قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل العاشر

من قال إن الفراق يقتل حب أحاطته الذكريات بالكراهية، حتى وإن شاب الجسد بقى القلب صبيًا مرهفًا، بالرغم من بعد المسافات ورغبتها بالابتعاد، ولكنها والله ضعيفة لا تتمكن من محاربة لقائه!
وإن تغير وجهه قليلًا فمازال يحتفظ برمادية عينيه التي تقتلها رويدًا رويدًا، وبالرغم من جمود ملامحها باستقباله المعتاد بحياتها بالسنوات الأخيرة ولكن داخلها قلبها يقرع كدفزف حربًا تنشب عليها!

ترك كوب قهوته على الطاولة الرخامية من أمامه، ثم نهض يقترب إليها ببسمةٍ شوقٍ تذبح فؤاده، عينيه وآه من عينيه تكاد تناشدها بعتاب لا يزيدها الا وجعًا!

وبكل خطوة دنى بها إليها كان يقذف لها ذكرى تلو الاخرى لدرجة جعلتها لا تتمناه يقترب أكثر من ذلك، ملامحه الهادئة الجذابة، شعره البني المحاط ببعض الخصلات البيضاء، هالته التي مازالت تحيطه بعد ذلك العمر، قبضت على قلبها بنيران عاصفة وقالت بجمودٍ: أيه سر الزيارة الغريبة دي ومن غير ما تسيب خبر إنك نازل انجلترا!

مازالت كما هي، حادة اللسان رقيقة الشكل، تغرد نظراتها وجعًا يذكره بالماضي ما دام حيًا، تنحنح وهو يجيبها بخشونةٍ: مش محتاج إذن عشان أجي بيت أخويا يا فريدة هانم.
علمت بأن الحديث يتجه لمسارًا حاد بينهما، فأشارت للخادمة وهي تمنحها حقيبتها: اذهبي إنتِ الآن.

وما أن رحلت حتى استدارت إليه مدققة بمعالمه، مثقلة نطقها للكلمات: لا محتاج تستأذن لإن ده مبقاش بيت أخوك خلاص، أخوك دلوقتي عند اللي خلقه واللي عايش في بيته مراته وأولاده.
سحب نفسًا مرهقًا، بالرغم من اعتياده على معاملتها الباردة الا أنه قد سئم بالفعل، فقال بصوته الهادئ المتعب: وبعدهالك يا فريدة، هتفضلي كده لحد أمته؟

تعلم جيدًا ما يقصده بحديثه، وبالرغم من ذلك ضمت يديها لصدرها ورددت بفتورٍ: كده اللي هو ازاي يعني؟
تمرد عن رزانته حينما صاح بها غاضبًا: فريدة احنا مبقناش صغيرين لعنادك ده، فوقي العمر بيجري وأنا لسه جنبك بواجه عاقبك!

وزفر بضجرٍ مشيرًا بيده في محاولةٍ لاعتذاره عن صراخه الحاد مستطردًا بهدوءٍ: أنا اتحرمت من إني ارتبط ويكونلي أولاد ومازلت محافظ على وعدي ليكي يا فريدة، بس خلاص مبقتش عارف مطلوب مني استحمل أد أيه، أنا بقى عندي 45سنة مبقتش صغير لكل ده.

استدارت تخفي عينيها عنه، لتجيبه بجحود وهو تعدل جاكيته الرمادي الشبيه للتنّورَة الطويلة التي ترتديها بأناقةٍ: سبق وقولتلك قبل كده أن من اللحظة اللي سالم مات فيها إني حليتك من وعدك.
واستدارت توجهه بقوةٍ شرسة: يعني من 15سنة كنت تقدر ترتبط وتعيش حياتك، أنا مضربتكش على ايدك وطلبت منك تستناني!

قبض قبضة يده بشكلٍ مخيف ومع ذلك لم يرف لها جفن، فمرر يده بين خصلاته بانتظام قاتل، ثم دنى ليصبح قبالتها فقال وعينيه تجوه الفراغ لا تقوى على التطلع لها عن قربٍ: مبحبش أشوفك بتكدبي ولما ببصلك مبشوفش بعيونك غير الكدب.

واسترسل وتلك المدة يحدجها بقوة تناهز قوتها ويده تشير للمنزل: من 15سنة جيت المكان ده ووقفت قصاد العيلة كلها وطلبتك للجواز وانتِ رفضتيني بدل المرة ألف مرة، وكل ده ليه؟، ليه يا فريدة جاوبيني ليه قلبك بقى بالقسوة دي! مكفكيش السنين دي كلها بتعاقبيني مكفكيش وجع في قلبي، لسه عايزة تموتي جوايا أيه تاني؟

تحررت عن رداء ثباتها المخادع، فصرخت بجنون أنثى مجروح قلبها، لا يعرف طريق شفاءه منذ أعوامٍ: وجعك ميجيش نقطة في وجعي، لسه لحد النهاردة مش قادرة أنسى وأنا بتوسلك توقف جوازتي، لسه فاكراك وإنت بتقدمني بإيدك لأخوك، قلبي موجوع منك بشكل عمري ما هقدر أوصفهولك، كل ليلة قضتها في البيت ده كانت عذاب ونار بتحرقني.

ورفعت اصبعها تشير للدرج المؤدي لغرف النوم: كل يوم كان بيتقفل عليا باب واحد معاه كنت بتكوي وبتمنى الموت كل ما كنت بشوفه هو اللي جنبي على سريري مش إنت!
تلألأت عينيها لتنفجر بدموعها المتحجرة، مشيرة برأسها باعتراض متعصب: لا يا أحمد مستحيل هسامحك، ولا هسمح انك تدخل حياتي وتدمرني تاني.
وبسخرية اعتلت بسمتها قالت: مش بعيد لما أديك فرصة تانية أعجب حد من أصحابك المرادي وألقيك بتسلمني زي ما عملتها قبل كده.

فريدة.

طعنت رجولته بكل ما تحمله معنى الكلمة، جعلته يرمقها بعصبيةٍ بالغة، كل لقاء بينهما يجمعهما نفس العتاب، لا تمل من ذكر الماضي له على مدار تلك السنواتٍ، فخرج عن طور هدوئه حينما صاح بانفعالٍ: إنتي ليه متخيلة إنك الوحيدة اللي كنتي بتعاني! فاكرة إني كان عندي رفاهية الاختيار! أنا كل ثانية كنت بفكر فيها إنك معاه كنت بتقتل، كل لحظة كانت بتجمعنا مناسبة عائلية كنت بتمنى أتعمي ومشوفكيش معاه، انتي موتي مرة أنا موت ألف مرة وخصوصًا لما كان بيجيني خبر حملك.

برقت بحدقتيها غاضبة تجاهه، ظنًا من أنه سيخوض بكرهه أولادها، فوجدته يخبرها بأعين دامعة: متقلقيش أنا كنت فاكر زيك كده إني هكرههم، بس لما شلت على بين ايديا مكنش في عيوني غير الحب والحنان ليه، كنت بضمه ليا وبحاول أشم ريحتك فيه، كنت بتمنى إنه يكون مني وإسمي هو اللي ورا اسمه.

واستدار يوليها ظهره يذيح دمعة كادت بفضح ضعفه أمامها، فوجدها تصفق بيدها وهي تدنو لتصبح هي بمقابلته لتشير له ببسمة ساخرة: برا?و ابتديت اقتنع إنك الضحية فعلًا، ده أنا شكيت إن أنا اللي دوست على قلبك وروحت اتجوزت أخوك غصب عنك!
واسترسلت باستهزاء: ما كله كان بالاتفاق يا أحمد باشا ولا نسيت؟

ابتسم بجابهه برأسه المصلوب وجسده الممشق، واضعًا يده خلف ظهره وهو يجيبه برتابةٍ: لا منستش يا فريدة، بس إنتِ اللي شكلك نسيتي إن أحمد اللي حبتيه عمره ما كان أناني، أحمد اللي اختارتيه حبيب من طفولتك كان جواه شرخ كبير ووجع بيطارده كل ما بيشوف أخواته بيعانوا لمجرد إن أبوه كان بيتسلى في فترة اجازته اللي بيقضيها بمصر فقرر يتجوز واحدة يقعدها مع والده عشان تسليه وقت ما يسيب انجلترا، أحمد اللي حبتيه كان بيدفع تمن إنه ابن الزوجة التانية وعاش عمره كله يدفع التمن ده، حتى بعد ما مرات أبوه اكتشفت بجوازه، فقررت تعيشه هو واخواته في معاناة أكبر ولولا وجود جدي كان زماني أنا واخواتي في الشارع، وبعد السنين دي كلها يحسن سالم العلاقة دي ويبتدي اخواتي يعيشوا عيشة طبيعية أجي بانانيتي وأقف واتحداه!

تدفق الدمع على وجنتها لتجيبه بقسوة: لا تسلمه حبيبتك!
دفنت وجهها بين يديها تذيح دموعها، والتقطت أنفاسها وهي تخبره بجمود: مبقاش له لزمة الكلام دلوقتي، خلاص اللي فات مستحيل هيرجع، وسالم دلوقتي بين إيدين ربنا.

ورفعت عينيها إليه تخبره بألمٍ: متجنيش على روحك بالانتظار يا أحمد، أنا معملتهاش وأولادي صغيرين معنديش الجرءة أعملها وهما رجالة وعلى وش جواز، اخرج من هنا اتجوز وخلف وعيش حياتك، إنت مش كبير أوي وألف ست تتمناك.
رنا إليها بانفاسه اللاهثة من فرط غضبه المكبوت: مش عايز غيرك، إنتِ عندي بكل ستات الدنيا كلها يا فريدة! قلبي رافض ينبض لغيرك! كل حتة جوايا عايزاك إنتِ!

وبرجاء مرهق قال: من فضلك إرحميني من الأثم اللي عايش فيه بسببك!
وتابع في محاولته البائسة: على وعمران بيحبوني وبيحترموني هيتفهموا الموضوع ومحدش هيعارض الجواز ده صدقيني.
انهمرت دمعاتها وهزت رأسها مجبرة لسانها على الحديث ببكاء: إنت ليه مش عايز تفهمني، أنا مش عارفة أثق فيك تاني يا أحمد؟

وإتجهت لأقرب مقعد تجلس عليه حينما انهارت قوتها، فبكت بانكسارٍ جعله يتابعها بصدمة من سماع كلماتها، ليته مات قبل أن تطعنه بكلماتها القاتلة.
تزيد من وجعه مجددًا وقد سئم منه الألم وفاق حد تحمله، أغلق عينيه بقوة يحاول محاربة ما يعتريه بتلك اللحظة من أن لا يندفع تجاهها ويضمها إليه، ولكنه ليس بحاجة لارتكاب هذا الذنب يكفيه أثمه الأعظم بالتفكير بها!

انحنى على الطاولة يجذب علبة المناديل الورقية، ثم اقترب يضعها جوارها، فسحبت منه تجفف دموعها، بينما اتجه للاريكة المقابلة لها، يجلس بهدوء رزين وكأنه لم يحاورها بما يؤلمه منذ قليلٍ، فحرر زر جاكيته بذلته وإتكأ على ساقيه ناظرًا للأسفل وهو يسألها بجمود ارتدى قناعه: أخبار الاولاد أيه؟ هما فين من ساعة ما جيت مشفتش حد منهم؟

وضعت ساقًا فوق الأخرى، واستعادت جلستها تجيبه: عمران في المستشفى وعلى معاه، وشمس فوق في أوضتها.
برق بعينيه بدهشة مما استمع إليه، فقال: في المستشفى ليه، أيه اللي حصل؟ وليه مبلغتنيش!
أجابته وهي تتحاشى التطلع إليه: ألكس حاولت تسمه بعد ما حاول يبعد عنها.
واستكملت وعينيها تشرد بالفراغ: هو كويس دلوقتي الحمدلله.
استقام بوقفته يغلق زر جاكيته متلهفًا: في مستشفى أيه أنا هروحله.
عمي!

صوتًا غامضًا اقتحم مجلسهما، فاتجهت نظرات أحمد إليه، مرددًا ببسمته الجذابة وهو يفتح ذراعيه إليه: على حبيبي وحشني أوي.
مال على برأسه على كتفه يحجر نظراته الساهمة، وحينما أخرجه أحمد من احضانه منحه ابتسامة رسمها بالكد وهو يجاهد ما يعتريه الآن، فأجلى صوته بصعوبةٍ: وإنت كمان وحشتني أوي، بتمنى السفرية المرادي تكون طويلة لإن الوقت اللي بنقضيه مع حضرتك ميتشبعش منه.

ربت على كتفه بحنان وهو يخبره: اطمن عندي شغل هنا مش هيخلص الا بعد كام شهر، لإني هفتتح فرع لشركتي مع مؤسسة كبيرة هنا.
كانت نظرات على مبهمة تجوب والدته تارة وعمه تارة أخرى، لدرجة جعلته بتساءل بقلقٍ من صمته الغريب: على إنت كويس؟
ضم مقدمة أنفه وهو يخرج زفيره: أنا بس منمتش كويس، هطلع أخد شاور وهرجع لعمران الدكتورة كتبتله على خروج بليل.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال: اطلع خد شاور وفوق وأنا هرجع الاوتيل هغير وهحصلك.

اعتلاه الضيق وفاض به: المرادي مش هسمحلك تنزل بأوتيل يا عمي، وسبق ونبهت على حضرتك أكتر من مرة ومعرفش سبب اصرار حضرتك إنك تفضل باوتيل وبيتك موجود.
اتجهت عينيه لفريدة التي انقشعت معالمها غاضبًا، فخشى أن تعود للشجار بينها وبين على كالمعتاد حينما يصر بجلوسه هنا، فقال برزانةٍ: معلش يا على سبني براحتي، أنا برتاح في الاوتيل.

تلك المرة كان مصر اصرارًا غريبًا، فقال وهو يدنو من الدرج: مش هيحصل، هطلع حالًا أغير وأجي مع حضرتك تجيب الشنط قبل ما نروح المستشفى.
وتركه بتطلع لأثره وصعد للأعلى، فدمت فريدة شفتيها بغيظٍ مما يحدث لها، ولكنها لم تكن تحمل طاقة الشجار والحديث يكفيها كل تمر به بداية من يومها العصيب.

وجدها أحمد صامتة مستكينة على غير عادتها، فدنى يجلس جوارها وهو يهمس بصوته المنخفض: متقلقيش هقنعه واحنا في الطريق ومش هخليه يعمل كده.
رفعت عينيها إليه بارتباكٍ إلتمسه برفرفة جفونها، فجاهدت لخروج كلماتها الثقيلة: ل، لأ. تعالى اقعد هنا، آآآ، أنا محتاجة لوجودك الفترة دي.
وسرعان ما بررت حديثها وهي تنهض من جواره: عمران مشاكله كترت وأنا وعلى مبقناش قدرين نحل معاه، هو بيحترمك وأكيد هيسمع منك.

نهض ليقف على محاذاتها، مرددًا بفرحة وكلمات تنبع من صمام قلبه: أنا جنبك ومستحيل أتخلى عنك لأخر نفس خارج مني، وقولتلك قبل كده يوم ما تحتاجيني هتخلى عن دنيتي كلها عشانك يا فريدة.
ابتلعت ريقها بتوتر، جعلها تتهرب من أمامه مرددة بتلعثمٍ وهي تتجه للمصعد: عن إذنك. هطلع أشوف شمس.

ابتسم وهو يراقب دلوفها للمصعد، فمنحها نظرة أخيرة قبل أن ينغلق الباب بينهما، فصعدت عينيه عليه وهو يصعد بها للطابق الثالث، فابتسم هامسًا: اهربي على قد ما تقدري أنا مش بمل ونفسي أطول مما تتخيلي!
ألقى بجسده أسفل الدوش مستخدمًا المياه الباردة عوضًا عن الساخنة بمثل هذا الطقس، عل تلك البرودة تشل عصبة تفكيره.

فتح على عينيه على مصرعيها وهو ينهج بصعوبة أسفل المياه، ليردد بصدمة مازالت تستحوذ عليه: معقول عمي وماما!

أغلق عينيه بقوة تحرر تلك الدمعة التي أججت حدقتيه، يتذكر كيف جلدته سماع حديثهما دون قصدًا منه، بعدما استأذن بالانصراف من المشفى ليبدل ملابسه ويخبر مايسان بأن تحمل ملابس نظيفة لعمران بعد أن أكدت الدكتورة ليلى خروجه، فما أن ولج الداخل حتى سمع صراخ والدته القادم من غرفة الصالون، وكلما خطى لمعرفة ما أصابها كانت تتوقف قدميه غير قادرًا على استكمال طريقه صدمة مما يستمع إليه، وخاصة حينما فاض عمه بما كبت داخله.

كان يشك بأن هناك شيئًا يخفيه عمه وراء نظرات حنانه له ولوالدته، وظل سبب عذوبيته لتلك السنوات السر الأعظم بين طوائف العائلة، والجميع يجزم بأن هناك سيدة تحتل قلب عمه الغالي، وها هو الآن يعلم عن تلك السيدة ما يجعله يئن وجعًا!

لم يرفض قط أن ترتبط والدته مجددًا خاصة بأن أبيه توفى وتركها صغيرة للغاية تحتمل مسؤولية ثلاث أطفال بمفردها، تذكر كيف تقدم لخطبتها أبناء عم أبيه حتى أخوه الشقيق القابع هنا بانجلترا ولكنها رفضت الجميع، وبالرغم من انزعاجه صغيرًا الا أنه تمنى من كل قلبه أن تقبل عرض زواج عمه أحمد حينما طالبها بذلك.

الوحيد الذي تمناه أبًا له، ولكن مع رفض والدته تيقن بأنها لا تود الارتباط مجددًا، ومع ذلك كلما تقدم أحدٌ لخطبتها كان يحاول اقناعها بذلك معللًا بأن لا تشعر نفسها بذنب مسؤوليتهم فلم يعدوا أطفالًا صغارًا.
خرج على من الحمام متجهًا لخزانته بآلية تامة، فجذب الملابس يرتديها شاردًا فإن كان لا يحتمل لوعة حب فطيمة لعامٍ واحد كيف تحمل عمه كل تلك الأعوام!

بالطبع إنه لعاشق وقد فاق عشقه ما استشهدته قصص العشق بالاساطير، يعلم بأن ثمة وجعًا داخله تجاه أبيه الذي عاش مع امرأة كان قلبها لاخيه ولكن ما فائدة العتاب والافتراضات لقصة انتهت منذ أعوام.
أغلق جاكيته الجلد الأسود، ومشط شعره وهو يردد باصرار: أنا اللي هجمع بينكم من تاني، وعد!

وضعت هاتفها جانبًا بعدما قامت بوضعه صامتًا أمام نظرات والدتها المتفحصة لها، والاخيرة تمرر عينيها ببطءٍ عليها في محاولةٍ لفهم ما يحدث مع ابنتها الصغرى، فعاد الهاتف يضيء من جديد حتى وإن كان صامتًا، فلمحت فريدة اسم المتصل والاخيرة تنهي الاتصال، فقالت بشكٍ: إنتِ اتخانقتي مع راكان؟
هزت رأسها نافية، فعادت فريدة لسؤالها من جديدٍ: طيب ليه مش بتردي على مكالماته؟

ابعدت شمس غطاء الفراش عنها، ثم زحفت حتى وصلت لاخر الفراش تخبرها بتوتر: مامي أنا مش مرتاحة لراكان ولا قادرة أحبه ولا أتقبله في حياتي، حساه مختلف عني ومفيش بينا حاجة مشتركة وآ.
قاطعتها فريدة بصرامةٍ: كل ده قدرتي تحدديه من شهر خطوبة!

ونهضت عن الفراش تصيح بها بعصبية كانت تشتعل داخلها قبل الصعود لها: بلاش دلع وكلام ماسخ، إنتِ مش هتحكمي عليه من 30يوم! أنا فاهمه وواعية أكتر منك ومتأكدة من اختياري، راكان شخص لبق ومناسب جدًا ليكي.
وجذبت هاتفها الموضوع على الكومود تعيد فتحه، ثم قدمتها لها بغضب: دلوقتي حالًا هتكلميه وهتعتذري عن عدم تقديرك لمكالمته ومش عايزة أسمعك بتقولي الكلام العبيط ده تاني، سامعة؟

هزت رأسها وهي تكبت دمعاتها بصعوبة، ففتحت الهاتف تجيب على رسائله تحت نظراتها المراقبة، لتخبرها بعد دقائق من محادثته: عايزني أتغدى معاه بره.
هزت رأسها تخبرها وهي تتجه للخزانة: ردي عليه إنك موافقة، وتعالي أختارلك لبسك اللي هتروحي بيه ما أنا عارفاكي ذوقك بقى في النازل!

تحررت تلك الدمعة عن عينيها وراقبتها وهي تتفحص الملابس بخزانتها بنظرة مقهورة، فنهضت بصعوبة تلتقط ما وضعته والدتها على الفراش ودلفت للمرحاض تبدل ثيابها بجمود اعتادت عليه كلما أمرتها بشيء!
كده أحسن؟

سأله جمال وهو يحاول أن يعدل السرير الطبي لعمران الذي أشار له بخفة، بينما جذب يوسف الطاولة البيضاء يضع الطعام من أمامه قائلًا: يلا اتغدى عشان معاد الأدوية، مش عايزين دكتورة ليلى تتضايق مننا الله يباركلك العملية مش ناقصة.
أضاف جمال بفزع: كله كوم وغضب دكتور على كوم، هيحبسنا في العباسية، كل ياض خلص كل الأكل مش عايزين مشاكل مع دكاترة الوسط.

ابتسم وهو يراقبه يقرب ملعقة شوربة الخضار منه، فمال برأسه جانبًا بتقزز: مبحبش الأكل ده قولتلكم كذه مرة، اقتلوني ومتأكلونيش خصار ني!
دفع يوسف الملعقة بطبق الشوربة حتى وقعت محتوياتها على الصينية واضعًا يديه بمنتصف خصره بنفاذ صبر: وبعدين بقى، ده ناقص ارقصلك عشان تأكل؟!
أبعده جمال للخلف وهو يتحكم بضحكاته بصعوبة: طب وسع كده إنت يا جو وسبني أحاول معاه.

وزع عمران نظراته الساخطة بينهما، مرددًا: تحاول معايا! انتوا ليه محسسني إني عيل صغير خفوا عليا وارجعوا شغلكم أحسن!
جذب يوسف جاكيت بذلته ليضعه على ذراعه وهو يشير بشراسة: تصدق إني غلطان، ده أنا سايب حالة ولادة قيصرية وجاي أبص عليك يا حقير.
ضحك بصوته الرجولي، ونظراته تحيط بجمال المبتسم متسائلًا: وإنت سايب أيه إنت كمان؟
استند بذراعيه على جسد الاريكة باسترخاء: لا أنا مخلص شغلي وفاضيلك.

انتهى يوسف من ارتداء جاكيته، ودنى من عمران يتساءل بجدية: ساعتين وراجعالك، مش عايز حاجة أجبهالك وأنا جاي؟
هز رأسه ببسمة صغيرة: خيرك سابق يا حبيبي، تسلم.
ربت على ذراعه بحبٍ وكاد بالمغادرة حينما وجد زوجته تدلف للداخل بردائها الطبي، وحجابها الأبيض الذي زاد من جمال بشرتها النقية، فتراجع للخلف وهو يغمز بمكر: أنا بقول أقعد معاك النهاردة يا عمران شكلك تعبان ومحتاج لوجودي جنبك.

قهقه ضاحكًا وهو يتابع بسمة ليلى التي اتجهت لتفحص عمران متجاهلة إياه، ووجهت حديثها لعمران: خلي صاحبك يروح يشوف شغله يا بشمهندس احنا موجودين ومش محتاجين لخدمات دكتور النسا والتوليد!
ردد جمال مازحًا: يا رب تتحرج وتمشي شكلك مبقاش له ملامح!
ذم شفتيه ويده تمر على لحيته الكثيفة موجهًا حديثه لجمال بينما عينه تقصدها: ماشي يا جيمس مصيرك تقع في إيدي ويجمعنا بيت واحد بعد الدوام.

ردد عمران بحزمٍ ضاحك: بره يا متحرش بدل ما أطلبك الآمن.
تعالت ضحكاتهم جميعًا، فأشار لهم يوسف وغادر على الفور، وما أن تأكد عمران من مغادرته حتى تطلع لها قائلًا بثباتٍ: صارحيني يا ليلى أنا متقبل كل شيء متقلقيش.
ارتبكت أمامه وكذلك فعل جمال، فتابع ببسمته الهادئة وعينيه لا تفارق ذراعه الأيسر: أنا مش حاسس بايدي ورجلي من امبارح ومازلتي بتقنعيني إن ده بسبب تأثير المخدر، وأنا بحاول أصدقكم كلكم بس آ.

قاطعته ليلى حينما قالت: مسألة وقت يا عمران لحد ما السم ينطرد من جسمك بشكل نهائي، يعني ممكن بعد مداومة الجلسات ايدك ورجلك الشمال تتحرك بعد اسبوعين وممكن أقل إن شاء الله، فمتقلقش.
هز رأسه بتقبل، وهو يخبرها ببسمة صغيرة: شكرًا ليكِ يا دكتورة، تعبتك معايا.
أجابته بحزن: تعب أيه بس، ده انت زي أخويا، كفايا معزتك عند دكتور يوسف إنت وجمال.

رد عليه وقد استكان بعينيه على جمال الذي يضع الوسادة من خلفه: ربنا يديم الود بينا.
وقفت سيارة على أمام المنزل، فهبط لصندوق السيارة يجذب الحقائب بعدما عاد برفقة أحمد مجددًا للمنزل، هبط أحمد خلفه يعاونه بحمل الحقائب فاعترض على باحترامٍ: أنا هطلعهم لوحدي يا عمي، اتفضل حضرتك بالعربية وأنا دقايق وراجعلك.
منحه ابتسامة لطيفة واتجه للسيارة مثلما طلب منه، لينطلق على به للمشفى.

شعر أحمد بأن هناك أمرًا ما به، صمته كان غير طبيعيًا بالمرة، فاستدار بجسده تجاهه ثم قال بريبة: مالك يا علي؟ من ساعة ما ركبنا العربية وإنت ساكت طول الوقت، طمني إنت كويس؟
منحه بسمة صغيرة، ليكبت داخله هذا الوجع الغير مبرر، فقال وعينيه مصوبة على الطريق: أنا بخير والله، بس اللي حصل لعمران ملخبط دنيتي شوية.
هز رأسه بتفهمٍ، وابتسم وهو يسأله باهتمامٍ: طيب وفاطيما أخبارها أيه؟

ذكره لاسمها استرده شوقه الهائم بها، لم يراها منذ الأمس وها هو الآن يمتنع عن الذهاب للمشفى لحاجة أخيه إليه، خرج من شروده وهو يخبر صديقه الجيد بسماع مشاعره دون كللًا أو ملل: صارحتها بحبي وعرضت عليها الجواز.
زوى حاجبيه بدهشةٍ: مش حاسس إنك أخدت الخطوة دي بدري شوية؟!

تفادى الطريق لينحدر للجانب الأخر، فتوقف عن القيادة محررًا حزام الآمان من حوله: حسيت إني مقيد يا عمي، محتاج أكون موجود جنبها أكتر من كده، أنا عايزها جنبي. عايز أعوضها عن كل اللي شافته ومش قادر غير لما تكون مراتي.
ابتسم وهو يراقب العشق يظلل بجناحيه على ابن أخيه، فتغاضى عن تلك النقطة بنقطة أخرى: طب وردها كان أيه؟
التفت إليه بحزن جعله يقود سيارته مرة أخرى مرددًا بنزقٍ: عايزة تغير الدكتور.

تمعن أحمد به قليلًا ثم انفجر ضاحكًا بشكلٍ جعل الاخير يضحك، ليشاكسه من بين ضحكاته: الحب عذاب ولوعة وحيرة يا أبو حميد.
اسند رأسه للنافذة ليثيره ساخرًا: وأيه كمان يا عبد الحليم يا حافظ!
لعق شفتيه يخبره بمكرٍ: مش ناوي تقولي بقى مين الصاروخ الجوي اللي مكلبشك طول السنين دي كلها ومخلية الصحافة مالهاش سيرة غير أحمد غانم الاربعيني الأعزب!
احتدت نظراته إليه، ليردد بصرامةٍ: ولد!

ضحك وهو يشير له بإبهامه، فصاح الاخير: نسيت اني عمك وليا احترامي ولا أيه! شكلك كده يا دكتور هتقلب على عمران المشاكس وده مش معتاد منك.
أجابه على الفور مدعي البراءة: بتشبهني بعمران! ظلمتني يا عمي، ده أنا عفيف ومحترم وصاين نفسي لبنت الحلال!
علي كده بقى أنا سلطان العفة والعفاف!
رمش بعينيه بصدمة، فعاد يتطلع إليه وفجأة انفجر كلاهما من الضحك.
بالمشفى.

طرقت الباب وحينما استمعت لصوته يأمرها بالدخول ولجت مايسان للداخل، استقبلها ببسمته الجذابة فارتبكت وهي ترفع الحقيبة إليه: جبتلك الهدوم زي ما طلبت من علي.
ودنت تضعها على الفراش، ثم اشارت بخجل: تحب أساعدك تخش تغير بالحمام ولا أخرج وتغير هنا.
ذم شفتيه بمكرٍ: مش عارف، بس أنا مش قادر أحرك ايدي ورجلي الشمال بحركهم حركة بسيطة.

وصمت بخبث يفكر في حلٍ لتلك المعضلة: خلاص اخرجي ناديلي واحدة من الممرضات تيجي تساعدني.
وأضاف ببسمة واسعة تفنن بجعلها عاطفية: في ممرضة اسمها آشيلي برتاحلها ايدها خفيفة فيفضل تكون هي.
احتدت عينيها بنظرة لو كانت حية لكان في عداد موتاه الآن، فاتجهت للحقيبة تجذب بنطاله والتشرت الصوف للفراش، ثم جذبت الجاكت تعلقه على ظهر المقعد.

أزاحت عنه الغطاء وعاونته على الاستقامة بجلسته ممددًا قدمه خارجه، ورفعت يدها تحاول فك زر قميصه، ارتجفت يدها أمامه وكأنها تحاول ارغام ذاتها على السرقة وإرتكاب المحرمات.
ابتسم عمران وهو يراقبها باستمتاعٍ، احداهن خلعت توب الحياء فكانت تتقرب منه بطريقة مخجلة، والأخرى زوجته حلاله تخشى أمامه وكلما تعلقت عينيه بها يصطبغ وجهها كالحمرة!

وللأمانة يروق له حيائها فيشعر بأنها ثمينة غالية، غير تلك الرخيصة التي جعلته يكره ذاته بعد كل خطيئة جمعتهما.
رفع عمران يده يثبتها على أصابعها المرتجفة وعينيه تعانق خاصتها مردفًا بشفقةٍ على ارتباكها الظاهر: خلينا نستنى على أفضل.
تنفست الصعداء وغادرها تورد بشرتها، فحملت الملابس للمشجب القريب من الباب، وعادت تسأله بحدة وهي تدعي انشغالها بترتيب ملابسه: هتستنى على فعلًا ولا أناديلك آشيلي؟

اعتدل بجلسته بعناءٍ، فمنحها نظرة ماكرة قبل أن يضحك بصخبٍ، فازدادت غضبًا وهي تراقبه يستهزأ بها، فاستغل قربها منه ليجذب يدها، ارتبكت مايسان للغاية، وحاولت سحبها منه فوجدته ينحني طابعًا قبلة رقيقة على أصابعها هامسًا ورماديته لا تحيل عنها: أنا أقسمتلك بكتاب الله يا مايا!
سحبت كف يدها منه بارتباكٍ، فتراجعت للخلف وهي تردد بتوترٍ: آآ، أنا، آ.

استدارت وهي تحاول إيجاد ما ستقوله لتتهرب مما فعله، فراقبها بانتشاء صدح بهمسه الساخر: مفيش داعي أنا مقدر حالتك ووعد مش هعمل شيء يكسفك تاني.
هزت رأسها، فقال باستغراب: طب خلاص بصيلي بقى.
التفتت إليه بخجل فاتسعت بسمته وتمدد يتطلع لها بهدوء جعل قلبها لا يهدأ، فتمنت لو اخبرته أن يكف عن كل شيءٍ يفعله حتى نظراته تلك!

طرق الباب ومن ثم دفعه على ليطل من خلفه أحمد الذي أسرع لعمران المتفاجئ بوجوده وبفرحة يستقبله: عمي!
ضمه أحمد إليه مربتًا بحنان على ظهره: ألف سلامة عليك يا حبيبي.
ومال لأذنيه يهمس بصوت غير مسموع الا له: شوفت أخرة الشمال!
كبت ضحكاته وهو يؤكد له ساخرًا: شوفت واتعلمت درس مش هيتنسى.
ابتسم وهو بنتصب بوقفته موجهًا حديثه لمايسان: إزيك يا بنتي عاملة أيه؟

أجابته ببسمة واسعة: أنا الحمد لله بخير يا عمو، حمدلله على سلامة حضرتك.
اكتفى بإيماءة بسيطة بينما قال على وهو يتفحص ملابسه: إنت لسه مغيرتش!
تلقائيًا تطلع إليها فوجدها تفرك أصابعها خجلًا من سؤاله، فأخبره بمزحٍ: مبتكشفش على حد غير أخويا أنا حر يا جدع.
تعالت ضحكات أحمد، ففتح ذراعه لمايسان وهو يشير لها: طب تعالي نخرج احنا يا مايا ونسيب على يستر أخوه آآ. أقصد يلبسه.

اتبعته مايسان للخارج، فجذب على البنطال والتيشرت إليه، ثم شرع بتبديل ملابسه ببسمة خبيثة: مدخلش عليا حوارك ده، إنت وقح وما بتصدق تستغل الفرص.
رفع ساقه بالبنطال استجابة ليد أخيه وأجابه: محبتش أكسفها، دي شوية كمان وكان هيغمى عليها من الكسوف!
وضحك وهو يستطرد بمزحٍ: عجبني إنها مصرة متخلنيش أنادي مزة من المزز الاجانب وصممت تساعدني وبالنهاية انت اللي لبستها.

رفع ذراعه بحذر والحزن يعتلي معالمه، فحاول الا يبدي له شيئًا حتى انتهى، فجذب الجاكيت يحاوطه به، ثم منحه فرشاة الشعر والمرآة والبرفيو الخاص به.
حاول عمران جذبها بيده اليسري وحينما رفعها بثقل جعله ينهج بصعوبه جذبها بيده الاخرى قائلًا بوجوم: تفتكر كلام دكتورة ليلى صحيح والمسألة فعلًا هتكون كام يوم!

استمد ثباته ليقف قبالته مؤكدًا: عمران بلاش تشغل دماغك بالتفكير باللي حصل، فكر إن ربنا نجاك من الموت وإنك حي، دكتورة ليلى كلامها مظبوط الجرعة اللي اخدتها نسبتها بسيطة وده اللي نجدك.
أراد أن يغير مجرى الحديث، فأشار له وهو يهم بالنهوض: طب إسند خلينا نمشي من هنا.

أمسكه على جيدًا فخطى لجواره للخارج فأسنده أحمد من الجهة الاخرى، بينما فتحت لهم مايسان باب المصعد ومن ثم باب السيارة الخلفي لتستقر جواره بالاخير.
وقفت خارج المطعم بترددٍ، تود أن تهرب لمكانٍ تبقى به بمفردها، لا تعلم ماذا يصيب قلبها؟

كل الذي تعلمه بأنها لا تحبذ التواجد مع هذا السمج، سحبت شمس نفسًا مطولًا قبل أن ترفع طرف فستانها وتصعد الدرجات المتبقية برشاقة تتناسب مع جسدها، فولجت لداخل المطعم تبحث عنه بعينيها، فتفاجئت بالمكان لا يحوي سواه، فعلمت بأنه حجز المطعم بأكمله لغدائهما وبالرغم من انزعاجها الشديد الا أنها استعادت ثباتها، وجدته يجلس على أحد الطاولات الفخمة كعادته يعبث بهاتفه، زفرت بمللٍ واستكملت طريقها إليه، فما أن رآها حتى نهض يجذب لها المقعد مدعيًا لابقته بالتعامل معها.

جلست شمس بهدوء مستندة على يدها وعينيها تجوب المكان من حولها، تبحث عنه وسط أوجه الحراس، تجهمت معالمها حينما لم تجده من بينهم، وكأنها فقدت ضالتها فجأة، ظهوره يهون لها تواجدها جوار ذاك المستبد.
أفاقت على صوته المتساءل للمرة الثانية: شمس إنتي معايا؟
تنحنحت بحرجٍ: معلش سرحت شوية، كنت بتقول أيه؟
قدم لها القائمة ببسمة خببثة: بسألك تحبي تأكلي أيه، بس شكلك مش معايا خالص.

التقطت منه القائمة، وتفحصتها بأعين شاردة لا ترى ما أمامها، ودت لو سألته بشكل واضح أين آدهم؟
فقالت وهي تدعي عدم مبالاتها: هو مفيش حد هنا غيرنا ولا أيه؟
رد عليها ببسمة زرعت القلق إليها: وده أفضل شيء عشان نتكلم براحتنا.
وتابع بنظرة شك أحاطته: من ساعة حفلة إيملي وأنا حاسس إنك متغيرة ومبقتيش تردي على مكالماتي، فهميني في أيه يا شمس؟

جذبت كوب العصير من أمامها ترتشفها بتوترٍ، واندفعت تخبره: أيوه زعلانه منك ومش متقبلة اللي عملته.
أيه اللي عملته؟!
ردت بقوة وجراءة: راكان أنا مبحبش الخنقة اللي إنت مصمم تحطني فيها، ماليش في الحفلات دي ولا في قاعدتهم.
وتابعت ومازالت ترمقه بغضب: زائد إنك لازم تتقبلني زي ما أنا، مش فرض عليا ألبس اللي تحبه وتختاره، أنا مش هطلع من تحكمات فريدة هانم لتحكماتك.

تفاجئ بما قالته وخصوصًا بحديثها عن الحفلات وغيرها مما تعد روتين أساسي بحياته، فلعق شفتيه بمكرٍ وداخله يأجج مقولة أن يستدرجها حتى تصبح زوجته وحينها سيعلمها ما يجب فعله، فتنحنح بخشونة: أنا مكنتش أعرف إنك زعلانه أوي كده بس أوعدك مش هعمل اللي يزعلك تاني.

اكتفت برسم بسمة صغيرة، وابتعدت عن الطاولة بجسدها لتسمح للنادل بوضع الطعام، وشرعت بتناوله لتتهرب من حديثه خاصة بعد أن أغلق هاتفه وتفرغ لها حينما تأكد ان هناك ما يضيق صدرها منه.
وحينما فرغوا من طعامهما، وضع راكان مبلغًا طائلًا من المال واتجه بها للخارج، فخفق قلبها سريعًا فرحة حينما وجدت آدهم يقف بالخارج جوار احد سيارات الحرس، يتبادل الحديث برفقة فؤاد السائق الخاص لراكان.

هبطت خلفه ففتح لها راكان الباب الخلفي ومازالت تقف مقيدة، تنتظر أن يستدير ليمنحها بسمة الهادئة وترحابه المعتاد بينهما، ولكن ما صدمها بأنه صعد جوار فؤاد بالامام غير عابئ بجلوسها برفقة راكان بالخلف.

وجدها تتطلع إليه بالمرآة الامامية فابتسم بخبث وهو يتابع بروده، فاشغل ذاته بتأمل الطريق وحركة سيارات الحرس من أمامهم وخلفهم، وفجأة ضربت السيارة الامامية لصفهم بالنيران فاشتعلت مصدرة انفجار دوى المكان بأكمله وقبل أن يستوعب ما يحدث احاطهما سيارات يملأها الرجال المسلحين من كل مكان، صرخت شمس بفزع بينما صاح راكان وقد هبط عن مقعده لاسفل السيارة: في أيه يا آدهم؟

جذب سلاحه من تابلو السيارة يجيبه وهو يقفز خارجها: أكيد النمساوي حابب يواجب بعد اللي حصل لرجالته.
ورفع سماعته يصيح برجاله: أمنوا عربية الباشا.
وفور انتهائه اجتمع حولهم عدد من الرجال الخاصين بآدهم يردون ضرب النيران بحرافية، بينما أسرع آدهم يفتح الباب الخلفي يعاونها للهبوط مرددًا: متقلقيش يا شمس هانم هنخرجك من هنا حالًا.
تلقائيًا تمسكت بيده وهي تترجاه برعب: أنا مش عايزة أموت من فضلك روحني.

أشار لها برفقٍ وهو يتجه بها لزقاق جانبي، وحينما ضمن إنها تختبئ خلف أحد الأعمدة السكانية عاد يجذب راكان ويتحرك به وسلاحه مسلط على المسلحون، فأوصله لها وعاد لينضم لرجاله، فتابعته شمس بصدمة وخوف عليه، وفجأة شعرت بيد تكمم فمها وتحرر سلاح حاد على رقبتها لتنفلت صرخاتها دون توقف، مما دفع آدهم يركض صوبها صارخًا: شمس!

الساعات تمضي دونك كالأعوام، وعقرب الوقت لا يتوقف عن افتعال ثورته وكأنه يحسب البعد بالمسافات، والهواء أصبح كالثليج وكأنك سحبت خلفك الدفء والأمان، وقلبي يا حبيبي يصرخ طالبًا ضمة عينيك وعاطفة هواك!
جفاها النوم دونه، لم يفعلها يومًا وتخلى عنها، انقبض قلب فطيمة، فلجأت للصلاة كلما احتد بها الألم، فرددت بصوت محتقن وبكائها ينسدل على سجادة صلاتها: يا رب متبعدهوش عني أنا ماليش غيره!

ونهضت تلقي التحيات وسلمت جالسة على سجادة صلاتها تبكي دون توقف، فبرقت بعينيها بصدمة حينما تسلل لها صوته الرجولي العميق: عمري ما أبعد عنك يا فطيمة، مش هيفارقنا غير الموت وهيكون يومي قبل يومك.
بلعت ريقها بصعوبة وهي تستدير للخلف ببطء فوجدته يجلس على المقعد القريب منها، خرج صوتها هامس بخفوتٍ: علي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة