قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الثالث

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الثالث

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل الثالث

علي الجهة الأخرى أنهى أيوب ما يفعله تمامًا ثم قال لمساعده في العمل أن يغلق المكان حتى يتوجه للمسجد يفتحه كعادته يجلس به حتى ولو لمدة ساعة تقريبًا، لعل وعسى أن يأتِ من يطلب معاونته كما عُرِفَ عنه، خرج من المكان سيرًا على الأقدام يرتدي ملابسه الرسمية عبارة عن حلةٍ باللون الأسود أسفلها القميص باللون الأبيض و ذلك لطبيعة عمله التي تفرض عليه ارتداء الملابس التي تتسم بالطابع الرسمي.

قبل أن يصعد الدرجات الصغيرة التي تؤدي إلى دخول المسجد، وقف يخرج مفاتيحه و في الخلف قام الأخر بفتح المطواة حتى يطعنه غدرًا من الخلف، لمعت عينيه بشرٍ و خبثٍ كما ينقض الصائد على فريسته، لكن تلك المرة هذه الفريسة بريئة تمامًا من الغدر فما مصير تلك البراءة التي تمتع بها.

أخرج مفاتيحه ثم وقف يسردها لينتقي منها مفتاح باب المسجد تزامنًا مع زحف الاخر على الدرجات الرخامية ثم مد يده بالسكين في ظهر أيوب ليطعنه أو هكذا ظن حيث تفاجأ بكلمةٍ في وجهه جعلته يرتمي تقريبًا بجسده نحو ثلاثة درجات، فيما نزل أيوب كما الأسد الجريح بملامح وجه جامدة ثم أمسكه من تلابيبه يوقفه مقابلًا له وعينيه تنطق بالشرر ثم قال بتهكمٍ: عيب يا أمير، مش أيوب ابن العطار اللي يتغفل على أيد عيل زيك، ولو كنت ناسي افكرك أني ياما بايدي دي علمت عليك زي ما بيقولوا كدا، مش علشان بقيت شيخ وبدخل بيت ربنا، يبقى تفكر اني ضعيف! فوق علشان أنا معايا اللي اقوى مني ومنك، مفهوم؟

حرك الأخر رأسه موافقًا وقد بدأ الألم ينتشر في جسده كما انتشار السموم بالأوردة، فقام أيوب بلكمه برأسه في أنفه حتى صرخ الأخر بألمٍ وقد تركه أيوب على الأرض ثم اقترب من السكين يُغلقها وقال بنبرةٍ جهورية تهدجت من فرط انفعاله: خُد القرف بتاعك دا، دي يمسكوها اللي زيك، مش أنا، بس خليك فاكر حارة العطار كلها بابين وشباك، يعني تقول للي بعتك، أني هزعله بالجامد.

تحدث أمير بخوفٍ منه حتى خرجت حروفه غير مُنمقة بقوله: م، محدش باعتني، أنا، أنا اللي جيت لوحدي.
رفع أيوب حاجبيه مُستنكرًا ثم سأل بتهكمٍ قاصدًا التقليل من الأخر: يا شيخ! معقولة يعني شربت السيجارتين فهبت منك تيجيلي هنا تخلص مني؟ ياأخي دي سيجارة غريبة أوي.

كان أمير ينظر له بترقبٍ، فوجده يقترب منه المسافةِ الفاصلة ثم حذره بقوله: روح قول ل سعد أني هخليه مايشوفش يوم هنا في حياته بعد كدا، وأنه كدا جاب آخر ما عندي، واتكل بقى من قدامي علشان على أخري منك، غور!
ركض أمير من أمامه بقوةٍ لم يعلم من أين أتت له، لكنه حقًا نجا بحياته ولاذ بالفرار من أمام أيوب وكما يُقال كُتُبتَ له حياةُ أخرى يَحياها بعدما هرب من براثن عائلة العطار.

تنهد أيوب تنهيدةً حارة ثم استغفر ربه بنبرةٍ خافتة وعاد من جديد للمسجد يفتحه ثم دلف إلى المرحاض يتوضأ من جديد ليبدأ روتينه المعتاد.
خرج بعدما توضأ ثم اقترب من مُكبر الصوت يقوم بتشغيله كعادته على صوت الابتهالات التي اعتادت المنطقة بأكملها على سمعها منه بعدما يقوم بتشغيلها.

نسائم الليل الباردة وسكونه مع الصمت الدائر بالمكان، الطبيعة الهادئة في ذلك الليل لم يظهر منها سوى صوت بعض الحيوانات كما مواء القطط و نباح الكلاب في الليل، خالط ذلك الهدوء صوت الابتهال لُِيُعبر عن نفوسٍ أكلتها وحشة الدُنيا، ومزقتها أنياب الواقع، لتكون تلك الكلمات بمثابة السكينة وهي تعبر عن أنفسهم يرجون من الله أن يُديم لُطفه عليهم حيث صدح صوت الآتي:
أغيب وذو اللطائف لايغيب
وأرجوه رجاءً لايخيبُ.

وأنزل حاجتي في كلِّ حال ٍ
إلى من تطمئنُ بهِ القلوبُ
فكمْ للهِ من تدبير أمر ٍ
طوتهُ عن المشاهدةِ الغيوبُ
ومن كرم ٍ ومن لطفٍ خفي ٍّ
ومن فرج ٍ تزولُ بهِ الكروب
ومالي غيرُ بابِ اللهِ بابٌ
ولا مولىً سواهُ ولا حبيبُ
كريمٌ منعمٌ بَرٌّ لطيفٌ
جميلُ السَتر للداعي مُجيبُ
إلهي مِنكَ إسعادي وخيري
ومنك الجودُ والفرجُ القريب.

كانت تلك الكلمات تَصدح عاليًا تشق سكون الليل كما الثلج يُضاف على الحروق فيخمدها تمامًا، ويزول أثرها كُليًا، جلس أيوب يستند بجسده على العمود الرخامي في المسجد ثم أرجع رأسه خلفًا يتنهد بعمقٍ وقد لمعت العبرات في عينيهِ، كلما شعر بالضعف أو بالهوان، جلس هنا حيث أكثر الأماكن مَحبةً إلى قلبه، وفرجًا لكربه، لذا استغفر ربه ثم وقف يُغلق الصوت ثم شرع في بداية صلاته كما اعتاد في جوف الليل، ينحني شكرًا للمولى على تلك الفرص التي يوهبه له لتمنحه حياةً أخرى يتقرب فيها إلى الله سبحانه وتعالى، لذا سجد السجدة الأولى وما إن لمس جبينه الأرض وجد دموعه تنهمر لِتُبلل سجادة الصلاة وفقط استمر لسانه يردد:.

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه.
شعور الراحةِ يجتاحه وكأنه يسكن قلبه، ليجد نفسه يتنفس الصعداء وكأنه النفس الأول والأخير منذ بداية ذلك اليوم.

تحرك بسيارته مُندفعًا بحيرةٍ لم تستمر معه كثيرًا حيث حدد وجهته أخيرًا وقرر الذهاب إلى هُناك حيث هو، تواجده هناك أكثر ما يحتاج إليه حاليًا خاصةً بعد مكوثه في ذلك البيت حتى ولو لمجرد ساعاتٍ، لكنها كافيةً حتى تُثير استياءه وحنقه.

الأرض الرملية و السماء الواسعة والنجوم الواضحة، الاضواء العالية التي تتعامد على سفح الأهرامات البعيدة عنهم نسبيًا مكانٌ يبدو وكأنه لوحة طبيعية أبدع الفنان في رسمها، منذ وقوع بصرك عليها سواء ليلًا كان أو نهارًا، تجد نفسك غارقًا في تفاصيلها البديعة، ذلك المكان الذي عُرف بالخيول والفرسان حيث منطقة نزلة السمان.

شقت إطارات سيارته الأرض الرملية نحو وجهته وكأنه كما المحارب يغزو الطُرق ببسالةٍ، فصدح صوت أحد الصبية في بداية شباب عمره ما إن لمح سيارته تقترب من البوابة الحديدية حيث ركض للداخل مُهللًا بفرحةٍ:
الغريب حضر، الغريب وصل، يوسف الغريب حضر هنا يا حج نعيم.
وصله صوت ذلك الشاب فانتفض من مقعد مكتبه بلهفةٍ حتى فُتح الباب عليه وطل منه شابٌ أخر يقول ببهجةٍ ظهرت عليه كليًا:
يا حج! يوسف الراوي هنا.

بجد يا اسماعيل؟ حضر؟
حرك رأسه موافقًا وقد زاحمت الضحكة ملامحه فيما تحرك الأخر يسحب عصاه الخشبية ثم عدل عباءته على كتفيه وتحرك للخارج و ذلك الشاب خلفه يسير بثباتٍ كظله.

أوقف يوسف سيارته ثم سار للداخل مع من أرشده للبيت، حيث ذلك المكان الذي يشبه القصور متأثرًا بالطابع الفرعوني الذي يَغلب عليه، ليكون كما المزيج بين الحضارتين، كان يسير الرجل أمامه وهو خلفه بثباتٍ وثقةٍ حتى التقت نظراته بنظرات الأخر الذي وقف في انتظاره مُتخليًا عن مكانته وقيمته التي تجبر الجميع على تنفيذ أوامره، ولأول مرّةٍ ينزل هو بنفسه ينتظر شخًصا ما، لكنه دومًا حالة استثنائية وسط الجميع، لذا تُفتح له كل الأبواب حتى أبواب القلوب وإن قصد الناس إوصادها في وجهه.

غريبٌ وطأت قدماه إلى هنا ولم يكن يومًا عنهم غريبًا، اعتاد على الغُربةِ لكن هنا! قد يحسبه موطنه الأصلي، وإن لم يبالغ في الأمر لقام بإلغاء كل ما سبق واحتسب فقط حياته من اليوم الذي أتى به إلى هنا.
لم يمانع نفسه من الابتسام وهو يقترب من نَعيم الذي فرق مابين ذراعيه قائلًا بنبرةٍ غَلُبَ عليها الشوق:
وحشتني يا غالي يا ابن الغالي.

اقترب يوسف منه يحتضنه مُربتًا على ظهره ثم نطق بصوتٍ مختنقٍ ما إن التقى بذلك الرجل:
أنتَ اللي وحشتني، مقدرتش أكون هنا أكتر من كدا وماجيش ليك.
ربت نَعيم على ظهره وهو يمسك عصاه، ثم ابتعد عنه يبتسم له ويشبع من ملامحه، بينما اسماعيل اقترب من يوسف يعانقه وهو يقول بنبرةٍ طغى عليها المرح أثناء الترحيب:
دي الخيول كلها رقصت من فرحتها بيك يا غريب كل دي غِيبة عن أهلك؟ وحشتنا يا سيدي.

ابتسم يوسف ثم رفع ذراعيه يبادله العناق وهو يقول بنبرةٍ شبه ضاحكة لم تخلو من مرحها:
ماهو أنا جيت ارقص الخيول دي، والله أنتَ اللي وحشتني، أنتَ وحبايبك.
غمز له بعدما لمحَ بحديثه الذي جعل الأخر يضحك بصوتٍ عالٍ، فيما رفع نَعيم صوته لأحد رجاله بقوله:
دوشة تدخل تقول ل سمارة و الستات جوة يحضروا العشا علشان يوسف الراوي هنا وحد يطلع يتمم على اوضته، حمامة يلا.
تحرك الرجل من أمامه فيما نطق يوسف يمنعه بقوله:.

ملهوش لزوم يا حج، أنا مش مطول هنا وهمشي علطول.
أشار له بالصمت وفقط تحدث بكلمةٍ واحدة موجزًا قوله:
ورايا.
تنهد يوسف باستسلامٍ ثم تحرك خلفه ويجاوره إسماعيل الذي ابتسم ثم وضع يده على كتف الأخر يسيران بجانب بعضهما.
نَعيم الحُصري.

تاجر الخيول العربية في منطقة نزلة السمان ويعد من أكبر روادها بل تشتهر المنطقةِ به و باسمه هو، يعتبر الأب الروحي ل يوسف الراوي حيث جمعتهما صدفةٌ نتج عنها تواجد يوسف معه بصفةٍ شبه دائمة.

رجلٌ رغم صرامته و جديته، إلا أنه رقيق القلب عطوف بدرجةٍ كُبرى، ملامحه حادة إلى درجةٍ كُبرى، عينيه رُمادتين اللون، يخالط الشيب رأسه، بشرته بيضاء بدرجةٍ طبيعية، يملك العديد في منطقة نزلة السمان من اسطبلات الخيول أو المقاهي العامة، أو تلك التي أُشتهرت أخيرًا ب خِيم الجلوس حيث قام بفتح العديد منها بقرب الأهرامات على الطريقة البدوية، ومنها ماهو حديث حيث الكافيهات الفاخرة، يملك حشدًا من العُمال، أساسهم إسماعيل الموجي ابن رفيقه الذي توفى منذ فترةٍ كبرى.

كان له ابنان، الكبير فقده إثر ظروفٍ غامضة، والأخر مشاكس ومغامر، تركه برغبته وابتعد عنه حتى ينعم بعيشةٍ تمناها هو ولم يجدها في المكوث مع أبيه.
دلف نَعيم غرفة الجلوس بالشباب وهو يقول مُرحبًا به:
نزلة السمان وبيت الحُصري نوروا بوجودك تاني، طلتك هي نفسها طلة المرحوم، ربنا يطول في عمرك يا حبيبي.
أبتسم له يوسف ثم قال بصوتٍ رخيم:.

افتكرت أول مرة جمعتني بيك، وتاني مرة الظروف لاقتنا سوا، المرة الأولى قولتلي هعتبرك ابني، والمرة التانية نجدتني، كأنك بتقولي إن حتى وهو ميت مأمن ضهرك.
ربت على كتفه ثم نطق بحديثٍ حاول اخفاء تأثره به ناطقًا:
وهو دا اللي حصل إنه فعلًا أمن ضهرك، و أمني معاك بوجودك.
أرجع يوسف رأسه للخلف سامحًا لنفسه أن تغوص في الذكريات البعيدة حينما كان في صغره مُرافقًا لوالده.
(منذ أعوامٍ كثيرة مضت).

كان مصطفى جالسًا بجوار نَعيم في مزرعته الخاصة بتربية الخيول، يتابعان العمل الذي أوشك مُصطفى على إقامته مع نَعيم و يوسف تقريبًا في العام التاسع من عمره يجلس على الأرجوحة الحديدية يتابعهما بنظره.
فجأة ركض أحد الرجال من الداخل يقترب من موضعهم وهو يقول بلهفةٍ:
يا حج نعيم يا حج، ولدت، أصيلة ولدت أخيرًا.
انتقض نعيم من مكانه يقترب من الرجل يسأله بلهفةٍ:
متأكد يا هاشم؟ ولدت بجد.

حرك رأسه موافقًا وهو يضيف بفرحةٍ:
والله العظيم ولدت و الدَكتور معاها جوة، جابت مُهرة.
ابتسم نعيم ثم التفت لذلك الصغير الذي يراه لمرته الأولى ثم أمسك وجهه بكلا كفيه وهو يقول بامتنانٍ مُتفائلًا بتواجده:
وشك وش خير با ابن الراوي الحمد لله كنت فقدت الأمل أنها تعيش، تعالى معايا!
سأله مُصطفى من الخلف بحيرةٍ طغت عليه من تلك الأجواء الغريبة:
أنا مش فاهم حاجة يا حج نعيم مهرة مين؟ و أصيلة مين؟

التفت برأسه دون أن يُفلت يداه عن وجه الصغير يجاوبه بتفسيرٍ:
أصيلة دي الفرسة مرات أصيل ولادتها كانت صعبة والدكتور كان خايف، بس وش الخير يوسف ابنك بقى المشكلة اتحلت، الخير على قدوم الواردين.
ابتسم له مُصطفى فيما نطق يوسف بلهفة طفلٍ صغير العمر تبدو عليه البراءة:
يعني الحصان بقى عنده نونو؟
ضحك عليه نَعيم بصوتٍ عالٍ، بينما ابتسم مُصطفى بيأسٍ من حديث ابنه، فتحدث الأول بعدما أمسك بكف الصغير:.

تعالى معايا بقى نطمن عليها سوا، و نشوف هنسميها إيه
حرك رأسه موافقًا ثم هتف ببراءةٍ:
عمو ينفع نكون صحاب؟
التفت له نَعيم يطالعه بتأثرٍ بينما مُصطفى هتف بسخريةٍ:
أنتَ عاوز تصاحب أي حد وخلاص يا يوسف يابني عمو كبير وأنتَ صغير.
رد عليه يوسف بدهاءٍ:
طب ما أنتَ كبير وصاحبي برضه.
مشاكسته منذ الصغر واضحةً للجميع، لذا أُعجب نَعيم به و بفصاحته ورأى به طفله المفقود، لذا حمله على يده ثم قال بثباتٍ وقد قرر الآتي:.

ابني، يشرفني إنك تكون ابني يا يوسف دا بعد إذن بابا طبعًا.
تحدث مُصطفى بودٍ يقول:
من غير ما تقول دا شرف ليا وليه كمان، إبنك وينول الشرف دا.
تحرك نَعيم بالصغير على يده وتبعه مُصطفى حتى وصل إلى غرفةٍ جدرانها أسمنتية و ارضيتها مُغطاةٌ بالتِبن، تتخللها أشعة الشمس من خلال حديد النافذة العالية التي استقرت أعلى جدارها الرئيسي.

كان يوسف يستقر على ذراع نَعيم وما إن دلف ورآى المُهرة الصغيرة هتف بفرحةٍ غلفها حماسه:
الله دي صغيرة وشكلها حلو أوي، بص يا بابا عاملة إزاي؟
اقترب مُصطفى يرى ما أشار له ابنه، وما إن رآها ابتسم بتأثرٍ وهو يقول بإعجابٍ:
سبحان الله، خلق كل شيء وقدره بالتمام، سبحان الله.
طبع نعيم قبلةً على وجه يوسف ثم سأله بمرحٍ:
ها! هتسميها إيه يا بطل؟
فكر يوسف قليلًا ثم أشار باصبعه يهتف بحماسٍ شديد:
شَمس! هسميها شمس.

نال الاسم اعجاب الحاضرين، وأكثرهم نعيم الذي نظر لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
شمس الأصيل
قال بنبرةٍ بها الكثير من الزهو، ثم التفت ينظر للصغير على يده قائلًا:
حلو اسمها زيك تمام، أول مرة أشوفك بصحيح بس قلبي اتفتحلك وكأني معاك من سنين.
ابتسم له يوسف ثم قال بمراوغةٍ:
طب هتديني حصان من بتوعك؟
تدخل مُصطفى يقول بنبرةٍ ضاحكة:
هو يعني علشان سميت المُهرة يبقى تاخد قصادها حصان؟ إيه الاستغلال دا؟
قاطعه نَعيم بقوله:.

سيبه يا أستاذ مُصطفى وعد مني اول ما شمس تولد أنتَ اللي هتاخد أول ولدة وتكون كبرت وشديت حيلك وبابا ييجي يعلمك هنا، تمام؟
حرك يوسف رأسه مومئًا بينما مُصطفى تابعه بوجهٍ مبتسمٍ.
كانت تلك هي المقابلة الأولى التي جمعتهم سويًا، ولربما كانت الأخيرة أيضًا حيث مات والده من بعدها وانقلبت حياته رأسًا على عقبٍ ولم تجمعه بعدها سوى صدفةٌ أحيته من جديد ولربما كُتِبَت له بها حياةٌ أخرى.

وصل يوسف لعمر السادس عشر تقريبًا من سنون عمره حيث أكمل الباقي من بعد وفاة والده مع عائلة الراوي للأسف الشديد، وظل بكنفهم غير أمنًا بل مُهانًا وسطهم حتى حدث الآتي:
تشاجر يوسف مع أحد الشباب من عمره في سن السادس عشر، و وصلت المشاجرة إلى الضرب المشحون بالغضب وإهانة يوسف بإنه عالةً على العائلة وقد دفعه الشاب وهو يقول بقسوةٍ:.

أنتَ هتساوي نفسك بيا يا جربان؟ دا أنتَ عالة عليهم كان زمانك مرمي في الشارع مش لاقي تاكل.
حديثه جعل النيران تنشب في صدره لذلك وبدون تفكير هجم على الشاب ثم ألقاه أرضًا وهو فوقه ينهال على وجهه باللكمات المتفرقة وقد كان بارعًا في تسديد اللكمات حيث علمه والده قبل رحيله تلك الرياضة.

استمر في ضربه للشاب في طريق المدرسة الثانوية حتى إجتمع المارة وفصلوه أخيرًا عن الشاب، بينما هو لهثَ بقوةٍ و بغلٍ دفين، حتى اقترب أحد المارة من المُسجى أرضًا يتفحصه، فقال بخوفٍ:
دا شكله بيموت!
احتلت الدهشة ملامح يوسف وقد تفاجأ بالناس يكبلون حركته ومن ثم بعدها تم نقله إلى قسم الشرطة باعتباره مُجرمًا في حق الشاب.

علمت عائلته وعائلة الشاب أيضًا الذي عادت له حياته من جديد لكن والده أصر على تلقين يوسف درسًا قاسيًا وعدم التنازل عن حق ابنه، لذا قدم به بلاغًا و أصر على دخوله ما يُطلق عليها الأحداث، وهي عبارة عن سجنًا لصغار السن و المراهقين الذين يرتكبون الجرائم.

وضِع يوسف في الاحداث لمدة تقريبًا شارفت على الشهر دون أن تتدخل عائلته في ذلك أو حتى يحاولون إخراجه من ذلك المأزق بالطبع عدا فاتن التي حاولت كثيرًا مع أسرة الشاب لكن كل محاولاتها ذهبت هباءًا.

ذات يومٍ في مكان التحقيقات وقف يوسف ينتظر دخوله لاستئناف التحقيق معه، ينتظر في الرواق و يده مُكبلة بالأصفاد الحديدية، يفكر في الخروج من ذلك المأزق، وكأن الله أراد أن يبشره في نفس اللحظة حيث خرج نَعيم من الغرفة المجاورة لمكان وقوفه، وصوت الضابط يقول بودٍ:
اعتبر كل حاجة خلصت و الأوراق كلها يا حج نعيم كفاية مِجيتك لهنا.
ابتسم له نَعيم وقبل أن ينطق رفع يوسف صوته قائلًا:
عمو نَعيم.

التفت نعيم إلى صاحب الصوت يطالعه بتعجبٍ، بينما هو قال بلهفةٍ:
أنا يوسف ابن مصطفى الراوي
اتسعت عينيه بدهشةٍ واقترب منه بخطواتٍ واسعة يضرب الأرض أسفله، لم يصدق ما تراه عينيه، لقد تغير صوته و ملامحه أيضًا حيث بدت عليه علامات سن المُراهقة و صوته الذي بدا خَشنًا كعلامة من علامة البلوغ.
سأله نَعيم بلهفةٍ:
إيه اللي عمل فيك كدا! ومين اللي جابك هنا وفين أهلك؟

قام يوسف بسرد الموقف موجزًا في التفاصيل الهامة، بينما الأخر كان يستمع له لايصدق ما حدث، لذا التفت للضابط الواقف خلفه ينطق بلهجةٍ أمرة:
أنا عاوز أعرف مين المسئول عن كل دا؟ ازاي تسجنوا شاب زي دا لسه في بداية عمره؟
رد عليه الضابط بصوتٍ مضطرب خشيةً من نفوذه الطائلة:
مش عارف والله يا حج، بس طالما الموضوع هنا في القسم مراحش النيابة تبقى محاولة إن شاء الله، متقلقش أنا هنا.

تحولت نظراته إلى أخرى بثت الرعب بداخل الأخر وهو يقول:
قسمًا برب الناس لو الليلة دي يوسف مخرجش من هنا لأكون مطربق الدنيا على دماغ ابوكم كلكم، سمعت!
حرك رأسه موافقًا ثم تحرك من أمامه نحو مكتب الضابط الأخر بينما نعيم التفت له يحتضنه وتحدث بنبرةٍ جهورية:
متخافش، أنا معاك.

تلك هي العبارة الاصدق التي سمعها في حياته، فهو حقًا لازال معه يحميه و يحافظ على حياته بل حارب لأجله أيضًا حتى انتهى الموضوع أخيرًا ودفع مبلغًا ماليًا لأسرة الشاب و للمحامي حتى ينتهي من الاجراءات دون أن يتلوث حتى اسمه أو اسم يوسف الذي حصل على حريته من جديد بعدما جلس قُرابة الشهر في تلك الزنزانة بكائبتها و بؤسها، وكم كان الغريب حنونًا عليه أكثر من ذويه.
(عودة إلى الوقت الحالي).

صوت طرقعة أصابع وصله يُخرجه من شروده، حتى انتبه هو ثم تقدم بحسده بعدما كان يجلس مُرتخيًا فسأله إسماعيل بتعجبٍ:
روحت فين يا عمنا! خير؟
ابتسم له ثم نظر ل نَعيم يقول بصوتٍ مُحشرجٍ:
روحت في اللي فات وجمعني بيكم هنا، افتكرت أول مرة أشوف فيها الحج، وتاني مرة لما خرجني من الأحداث.
ربت نَعيم على كتفه ثم نطق:
ربنا يبعد عنك الأذى و المؤذيين.
مال يوسف للأمام قليلًا يقول بثباتٍ:.

لسه فاكر الكلام اللي قولتهولي لما جيت معاك هنا، منستهوش، فاكره يا حج؟
ابتسم له بقلة حيلة وكأنه يقول له كيف لي أن أنسى، بينما الأخر تحدث بنفس الشموخ قائلًا:.

المراكب الراكدة وسوقها واقف، يوم ما بيفيض بيها من حالها الواقف، بتعايب المراكب السايرة إنها دايرة بَطال، لو المراكب السايرة وقفت زيها وسمعت كلامها وسلمت بيه، يبقى كدا هي عملت اللي هي عاوزاه و وقفت حالها زيها، أوعى تكون مركب واقفة أو حتى مركب سايرة بتسمع كلام حد، اسمع نفسك وبس، ولو مركبك وقفت في يوم شوف غيرها وافتكر إن الدنيا دي ملهاش عزيز وإلا سيدنا آدم مكانش نزلها لما اتفتن بيها.

ربت نَعيم على كتفه ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
وأنتَ اتعلمت الدرس صح، لدرجة إنك حتى مبقيتش تسمعني أنا، بس على مين مش عليا يا ابن الراوي.

خرج أيوب من المسجد وأغلقه ثم عاد في طريقه إلى منزله حتى وصله في الليل فوجد عبدالقادر جالسًا في انتظاره بردهة البيت الأسفلتية، فمر عليه أيوب يُقبل كفهِ ثم سأله بوجهٍ مبتسمٍ:
صاحي ليه لحد دلوقتي؟ عاوز حاجة ولا إيه؟
حرك رأسه نفيًا ثم رد عليه بقلة حيلة:
مستنيك، تليفونك بيتقفل ومش بعرف أوصلك و قلبي بيوجعني عليك، كويس إنك بخير.

جلس أيوب أمامه ثم حمحم بخشونةٍ و أخرج من جيبه الظرف الأبيض يمد يده له به قائلًا:
اتفضل دي أمانة وصلتك.
أخذه منه عبدالقادر وقد ضاقت المسافة بين حاجبيها وبدا مُتعجبًا، فأضاف الأخر مُفسرًا:
دي جاية من بيت الاستاذ فضل بعتهم مع بنت أخته.
ابتسم عبدالقادر ثم قال بنبرةٍ ظهرت بها ضحكاته:
آه، قمر؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم ثم قال بسخريةٍ:.

هي، وخلي بالك بقى وكلمه أشكره علشان متجيش تفضحني، دي بقت عارفة عني كل حاجة، وأنا أسطى أيوب بتاع القُلل.
ضحك عبدالقادر بصوتٍ عالٍ فيما ابتسمت أيوب بسخريةٍ وسأله بتهكمٍ:
يا سلام! عجبتك أوي؟
حرك رأسه موافقًا فتنهد أيوب بقلة حيلة ثم نطق مُغيرًا مجرى الحديث:
المهم صح، عملت إيه مع أيمن؟
حرك كتفيه ببساطةٍ ثم قال مُستسلمًا:
ولا أي حاجة، كتبتله القايمة بسعرها بكل حاجة، يمضي عليها و يجيبها، نكتب الكتاب.

ضاقت نظرات أيوب نحو والده ثم سأله بقلقٍ بالغٍ:
مش عارف ليه يا عبده مش مرتاحلك؟ قلبي بياكلني كدا وحاسس إننا هنتغفل كلنا.
أشار نحو نفسه مستنكرًا مُرددًا:
أنا يابني! ربنا يسامحك.
حرك أيوب رأسه موافقًا صعودًا و هبوطًا وقد ارتسمت السُخرية على ملامح وجهه واضاف مؤكدًا:
يبقى شكي في محله، على العموم أنا عارف إن دماغك توزن بلد، وعارف إنك لا يمكن تضر حد فينا، علشان كدا توكل على الله طالما نيتك خير يا حج.

سأله عبدالقادر بنبرةٍ خافتة:
طب بما إنك بقى بتثق فيا، شايف إن إياد يستاهل أماني؟
فهم مقصد والده فتنهد بعمقٍ ثم تحدث بحكمةٍ وتعقلٍ:.

علشان مشيلش ذنب حد أنا اغتبته، معرفش، بس الواضح إنها مش قادرة تحافظ على بيتها يا حج، عندها نِعم كتير أوي غيرها يتمنوها، والحمد ربنا كرمنا من وسع، و أيهم مش مخليهم محتاجين حاجة، بس هي مخلياهم محتاجين حنية دايمًا، ابنها دا هي متعرفش عنه حاجة أصلًا وسايباه ل آيات و الست وداد هو نفسه مش مركز معاها، بالعكس طول ماهي هنا هو زعلان من طريقتها و غيرتها من آيات معرفش ليه؟
سأله باهتمامٍ:.

يعني شايف إنها مترجعش هنا تاني؟
حرك كتفيه وضم شفتيه بحيرةٍ ثم أطلق زفيرًا قويًا تبعه بقوله:
مقدرش أحكم، دا قرار أيهم لوحده لو هو مبسوط برجوعها يرجعها وربنا يهدي الأمور إن شاء الله.
ابتسم عبدالقادر بسخريةٍ ثم ارجع ظهره خلفًا وهو يقول:
أنا قولت أنتَ مش هتوافق تعتب البيت دا تاني بعد ما اتبلت عليك قبل كدا في أول جوازها، ساعتها لولا إنك حلفتني كان زماني خارب بيتها.

اقترب منه أيوب وقد ارتسم الخبث على ملامحه وهو يقول بنبرةٍ خافتة:
الناس فاكرة ابنك عبيط علشان مربي دقنه و شيخ مسجد وفاكرين أني معرفش حاجة، أو زاهد في الدنيا، بس محدش فيهم واخد باله إن ربنا منور بصيرتي بكشف عباده، هي حبت تحس أنها محور اهتمام وإني كراجل تقي قادرة هي تلفت نظري وإني ببص عادي وعيني بتخوني، بس نسيت أني ابن العطار، علشان كدا جيتلك أنتَ، و أهو ربنا هداها، عقبال ما تتهد خالص.

ابتسم له عبدالقادر ثم قال بغلبٍ على أمره:
لم و شيل يا عبدالقادر.
ابتسم له الأخر فيما اقترب منه يمازحه بقوله:
بقولك إيه يا اسطى أيوب ما تقوم تعملنا كوبايتين لمون بالنعناع من بتوعك كدا خلينا نروق شوية من السيرة الغم دي.
ضحك أيوب رغمًا عنه ثم تحرك من مكانه يقبل رأس والده وقال بعدها بمرحٍ:
عيني هغير هدومي وأجي أعملهولك، عاوز حاجة تاني؟

حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم له، فيما تحرك الأخر من أمامه نحو الداخل ليبتسم في أثره بحنانٍ على كل لحظةٍ أوشك بها على فقدان ذلك الملاك كما يُلقبه هو، فلو استطاع لقضى عمره بأكمله ساجدًا للمولى على رأفته بابنه.

في الطابق الثاني بنفس البيت كان أيهم جالسًا على الأريكة و أمامه بعض الأوراق و الدفاتير التجارية الخاصة بعملهم يُمعن كامل تركيزه بها ويدون في دفتره الخاص أدق التفاصيل.
خرج له إياد من غرفته يجلس بجواره صامتًا، فانتبه له لذلك أغلق دفاتره ثم سأله باهتمامٍ:
صاحي ليه لحد دلوقتي يا باشا؟
رد عليه بضجرٍ:
آيات زعلانة تحت ونامت من بدري و أيوب مكانش هنا، و أنتَ بتشتغل وجدو كان قاعد معاه ناس، زهقت.

حمله أيهم يجلسه على قدمه ثم مسح على وجهه وقال:
بعد الشر عنك من الزهق، طب إيه يرضيك نعمله علشان متزهقش؟
حرك كتفيه بحيرةٍ وسرعان ما جال بخاطره فكرةٌ لينطق بحماسٍ:
ممكن نعمل حاجة حلوة هنا؟ أو ننزل ناخد من تحت عادي فيه كتير؟ بس تسهر معايا!
رفع أيهم حاجبه الأيسر ثم قال بنبرةٍ بدت شريرة للصغير:.

حاسس إن فيه اشتغالة في الموضوع مش قادر أحط ايدي عليها، بس ماشي، وبما أنك فاشل زي اللي خلفك بالظبط يبقى ننزل ناخد من تحت، موافق؟
حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
اشطا يلا بينا.
امتعض وجه أيهم ثم زفر بيأسٍ وحمله على كتفه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
علي الله بس منلاقيش حد منهم تحت قام بالواجب، ادعي يا وش الفقر.
نزل أيهم بابنه نحو الأسفل وهو يحمله على كتفه، فتحدث عبدالقادر بضجرٍ:.

ولما يقع من إيدك؟ نزله وشيله عِدل بعد كدا.
أنزل الصغير ثم جلس بجواره يقول بمشاكسىةٍ:
إيه يا عبده جرى إيه؟ خايف عليه ومش خايف عليا وأنا شايله؟ مين فينا اللي ابنك؟
نطق عبدالقادر وهو يسحب الصغير لعناقه يطوقه بذراعيه:
أعز الولد ولد الولد، يعني هو أعز منك عندي، هديت كدا؟

حرك كتفيه ببساطةٍ وكأن الأمر لا يعنيه، بينما أيوب خرج من المطبخ في يده دَورق العصير وبجواره الكاسات الفخارية التي صنعها هو بيده، وتحدث بتهكمٍ:
رغم إن مفيش إشارة لكدا، بس، واضح إن حماوتكم بتحبكم يعني، اقعدوا اشربوا العصير معانا.
سأله إياد بلهفةٍ:
الحلويات اللي هنا فين يا أيوب؟ أنا نازل علشانها.
وضع أيوب الصينية على الطاولةِ أمام والده، ثم اقترب من الصغيب يحمله وهو يقول بمرحٍ:.

مفيش حلويات هنا غيرك يا حلويات، هات بوسة لعمو ياض.
قبله إياد على وجنته وهو يضحك بسعادةٍ فيما دار به أيوب أمامهم وبضحكةٍ واسعة وصل صداها لأرجاء البيت، يُريد أيوب أن يؤازره فهو يشعر به حينما مر بما يمر به الصغير بعد فقدان والدته، لكن الفرق هنا أن والدة ذلك الصغير تركته عمدًا، بينما الأخرى اخذها منه المرض.

في اليوم التالي وسط النهار صدح صوت هاتف أيهم في محله وهو يجلس مع بعض التجار يرتدي حِلته الرمادية المُفصلة لديه، وقد انتهت المقابلة عقبها دخول بيشوي له وما إن رآه قال بخبثٍ:
الله! لابس البدلة الرمادي اللي بتحبها؟ أيوا يا عم الليلة عيد ورايح ترجع العروسة.
رفع أيهم حاجبه وكأنه يحذره من التكملة بتلك الطريقة، فجلس بيشوي على المقعد المجاور لمكتبه وهو يقول بخنوعٍ بعد نظرته تلك:.

خلاص! متكشمليش كدا، المهم يلا علشان نروح البيت عندي، علشان تاخد أمي و يولا معاك.
تنهد أيهم ثم أخذ مفاتيحه و هاتفه و اغلق درج مكتبه ثم تحرك مع الأخر نحو بيته الذي يقرب بيتهم بخطواتٍ بسيطة.

فتح بيشوي البوابة الحديدية للمنزل حيث يسكن في أحد الأبراج الخاصة ب عبدالقادر هو و أسرته بأكملها، تحرك أولًا نحو شقة والدته و الأخر يقف بجواره، وجد والدته تجلس أمام التلفاز وأمامها طبق التسالي و هناك صغيرين يركضان خلف بعضهما فرفع صوته بنبرةٍ جامدة يقول:
ولا! اقعد منك ليها بقى، فين ماما؟
اقترب منه الصغير يقول وهو يلهث بنفسٍ متقطعٍ من فرط الحركة:
ماما جوة بتكلم بابا يا خالو، اجيبهالك؟

حرك رأسه موافقًا ثم قال:
روح قولها خالو برة ومعاه عمو أيهم بسرعة يا أبانوب.
ركض الصغير نحو الداخل، بينما الفتاة اقتربت منه بدلالٍ وهي تقول:
وحشتني يا خالو.
ابتسم لها ثم حملها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
وأنتِ يا عيون خالو، شوف برضه يا أخي البنات دلع وعز إزاي؟ مش الطحش اللي جوة متفش في وشي حتى.
ضحك أيهم ثم قال بسخريةٍ:
خليه هو و التاني كرفوا على بعض، ربنا يهديهم، و يهديكي يا كاترين أنتِ كمان.
ردت عليه بحنقٍ:.

اسمي كاتي يا عمو أيهم
قبل أن يرد عليها التفتت لهما تريز تقول بحنقٍ:
مش عارفة أسمع المسلسل أسكت يا حيوان منك ليه!
اقترب منها أيهم يجلس بجوارها وهو يقول بتهكمٍ:
يا شيخة؟ ماهو محدش بيسمع المسلسل، بيتفرج عليه بس، قومي يا تريز البسي يلا.
زفرت هي بقوةٍ في وجهه ثم قامت بضجرٍ تقول وهي تتحرك من موضعها:
أنا تعبت منك يابن رقية اللي مصبرني عليك المرحومة أمك غير كدا كان زماني حطيت صوابعي في الشق منك.

دلف للداخل، فأتت ابنتها تسألهما بضجرٍ:
نعم يا أساتذة! خير؟
تحدث بيشوي بقلة حيلة قائلًا:
هتروحي ترجعي أماني مع أمك، يلا علشان المحروس لو راح لوحده هيعك الدنيا.
ردت عليه تقترح ببساطةٍ:
طب ما يطلقها ويخلص! البنات كتير وفيه ألف واحدة تتمناه.
التفت لها أيهم يقول بسخريةٍ:
هاتيلي ياختي واحدة من الألف دول وأنا موافق، مش لاقي.
ابتسمت له وقبل أن تتحدث خرجت تريز من الداخل وهي تقول بقلة حيلة:.

يلا قدامي، صبرني يارب على المشوار الأسود دا.
سألتها فيولا بتعجبٍ:
يعني هروح معاكم و أسيب البهوات دول هنا؟ لأ طبعًا دول توأم عامل زي القط والفار.
تحدث أيهم مُسرعًا:
وديهم البيت عندنا يلعبوا في الجنينة مع إياد واحنا راجعين خديهم، يلا بس.
بعد مرور دقائق وقف بيشوي أمام بيت العطار بالصغيرين في يده، حتى خرجت له وداد فقال هو بوجهٍ مبتسمٍ:.

معلش يا ست وداد هتعبك، دخليهم الجنينة مع إياد و ماما و فيولا هياخدوهم وهما ماشيين.
حركت رأسها موافقةً ثم أخذتهما منه، فخرجت لهم مهرائيل وحينما وقع بصرها عليهما ركضت نحوهما بحماسٍ تقول:
يا كتاكيتي، وحشتوني اوي.
ركضا نحوها كليهما، بينما بيشوي ابتسم بسعادةٍ وقد التقت نظراتهما سويًا وهي تبتسم بخجلٍ، فتحدث هو يشاكسها:
منورة يا هيري
كتمت ضحكتها ثم تصنعت الثبات وهي تقول بنبرةٍ تعمدتها جامدة:.

بنورك يا أستاذ بيشوي
رفع حاجبيه مستنكرًا ثم تحرك من المكان وهو يقول بثباتٍ قاصدًا إثارة استفزازها:
متتشاقوش ومحدش فيكم يزعل طنط مهرائيل تمام؟
شهقت هي بقوةٍ فيما ترك المكان ورحل وهو يضحك على رد فعلها المبالغ فيه، بينما هي ضربت الأرض بقدميها، ثم دلفت للداخل بالصغيرين تسحبهما خلفها.

في شقة أماني زوجة أيهم وصل هو ومعه الامرآتين، فتحدثت تريز بنبرةٍ هادئة:
أظن أنتِ مش صغيرة كل شهر هاجي أخدك من هنا، عيب كدا، وابني أنا عرفاه كويس، أيهم تربيتي أنا يعني مش اي حد، أظن تعقلي كدا وترجعي بيتك.
قبل أن ترد عليها هي تدخل شكري شقيقها يقول بنبرةٍ جامدة:
أختي مش هبلة علشان كل شوية تغضب، هي بتغضب لما بيفيض بيها وتجيب أخرها.
تحدثت تريز بعدما أمسكت كف أيهم تمنعه عن الحديث:.

و هي السنة كلها فايض بيها ولا إيه؟ ليه إن شاء الله أختك السد العالي؟
كتم أيهم ضحكته ثم سألها بجمودٍ برع في اصطناعه بقوله:
يا بنت الحلال هترجعي معايا ولا لأ؟
نظرت في وجه أخيها فحرك رأسه نفيًا و نظراته تُحذرها من القبول، فتحدثت هي بصوتٍ مُضطربٍ:
لأ مش هرجع يا أيهم أنا مش مرتاحة في البيت هناك وحاسة أني في سجن، معلش يعني مش هقدر آجي على نفسي.
وقف أيهم بعدما تنفس بعمقٍ ثم أبتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.

حقك يا أماني وحقي برضه أني أقدر نفسي وأبطل أهينها اكتر من كدا.
توقف عن الحديث يتابعها وهي تطالعه بحيرةٍ فيما أضاف هو بثباتٍ:
أنتِ طالق.
تفوه بها بثباتٍ وكأنه يُلقي عليها التحية، بينما أمها لطمت على وجهها تزامنًا مع قولها بنبرةٍ أقرب للصراخ:
يا مُصيبتي السودا!
نظرت له فيولا بدهشةٍ وكذلك والدتها التي ضربت كفيها ببعضهما، فتحدث هو بنبرةٍ جامدة:.

يلا يا أم بيشوي يلا يا مدام فيولا مبقاش لينا حاجة هنا، قدامي يلا.
تحركت النساء معه، بينما هو رفع إصبعه في وجهها وهو يقول بنفس الجمود:
مش كل شوية فرصة العمر هتجيلك، حقك بورقتك هيوصلك لهنا، سلام يا مدام.

تحرك من مكانه يتنفس الصعداء وكأن حجرًا أُزيح من فوق صدره، علاقته بها تشبه الأرض ولكن بدلًا من أن يتحرك هو بخفةٍ عليها، جثت تلك الأرض فوقه تخنق روحه لذا خرج من ذلك البيت بحريةٍ وكأن القيد حول معصمه كُسِرَ وتحرر هو ليُحلق في الآفاق.
نزل للأسفل فسألته تريز بمعاتبةٍ:
ليه كدا يابني؟ تسلم دماغك للشيطان في ثواني كدا؟ تخرب بيتك بايدك؟
زفر بقوةٍ ثم بنفاذ صبرٍ:.

اتخنقت يا ستي، تعبت وكل شوية كدا ارجع اصالح فيها، طب اتحرق أنا، ابنها دا مش هاين عليها ترجعله هو؟ دي حتى مسألتش عنه، دي أم إزاي دي؟
تدخلت فيولا تقول بضجرٍ:
بصراحة معاه حق بقى، قلبها جامد اوي، دا أنا سايباهم أهو نص ساعة وروحي هتجري قبلي علشانهم، دي بقالها ييجي شهر و البيت جنب البيت مفكرتش حتى تنزل تطل عليه.
حدجتها تريز بسخطٍ وهي تقول:
أنتِ بتشعلليه يا بوتاجاز؟ اخرسي يابت.
أشار لهما أيهم قائلًا:.

يلا خلونا نمشي من هنا.
تحركوا مع بعضهم نحو بيت العطار، يُريد قطع تلك الصفحة من دفتر حياته، لكن يبدو أنها كانت صفحةٌ مُلطخةً بالحبرِ فبقى أثرها في باقي الصفحات.

في حديقة بيت العطار.
شردت آيات في ماحدث و أخبرها به والدها مما فعله مع خطيبها، فانتبهت مهرائيل لشرودها فسألتها بنبرةٍ عالية:
إيه يابت! سرحانة في إيه؟
تنهدت آيات بعمقٍ ثم سألتها بتخبطٍ تُدلي أمامها بما يخيفها:
تفتكري هيرضى يمضي على القايمة؟ ولا هيحصل مشكلة؟ أنا ماكنتش أعرف إن بابا هيحط كل الحاجات دي.
سألتها مهرائيل بتعجبٍ:
هي إيه القايمة دي أصلًا؟ علشان مش فاهمة.
ردت عليها مردفةً بقولها:.

دي عبارة عن كل الحاجة اللي العروسة جابتها في الجهاز بتتكتب بكل التفاصيل زي ضمان حقوق كدا، علشان يعني لو حصل حاجة تضمن حقها وهو كمان، بس بابا كتبها غالية اوي.
ربتت على كفها وهي تبتسم لها تحاول طمئنتها بقولها:
متزعليش نفسك، إن شاء الله هيمضي ونكتب الكتاب، بس هو أنتِ إيه اللي مخوفك أصلًا أومال لو بتحبيه.
ردت عليها بتخبطٍ:.

أنا محتارة يا مهرائيل حاسة كدا إني من جوايا مش مرتاحة للموضوع دا، هو نفسه بحاول أثق فيه بس بقلق منه، وبقول مشي المركب وخلاص بلاش تسيئي الظن فيه.
دلف أيهم عند تلك الجملة ثم قال بنبرةٍ جامدة:.

تغور المركب لو مش مرتاحة فيها، مركب إيه اللي تمشي وأنتِ لسه على البر؟ المركب متحركتش أصلًا، مستنية إيه؟ تركبي مركب غلط تعطل بيكِ في نص البحر؟ اوعي تغلطي غلط زي دا، محدش بيضربك على إيدك علشان تتجوزي، إن شاء الله لو هتقعدي معانا هنا العمر كله، خليكي، إنما تضحي علشان حد بحياتك وأخرتها يلومك إنك مفضلتيهوش على نفسك لأ!
تعجبت منه ومن طريقته فدلفت خلفه النساء، حينها دلفت وداد تقول بلهفةٍ:.

أستاذ أيهم! الحج اتصل وبيقولي أحضر المندرة علشان خطيب الآنسة آيات جاي على هنا ومعاه رجالة عيلته.
تنهد هو غمغم بقلة حيلة:
جاي وراكي أهو، روحي بس جهزي الحاجة وافتحي المكان.
تحركت من أمامه بينما هو قال لشقيقته بثباتٍ:
لازم تحضري القعدة دي وتشوفي بنفسك، علشان بناءًا عليها هنقرر، ماشي؟
تحرك من أمامها بينما هي ارتمت على المقعد بتخبطٍ و تشوشٍ من حالته فتحدثت مهرائيل تسألهما:
هو ماله يا طنط؟ وفين مراته.

تحدثت فيولا بخيبة أملٍ:
طلقها، خسارة بس مش أوي.
اتسعت عيني آيات بينما مهرائيل وضعت كلا كفيها على فمها من هول الصدمة.

في شقة فضل جلس برفقة أسرته و شقيقته وابنتها، فسألته قمر باهتمامٍ:
خالو! الفلوس وصلت تمام؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال:
آه يا حبيبتي تسلم ايدك، الحج كلمني و قالي إن الحاجة وصلته.
تنهدت بعمقٍ، فيما قالت ضحى ابنته بضيقٍ من الأخرى:
دي وترت أهلي، كل شوية خايفة حد ياخد الفلوس، وكل شوية عاوزة تطمن.
تحدث فضل باستحسانٍ:
قمر دي حبيبة قلبي، تربيتي و بتقدر الأمانة، ربنا يكرمها بابن الحلال اللي يحافظ عليها.

ابتسمت له قمر و قد دلف عُدي في تلك اللحظة يتنهد بعمقٍ ثم ألقى عليهم التحية باقتضابٍ، حتى سألته غالية عمته بتعجبٍ:
مالك يا حبيبي، أنتَ تعبان؟
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ آسية:
لأ يا عمتو أنا بخير، حمايا كلمني وقالي كل شيء قسمة ونصيب مش هينفع نكمل أنا وبنته علشان ممعيش شغل، ومش موافق بنته تقعد في إيجار.
اعتلى الحزن ملامحهم جميعًا، فيما قالت والدته بقلة حيلة:.

يابني ما كل الناس بتتجوز في إيجار وربنا بيكرم بعدها بشقق تانية، بعدين هو عارف إن شقتك عمتك فيها، اقصد يعني شقة عمتك.
خجلت من حديثها وظنت إنها تسببت في احراجهم، بينما غالية قالت بتفهمٍ:
دي شقة عدي وقولتلكم هاجي اقعد هنا معاكم يا إما اقعد في إيجار، مش عاوزين تسمعوا كلامي لسه بس؟
تحدثت أسماء بمعاتبةٍ:.

اخس عليكِ يا غالية هو أنا برضه دا قصدي؟ أنا بتكلم إن أمها فاتحتني وقولتلها إن دي شقتك، يعني عارفين إنها بتعتك، بعدين هو أنا ليا غيرك يعني علشان تسيبيني؟
ابتسمت لها غالية فتحدث فضل بنبرةٍ هادئة:
متشغيلش بالك بيهم، شوف حياتك بس وشغلك وربنا يكرمك إن شاء الله، ويعوضك ببنت الحلال، ربك كبير.
ونعم بالله.
رد عليه عُدي بذلك ثم تنهد بعمقٍ وهو يبتسم لهم حتى يطمئنهم أنه على ما يرام.
عُدي فضل.

الابن الأكبر ل فضل شقيق ضحى شابٌ في العام التاسع والعشرون من عمره، متوسط الطول، جسده متوافق مع طوله حيث بدا طبيعيًا، ملامحه هادئة بشرته أقرب إلى البيضاء، خصلاته بُنية قصيرة إلى حدٍ ما كما يفضلها هو إلا أنها كثيفة كما خصلات والدته تخرج من كلية لغات وترجمة يبحث عن عملٍ.
صدح صوت هاتف قمر فرفعت رأسها بارتباكٍ ودلفت للداخل من أمامهم جميعًا ثم وصلت غرفتها تقول بدلالٍ تعمدته:
ألو، ازيك يا علاء عامل إيه.

بالطبع ذلك لم يكن سوى نفسه خطيب ضُحى ابنة خالها ورفيقتها، وعند ذكرها لاسمه فُتح الباب عليها وقد اتسعت عينيها وهي ترى أسماء زوجة خالها أمامها ومن المؤكد أنها لاحظت الهاتف لذلك اتبعتها نحو الداخل، فيما تسمرت الأخرى والهاتف في يدها.

في حارة العطار
بداخل المندرة جلس عبدالقادر بجوار الشباب ومعهم تَيام أيضًا يجلسون في انتظار عائلة أيمن و بعد مرور دقائق قليلة دلف مع اعمامه الاثنين و خاله.
تم الترحيب بهم من قبل عبدالقادر و الشباب ثم جلسوا أمامهم كان تَيام يرمقه بسخطٍ لم يقو على تقبله، وكذلك بيشوي أيضًا يكرهه دون أن يعلم حتى السبب، فيما سأله عبدالقادر بعدما طل بنظراته لخارج الغرفة فوجد ابنته تقف تستمع لهم:.

ها يا أيمن مضيت القايمة؟
تحدث هو بتوترٍ:
معلش يا عمي كنت عاوز اتكلم معاك في حاجة مهمة.
أنصت له ونظر له يخبره أنه يستمع له ولحديثه، فوجده يقول بنبرةٍ مهتزة:
المبلغ كتير يا حج، صحيح قولت هدفع مهرها وهي تجيب الحاجة بس المبلغ كبير عليا ومش هقدر أمضي عليه.
رفع أيهم حاجبه يطالع شقيقه الذي أشار له بالتريث، بينما عبدالقادر سأله بنبرةٍ هادئة:
يابني هو أنا بقولك تدفعهم دلوقتي؟ دا ضمان لحق بنتي مش أكتر.

اندفع أيمن يقول بتسرعٍ:
ولو حصل طلاق يا حج هجيب الفلوس منين؟ هشحت علشان اسدد الفلوس دي؟
حديثه كان بمثابة إنذار الخطأ، بينما تدخل عمه يُزيد الأمور سوءًا بقوله:
بعدين فرضًا وافقنا، نضمن منين إن الحاجات اللي مكتوبة دي موجودة أصلًا، مش يمكن فيه حِسبة غلط؟
اندفع أيهم يسأل بانفعالٍ:
تقصد إيه يا حج حامد؟ هو احنا هنسرقكم؟ على أخر الزمن عيلة العطار هتغشكم انتوا؟ فوق يا حج وشوف أنتَ بتكلم مين و ولاد مين؟

تحدث ايمن يحاول تلطيف الأجواء بقوله متوترًا:
خالي مش قصده يا أيهم بس بصراحة المكتوب كتير و مفيش حاجة مضمونة حتى الجواز.
في الخارج اعتلت الصدمة ملامح وجهها وكأنها ضربت فوق رأسها بعصا غليظة، بينما عبدالقادر ضرب بعصاه في الأرض اسكتهم جميعًا، ثم رفع صوته ليخرج جهوريًا بقوله:
آيات!، تعالي.

دلفت هي على استحياءٍ تُطرق رأسها أرضًا ترتدي خمارها على الفستان الأبيض والحجاب الزهري، تعلقت نظرات تَيام بها على الفور، بينما عبدالقادر سألها بثباتٍ:
سمعتي اللي اتقال؟
حركت رأسها موافقةً فأضاف من جديد يستفسر بقوله:
وإيه رأيك فيه؟
نبست بخفوتٍ بالكاد وصلهم:
اللي حضرتك تشوفه.
وقف عبدالقادر ثم قال بشموخٍ:.

شوف يابني، أنا راجل ابن سوق وداير وفاهم كويس، وعيني تلقط الدهب الأصلي من العيرة اللي واخد لون على قشرة، لو كنت قولتلي شاري بنتك وميهمنيش الفلوس كنت قطعت الورقة دي قدامك 100 حتة وقولتلك أنا كسبت راجل جنب عيالي، إنما أنتَ خايف ومش واثق، والراجل اللي يخاف، يكسف.
حديثه لاذعًا وكأنه يقصد توجيه الإهانة لهم، بينما الشاب نكس رأسه للأسفل ثم سأله بخزيٍ:
طب فرصة يا حج.
رفع كفيه يبسطهما أمامه وقال بثباتٍ:.

الفرصة في أيد آيات أنا مليش دخل، لو هي عاوزاك بجد هديك فرصة علشانها.
تنهدت بعمقٍ ثم رفعت رأسها تطالع أخوتها وكأنها تطلب منهما العون، فحرك أيوب رأسه لها يحثها على التحدث، و أيهم نظراته كانت محذرةً أكثر حتى تنفست بتروٍ ثم استجمعت جزءًا من شجاعتها المفقودة وقالت بنبرةٍ هادئة رغم شموخها أمامهم كابنة عبدالقادر:.

مفيش كلمة تتقال بعد كلمتك يا بابا، اللي ميقدرش أهلي و اخواتي و يتهمهم حتى لو اتهام غير صريح، ميلزمنيش، و الراجل اللي يفكر في يوم يبيع يتخاف منه في الشِرا.
ابتسم عبدالقادر وكذلك أيوب فيما سألها أيمن بلهفةٍ:
يعني إيه؟
رد عليه أيهم بثباتٍ:
يعني زي ما سمعت معندناش بنات للجواز، فرصة سعيدة اتمنى متتكررش تاني، نورت.

تحرك هو وعائلته كما المحارب المَهزوم في الحرب، بينما تَيام تراقص قلبه بين أضلعه، فمال عليه بيشوي يقول بنبرةٍ خافتة:
اتصرف هتفضحنا، شكلك باين عليه أوي.
سَعل تَيام بقوةٍ لفتت الأنظار له وجعلت بيشوي يضربه على ظهره من الخلف فتأوه بألمٍ لينطق بيشوي مُفسرًا بسخريةٍ:
أصل دا معاد الشَرقة بتاعته، حبيبي، شِرق يعيني.

في منطقة نزلة السمان
لقد اعتاد على الغُربة دومًا، شخصٌ مزقته الحياة لم يعد نافعًا بشيءٍ، تصفعه الحياة ثم تلومه على تألمه، تُكمم فمه و تعاتبه على كتمانه، تُكبل ذراعاه و تكسر جناحاه، ثم تطالعه بازدراءٍ لكونه غير قادرًا على الحركة، تَجرع القسوة في حياته كما يتجرع المرء المياه من الأكواب، اعتاد دومًا على لقب الغريب أينما حلت خُطاه، لكن هنا! لم يكن غريبًا، إنما هنا يجد نفسه.

وقف ذلك الرجل نعيم و الشيب يخالط خصلات رأسه و الهيبة و الوقار يبديان على وجهه و ملابسه التي عبارة عن جلباب باللون الرمادي الداكن و فوقه عباءة سوداء اللون و حوافُها لامعة يتابع المنظر حوله، حيث تلك المنطقة التي تُعد علامة مُسجلة في أثار و تراث البلد، قمة الأهرامات تبدو أمامه واضحةً و الأرض الرملية المشابهة للصحراء و السماء الصافية بلونها الداكن في عتمة الليل بدون نجوم تُزينها، و ذلك الغريب يقترب من خَيله ليل يقف في المنتصف حتى هلل الخيل و أصدر صهيله ترحيبًا برفيقه.

كان واقفًا في شرفته يتابع ذلك الغريب كما لُقِبَ حتى أتى من خلفه صوتٌ يقول بتعجبٍ:
برضه واقف تراقبه يا حج نعيم؟ بقى نعيم الحُصري اللي نزلة السمان كلها بتقفله على رجل، يقف كدا يراقب الغريب؟
ابتسم نعيم ثم التفت بكامل جسده و هو يقول بثقةٍ:
تعالى بس و أنتَ تشوف الغريب دا بنفسك هيعمل إيه دلوقتي.

اقترب صاحب الصوت يتابع الشُرفة بأنظاره الثاقبة حتى وجد الخيل يُهلل و رفع قدماه عن الأرض و كأنه يُحيي صاحبه، بينما الأخر ربت على خصلاته السوداء و هو يبتسم بخفةٍ ثم قال بنبرةٍ بث فيها كامل طاقته:
يلا يا ليل، صاحبك حبيبك عاوزك تفرحه، جاهز؟

صهلل الخيل من جديد و كأنه يجاوبه على سؤاله و يلبي مطلبه، بينما الأخر قفز عليه قفزةً واثقة ثم ربت على رأسه للمرة الثانية و قد فهم الخيل مغزى تلك الحركة و ركض بأقصى سرعة لديه و الأخر عليه كما الفارس تهابه حتى الأسود، النيران المُشتعلة بداخله يريد إخراجها من جوفه، لكنه كالعادة التزم بِ عهدًا قطعه على نفسه، لِ يُكمل تكبيل حركته، لكن هل ستظل حياته مُكبلة للأبد و يقع هو أسير العهد، أم أن العهد سيقع أسيره؟

اعتلى خيله و أطلق العنانِ له، فكان خَيله جامحًا شامخ القوى مرفوع الرأسِ دومًا كلٍ منهما يُشبه الأخر، ركبه وكما عادته يذهب في رحلةٍ لماضيه البائس، تحديدًا عند يوم تقدمه لخطبتها.
(عودة إلى ذلك اليوم)
نظر يوسف بضياعٍ بعد تحدثهم عن خِطبتها ل نادر خاصةً والأخر ينظر له بتشفٍ، حتى تحدث والدها بزهوٍ يُثني على الاخر بقوله:
طبعًا دا شرف لينا إن بنتي تتجوز نادر و قبل أي حاج...
أوقف حديثه حينما قطعه يوسف بقوله:.

استني يا عم! نادر مين اللي هيتقدملها؟ أنا اللي جاي اتقدملها ودول جايين معايا بصفتهم عيلتي، نادر مين ما تنطقي يا شهد!
رفعت عيناها له تقول بنبرةٍ أقرب للبكاء:
مش عارفة، أنا قايلة لحضرتك يا بابا إن يوسف هو اللي هيتقدملي، معرفش إيه موضوع نادر دا.
تحدث والدها بثباتٍ:
بس عاصم و سامي بيه كلموني النهاردة في موضوعك أنتِ و نادر بصراحة أنا موافق.
التفت يوسف إلى نادر يسأله بنبرةٍ جامدة أقرب للإنفعال:.

أنتَ يا نطع موافق! خلاص مفيش نخوة عند اللي خلفك؟
تدخل سامي يقول بتهكمٍ:
اظن دي مش أخلاق الناس توافق بيها لبنتها، دي حاجة تكسف.
التفت له يوسف يحذره بقوله:
بلاش سيرة الأخلاق علشان مجيبش سيرة أمك و أزعلك!
تحدث والدها بثباتٍ:
برة يا يوسف معنديش بنات للجواز، لا يمكن أوافق إن بنتي ترتبط بواحد زيك كل حاجة عنده على المَحك، دا غير أني على دراية بكل تفاصيل حياتك والحقيقة ماضي غير مُشرف.

نظر لها فوجدها تبكي وهي تحرك رأسها نفيًا بينما هو لم يقبل الإهانة أكثر من ذلك في حقه وحق تربيته حتى وإن كان يتعمد تصدير غير ذلك، لكن يكفيه كل تلك الإهانات لذلك خطف مفاتيحه ثم رحل من المكان كما الإعصار بعد إنتهاءه لم يعد شيئًا كما كان.

خرج من ذلك المكان يتوجه حيث مكانه الأخر نزلة السمان يقود سيارته بين السيارات الأخرى كما المجذوب حتى أوشكت حياته على الإنتهاء أكثر من مرّةٍ حتى وصل أخيرًا ودلف ل نَعيم يقص عليه ماحدث حتى عنفه الأخر بقوله:
غلط! كان المفروض تقف وتاخدها وتحارب علشانها، إنما تسيبها وتمشي؟ بتديهاله على طبق من فَضة! فين محاربتك علشانها، مش حاببها بجد؟
التفت له يقول بنبرةٍ أقرب للصراخ من فرط آلامه:.

مستحملتش! مقدرتش أقف وأنا بتهان و بتذل قدامهم، وقوفي كانت نهايته جناية وأنا بخلص على روح حد فيهم، اللي عملته دا الصح.
اقترب منه نَعيم يسأله بنبرةٍ أظهرت الآسى و هو ينطق بشفقةٍ عليه:
طب وبعدين يا حبيبي؟ هتعمل إيه؟ هتسكت.
نظر له بإصرارٍ وهو يقول:
مش أنا اللي أسيب حقي يا حج، هاخدها طالما هي عاوزاني يبقى غضب عن الكل هاخدها حتى لو هتضطر أسيب كل حاجة علشانها.
ربت على كتفه مُستحسنًا ثم نطق بإصرارٍ:.

يبقى الليلة دي تروح لأبوها تاني وتقوله إنك عاوز بنته وإنها عاوزاك، روح ليها علشان تبقى عملت اللي عليك، اللي بيخلي الحب حقيقي هو محاربتنا علشانه، روح يا يوسف.
حديث نَعيم جعله يشعر بنشوة الانتصار دون حتى أن يتحرك لذلك فر من أمامه نحو سيارته يعود حيث أتى لمكانها.

في بيت شهد هدأت الأوضاع قليلًا بعد رحيله، وبدأت العائلة في الحديث عن تفاصيل الزفاف، كل ذلك كانت هي تتابعه بعينين دامعتين فلاحظتها حكمت لذلك أشارت لابنها ففهم عليها ثم استأذن بقوله:
معلش بس يا نزيه بيه عاوز الآنسة في كلمتين على انفراد ومعايا والدتي.
حرك رأسه موافقًا أشار لهم على الغرفة و ذكر اسم ابنته حتى تقوم معهما، فسارت خلفهما كما الجسد بدون الروح وكأنها فارقته.

تحدث عاصم بثباتٍ بعدما وضع كفيه في جيبيه:.

عارف إنك متضايقة من اللي حصل بس أنا عاوزك تركني عواطفك شوية وتحسبيها حِسبة عقل، جوازك من واحد زي يوسف هيخسرك كتير، واحد معندهوش أي حاجة، حتى الشقة مش موجودة، وأظن أنه هيجيبها قسط باين أو حاجة كدا، إنما نادر مستقبله مضمون عنده شقته الخاصة وبيت العيلة اللي يوسف سايبه، غير كدا أظن إنك بابا و عيلتك مناصبهم عالية، و يوسف متهور و مُغامر، مينفعش تكون نتيجة المغامرة دي سمعة العيلة، الحب مش كفاية، وأظن إنك مش بتحبيه.

رفعت عيناها له بلهفةٍ حتى تنفي حديثه، فأضاف هو بثقةٍ:
مش بتحبيه، أنتِ حابة الحياة اللي معاه، الخروج و الجنان و السفر و المغامرة، إنما الحب! موصلتيش للمرحلة دي، يوسف بالنسبة ليكِ شاب وسيم البنات كلها بتحب نوعه و شقاوته، إنما لو هنتكلم في استقرار يبقى واحد زي نادر شخص عملي متفاني، قولتي إيه؟

بدت أمامه مُتخبطةً و عينيها زاغت في اللاشيء أمامها تفكر في حديثه، بينما حكمت فهمت عليها لذلك اقتربت منها تخرج علبة مخملية من حقيبتها ثم قالت بوجهٍ مبتسمٍ:
شوفي دي يا شهد دي حاجة بسيطة علشانك.
انتبهت لها الأخرى، فقامت حكمت بفتحها ليظهر بها خاتم من الألماس البراق، حينها اتسعت عيني شهد بدهشةٍ فيما نطقت الأخرى توثر عليها بقولها:
دي حاجة بسيطة علشانك، اعتبريها هدية الخطوبة، مش كدا يا عاصم؟

حرك رأسه موافقًا بينما هي مسحت دموعها ثم تنفست بعمقٍ أمامهما تحاول الوصول إلى قرارٍ ينقذها منهم.
بعد ذلك بثلاث ساعات تقريبًا عاد يوسف لبيتها يضرب الباب بعنفٍ حتى فُتح له بواسطة مدبرة البيت، بينما هو دلف للداخل ينادي على والدها الذي نزل له يسأله بنبرة غَلظة:
فيه إيه؟ جيت هنا تاني ليه؟
اقترب منه يقول بثباتٍ:.

أنا هتجوز شهد غصب عنهم وعن الدنيا كلها، مش بعد كل دا في الأخر ياخدها مني، شوف عاوز إيه يضمني ليك وأنا مستعد لأي حاجة، حتى لو هسيب شغلي علشانها و أسافر برة أنا مستعد.
ابتسم له بسخريةٍ ثم قال:
يا سلام؟ ولما تبقى عاطل كدا أنا هسلم لبنتي معاك؟ أنتَ مجنون؟
رد عليه يوسف بنبرةٍ جامدة:.

المجنون بجد هو اللي بيسيب حقه يتاخد منه وهو واقف ساكت، هات بنتك و أسألها هتقولك إنها عاوزاني، اسألها أنا مستعد أعمل إيه علشانها! كنت بطبق يومين ورا بعض وأنا راجع من طريق سفر علشانها، اسألها.
وصله صوتها من الخلف وهي تقف على الدرج ثم قالت بنبرةٍ اتضح بها البكاء:
أنا موافقة يا يوسف.

يبدو وكأنه كما المحروق وُضِعَ بداخل المياه المثلجة لتهدأ جروحه وهو يلتفت يبتسم لها فوجدها تمسح دموعها ثم قالت من جديد بثباتٍ واهٍ:
أنا موافقة أتجوز نادر.
تلك الغِصة التي استقرت في حلقه لتبدو كما الأشواك وهو ينظر لها بعينين أبت العبرات فيهما الإفصاح عن نفسها، و قد أحاططها الخيوط الحمراء كما الجَمرِ المُشتعل، لا يصدق إنها نطقت اسم الأخر بدلًا منه، سار لها كما المجذوب يسألها بضياعٍ:
قولتي، قولتي مين؟

تفوه والدها من خلفه يقول مؤكدًا:
قالت نادر.
الطعنات مستمرة في قلبه بدون شفقةٍ أو رحمةٍ حتى، نزيف قلبه مستمر و الجميع كل ما يشغلهم البحث عن مكانٍ جديد للطعنات دون أن يكلف أحدهم عناءًا لنفسه أن يمد يده يوقف ذلك النزيف.
أمعن النظر في وجهها ثم مرره على كفها ليرى الخاتم الألماس مُستقرًا في إصبعها، حينها ابتسم بسخريةٍ ثم هتف بوجعٍ:
مبروك، مبروك يا عروسة.

رحل من المكان وتلك المرة هو المهزوم حقًا، هُزِم مِن مَن؟ منها هي، هل يُعقل أن البلدة التي أوشكت على لفظ أنفاسك الأخيرة لأجل حماية حصونها هي نفسها من تُجمع جيشها لتكون أنتَ عدوها الوحيد؟ من أقمت الحرب لأجل حمايتهم أول ما استوطنتهم القوة، قام باختبارها عليَّ.
(عودة إلى الوقت الحالي)
كان يسير بخيله وكلٍ منهما فقد السيطرة على نفسه بل نسى نفسه وكل ذلك تابعه نَعَيم من نافذة غرفته، ثم رفع صوته يقول بقلقٍ:.

إسماعيل! ألحقه يابني بسرعة، الاتنين شكلهم جرى لمخهم حاجة.
ركض إسماعيل من المكتب يأخذ الخيل الأخر وهو ينادي بملء صوته:
أقف يا يوسف.
يبدو وكأن الأخر لم يسمعه أو تعمد ذلك حيث استمر في الركض بالخيل حتى أنقذه الخيل وقلت طاقته فوقف فجأةً حتى كاد أن يسقط يوسف من فوقه وحينها فقط عاد له وعيه من جديد فنزل يجلس على رُكبتيه وهو يلهث بقوةٍ و أنفاسٍ مُتقطعة فاقترب منه إسماعيل بالخيل ثم نزل له يطمئن عليه بلهفةٍ.

كان يوسف حينها في عالمٍ آخر، حتى وقف بنظراتٍ قاتمة ثم تحرك للخلف بدون الخيل و توجه لخارج بيت نَعيم حيث مكان سيارته التي ركبها وقادها دون أن يدري إلى أين هو ذاهبٌ وفقط كلمة واحدة تتردد في سمعه:
تربية الإصلاحية.

رفع سرعة السيارة يشق الطرقات بها وكأنه يغزوها حتى أوقفها عند وجهته أخيرًا ثم نزل من السيارة و ركض لداخل البناية يركض درجات السُلم بخطواتٍ واسعة حتى وصل أمام مُبتغاه ثم طرق على باب الشقة ففُتِحَ له و سأله صاحب المكان بتعجبٍ من تواجده:
ابن الراوي؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ جهورية:
آه ابن الراوي، اللي هيسقيك المُر.
رفع سامي صوته بنبرةٍ جامدة:
لو فكرت تعمل حاجة هعلي صوتي وافضحك يا تربية الاصلاحية.

ابتسم يوسف بشرٍ ثم دفعه ودخل الشقة يغلق بابها بقدمه وقال بنبرة وعيد وتهديد:
وماله، تربية الاصلاحية مش أحسن من تربية الرقاصة، يابن الرقاصة.
قال جملته ثم اندفع عليه يُخرج كَبت السنون والأيام به، وينقل له لو جزءًا بسيطًا من معاناته التي عاشها منذ أن ربطه القدر بهم.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة