رواية عذابي الصامت للكاتبة سارة ح ش الفصل السادس عشر
تزوجيني
- الوقت الحالي -
(علياء)
فتحت عيناي بقوة مرتعبة من حلم يحمل عبق الماضي، ام يجب ان اقول كابوس؟، فالأحلام نادراً ما تطرق ابواب جفوني!
ادرت عيناي باستغراب بادئ الامر من حولي الى ان استوعبت واخيراً ما هو هذا المكان الغريب، انها شقة يوسف!.
نظرت نحو الساعة المنضدية لأجدها التاسعة صباحاً. يا اللهي! انا حتى لم انم بشكل كافي! بل بالكاد قد نمت! اعدت رمي رأسي فوق الوسادة فسمعت حركة خارج باب غرفتي. قمت من سريري وخرجت اتبع الصوت الى ان اوصلني للغرفة المجاورة لي، كان بابها مفتوح ويوسف يقف امام المرآة يغلق اخر زر من قميصه. ثلاث ثواني لا اكثر حتى انتبه على وقوفي عند الباب فتبسم لي فوراً وهو يقول: - صباح الخير اميرتي.
اشرت له بينما ادلف الى الداخل: - (صباح الخير. )
ثم جلست امامه على حافة منضدة التزيين حيث تقبع المرآة خلفي ويوسف بجانبي يتطلع فيها يمشط شعره ومن ثم يرتدي ساعته الفضية، كنت اشعر بالنعاس الشديد ولكن لم اشأ ان اعود لفراشي الان، اريد البقاء بقربه لأطول فترة ممكنة كي اشعر بهذا الامان!
- كيف حالك الان صغيرتي؟
- (افضل. )
- لما استيقظتِ مبكراً؟ انت لم تحظي بالنوم الكافي.
رفعت رأسي اليه وبدل ان اجيب على سؤاله سألته باخر: - (الى اين انت ذاهب؟ )
- لدي اجتماع ضروري في الشركة سأحضره واعود بأسرع وقت...
ثم اردف وهو ينظر داخل عيناي بترقب:
- لقد اتصلت بأمي وطلبت منها ان تحضر كي تمكث معنا في هذه الفترة. ستحضر بعد قليل لتعد الغداء وتبقى هنا، أتمانعين قدومها عزيزتي؟
- (لا، انها سيدة لطيفة. )
مسح فوق شعري برفق وهو يقول: - انها كذلك بالفعل. وهي تحبك كثيراً ايضاً.
ثم اتجه نحو خزانته ليخرج منها سترته ويرتديها بينما يقول لي: - لا تبقي مستيقظة عزيزتي، عودي لتنامي وتحظي ببعض الراحة لحين عودتي، وان طرق احدهم باب الشقة فلا تقوما بفتحه ابداً فأمي تمتلك نسخة من المفاتيح.
اومأت موافقة فأقترب مني وهو يقول بحنان ولكن بنبرة حازمة: - وبخصوص موضوعك، عندما اعود علينا التحدث بشأنه، اتفقنا؟
هذه المرة حدقت داخل عيناه ببرود دون ان املك ما اعلق به، فأنا لا اريد التحدث بشيء، لا اريد ان افصح ما كتمته بداخلي، لا اريد ان افضح ما اكتشفته عن اسرتي، فلا اريده ان يصاب بالصدمة مثلي، ولكنه ايام قليلة وسيصاب بالصدمة مني. فلما لا اصدمه بأسرتنا ايضاً؟ عندما تأخرت اجابتي قال لي مجدداً بنبرة اكثر تشديداً: - أتفقنا؟
فقمت من مكاني فوراً وانا اشير بضيق: - (سأعود لأنام. ).
وما ان خطوت خطوة واحدة بعيداً عنه حتى ارجعني وهو يمسكني من مرفقي وقال لي بقلق: - عليائي، ما الذي يحصل لكِ بالضبط؟
سحبت يدي وانا اشير له وبضعة دمعات ضعيفة تتهاطل من بين جفوني تحمل نيران الايام الماضية: - (لا شيء يا يوسف لا شيء، فقط اتركوني وشأني).
فسحبني اليه ليضمني بين ذراعيه اكمل بكائي هناك داخل ذلك العالم الأمن وملس شعري بهدوء وهو يقول: - ششش، اهدأي صغيرتي، انا اسف لم اقصد. فقط اهدأي وكل شيء سيكون على ما يرام.
لا يا يوسف، يا ليتك تعرف ان كل شيء ليس على ما يرام ولن يكون كذلك ابداً. يا ليتك تعلم ان القادم هو الاسوأ!
ودعني يوسف بعد مدة وخرج من الشقة تاركاً اياي وسط مشاعر متناقضة لا يمكنني جمعها معاً. جلست على طرف سريري احدق بالجدار وكأنه يحمل لوحة فنية مرسوم فيها مستقبلي المشؤوم.
ارتج هاتفي فوق المنضدة الخشبية التي بجانب سريري فحركت كرتا عيني ببطء اتجاهه يرفض جسدي ان اقوم لفتح الرسالة، هي بالتأكيد تحوي احد الاوامر، اوامر اخرى تثبت لي اني صاحبة دماء ملوثة، اوامر اخرى ستبعدني خطوة عن يوسف!.
حدقت بهاتفي الساكن هناك قرابة العشر دقائق دون ان افعل شيء. واخيراً حسمت قراري واتجهت اليه لأفتح ما وصلني، انها من عادل! مجرد رؤية اسمه اعلى الشاشة ينقبض قلبي بقسوة يمنع ضخ الدم لباقي جسدي المتشنج!.
لقد اصبح امر الخيانة اكيداً، امضي بالخطة من دون توقف...
ما ان قرأت تلك الحروف حتى ضاقت انفاسي ورفعت كلتا يداي نحو شعري اغرس اصابعي فيه واقبض على خصلاتي بقوة احاول الاستيقاظ من هذا الكابوس المرعب، اجهشت ببكاء جديد بالكاد هدأت منه قبل دقائق! لقد مرت اربعة ايام منذ ان اكتشفت الامر. ولكن عقلي لايزال الى الان يرفض تصديقه، لا يمكنني استيعابه ابداً!.
بقيت واقفة في مكاني لا اعرف ماذا افعل وكيف سأتصرف، واخيراً انتابتني نوبة الهدوء والبرود، نوبة الاستسلام للواقع!
(الكاتبة)
دخلت الصحفية ميادة نحو دار العجزة مرة اخرى حيث ستلتقي برشيد. ولكن هذه المرة من دون موعد مسبق. فتحت باب غرفته عنوة من دون استئذان فرفع رأسه بتفاجئ يحمل بعض الانزعاج من فوق جريدته الصباحية ولكن ملامحه ارتخت فوراً وهو يقول بتوتر:
- أأ. انتِ؟.
هذه المرة لم تكن ترتدي نطارة شمسية. كانت تحدق فيه مباشرٍة من خلال عيونها الباردة التي ارسلت بعض الخوف لقلبه رغم ان امثاله هم من كانوا يخلقون الخوف في الماضي!
وقفت امامه ورمت في حجره صورة وهي تقول بهدوء:
- سأسألك لمرة واحدة فقط، ان كذبت، فسأقتلك فوراً من دون تردد وسألغي اتفاقنا القديم.
ازدرد ريقه بصعوبة وهو يعلق ابصاره بعينيها الى ان اشارت له بذقنها نحو الصورة المستكينة بحجره:.
- هل هذا هو السبب الذي جعلكم تنفدون عملية 6001؟
انزل ابصاره بتوتر نحو الصورة ثم نظر نحوها بصدمة وهو يقول:
- ك ك كيف، انتِ، من اين احضرتها؟
امالت جسدها نحوه واستندت بيديها على مساند كرسيه وواجهت عينيها الغاضبة بعينيه المرتعبة وهي تقول ببرود:
- اليوم، انا من سأطرح الاسئلة، انت نلت كفايتك من طرح الاسئلة في الماضي يا رشيد وحان دوري الان، انت ستجيب فقط، اتفقنا؟
ثم استقامت بظهرها وقالت بحدة:
- والان اجب!
سكت رشيد لثواني يصارع قرارات متناقضة داخل عقله ثم واخيراً حسم امره واخذ نفساً عميقاً وبدأ بسرد القصة كاملة من دون ان يغفل عن اي تفصيل بسيط، كل هذا وهي تنظر له بصدمة تتمنى لو انه يسكت، لو انه يكون كاذباً، ولكنه ليس كذلك. ومع الاسف هي تعرف هذا جيداً!.
(علياء).
جلست في الحديقة العامة احدق بكل شيء حولي من دون ان اركز بشيء بالفعل! انا اختنق من هذا العالم، احتاج الهواء وهو لا يهبني اياه! وكل ما يمنحني هو دموع متواصلة. وصرخات متتالية تفزعني من عالم احلامي، اصوات مستغيثة تحمل صوتي بينها، صوتي الذي فقدته! كلما اغمضت عيني اتخيل جدران السجن المتسخة، ارضيته الخشنة. رائحته العفنة، اصواته المرعبة! اعود لفتحهما بفزع اتأكد من انني لست فيه، انا قد خرجت منه منذ سنين! فيهدأ قلبي لوهلة ويعود جفناي لينسدلا بهدوء اتوسلهما ان يحملاني نحو عالم الاحلام الذي يحظى به الجميع عداي! تضرب رياح خفيفة نافذتي فتحركها لأستيقظ مفزوعة واقفز من سريري كالمجنونة لأفتح الضوء اظن انهم دخلوا على مجددا لًيأخذوني، يبقى جسدي يرتجف وانفاسي تضطرب حتى بعد ان اكتشف انها الرياح فحسب! لذلك وببساطة. انا قد تعبت! تعبت من الخوف. تعبت من الكوابيس، تعبت من القلق الذي لا يفارقني. تعبت من المستقبل الذي يرفض ان يحل بعالمي وجعلني ورقة منسية في الماضي لا تتغير حياتها ابداً!.
غيرت ملابسي بعد ان وجدت ان ديما قد وضعت لي حقيبة الملابس التي جهزتها من اجلي في المزرعة بجوار سريري، كنت اتمنى ان ابقى بملابس يوسف فهذا سيشعرني بالأمان حتى لو لم يكن قربي، ولكن لا يمكنني ان اخرج من المنزل بهم، اخذت مفاتيح الشقة ونزلت من دون ان اوقظ ديما، خشيت ان اوقظها فتمنعني من مغادرة الشقة وحدي، وفي هذه اللحظة انا احتاج البقاء لوحدي لأطول فترة ممكنة!
جلست على المصطبة الخشية احدق امامي لأبعد نقطة ممكنة، نقطة تحملني لعوالم اخرى لا يملأها سوى الصراخ المكتوم! فجأة شيء ما اصطدم بقدمي لينتشلني من سباتي، انزلت ابصاري لأجدها كرة قدم بيضاء. ثواني حتى احاطتها يدان صغيرتان وحملتها، نظرت نحو ذلك الملاك الاشقر ذو الخمس سنوات وهو يحدق داخل عيناي ببراءة، فجأة وجدته يمد يده بهدوء ويمسح لي دموعي ثم ابتسم بطفولية وقال:
- هكذا اجمل!
رغم حالتي السيئة التي انا فيها الان ولكني وجدت ابتسامة تحتل ثغري وانا اشاهده يعود راكضا نًحو رفاقه. ومن دون وعي مني وجدت نفسي امد يدي الى بطني لأحوطها واعض على شفتي بمرارة لأجهش ببكاء جديد سببه الماضي ايضاً!
لا اعلم الوقت الذي استغرقته في الحديقة ولكنه كان الوقت الكافي الذي جعلني اعود للشقة لأجد كل من فيها في حالة اضطراب. يوسف والعمة منى وديما! سمعت صوت صراخه الغاضب من خارج باب الشقة وهو يلوم ديما على تركي اخرج، وصلتني عبارة ديما المرتبكة فور فتحي الباب:
- اقسم لك اخي انها خرجت قبل ان استيقظ من نومي ولم اعلم...
اول ما شعروا بوجودي التف إلى ثلاثتهم دفعة واحدة، حركت بصري فيما بينهم ببرود ثم سرت بهدوء واشرت بعدم مبالاة:
- (مرحباً. )
وفجأة وجدت يوسف يتقدم خطواته نحوي وصرخ بوجهي بعصبية:
- اين كنتِ؟
-(استنشق بعض الهواء فحسب. )
- لمدة اربع ساعات؟.
نظرت نحو الساعة بتعجب ولا اصدق انها قد مرت اربع ساعات بالفعل! اعدت ابصاري مجدداً نحو يوسف وهو يكمل هتافه بي باستياء:.
- ولما لم تأخذي هاتفكِ معكِ؟ بل ومن الاساس من سمح لكِ بالخروج؟
فمدت العمة منى يدها بهدوء لتلامس مرفقه بأطراف اصابعها وهي تقول في محاولة فاشلة منها لإخماد غضبه:
- عزيزي اهدأ، المهم انها بخير ولم يصبها مكروه...
كلانا لم نلتفت نحو العمة منى وبقينا نحدق داخل عيون بعضنا باستياء، حسناً من حقه ان يقلق لأني تأخرت ولكن ليس من حقه ان يصرخ بوجهي هكذا فأنا لست طفلة ولن يحبسني داخل المنزل يمنع خروجي ألا بإذنه! تخطيته من دون تعليق على كلامه فأمسكني من مرفقي وادارني اليه بعصبية وهو يهتف:
- لازلت اتحدث اليكِ!.
مدت العمة منى يدها هي وديما لتفلتا يده من فوق مرفقي وديما تلومه قائلة:.
- يوسف اهدأ قليلًا ارجوك الامور لاتحل هكذا...
فلم يكن باستطاعتهما ان تضاهيا جسده الرياضي القوي ولم تتمكنا من انتزاع يده من فوق مرفقي وأكمل من دون ان يبالي باعتراضاتهما:
- مرة اخرى لن تخرجي من المنزل من دون احد معكِ. هل ما اقوله واضح؟.
ماذا تظنون اني فعلت؟، لا شيء! هناك شيء ما بداخلي قد مات وقتل احاسيسي معه جعلني لا ابالي بشيء ابداً. جعلني باردة المشاعر لا اتأثر بسهولة، لذلك وببساطة سحبت يدي بهدوء منه واشرت ببرود:
- (حاضر. )
جوابي فاجئ الجميع لأني لم اعانده او ادخل بنقاش معه يحمل اعتراضاتي وسخطي. بل وحتى انا قد تفاجأت! ثم اشرت له وانا انظر اليه بنظرة عتاب ذات معنى:
- (هل من اوامر اخرى ما دمت امكث في منزلك؟ ).
وقبل ان اعطيه الفرصة ليجيب او يبرر شيء تركته ودخلت الى غرفتي مغلقة بابي بقوة من بعدي!
رميت بجسدي فوق السرير اعلق ابصاري في السقف من فوقي، اردت من دمعة ان تسقط. اردت الاحساس بالألم داخل صدري، اردت ان يتملكني الغضب، ولكن لا شيء! لم اعد ابالي بأي شيء يدور حولي، اصبحت كالآلة بالفعل، كما تريد مني دولتي ان اصبح! ذات مرة سمعت عبارة اعجبتني جداً. الدولة تصنع المجرمين ومن ثم تحاسبهم، هذا ما فعلوه بالضبط معي، عذبوني اقسى العذاب كي لا اجرؤ على اتباع طريقهما عندما اكبر، ظنوا انهم بهذا سيقمعون جرأتي ان امتلكتها يوماً. لم يعرفوا انهم بذلك اليوم خلقو شيطان، شيطان صامت! من قال ان الانتقام صعب؟، انه سهل، الاصعب هو المسامحة، وهذا شيء لن ينالوه مني ابداً، هم صنعوني، فليتحملوا ما صنعوا إذاً!
مرت على 15 دقيقة وانا استلقي فوق سريري على جانبي الايسر اواجه النافذة بوجهي وادير للباب ظهري، سمعت انفتاحه فلم ابالي بالالتفاف لأعرف من دخل، ولكني عرفته، من رائحة عطره المميزة التي تنبهني بوجوده دائماً بالقرب مني، احسست بانخفاض السرير قليلًا فأدركت انه جلس على طرفه، ولكن هذا لم يدفعني للنظر اليه ايضاً.
- عليائي؟.
أتذكرون تلك الدموع التي كانت ترفض الخروج قبل دقائق؟، شعرت بسخونتها تنساب فوق خدي مع انسياب صوته لمسامعي. وشيء ما يحترق بداخلي. وغضب اجتاحني وانا اتذكر صراخه بوجهي، اكون باردة مع كل شيء. ألا معه! هذا الانسان يصر على اضعافي اكثر واكثر كلما ظننت اني لا املك اي نقطة ضعف في حياتي!.
- حبيبتي، انا اسف، ولكن كدت اصاب بالجنون عندما لم اجدكِ، لم اعرف ماذا افعل في لحظتها. شعرت انكِ لن تعودي ابداً. الدقيقة كانت تمر كالسنة علي، فكيف بأربع ساعات يا عليائي؟
سمعت تنهداته التي تحمل خلفها غصة تمنع خروج صوته متماسكاً:
-ألا انت يا علياء، يمكنني تحمل اي شيء. يمكنني ان اكون هادئا فًي كل وقت، ألا عندما يكون الامر يخصكِ...
اغمضت عيناي بقوة اعتصر دموعهما الحارقة وانا استمع لتلك الكلمات الصادقة، ارجوك يا يوسف كف عن هذا الحب، فهو لن يجلب لك سوى الالم!.
ملس فوق شعري بلطف وهو يقول لي بحنان:
- انا لن امنعك من الخروج صغيرتي. ولكن في اي وقت ولأي مكان تريدين الخروج فقط اخبرني وسأترك كل شيء لأتفرغ لكِ.
التفت اليه برأسي فقط وعيناي تحمل بعض الشك فتبسم وهو يقول لي:
- اقسم لكِ سأترك كل شيء وسأتفرغ لتنفيذ طلباتك، فكم علياء لدي انا؟
اعدت بصري باتجاه النافذة وانا لا ازال غاضبة منه، شعرت بوقفه من فوق السرير ثم خطواته للجانب الاخر وهو يجلس على ركبتيه امام وجهي وامتداد بصري وقال لي بندم:
- انا اسف. ألن تسامحيني اميرتي؟
فلم ابدي اي ردة فعل وانا احدق بداخل عينيه بجمود فتنهد بقلة حيلة وقال:
- إذاً رأيك ان اتغيب غداً عن الشركة كي اصحبكِ لأي مكان تريديه؟
وهنا اشرقت ملامح وجهي ببعض الارتياح، سيترك الشركة. لن يفارقني، سيخرج معي، كيف لم تظهر لي جناحان الى الان؟
- إذاً؟ هل اتفقنا؟
فأومأت برأسي موافقة فسحبني من يدي على غفلة وانهضني من فوق السرير وهو يقول:
- ولكن لن انفذ لكِ اي شيء ان لم تقومي الان لتناول الغداء معنا...
عندها تبسمت بارتياح وانا اخرج برفقته لنتناول طعام الغداء مع العمة منى وديما...
انتهينا من الغداء فدخلت الى غرفتي مرة اخرى كي اجلس هناك، ليس لأنني لا يعجبني الجلوس معهم. بالعكس تماما فًهم لطفاء جداً، ولكني احتاج الى الوحدة في هذا الوقت!
في اليوم التالي التزم يوسف بوعده معي وتغيب عن الشركة كي يأخذني الى اي مكان يعجبني. وبالطبع كنت في اشد حالات سعادتي. هذه هي ايامي الاخيرة معه ولا يمكنني ان اضيع منها فرصة من دون ان استغلها بالبقاء اطول فترة بجواره! زرنا اماكن كثيرة. جلسنا في احدى المطاعم. تجولنا في السوق، اشترى لي كل ما يعجبني. اخذني الى كل مكان يخطر على بالي او باله، كان اروع يوم في حياتي وانا بجواره، واخيرا طًلبت منه ان يأخذني الى الحديقة العامة التي ذهبت اليها بالأمس والتي كانت قريبة من شقته. جلسنا فوق المصطبة الخشبية ذاتها التي جلست عليها بالأمس نحدق بابتسامة بلعب الاطفال وضحكاتهم، ولكن فجأة اختفت ابتسامتي. التفت نحو يوسف لأشاهد تلك الابتسامة الدافئة والنظرات الحالمة وهو يحدق بالأطفال! انقبض قلبي بقوة ومددت اصابعي بتردد ولمست مرفقه بلطف كي ينظر إلى واول ما التقت ابصارنا اشرت له:.
- (هل تحب الاطفال؟ )
احتلت ابتسامة عريضة ثغره وهو يجيبني: - انا اعشقهم، الكل يعرف هذا عني، جميع اطفال اصدقائي يحبوني لأني ادللهم والعب معهم، انا انتظر اليوم الذي سأصبح فيه أب بفارغ الصبر!
اختفت ابتسامته تدريجياً وهو يشاهد الالم في عيناي وتلك الدموع الضعيفة التي تجتمع بداخلهما بالكاد اسجنها وامنعها من الهطول! مد يده بقلق وتلمس خدي برفق وهو يقول:
- هل انت بخير عزيزتي؟
تبسمت فوراً لأمحي الشك الذي بداخله واشرت له:
- (اجل. انا فقط. اعجبني ما قلته. )
تبسم بارتياح وعدنا لنراقب الاطفال وانا احوط بطني بمرارة، يا اللهي كم كنت انانية! كيف لم افكر بهذا الامر منذ سنين؟ لماذا خطر على بالي الان فقط؟، لما تركته يقع في غرامي فقظ لأني لم اسيطر على مشاعري؟، يا ليتني جعلته يكرهني. يا ليتني ابعدته عني! انه لا يستحق هذا مني، لاسيما بعد كل ما فعله من اجلي!
عدنا الى المنزل ليتحول يومي الى السيء مجدداً. دخلت الى غرفتي لأحبس نفسي فيها من دون ان اخرج مرة اخرى، وشيء كهذا بالتأكيد سيثير قلق يوسف، فقبل قليل فقط كنت على ما يرام...
طرق الباب على بعد ساعة ودخل، كنت اجلس على السرير احدق بالنافذة نحو عالم اخر موجود في عقلي فقط! سحب الكرسي وجلس امامي يستند بمرفقيه فوق فخذيه ويميل جسده باتجاهي ويشابك يديه ببعضهما مع ابتسامة دافئة تحتل ثغره، انها الوضعية التي اعرفها جيداً في يوسف، وضعية بدأ التحقيق!
- عليائي، اظن ان علينا ان نتحدث.
ما ان سمعت عبارته هذه حتى اغلقت عيناي بتضايق وزفرت بحدة وانا اشيح بوجهي جانباً فزفر بدوره وهو يقول لي:
- علياء، على ان افهم ما يحدث معكِ، هل ستبقين هكذا؟، سعيدة في لحظة ثم تنقلب اموركِ كلها في اللحظة التالية من دون اي سبب؟
فنظرت له وانا اشير:
- (يوسف ارجوك، انت لا تفهم شيء. )
فرد على باستياء:
- اجل اعرف ذلك، لذلك اريد ان افهم الان.
قمت من سريري ووقفت امام النافذة وكأني مستعدة لمعركة دموية، انفاسي مضطربة وصدري يرتفع وينخفض بجنون ودقات قلبي تكاد تكون كطبول الحرب! لا اريد ان افصح عن شيء، لا اريده ان يعرف شيء، وقف من مكانه وامسكني من معصمي ليديرني اليه وهو يقول لي بلهجة آمرة:
- عليك ان تخبريني بكل شيء يا علياء، لم اعد اتحمل رؤيتك بهذا الشكل تعانين بمفردك.
سحبت معصمي من يده وتناسيت نفسي من شدة غضبي ولم انتبه ان الذي امامي يوسف، يوسف الذي اعشقه بجنون:
- (اوه حقاً؟، تريد ان تعرف؟، ومنذ متى اصحاب الدم النقي يهتمون بمعرفة امورنا؟ ).
قطب حاجبيه باستغراب وحدق بي باستياء وهو يقول:
- اصحاب الدم النقي؟ منذ متى تتحدثين بهذه الطريقة يا علياء؟
- (منذ ان اثبت لي الجميع اني صاحبة الدم الملوث، ولن اكون غير ذلك ابداً! )
فصرخ بوجهي بعصبية:.
- ما هذه السخافة التي تتحدثين بها؟ هل فقدتي عقلكِ؟
- (بالطبع ستكون سخافة وستراه امر لا قيمة له، لأنك صاحب دم نقي، اما انا، فلا يمكنني تجاهل هذا الامر ابداً. لأني لم اعش الحياة التي عشتها انت. )
احاط كتفي وهو يهزني بعنف وكانه يحاول ان يعيدني لرشدي وهو يهتف:
- هل تدركين عن ماذا تتحدثين انت؟ ما الذي حصل لكِ فجأة؟
سقطت بضع دمعات مني وانا اعيد جسدي وبصري باتجاه النافدة احاول الهرب من عينيه المصدومتين مني! ثواني مرت علينا داخل صمت مطبق لا يملك اي احد منا ما يعلق به. فجأة احسست به يقترب مني ووجهه يلامس شعري من الخلف وهو يهمس لي بحنان:.
- دعينا ننسى كل هذا، دعينا نترك كل شيء خلفنا، ننسى الناس، ننسى العالم، دعينا نعش في عالم لا يحوي سوانا، لا اكون فيه انا صاحب الدم النقي ولا تكونين انت صاحبة الدم الملوث، لن اكون سوى عاشقكِ المجنون. ولن تكوني سوى صغيرتي المدللة...
سكت لثواني اخرى وانا اعجز عن تحريك اي جزء بجسدي من شدة ذهولي ودقات قلبي تكاد تخرج من قفصي الصدري وانا استمع لكلماته تلك! فجأة توقف كل شيء حولي، اختفت الاصوات، فقدت حواسي. توقف قلبي. سكنت انفاسي، تركت العالم كله من حولي وانا استمع لعبارته الاخيرة وهو يهمسها لي بدفء:
- علياء، هل تتزوجيني؟