان على ابني ولا عمايل بنته، أنا مبقاش ليا قعاد هنا، هسيب الدنيا كلها وأسافر.
سقط قلب فاتن من موضعه وشعرت بالألم في رُكبتيها مرورًا بعظام ظهرها وفقراته بذبذبات مُشابهة للتيارات الكهربية وقد وقف يوسف يتابع هذا المشهد بمللٍ، ففي النهاية كل ذلك توقعه هو، وقد لاحظه نادر فسأله بنبرةٍ جامدة:
أنتَ بتضحك على إيه؟
أنتبه له يوسف وهتف بلامبالاةٍ يراوغه:.
ولا أي حاجة، دا حتى مشهد بايخ وكان متوقع، واحدة كدابة وقليلة الأصل وخانت العيش والملح هتصونك أنتَ يعني؟ بعدين اللي حصل دا كان لازم يحصل من الأول علشان كل واحد يتأدب، أظن أنا لما لقيت أبوك بيتمادى سيبته بس أنتَ سلمتله، ولو فيه حاجة بتخليني ممسكش رقبتك لحد ما روحك تطلع هي بس سيرة مصطفى الراوي علشان مش على آخر الزمن تربية ابن الرقاصة هيتساوى بتربية عم الناس كلهم، رَيح بقى.
حديثه كان وسيلة يُسكت بها رأسه لعلها تَكُف عن الضجيج والصوت المُرتفع في داخله ما بين الإنتشاء وبين التيه وبين صوت الضمير المؤلم، وقد استند نادر على عصاه وهتف بنفس الوجع الذي أضحى لا يُحتمل في شقوق روحه:.
وأنا ماكنتش أعرف إن دي نهايتها، أنا كنت عيل بريالة نفسي في أي حد يحبني ويكون ليا زي ما عيشت طول عمري لوحدي، حتى أنتَ كل مرة كنت بتسكت وعمرك ما دافعت عن نفسك وكل مرة كنت بتسيبني أصدق كلامهم، كان نفسي أتجوز وأفتح بيت وأجيب عيال يحبوني زي ما أبوك علمنا وعرفنا إن هي دي الحياة اللي كله بيسعى ليها، ماكنتش أعرف إن دي النهاية علشان كنت فاكر نفسي بحميها منك، كنت فاكر إني هفتح البيت اللي نفسي فيه ويبقى ليا مكان بيحبني، لو مش واخد بالك من يوم ما أتجوزت وأنا ماليش دعوة بيك ولا بحياتك، قولي هخسر إيه تاني؟ فاضل إيه لسه مخسرتهوش، عمري وابني وصحتي حتى قلبي داست عليه بدل المرة 100 مرة، وآخرتها برضه ماليش حد، ولا حتى عندي أخوات وهترسى وأموت لوحدي، وبدفع في حساب مش بتاعي.
كان يصرخ في يوسف والآخر في تلك اللحظة أنتابته الحالة، نفرت عروقه غضبًا، وتحولت ملامحه أخرى قاتمة ومُظلمة، وهدر فيه بصراخٍ عالٍ وصوتٍ أنفعل بغضبٍ:.
وأنتَ بروح أمك جاي دلوقتي تقول ماليش أخوات، جاي دلوقتي تتوجع وتحس بغلطك؟ وأنا لما كنت لوحدي كنت إيه؟ لما رموني في الأحداث وأنا عيل زيك كنت إيه؟ لما دخلت المصحة وبقيت مجنون كنت إيه؟ ولما قعدت في الحجز شهرين كنت إيه؟ مش كنت لوحدي ومقهور برضه؟ أبوك اللي عايرني بيُتمي وذلني وقهرني كان إيه؟ يمكن كنا ضحايا لراجل زي أبوك بس كل إنسان عنده عقل يميز بيه الصح من الغلط، وأنا مش مسئول عن غلطاتك، أنتَ المسئول الوحيد قُدامي، ولولا وصيته وحبه ليكم أنا كان زماني راميكم في الشارع، بس أنا مش هعمل كدا.
سكت قليلًا ولم يكن أمامه إلا أن يدفع نادر في منكبيه حتى سقط الآخر فوق الآريكة أما يوسف فالضجيج بدأ والغوغاء أنتشرت والأصوات تداخلت ورأسه داهمها الألم فأمسك رأسه يُحد من ذاك الألم العاصف لخلاياها وقد أمسك مزهرية ألقاها أرضًا لتتهشم تزامنًا مع صوت صرخاته العالية بزئيرٍ حاد عقبه الصمت التام إلا من صوت الأنفاس الثائرة، وقد أرتمى فوق المقعد وأغمض عينيه قبل أن يقوم ويُبرح نادر ضربًا حتى يموت بين يديه، ولازال الصمت مُخيمًا على الاثنين الآخرين وهما يطالعا بعضهما بصدمةٍ من هماجية أفعاله.
الثابت لا يَعلم ولا يتعلم
قانونُ وُضِعَ في ثوابت العقول البشرية لا يمكن تغييره، فلولا الخُطى والتغيير من المؤكد أن الإنسان لا يتعلم، لأن الأشياء بمجملها ثابتة تبدو كما تخفي في باطنها، فأمامك الآن شيئين، إما التأقلم وإما الحركة والتعلم.
في صبيحة اليوم الموالي.
كان مُنذر في المشفى يُكمل عمله ويتابعه بإهتمامٍ وكأنه يهرب من شيءٍ غير معلوم أو رُبما هو يعلمه لكنه يخشى مواجهته، وقد ولج غرفته يجلس فيها وخلع المعطف الأبيض يُلقيه بعيدًا بطول ذراعهِ ثم أرتمى فوق المقعد بتعبٍ ومسح وجهه بكلا كفيه حتى طُرق الباب بطرقاتٍ ناعمة جعلته يبتسم فهاهو على مشارف لقاء الفقرة الأحب في يومه وقد تحرك يفتح الباب فوجد تمارا ترفع رأسها للأعلى لكي يتسنى لها رؤيته وهتفت بصوتٍ طفولي ناعم:.
شوفتك وأنتَ خارج جيت علشان نقعد مع بعض.
أشار لها بالدخول مُبتسمًا وقد ولجت هي وجلس فوق المقعد الطويل وقد جلس في مُقابلها فوجدها تضع عُلبة الطعام فوق الطاولة وهتفت بحماسٍ بالغٍ:
المرة دي معايا بيتزا ماما عملاها علشاني وجيبتلك معايا كمان، دوقها كدا وقولي رأيك لو تمام شاورلي.
رفعت إبهامها له لكي يُدرك إشارتها فضحك رغمًا عنه وأومأ موافقًا وقد أخرجت الطعام بأناملها الصغيرة ووضعته له في كفه الكبير وحينها أبتسم لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
شكرًا.
ضحكت له حينما رآت تعاليمها أجنت ثمارها أمام عينيها وقد بدأت تتناول الطعام حتى تناوله هو الآخر فتذركت شيئًا ثم قفزت من محلها سريعًا تُضع كفها في جيب بنطالها ثم أخرجت شيئين متطابقين وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة حماسية:.
دي مادلية واحدة ليك وواحدة ليا، و فُلة معاها واحدة برضه زينا، جيبتهم علشان أنتوا صحابي، تاخد الأسود ولا البُني؟
سألته عن إختياره للون الدُب وقد أنتفض قلبه بطريقةٍ جعلته يشعر أنه لأول مرة يستشعر الحُب من قلبٍ بريءٍ مثل تلك الملاك الصغيرة وقد أخفى تأثره ونحاه جانبًا ثم أختار الدُب الأسود وأخذت هي البُني وبالطبع أخذت فُلة الأبيض، وقتها تنهد بقوةٍ يحاول السيطرة على أنفاسه الثائرة التي تموج بفعل تلك اللطيفة.
طُرق الباب وولجت منه فُلة التي ألقت التحية فوجدته يُطالعها بنظراتٍ نارية لم تفهم سببها لكنها أشارت لابنة شقيقها بالتحرك نحو والدها فظل هو يتبعها بعينيه ثم وقف أمامها يهتف بتصلد:
مش حضرتك خرجتيها واقفة هنا ليه؟
توسعت عيناها من طريقته الوقحة وحديثه الصلد فيما أبتسم هو بتهكمٍ ونطق ما لم يحسب حساب كلماته خلال التفوه به:
خطيب حضرتك عارف إنك هنا؟
ازدادت عيناها توسعًا ورمشت باستنكارٍ فيما تراجع هو عن تهوره وأولاها ظهره لكي يهرب من عينيها ونظرتهما له وقد سحب نفسًا عميقًا فيما تحركت هي تقف أمامه وقامت بضم ذراعيها عند قفصها الصدري وهتفت بنبرةٍ هادئة تخفي خلفها كشفها لسبب غضبه:.
أولًا أنا مش مخطوبة، ثانيًا بقى كان ممكن تقول إنك متضايق إني هتخطب وحاسس بالغيرة إن فيه حد تاني كان هياخدني منك بعدما بدأت تتعود على وجودي هنا، بس شكلك نسيت أنا إيه، أقل إنفعال منك هفهمه يا مُنذر.
داهمته فجأةً وجعلته يشعر بالتيه في أرض المعركة وكأنه ينتظر القصف في أي لحظةٍ ولا يعلم أين الإتجاه، ثبت نظراته فوق ملامحها فوجدها تبتسم بتكهنٍ ثم أضافت:.
حقك طبعًا تحس بكل دا، بس حقك برضه إنك تطمن وأنا هطمنك وأقولك إني متخطبتش، علشان هو كان هنا جاي يرفضني بالأدب ويقولي إني مش البنت اللي يتمنى يرتبط بيها، فعادي هو برضه مش الشخص اللي أتمناه إطلاقًا.
في تلك اللحظة أراد فعل شيئين مُتناقضين، إما أن يذهب للآخر ويُعيد تهذيبه إما يشكره لأنه تركها وشأنها وقد تعجب من نظرة عينيها كأنها تود الإفصاح عن شيءٍ لم يفهمه فسألها بنظراته لتقول هي بنبرةٍ هادئة:.
هو أنا ممكن أتكلم معاك بصفتك دكتور وأنا محتاجة مساعدة؟ بما إني فشلت أساعد نفسي ومحتاجة مساعدتك؟
لاحظ أنها تتهرب من سابق حديثها وقد تهرب هو أيضًا من الرد عليها ورغم تعجبه إلا أنه وافق على ما تُريد وتركها تجلس ثم جلس بقربها فسحبت نفسًا عميقًا ثم هتفت بنبرةٍ بدا فيها الإضطراب واضحًا:.
أنا طلعت مجنونة زي ما جواد قالي، فرحت إنه رفضني وكنت مبسوطة أوي، بس يمكن علشان أنا فعلًا بسترخمه أو مش بطيقه أو هو إنسان تنح وعامل زي الإنسان الآلي، حياته كلها شغل وشغل بس، مش عارفة بس حاليًا نفسي أضربه على وشه ونفسي أشكره مع بعض، تخيل عاوزة أتصرف بالتناقض دا؟
وأنا للآسف.
هتفها دون أن يعي لنفسه أو حتى لكلماته حتى حركت رأسها باستنكارٍ فأضاف هو مُعدلًا بلهفةٍ حتى لا تفهمه بالطريقة التي يخشاها:.
أقصد يعني أنا مستغرب تصرفك، خصوصًا إنك بنت، بس أنا لقيت الإجابة في كلامك أهو، هو مش الشخص اللي تتمنيه يكون شريك حياتك ولو وافقتي جايز تكون توريطة ليكِ، وفي نفس الوقت كبنت جميلة ومتعلمة ومُثقفة ورقيقة وغريبة الأطوار.
تمادى في غزله حينما شرد في ملامحها وقد أرتبكت هي أمامه فعدل حديثه بعدما حمحم بخشونةٍ وهتف مُكملًا:.
أقصد يعني فيكِ مميزات كتيرة مقارنةً بغيرك، ففكرة إن شاب يرفضك دي مش أحسن حاجة علشان كدا أنتِ مستغربة إنه رفضك بصراحة بس مبسوطة إنك متورتطيش معاه، فعلشان كدا مشاعرك دي طبيعية جدًا، وكان لازم تحسي بالتناقض دا، لأنها حالة حرب بين العقل القلب، لو كنتِ زعلتي بس يبقى أكيد قلبك أتغلب على عقلك وفيه مشاعر ناحيته، ولو فرحتي بس يبقى عقلك لغى مشاعرك وأتحكم فيها، أنتِ حاليًا متوازنة جدًا.
تنهدت بقوةٍ وتنفست بعمقٍ تُحرر أنفاسها المحبوسة وقد أعتدلت واقفةً ثم هتفت بثباتٍ تشكره وتمتن له:
أنا متشكرة لحضرتك جدًا يا دكتور، كلامك كان في وقته جدًا وكنت فعلًا محتاجة أسمعه، عن إذن حضرتك.
أولته ظهرها مما جعله يبتسم على طريقتها وقبل أن تخرج من المكتب أوقفها حينما نادى عليها بطريقةٍ بعثرت ثباتها:
فُلة!
جمدها محلها وتيبس جسدها خاصةً وهي تلتفت له بتروٍ فوجدته ينتصب في وقفته ورفع رأسه يهتف بثباتٍ:.
علي فكرة حسام دا خسرك أكيد، أنتِ مش خسرانة حاجة، بالعكس أنتِ كسبتي نفسك لما لحقتيها من علاقة كان ممكن تستنزفك كُليًا، ويمكن تكوني متشالة لحد تاني أتمنى برضه إنه يكون يستاهلك ساعتها.
أبتسمت له برقةٍ وحركت رأسها موافقةً ثم أضافت بمزاحٍ تشير بذلك إلى قوله أمسًا حينما قابلها في عقد القران:
مش ناوياها للآسف.
ضحك لها رغمًا عنه حينما قلدت طريقته وقد ضحكت هي الأخرى له ضحكة رنانة مرمرية الصدى في أذنيه ثم استأذنت منه وخرجت من الغرفة وتركته يُطالع أثرها مُبتسمًا وكأن النية حضرت لتوها، من الأساس أعتاد على خوض الحروب وأصوات القصف، وهي بِطَلتها أمامه تذكره بالصباح الأول بعد ليلٍ قضوه الناس في العتمة وأصوات الضربات المُتتالية.
كان يوسف في عمله الرئيسي بشركة البترول قضى هناك نصف النهار ثم خرج ومر على الشركة الثانية بعد ليلةٍ هرب فيها من الجميع وأوصد الأبواب على نفسه حتى لا يتلقى أحدهم موجة غضبه وعنفوانه حتى زوجته نفسها تهرب منها، كانت ليلة عصيبة مرت عليه وما إن ولج الشركة وجد الجميع يتحدثون بهمهمات منخفضة ويشيرون إلى كثيرٍ من الأشخاص فسكت وتوجه نحو مكتبه وأمر بإحضار عُدي الذي ما إن ولج مكتبه سأله بلهفةٍ:.
أنتَ معرفتش إيه اللي حصل؟
حرك رأسه نفيًا فاقترب الآخر منه يهتف بلهفةٍ:
شهد نزلت فيديو تشهر فيه ب نادر إنه على علاقات بستات كتير وبيسهر في الكباريهات ولما جت تواجهه طلقها في الشركة قدام الناس وذلها ودلوقتي بيتهرب من حقوقها وغير كالون الشقة، الموظفين كلهم شافوا الفيديو و سامي جوة شايط والدنيا كلها مقلوبة.
صُعِقَ يوسف من الحديث وقد ولجت رهف تهتف بقلقٍ وتوترٍ:.
الناس كلها بتسأل إيه اللي حصل والمواضيع كلها أتفتحت منها موضوعك أنتَ و شهد وقالت إنكم كنتوا خلاص هتتجوزوا بس نادر هددها ودخل بينكم، ألحق أتصرف بسرعة وقول لابن عمتك يشوف حل فيها كدا غلط.
حاول يوسف أن يتماسك لكنه فشل فأطاح بعلبة الأقلام الموجودة فوق مكتبه وقد خرج من جديد وركب سيارته وفتح هاتفه ليجد رسالة من سراج مفداها:.
أنا لو كنت عامل إعتبار كان علشانك أنتَ وعلشان نادر بس ورحمة أمي ما هعمل إعتبار لحد بعد كدا وبنت دي أنا مش هسيبها، بتشهر ب نور وتنزل الصور بعدما لقت أبوها معملش حاجة ليها؟ هي مش في بيتها بس هجيبها.
للحظةٍ تعجب من تلك الشيطانة هي وعائلتها، فتاة غريبة تخطت حدود العقل والتفكير في كل شيءٍ، لا تُراعي أدبٍ ولا مُعاشرة حسنة ولا ودٍ ولا أي شيءٍ، حينها صدح صوت هاتفه برقم نادر فجاوب مُسرعًا ليجد الآخر يسأله بلهفةٍ:
شوفت عملت إيه؟ دي فضحتني، تبقى هي اللي مضيعاني وكانت هتقتلني إمبارح والنهاردة تشهر بيا وتفضحني؟ أعمل إيه يا يوسف؟
سأله بلهفةٍ وقلقٍ جعلا الآخر يضرب مقود السيارة ثم هتف بفظاظةٍ وبنبرةٍ جامدة قال:
أسمع! أنا المرة دي عاوز راجل معايا، ورب الكعبة لو ما بطلت معيلة وظبطت نفسك لأكون مسلمك ليها تسليم أهالي، اللي هقوله يتنفذ دلوقتي، ولو هترجع في كلامك وتبيعني يبقى قولي وأنا ساعتها مش هجازف معاك أصلًا.
هدده وأفزعه بكلماته حتى قرر الآخر الإنضمام لصفه وهتف بنفس اللهفة وكأنه يستجديه حيث هتف:.
أنا المرة دي عاوز أخ في ضهري يجيبلي حقي، ولو نسيت هفكرك إن مصطفى الراوي ربانا نبقى أخوات، معاك في اللي هتعمله كله مهما كان هو إيه.
أصابت التُخمة يوسف وكأنه تناول وجبة دسمة لكنه خرج من تلك القوقعة ثم أغلق الهاتف معه وطلب رقمًا غيره وما إن صله الرد من الآخر ضرب تارة السيارة حتى صدح صوتٌ من بَوقها عاليًا وهتف بصراخٍ هادر:
تجيبلي بنت نَزيه من تحت الأرض يا سراج الصبح ميطلعش عليها قبل ما تكون أيدي فاهم!
تعجب الآخر منه لكنه هتف بصوتٍ أهدأ:
فيه عنوان في الشروق بتاع الفيلا بتاعة عيلة أمها، هتلاقيها هناك أكيد، عاوزك تجيبهالي، تخليك لابد هناك لحد ما تظهر بأي طريقة بقى، وخُد معاك إيهاب وأسمع مني، سلام.
أغلق معه ثم أرسل له العنوان الذي سبق وأخبرته عنه وأخبرته أن هذا البيت هو الملجأ لها من كل الدنيا حينما تُريد الإنعزال، وقد صرخ بصوتٍ عالٍ وهو يَسُبها ويسب عائلتها، فبالطبع هذه الأفكار لن تخرج من إطار عائلتها الغير عادلة، والآن موعد ثأره معها قد حان.
أثقل العلاقات تتواجد في حياة المرء هي تلك العلاقات التي تتواجد فرضًا، ففي بعض الأحيان لا نملك إلا تحملهم حتى تنتهي تلك العلاقات بأمر خالقها وفقط.
في حارة العطار وقف بيشوي ينتظر رفيقه تَيام وقد أقترب منه أيهم الذي هتف بعجالةٍ:
ياعم خلص منك ليه العربية واقفة مستنية الفواتير من البيه، أنجزوا حالكم بس كدا علشان نخلص أبويا على أخره هناك ومتعصب بسبب أيوب وإنه مخطبش الجمعة النهاردة وزعلان.
أومأ له موافقًا وقد لاحظ إنسحاب أيوب منذ الصباح وترك الحارة بأكملها وذهب ليقضي يومه بمنطقة المُعز لدين الله وقد تركوه يفعل ما يحلو له وقد سبقهما أيهم وتحرك نحو الوكالة فيما أتت ني ين شقيقة نجلاء فأبتسم هذا الشرير بتسليةٍ واضحة ما إن لمح رفيقه يخرج من البناية وحينها وقفت أمامهما وهي تسأل بنبرةٍ جامدة بعد إلقائها التحية:
مساء الخير، أختي فوق؟
حينها رفع بيشوي كلا حاجبيه وسألها ساخرًا:.
هو أنتِ تايهة في العنوان؟ بتأكدي علينا يعني الصفة؟ اسمها أم تَيام أو قوليلها باسمها اللي كلنا عارفينه.
أبتسمت هي بتهكمٍ ورمقتهما بإزدراءٍ وهي تُضيف:
فعلًا أنتَ مصدق؟ يمكن.
كادت أن تتحرك لكنه تواقح عليها وألتفت لرفيقه يسأله بسخريةٍ قاصدًا ممازحته:.
يمكن إيه؟ هي مش أمك يا بني وأنتَ رضعت منها؟ ولا هي كانت بتجيبلك الجاموسة ترضعك منها في صالة البيت؟ أبقى قول لخالتو ني ين علشان تقريبًا هي كانت أمينة الزرايب وقتها.
زفرت في وجهيهما وتحركت نحو البناية فيما تتبعها تَيام بعينين حزينتين حتى سحبه رفيقه من رسغه وهتف بثباتٍ:.
ولا! أنا مبحبش أشوفك زعلان، أقسم بالله أطلع أجيبها من شعرها، أنتَ دلوقتي أبوك نَعيم الحُصري يعني العيلة دي سيبك منهم خالص، وخلينا في فرحك اللي قرب دا، كدا كدا خلاص هتسيبلهم كل حاجة وتمشي، فالأحسن بقى تشوف حياتك الجديدة وتسيبك من العيلة دي خالص، ولا هما يخصوك في حاجة؟
حرك رأسه نفيًا ثم تحرك بجوار رفيقه نحو العمل لكن نظرتها الكريهة له لم ينساها ولم ينس أنها تتهمه بأنه مُجرد فتى لقيط وجدته شقيقتها وأشفقت عليه، وبالرغم من ذلك كان وسطهم يشعر أنه كما المنبوذ لا يُحق له أن يكون وسطهم.
في شقة يوسف كانت قمر تجلس بين نارين كما يُقال دومًا نار القلق على أيوب الذي ترك الحارة منذ الصباح ونار القلق على يوسف الذي ظهر له عمل استثنائي ورحل منذ الصباح حتى بيوم الجمعة، أما ضُحى فلازالت نائمة منذ الأمس لم تستيقظ بعد.
في بيت العطار لاحظت نِهال توتر الأجواء وحزن آيات لأجل شقيقها فولجت لها غرفتها وسألتها بلهفةٍ بقصد الإقتراح عليها:.
بقولك إيه بدل ما تقعدي زعلانة كدا، تعالي نروح عند قمر ونقعد معاها هي و عهد ونجيب جنة بالمرة أهو نقضي اليوم شوية وأنتِ تفكي عن نفسك، إيه رأيك؟
أحتارت آيات في أمرها لكن الآخرى حثتها ودعمتها حتى وافقتها وقررت أن تذهب معها لزوجة شقيقها ويجلسن سويًا جلسة نسائية مع بعضهن بدلًا من التوتر الذي ملأ وقتهم.
الصبر دومًا هو المفتاح لكل شيءٍ، نعم الإنتظار ممل لكن لولا التحلي بالصبر والتمسك به لكانت الأشياء بأكملها ضاعت من بين يدي الإنسان كما تفر المياه من بين الأنامل، فمهما كان صبرك طويلًا، لا تجذع ذرعًا واستمسك به.
في تلك المنطقة الراقية أمام واحدٍ من المباني الحديثة فيها توقفت سيارة سراج ويجاوره فيها إيهاب الذي أفرغ غضبه في تبغ غليونه وهو يجلس في إنتظار شهد أو ظهور أي أثرٍ لها على الرغم من وقوف سيارتها أمام البيت، وقد شعر سراج بالضُجر فهتف بإنفعالٍ:
أنا زهقت خلاص، ما ننزل يا إيهاب ونجيبها.
حرك الآخر رأسه نحوه يرشقه بنظراتٍ نارية وهتف بتهكمٍ يستخف من تفكيره وطريقته:.
أنتَ شكلك أتهبلت صح؟ من إمتى وفينا راجل بيتهجم على واحدة ولا حتى يفكر يمد أيده عليها، أصبر على رزقك لحد ما تتنيل وتتشملل تخرج من البيت دا، هانت.
زفر الآخر وأشعل سيجاره حتى فُتح الباب وظهرت هي منه وحينها قاد السيارة نحوها بسرعةٍ كُبرى وقطع عليها العبور ثم ترجلا من السيارة بحركاتٍ عنيفة حتى تراجعت للخلف لكن إيهاب هيمن على تحركها وتفوه بقسوةٍ أكدتها عيناه:.
الله في سماه لو خطيتي شبر زيادة هكون مزعلك بالجامد من غير ما ألمسك حتى، قدامي أحسنلك، يلا.
صرخ فيها حتى أرتعد جسدها وكادت أن تسقط للخلف لكن نظرته جعلتها تسير بخنوعٍ خلفه وخلفها كان سراج الذي حاول كظم غيظه أنها أولًا وأخيرًا مجرد أنثى ولا يحق له أن يتمادى في استرداد حقه، وقد وقفت بجوار باب السيارة تفكر في طريقةٍ للهرب لكن إيهاب كان الأسرع حينما أوقف سيل فكرها بقوله ساخرًا:.
مش هتلحقي تهربي، هكون جايبك تاني فنلم الدنيا أحسن بالأدب، وخلي بالك أنا صبري مش طويل خالص، يعني لو خلص أنا هزعلك مني جامد، وأنا بصراحة مرقدلك من زمان.
أنهى حديثه وفتح باب السيارة حتى ولجتها هي وجلست متكورة في مقعدها بالخلف، بينما هما ركبا كلًا منهما السيارة وأخذوها معهما في الطريق المجهول، وحتى الآن مصيرها مجهول، والقادم رُبما يتخطى حدود التوقع.