رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العشرون
سماحة الوجه والسيرة الطيبة المتروكة بين الناس قد تكون أحيانًا مصطنعة، قد يبدو لك بأن ذاك الشخص ما هو الا صورة مصغرة لملاك يمتلك جناحين مجهولين، فيصدمك الأمر حينما يلدغك فتشعر وكأن الأرض تدور بك استعدادًا للقيامة القريبة، ليتك تعلم بأن أحيانًا أصحاب الوجوه العابثة والقلوب التي تبدو متحجرة تخفي من خلفها لونها الابيض الناصع!
تبدد كل شيءٍ حملته داخلها تجاه تلك الفتاة حينما رأت ما تعرضت له بالأمس، بكائها، تشنجات جسدها، انتفاضتها المرعبة كل شيءٍ أثار داخلها الشفقة تجاهها، وها هي اليوم تخطو لغرفتها ومن خلفها الخادمة التي تدفع طاولة الطعام بينما تتقدمها بخطواتٍ آنيقة تدرس بعالم الطبقة المخملية من ضمن القواعد المتبعة لفتيات الطبقات العليا.
مازال كل ما تعلمته من الصغر يلزمها، حتى حركاتها، وقفت فريدة تتطلع لها بنظرة هادئة تترقب خروج الخادمة بعدما تركت يدها عن دفع الطاولة، ومع انغلاق الباب رددت بهدوء: أحسن النهاردة ولا لسه تعبانه؟
تلك الصدمة كانت تفوق حد تلك الهزيلة التي تحاول استيعاب ما يحدث هنا، وجود فريدة ذاته يُصدمها ناهيك عن سؤالها عن صحتها وحملها للطعام خصيصًا لغرفتها!
التقطت عينيها نظرة فطيمة المعلقة بالطاولة، فقالت بارتباكٍ ظاهري: أنا قولت إنك أكيد لسه تعبانه ومش هتقدري تنزلي تفطري معانا، فخليت الخدم يحضرولك الفطار هنا عشان ترتاحي أكتر.
وعادت لسؤالها من جديد باهتمامٍ: إنتِ كويسة؟
ازدردت لعابها تروي حلقها القاحل، وبصعوبة رددت: الحمد لله.
وعلى استحياءٍ قالت: مكنش له داعي تعذبي نفسك أنا كنت هنزل عادي أفطر تحت، أنا متعودة على النوبات دي وبتعايش معاها لإنها بقت جزء من حياتي وآآ.
بترت كلماتها تتوسل للأرض أن تنشق وتبتلعها من تلك المواجهة الغريبة، تراجع جسد فاطمة للخلف تلقائيًا حينما استمعت صوت حذائها يقترب منها طابعًا بالأرض بقوةٍ يتردد صداها لمسمع الأخرى، فوقفت قبالتها لا يفصلهما الكثير، وبخفة رفعت ذقنها لتواجه نظرات فريدة الهادئة، والاخيرة ترفرف باهدابها بحيرةٍ وعدم استيعاب لما يحدث معها، فتحررت نبرتها الرزينة تخبرها: أنا حاسة بيكِ يا فاطمة، لإني عشت نفس الحالة اللي إنتِ بتعيشها دي قبل كده في فترة من حياتي، بس الفرق الوحيد إن اللي حصلك كان غصب عنك لكن اللي كان بيحصل كان بارادتي ومنسوبلي بأنه زواج ويحل له إنه يعمل أي شيء، كنت بستسلم وأنا جوايا أنثى بتعافر وبتصرخ وبتتمنى إن الأنثى الشرسة اللي جواها تعبر عن نفسها وتقول لأ بس كانت مجبرة.
اتسعت مقلتيها بصدمة لما تستمع له الآن، بينما سحبت فريدة كفها الرقيق عن ذقن فاطمة، وتراجعت خطوتين للخلف تضم ذاتها بذراعيها المستكينه أمام صدرها، تختفي من أمام أعينها حتى لا ترى دلائل انكسارها، صوتها المحتقن من أثر سيطرتها على البكاء هو الذي يصل لها: أنا قضيت أسوء عشر سنين في حياتي كلها، قتلت فيهم كل شيء حلو جوايا، كنت أغلب الوقت بشوف نفسي ست مغتصبة حقها مهدور وكرامتها متهانة وأوقات تانية كنت بشوف نفسي ست خاينة مع زوجها بجسمها وروحها وقلبها مع حد تاني.
رفعت إصبعها تزيح تلك الدمعة الطاعنة لكبريائها، واستدارت تواجه تلك التي تراقبها بصدمة لتخبرها ببسمة مصطنعة: وكان بينتهي بيا الحال بنفس اللي كان بيحصلك ده، كوابيس بشعة وصراع نفسي مميت كان خاطف مني نومي ومخليني عايش كل نفس بعاني، وبخوض عجز من نوع تاني. التبرير! كنت بدور على مبرر قوي أوضح فيه لسالم جوزي سبب التشنجات الغريبة اللي كنت بعانيها كل يوم، كنت بكتم جوايا قصة حبي الكبير.
كانت مشتتة تحاول فهم مغزى حديثها الغامض، وعلى ما بدى لها من فك الشفرات بأن فريدة سبق لها الوقوع بالحب والاجبار بالزواج بأخر، فضربتها في مقتلٍ حينما قالت ببسمة شملت الألم: أحمد، عم علي.
برقت بعينيها بدهشة، فقالت وقد خانتها دموعها لتظهر بانكسار لم يسبق لها خوضه أمام احدى بناتها: وعيت على وش الدنيا لقيت قلبي بيختاره من بين كل رجالة العيلة، أحمد كان حب عمري وروحي كانت متعلقة بيه، مكنتش بقدر أنام غير وأنا شايفة عربيته مركونة تحت شباك أوضتي، كل نفس كان خارج مني كنت بحس إنه بيشاركني فيه، حبي ليه وصل لمرحلة مخيفة لدرجة إني بقيت بسأل نفسي يا ترى لو حصل واتفرقنا في يوم من الأيام هعيش ازاي؟
وانهمرت دموعها وهي تحتضن صدرها بمحل قلبها الغافل بعنف عن سقوطها لتذكر ذاك الألم: وحصل واتفرقنا وحب عمري اتخلى عني، فبديهي أني كنت اتعرض للحالة اللي شوفتها فيكِ بعيني، رجعتني لايام مكنتش عايزة أفتكرها يا فاطمة، أيام كانت روحي بتعاني وجسمي سليم، كان قلبي فيها مكشوف وبيتعرض كل يوم لضربة ومفيش حد شايف ولا سامع ولا حاسس بيا.
زار الدمع عين فاطيما وهي تستمع لها بتأثرٍ، هي الوحيدة التي تفهم مغزى تلك الكلمات، نعم هي لا تعلم ما الذي دفع أحمد للتخلى عنها واجبارها على الزواج بأخيه ولكنها تشعر بآلامها الكبير بتلك اللحظة، تشعر بها وبئس ذاك الأمر!
استدارت فريدة عنها تزيح دموعها بقسوة كادت باضرام جلد وجهها الرقيق، وعملت على تنظيم مجرى تنفسها العنيف حتى هدأت تمامًا، فاتجهت إليها تخبرها بعد مدة من صمتها: بصي يا فاطيما أنا عارفة إن العلاقة ما بينا كانت سخيفة جدًا، بس إنتِ لازم تعرفي إن غصب عني لازم أخاف على ابني، عمران سبق وحب ووقف قدامي نفس وقفة على واتحداني ونهايتها كانت أيه؟
عادت تجيب على سؤالها المطروح: سميته ودمرت حياته وطلعت زي ما أنا ظنيت كانت طمعانة بفلوسه! أنا اتعودت أحارب علشان اولادي اللي خرجت بيهم من رحلة عذابي التعيسة دي، أنا بعتبرهم هما الشيء الكويس اللي خرجت بيه من جوازتي المؤلمة، فعشان كده مستسلمتش وحاربت مع عمران لحد ما ابتدى يرجع لوعيه ويتقبل مايسان في حياته اللي الحمد لله رجعت تتعدل تاني.
واستطردت توضح لها سبب العداء الغريب التي تواجهه منها: عشان كده قسيت عليكي وعلى علي، وبتمنى من كل قلبي تطلع ظنوني فيكِ غلط، بعد اللي حصل امبارح شوفت تعلق على بيكِ وتعلقك بيه، سمعتك وانتي بتستنجدي بيه!
وبدموع تجمعت بمقلتيها مجددًا قالت: شوفت نفسي فيكِ لما كنت بتمنى كل يوم بقضيه مع جوزي إن أحمد يرجع ويخلصني من عذابي، بس الحقيقة كله كان وهم، بالنهاية كنت بصحى وبلاقي سالم هو اللي جنبي مش أحمد، كنت بكمل يومي وبرسم الضحكة على وشي وأنا قلبي بينزف، عشان كده أنا قررت ابني ميعش نفس اللي عشته لو اتفرق عنك، وبتمنى ميكنش قراري الغريب ده غلط فأنا هديكي فرصة يا فاطيما تصلحي نظرتي ليكي، ومن فضلك متخذلنيش وتحافظي على ابني لانه أغلي من روحي ومن حياتي.
وببكاء مزق قلبها إربًا قالت: .
علي ده حبيب عيوني وقلبي وروحي وكل شيء بمتلكه، آآ، أنا بستقوى بيه بحس إنه أبويا مش ابني، بتدارى فيه من همومي ومشاكلي وكل شيء بعيشه، بحاول بقدر الامكان أبان قدامه أني قوية ومش محتاجاله هو اللي محتاجالي بس الحقيقة إني ضعيفة من غيره وبحتاج لحضنه استقوى بيه، على هو العوض ليا، بالرغم من إن الفرق بينه وبين اخواته سنين بسيطة بس هو اللي كان بيساعدني في تربيتهم كنت دايمًا بشكيله همومي وهو بيسمعني عمره ما ذهق مني أبدًا.
وابتسمت فجأة وهي تخبرها: مستغربتش أنه دخل طب تخصص الامراض النفسية لانه شخص صبور وبيحب يسمع اللي قدامه ويديه النصيحة اللي تفيده، كان نفسي أقوله يعالجني أنا من اللي شوفته يمكن وقتها أبطل أروح في السر لدكتوري النفسي اللي بتعالج عنده من سنين بس خوفت يكره أبوه!
من قال إنها الوحيدة التي قاسمت الألم، فبعد سماعها لما خاضته فريدة تقسم بأن العالم لا يخلو من جرعات الأوجاع القاتلة، بداخلها أنثى تصرخ بل تستغيث، وراء ذاك الوجه الجامد هناك أنثى انكسر كبريائها وتلاشت ضحكاتها، توارت خلف ظلام مميت قاتل، أزاحت فريدة دموعها وصرخت بغضب جعل فاطمة مندهشة: مش هسامحك على الدموع دي، أنا مش بحب النكد ولا الحزن وشي هيكرمش بسببك!
ورفعت اصبعها تحذرها بجدية قاتلة: أول قاعدة من قوانين فريدة هانم الغرباوي ممنوع تنكدي عليا أو تقوليلي اي شيء حزين يخليني أنكي وأجهد بشرتي لأي سبب من الأسباب، مفهوم؟
اغتصبت ابتسامة خافتة على شفتيها وأومأت برأسها عدة مرات، فمنحتها ابتسامة صغيرة، وفرقت ذراعيها عن بعضهما وهي تشير لها: تعالي.
اتسعت نظراتها صدمة وهي تتطلع لها بعدم تصديق، فأرغمت قدميها على التحرك بصعوبة حتى وصلت قبالتها، فضمتها فريدة لاحضانها بقوةٍ تربت على خصرها بحنان وكأنها تواسيها عما خاضته وعاشته بتلك التجربة القاتلة.
ارتعش جسد فاطمة حينما شعرت بهالة من الدفء والحنان المشابه لضمة والدتها الراحلة، فرفعت يدها تتعلق بها كالغريق المتعلق بقشة نجاته، انكسر قلب فريدة وهي تشعر بانتفاضتها بين ذراعيها فشددت أكثر من احتوائها مرددة بتلقائية منها دون الاستيعاب لما تنطق به: متزعليش يا حبيبتي، اللي فات انتهى مش هيتعاد تاني وانتي هنا بينا، محدش هيقربلك أبدًا. آآ، أنا هنا جانبك!
أفرغت كل ما بداخلها من خزين البكاء على كتف فريدة التي تحاول أن تهدهدها كأنها صغيرتها الباكية، تستمد كل قوتها لتبدو أكثر حذرًا بالتعامل مع حالة فطيمة المشابهة لحالتها سابقًا في فترة زواجها، كأنها ترى نسختها سجينة هذا القصر منذ أعوام، تغرقها بحنانٍ كانت تود لأحد أن يفيضها به سابقًا.
تحرر باب الغرفة وتسلل للداخل على وعمران ويتبعهما أحمد ومايسان التي علمت منهم بالخارج بما يحدث، فظنوا بأنها قد تضع السم لها بالطعام كمحاولة للتخلص من فاطمة، ومنهم من ظنها ستقوم بطردها عاجلًا بعد نوبة الازعاج التي أيقظت القصر بأكمله بالأمس، فزاغت أبصارهم صدمة مما يُرى أمامهم، فانفتحت الأفواه وتلبسهم الصمت والنظرات المستنكرة لما يحدث هنا، حتى شقهم صوت عمران المازح: أنا بحلم أم أتوهم أم الاتنين في بعض؟
أجابه أحمد بدهشة: ممكن نكون دخلنا أوضة غلط!
أجابتهما مايا وهي تبتلع ريقها ببطءٍ: لأ يا أنكل هي الأوضة.
تساءل على باستغراب: طب في أيه بقى!
ردد عمران ومازالت عينيها تتسعان صدمة: دي عمرها ما حضنتني الحضن ده! مش بقولكم أنا محتاج اعملDNA للعيلة دي!
تحرك على إليهما فكانت فريدة أول ما تمكنت من رؤيته، فاستعابت بما يحدث الآن وبوجود الجميع بالغرفة، لذا أبعدتها عنها وهي تستعيد قوة شخصيتها المبالغ بها، قائلة بارتباك: علي، آآ. كويس إنك جيت، قولها إني مبحبش النكد أنا ندمت إني طالعتلها مش معقول التعاسة اللي عيشتني فيهم الكام دقيقة دول.
ورددت وهي تخطف نظرة لأحمد ولابنها وزوجته: ثم إنكم بتعملوا ايه هنا، إنتوا ناسين انا الحفلة بكره وورانا تجهيزات كتيرة ولا سايبن كل شيء عليا زي كل مرة، لكن لأ أنا معنديش القدرة أنظم كل شيء لوحدي ومش هسمح بالتسيب ده.
وتحركت بالخروج أو بالفرار من منطق أخر متمتمة بسخط: بكره جايلنا ناس من كبار الطبقة الآرستقراطية لازم كل حاجة تكون برفكت والا هنكون مهزلة قدامهم، لازم أتمم على كل شيء بنفسي!
وقبل أن تختفي من أمامهم قالت: تقدر تفطر مع مراتك النهاردة يا علي، لكن الباقي لو منزلوش على المعاد مفيش فطار ليهم النهاردة مفهوم!
واحتفت من أمامهم كنسمة عابرة اختطفت الهواء من أنفاسهم، فقال عمران بصدمة: مين دي؟!
أدلى احمد بشفيته بحيرة: بحاول أركز معاها بس لقتني بتعب في النص، فريدة أمك زي الفرس الجامح لو مكنتش خيال متقدرش تصمد لوقت طويل، ودي بداية غير مبشرة بالمرة للي أنا داخل عليه يا ابني!
منحه نظرة ساخرة ثم قال: طيب يلا يابو حميد نلحق الأكل بدل ما نفضل طول اليوم على لحم بطننا!
خرج الجميع وتبقى على قبالتها، يتأملها وهي تمسح دموعها بخجلٍ، فما أن استكانت حتى قال بفضولٍ: العداوة راحت فين؟
رفعت كتفيها تجيبه ببراءة: معرفش! بس فريدة هانم طلعت طيبة أوي يا علي، أنا فرحانه اوي إنها ادتني فرصة وشكلي ظلمتها ومعرفتهاش كويس.
ابتسم وهو يراقب تلك الابتسامة التي خفق قلبه بعنف لها، وأشار للطاولة التي تحمل الطعام قائلًا بحنان: حبيبتي متشغليش بالك بأي شيء واقعدي افطري وخدي أدويتك. أنا عندي ثقة إن طيبتك وقلبك الأبيض هيلين الحجر قدامك مش بس فريدة هانم اللي هتلين!
وسكن بعينيه حضن عينيها الساحرة، هامسًا بصوته المنخفض المغري: عقبال ما قلبك يلين بحبي وتتقبلي قربي وتحبي حضني، على فكرة ماما وشمس بيقولولي إن حضني حلو ودافي تجربي؟
ارتبكت بوقفتها أمامه، فاسرعت للمقعد المقابل لطاولة الطعام تلهي ذاتها بإلتهام كل ما تتلقفه يدها، فتابعها بتسلية ورماديته المهلكة لا تترك لها المجال للهروب، فإتجه إليها وانحنى يلتقط بفمه الخبز المغموس بالجبن قبل أن تقذفه لفمها، مرددًا بتلذذٍ: أممم، طعمه لذيذ ومختلف! مع أني سبق وأكلت من الجبنة دي كتير، غريبة؟
وأشار لها بخبث: هاتي حتة كده كمان.
توترت من قربه الشديد منها، ومع ذلك مزقت الخبز وغمسته بالجبن ثم قربتها من يده ففجائها مجددًا حينما انحنى يلتقطها بفمه، مشيرًا باستمتاعٍ: واضح كده إن الأكل من إيدك هو اللي بيحلي الأكل، وشكلي كده والعلم لله هتعود إنك تأكليني أو تتبنيني.
واقترب برأسه من رأسها متسائلًا بمكرٍ: موافقة تتبني طفل عنده 27سنة، ميت في دباديبك وطمعان في قلبك يا بنت الناس؟
يتعمد اللعب على مشاعرها وللعجب ينجح بذلك، ذلك الطبيب الماكر يعلم الوقت المناسب ليستخدم أسلحته باستهداف عاطفتها، ويعلم متى يتراجع ويمنحها حصارها الآمن، إن كان شخصًا عاديًا لكان يقع بالمحظور وتهشمت العلاقة بينهما منذ أول لحظة، ولكنه ذكيًا يستخدم كل مهاراته الطبية ليعيد لقلبها عذريته المنتهكة!
خرجت من تلك الغوغاء قائلة بتلعثمٍ: هو، آآ، مش إنت قولتلي. آآ. إنك هتجبلي هدية وبتستنى وصولها، هي فين؟
يعلم بمحاولتها بالفرار من هالته ولم يمنعها أبدًا، فاستقام بوقفته يجيبها: لسه ساعة وتوصل، هسيبك أنا تكملي فطارك وهخرج مشوار على السريع كده.
واتجه ليغادر وعينيها لا تتركه، فجذب باب غرفتها ليغلقه، ومنحها نظرة أخيرة وهمسة دافئة: متنسيش أدويتك يا حبيبتي.
ابتسمت وهي تراقب أثره ورددت لذاتها: أهو إنت اللي حبيبي!
بالأسفل.
اجتمعوا على مائدة الافطار ولم يجرأ أحدٌ على التحدث، الصمت مطبق على الجميع بما فيهم شمس الشاردة بآدهم الذي ابتعد عنها بالفترة الماضية، بعد أخر لقاء بينهما وتحذيره الصريح لها بالابتعاد عن راكان، فكانت تصد كل محاولة يقوم بها للقائها.
عبثت مايا بطبقها وهي تتحاشي التطلع لعمران الذي جدد وعده لها بالحصول عليها بالغد، لتجمعهما غرفة واحدة، وها هو يعيد همسه الوقح مجددًا: النهاردة أخر يوم هتكوني فيه لوحدك، من بكره هتنوري أوضتنا يا عروسة!
ارتبكت بنظراتها وتجاهه، وراقبت على الذي دنى منه ينحنى إليه هامسًا: خليك وأنا هروح لراكان لوحدي.
أشار له بصدرٍ رحب وعاد يغمز لتلك التي تراقبه بفضولٍ لسماع ما يحدث بينهما.
انتهى من تنظيف الأطباق، بعدما كاد بإسقاط أخر طبق قام بجليه، فنزع يوسف عنه مريال المطبخ، ثم حمل الصينية المستديرة وخرج بها لغرفة أخيه، وضعها على الفراش وحركه بخفة: سيف، قوم هتتأخر على الجامعة.
فتح عينيه وهو يردد بنعاسٍ: سبني شوية يا يوسف، أنا تعبان.
لوى شفتيه بسخطٍ: تعبان من سحلة الواد الحقير ليك ولا عندك دور برد؟
تنهد بيأسٍ من الافلات من تلك الذلة التي أمسكها أخيه عليه، وجلس باستقامة يصيح بضجر: ما خلاص يا عم هتمسكهالي ذلة!
منحه نظرة منفرة وكأنه عدوى ستنتقل إليه: بقى دي أخرتها يا حقير، سايب شغلي وجاي أعملك فطار وأروقلك الشقة وأخرتها تكلمني بالأسلوب ده! لأ بقولك أيه أنا ممكن أقلب في لحظة وأسيبك كده محتاس مع نفسك لا منك هتذاكر ولا منك تنضف مطرحك المعفن ده يا حقير.
صفق كف بالأخر: هيقولي تاني حقير، أعمل فيه أيه ده!
وصاح بانفعالٍ وكأنه يذاكر دروسه: بالنسبة لتعليمات عمران الوقح تمشي عليك بردو ولا أيه النظام؟
نفى ما يجول بخاطره: على العدو الدخيل مش خدامتك الفلبنية اللي بتخدم أبوك.
كبت ضحكاته وهز رأسه قائلًا: اقتنعت!
أعاد فرد قميصه وهو يستعيد تناسق ملابسه للرحيل، فوقف امام المرآة يصفف شعره الغير مرتب، متابعًا أخيه بالمرآة وهو يتابع تناول طعامه، فسأله بنبرة حنونة: لو الأومليت عجبك في جوه لسه أجبلك كمان؟
أشار له بحرجٍ، فاتجه للمطبخ وعاد بطبقٍ أخر ومرر يده على خصلات أخيه المبعثرة: ألف هنا على قلبك يا حبيبي.
منحه ابتسامة هادئة وعاد يلتهم الطعام بشهيةٍ، فجذب يوسف جاكيته وحقيبته وقال: سيف أنا هنزل عشان متأخرش، سبتلك على مكتبك مبلغ بسيط كده تدلع بيه نفسك بره الحساب اللي بابا بيبعتهولك، ومتعرفهوش أني بديلك حاجة ليخصمهم من مصروفك.
ابتسم وهو يشكره بامتنان: منحرمش منك يا جو، أنا فعلا كنت محتاج أشتري شوية هدوم كده لزوم الجامعة.
بادله الابتسامة بأخرى أكثر جاذبية: انزل واشتري اللي نفسك فيه كله ولو محتاج حاجة متترددش تكلمني.
وأشار بيده وهو يغادر: سلام مؤقت. خلي بالك من نفسك.
هز رأسه بحبٍ، فغادر يوسف وتركه يستكمل طعامه باستمتاعٍ.
وصل على لمنزل راكان، فاستقبله الخادم بترحابٍ وحينما أبلغ سيده بوصوله أوصاه أن يتجه به لمكتبه الشخصي، فإتجه على للغرفة الجانبية الغافلة بنهاية زواق ضخم متفرع، ولج للداخل فوجده يعمل على أوراق يوضعها آدهم من أمامه ويترقب أن يوقع عليها، وما أن رآه حتى ردد بفرحة: دكتور علي، مش معقول جاي لحد هنا بنفسك!
قابل يده يصافحه، قائلًا بابتسامة هادئة: جايلك أعزمك على فرحي بكره، شوفت الحظ؟
ترك الملف وردد باهتمام بالغ: يبقى الكلام اللي سمعته مظبوط وإنت فعلا كتبت كتابك؟
أكد له وعينيه لا تحيل عن آدهم الذي يتابعهما بثبات وصلابة قاتلة: أيوه مظبوط، والدليل إني جيتلك بنفسي أعزمك على الحفلة، عقبال حفلتك إنت وشمس ووقتها هوزع كروت الدعوات بنفسي.
تجمدت تعابير آدهم وباتت أكثر صلابة، على الرغم من احمرار مقلتيه بصورةٍ كانت ملحوظة لرماديته الثاقبة، فحاول الحفاظ على مجرى الحديث المتبادل بينه وبين راكان وعينيه لا تفارق آدهم تحاول اكتشاف المخبئ خلفه، وفور انتهائه من ذاك اللقاء الروتيني وقف يستأذنه بالانصراف قائلًا: هسيبك تكمل شغلك متتأخرش بكره.
هز رأسه بتأكيد، وجامله بترحاب: من الفجر هتلاقيني عندك، عندي فضول أكيد أتعرف على اللي سرقت قلب دكتور على سالم الغرباوي.
اكتفى برسم ابتسامة صغيرة ومازال يمنح آدهم نظرة غامضة جعلت الآخر يحلل مغزاها، فقدم لهما راكان فرصة ذهبية حينما قال: مع الدكتور على يا آدهم وصله.
هز رأسه بخفة وتقدم على يشير له بتتابعه باحترام، فما أن ابتعدا عن مرمى بصر راكان وتوقف أمام البوابة قبالة سيارته بالتحديد، حتى قال بنظرة غامضة: لو مكنش راكان طالبك توصلني كنت هتحجج بأي شيء عشان أتكلم معاك.
منحه بسمة ثابتة وأزاح نظارته السوداء عن عينيه: ولو مكتتش طلبت ده كنت خرجت وراك من نفسي، نظراتك وطريقتك جوه كانت مضمونها إنك جاي هنا علشاني أنا مش لراكان.
ابتسم وهو يرفع حاجبه: ذكي وخبيث يا آدهم.
وتساءل بغموضٍ: ويا ترى عرفت كمان من نظراتي أنا هنا ليه؟
أكد له بإيماءة من رأسه، وقال بخشونة: عارف وبتمنى تأجل أي كلام بالموضوع ده بالفترة الحالية، بس اللي أقدر أقولهولك إن الكلام اللي وصلك صح، أنا بحب شمس ومستحيل هتخلى عنها، خصوصًا إنه مش مناسب ليها ونهايته خلاص قربت.
اتضحت شكوك على بكلماته المقتضبة، ومع ذلك حافظ على تصلب معالمه، ففتح باب سيارته وقبل أن يحتلها قال بصلابة: ولحد ما وقتك المناسب يجي وتقعد قدامي تحكيلي كل شيء خليك بعيد عن أختي، وده أمر مش تحذير، أنا مقدر سكوتك وشكوكي حاليًا مش هتقدر تكون الصورة المطلوبة عنك، عشان كده خليك بعيد أفضلك.
أشار له بتفهم، بالنهاية أي شخصًا محله يحق له القلق بشأن شقيقته، الموضوع بأكمله مقلق، فأغلق باب سيارته منحيًا بقامته وجذعيه الضخم: متقلقش يا دكتور أنا عارف حدودي كويس، وبتعامل مع شمس هانم بحذر لحد ما يحصل اللي بتمناه وقتها هتلقيني في بيتك بطالبها زوجة ليا وقبلها هكشفلك هويتي!
منحه نظرة عميقة ذات مغزى وكلمة واحدة تتحرر على لسانه: مستنيك يا حضرة الظابط!
وانطلق بسيارته تاركًا البسمة تغرد على وجهه، فدث يديه بجيوب سرواله مطلقًا صفيرًا مستمتعًا لقرب هدفه، ها قد اقترب ليصل لأميرته، خطوة واحدة ينتهي من ذاك اللعين ويطالبها لنفسه فتصبح زوجته، حينها سيكشف لها عن حبه العميق المحفور داخل قلبه لها، تلك التي اختطفت عقله من نظرة واحدة جمعتهما معًا، وكأنها حورية هاربة للتو ومنحته الآذن باختطفها من معذبها القاسٍ.
مزق لذته القصيرة صوت فؤاد الهامس: وبعدين يا باشا، معاد التسليم قرب والفلاشة لسه معاك موصلتش للجهاز وفوق كل ده موصلناش للملف!
أطلق زفرة قوية ومنحه نظرة صارمة جعلت الاخير يرتبك بوقفته: أنا قولت حاجة غلط؟!
مرر آدهم يده بين خصلاته الطويلة يحررها عن ثباتها لتستجيب لنسمات الهواء فتتحرر على عينيه، فاستدار يوليه ظهره هادرًا من بين أنفاسه العنيفة: قولتلك دي لعبتي أنا، الفلاشة بكره هيستلمها الشخص الجدير بيها وهتوصل مصر قبل معاد التسليم، فكر في الملف لإنه الأهم دلوقتي، كل يوم بنقضيه هنا الخطر بيزيد!
حركت مقعدها الهزار بحركة هادئة وعينيها مغلقة بقوةٍ، تحارب تلك الافكار التي تهاجمها وأساسها سؤال يلح عليها.
«هل ستتمكن من منحه فرصة التقرب منها؟ وبماذا ستشعر بعدها؟ ماذا لو طعنت بألم الخيانة من جديد! »
مسدت فريدة فروة رأسها بإرهاقٍ، ولا تنكر بأن الخوف من الغد صار شيطان يتلبسها، ما أخفته طويلًا سيكشف غد أمام محبوب طفولتها، لا ترغب بأن يراها أحدًا ضعيفة فماذا إن كان هو؟
ولكن لا بأس عليها بالمحاولة ربما تتمكن من قمع كل ذلك خلفها وتمضي معه من جديد، هذا ما توده وتتمناه بكل رغبتها، فمازال قلبها يعشقه ولم ينتقص حبه شيئًا داخلها بل زاد للنخاع!
طرق على على باب غرفتها طرقتان متتاليتان قبل أن يدخل بالطرد الضخم الذي يحمله، وناداها بلهفةٍ: فطيمة. أنا آ...
ابتلع جملته داخل جوفه حينما وجدها تقف قبالة خزانتها وعلى ما يبدو بأنها كانت تبدل ثيابها، فكانت تقف قبالته بقميص من الستان الأسود قصير بعض الشيء، ويدها تمسك جلباب طويل أبيص كانت سترتديه قبل أن تغفو، وها هو يقتحم غرفتها ليشل حركتها عما كانت تمضي بفعله، ارتعشت من أمامه، ويدها تحاول اخفاء ساقيها وذراعيها بالجلباب، فشعر وكأنها على وشك الاغماء محلها، أسرع على بالحديث وهو يوليها ظهره: أنا آسف يا حبيبتي مكنتش أعرف أنك بتغيري هدومك، أنا بس كنت متحمس أعرف رأيك بالهدية اللي كلمتك عنها فأول ما الطرد وصل جبته وجيتلك، حقك عليا.
ووضع ما يحمله على الفراش وأسرع لباب غرفته الجانبية دون أن يجرحها بنظرةٍ، عينيه مازالت أرضًا رغم أنها حلاله، زوجته المباح لعينيه بتأملها: أنا في أوضتي، أتمنى هديتي تعجبك.
وأسرع بالخروج ليترك لها مساحتها خشية من أن تنتابها نوبة قاتلة تصييها في مقتلٍ، إلتقطت فاطمة أنفاسها على مهلٍ، ويدها تضم صدرها القابض بعنفٍ، فمال جسدها للخلف حتى تلقفه المقعد.
جلست تحاول تهدئة ذاتها، اختنق مجرى تنفسها حينما استعادت تلك الذكريات القاتلة وأقصى ما يطعنها أن على رآها بهذا اللبس المخزي، فلفت انتباهها جانبه الرجولي، حينما امنتع عن التطلع إليها حتى بنظرة صغيرة، حفظها من عينيه وكأنها قطعة من قلبه يخشى حتى أن يخجلها!
عاملها كأنها ابنته التي يخشى عليها الحزن أو أن يرى دمعة عابرة بمقلتيها، حتى وإن كان قاسيًا على ذاته، استعادت فطيمة كامل هدوئها ونهضت تكمل ارتداء ثيابها، ثم تحركت للفراش لتستكشف ما أحضره لها بفضولٍ.
مزقت الورق الأبيض المحاط حول العُلبة الضخمة، ومن ثم فتحت العلبة ففغر فاهها من هول الصدمة حينما رأت أمامها قفطان أنيق من اللون الأبيض مطرد بحزام من اللون الذهبي ويحيطه بتطريز فخم على أكمامه، ولجواره قفطان أخر من اللون الأخضر الملكي يشابهه كثيرًا بالتصميم، حملتهما بين يدها بفرحة لا تتقاسمها مع أحدًا، فلم يكن بأوسع مخيلاتها بأنها ستتزوج شخصًا خارج جنسيتها، فكانت تتأمل يوم زفافها الذي سيتبع على الطريقة المغربية، وها هي تتزوج من مصري يقيم بدولة غربية بعيدًا عن دولته، ولتكن صادقة مع ذاتها ستتزوج من رجلٍ أتى ليحطم صورتها القاسية التي جمعتها بأشباه الرجال، أتى يؤكد لها بأن هنالك نوعية فريدة من نوعها.
حمل عشقًا داخل قلبه وغلفها داخل أضلعه يحميها من أي شيء وأولها نفسه ورغباته وتمنيه العزيز لها، حملت فطيمة القفطان بين يدها بحبٍ وكأنها تجمع ذكريات بلدها بأحضانها واتجهت لغرفة علي، فتحتها وولجت تبحث عنها فوجدته يتمدد على الفراش، يضع نظارته الطبية ويقرأ كتابًا أمامه باهتمامٍ، وما أن رأها حتى وضعه جواره على الكومود وأسرع إليها.