رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السادس والثلاثون
ولج عمران للداخل بعدما مرر مفتاحه بباب المنزل الداخلي، فلفت انتباهه حالتها المذرية، شملها بنظرة خاطفة ودنى إليها يسألها بقلقٍ: أيه اللي مسهرك لحد دلوقتي يا زينب موركيش جامعة الصبح ولا أيه؟
أسرعت إليه تسأله بلهفةٍ التمسها عمران: علي. عايزة علي.
بالرغم من عدم تنساق جملتها وحالتها الغامضة الا أنه أجابها بهدوء: بيوصل واحد صاحبنا وزمانه راجع.
وسألها باهتمامٍ بالغ: في حاجة ولا أيه. قلقتيني!
ارتعشت أصابعها المُمسكة للهاتف حتى كاد بالسقوط عن يدها، فرفعت يدها إليه وهي تردد بتوترٍ وارتباك: رجع، يمان رجع. هيقتلني هو وعدني إني لو هربت هيقتلني!
تحفزت معالمه وانصاع لكلماتها المهاترة، فالتقط عنها الهاتف وهو يشير لها: اهدي بس وفهميني مين يمان ده؟ وهيقتلك ازاي الدنيا سايبه بروح أمه!
أضاءت شاشة هاتفها من أمامه ليتفاجئ من رسالته الاخيرة يتبعها رسالة أخرى وصلت للتو.
«فاكرة انك هتعرفي تهربي مني، انتي لو في أخر الدنيا هجيبك وهعاقبك يا زينب! »
حرر عُمران زر التسجيل وصاح بعنفوانٍ قاطعٍ: عقاب أيه يابن ال لو دكر اظهر وشوف هعمل فيك أيه؟ وإبقى اتعب نفسك وإسأل عن عمران سالم الغرباوي كويس وتأكد إن أبويا مات قبل ما يربيني فلو باقي على روح سبايدرمان اللي جواك دي اظهرلي وأنا أوريك مين فينا اللي في وضع يسمحله بالتهديد يا و.
أبعد الهاتف وهو يراقب وصولها إليه، فتأكد من سماعه لرسالته وانتظر أن يجيبه وحينما لم يجيب عاد عُمران يسجل له تحت نظرات زينب المصعوقة من تحوله المفاجئ لشخصٍ أخافها هي شخصيًا وانطلق يستكمل: أيه يا دكر صوتك راح فين! كويس إنك قلبت دكر بط كبيرك يزغطوك في بوقك، بس عشان أنا راجل وقد كلمتي هبعتلك عنوان بيتي اللي عايشة فيه زينب لو حسيت إن كلمة دكر بط هانتك ومست رجولتك تعالالي نتفاهم.
وقدم لها الهاتف مضيفًا: لو بعتلك حاجة تاني مع إني أشك ناديلي أنا مريح فوق.
التقطت منه الهاتف بفمٍ مفتوحٍ، واكتفت بهزة رأسها بخفة وهي تتابعه يغادر للأعلى مطلقًا صفيرًا متراقصًا بينما يده تلهو بمفاتيحه باستمتاعٍ.
دقائق استغرقتها واقفة جامدة محلها هكذا لتفق على صوت علي القادم من خلفها: زينب بتعملي أيه هنا بالوقت ده؟
انتفضت بوقفتها بفزعٍ وأشارت له بعدم اتزان كلماتها: يمان عرف مكاني وبعت هددني وعمران آ...
ابتلعت باقي كلماتها بحرجٍ دفع على يتساءل بخوف من اندفاع أخيه: عمل أيه عمران!
قدمت له الهاتف ليتمكن من ايجاد الاجابة المناسبة لسؤاله المحرج، قرأ على مضمون رسائله، واستمع لفويسات أخيه ببسمة جعلته يشعر بالانتشاء، فقدم لها الهاتف قائلًا: عُمران مخلاش كلام يتقال من بعده. اطمني يا زينب ومتقلقيش مش هيمس شعرة منك زي ما وعدتك، يالا اطلعي نامي عشان تقومي لجامعتك فايقة.
هزت رأسها باسمة وغادرت للأعلى، بينما ردد على ساخرًا: مربي بلطجي أنا!
تسلل عُمران للداخل على أطراف أصابعه حاملًا بين يده جاكيته وحذائه الفاخر، فتحرر ضوء الغرفة بمكبس ريموت تحمله مايا بيدها قائلة بسخرية: مفيش داعي تتسحب يا حبيبي أنا صاحية.
ألقى ما بيده مزعنًا ثباته المخادع، فتهدلت شفتيه مبتسمة رغمًا عن جمود معالمه، واقترب يردد: حبيب قلب جوزه مش جايله نوم من غيره يا ناس!
زمت شفتيها ساخطة على محاولته الواضحة للضحك على عقلها: متحاولش يا عمران أنا زعلانه منك. النهاردة قولت إنك مش نازل الشركة فخمنت إنك حابب تقضي اليوم معايا ودلوقتي رجعالي وش الصبح!
حاوط وجهها بيده ورماديته تحتضنها رغمًا عن تباعد جسدها عنه، فاستند بجبهته على جبهتها يهمس لها: حقك عليا يا بيبي أنا مقصر معاكِ عارف. النهاردة كان كتب كتاب أيوب على البنت اللي حكتلك عنها وانشغلت معاه وكنت أتمنى أعوضك بكره بس هكون مع جمال بالمستشفى عشان عملية والدته بعدها على طول هكون ملكك لوحدك أي مكان هتشاوري عليه هأخدك ليه وإنتي بين أحضاني، ها مرضي يا حبيب قلب عمران؟
زار ثغرها ابتسامة عذباء وهزت رأسها إليه فضمها بكل قوته مرددًا بنبرة صادقة: كله يهون الا زعلك يا حبيب قلبي!
تعلقت به وهي تميل على عنقه دافنة ذاتها داخله، فاستغل فرصة بقائها داخله ليهاتفها بنبرة الغرام فتفاجئ بها تبتعد عنه وهي تشير إليه بخجل: لأ. أنا من ساعة اللي حصل أخر مرة وأنا مرعوبة. خليك بعيد أفضل.
زوى حاجبيه بدهشةٍ وجذبها إليه مجددًا يخبرها: نعمان غار في داهية وبكره واحنا في الشركة هنوقعله العقود وبعدها هنبه عليه معتش يورينا وشه تاني. وبعدين أنا مش عايزك تبعدي عن حضني بالشكل ده تاني يا مايا. معقول تكوني خايفة وانا معاكِ وانتي بين ايديا!
رفعت ذراعيها لتحتضنه فوجدته يبتعد عن الفراش بضيقٍ من تصرفاتها، واتجه لخزانته يبدل ملابسه بصمتٍ.
نهضت عن الفراش ولحقت به تناديه بدلالٍ: عُمران.
سدد لها نظرة محتقنة من رماديته ونزع عنه قميصه يتجاهل وجودها مما عزز غضبها فجذبته بقوة إليها مرددة بغيظٍ: بناديلك يا بارد!
تغاضى عن كلماتها الأخيرة قاصدًا الانتقام منها، فغمز لها بمكرٍ: غريبة الكلمة دي متقالتليش من أي ست غيرك!
احتقن وجهها بغيرة ظاهرة مما أرضى غروره فانطلقت ضحكاته الرجولية تجلجل على احتقان معالمها لسوء فهمها لجملته وهذا ما راق له.
اندفعت إليه مايا بكل غيظها تضرب صدره بقوةٍ وتسدد له لكمات تحيط بصدره الصلب، انفصلت عنه ضحكاته وتبلدت معالمه مما دفعها للاستغراب، فسحبت يدها وراقبت ملامحه بدهشة.
رفع عمران يديه يحاوط جانب وجهها ومازالت الجدية تنحر ملامح وجهه المنحوت، ليخبرها بثباتٍ شعرت بأنه يجاهد به أمامها: مايا أوعي تمد إيدك عليا تاني لا بهزار ولا جد أنا مش عايز أذيكِ!
رمشت بعينيها بتوترٍ وخوف، فضمها إليه وهو يخبرها بحنان: حبيبتي الهزار لو بدأناه بالضرب والاهانة هيكون ده مفهوم حياتنا الطبيعي، أنا زي ما بحترمك وعمري ما مديت إيدي عليكِ إنتِ كمان لازم تحترميني يا مايا. أوعديني متعملهاش تاني.
هزت رأسها من بين أحضانه وهتفت بخجل من تصرفها الذي ضايقه لحدًا لم تتوقعه: أنا أسفة.
دفنها داخله وهو يهمس لها: وأنا كمان آسف لو كلامي ضايقك يا حبيب قلبي. وأدي رأسك أهي.
وطبع قبلة عميقة على جبينها جعلتها تبتسم إليه بحبٍ، فانحنى يحملها إليه وهو يردد بخبث: حبيب قلب جوزه قلبه قسى عليه وشكله كده لسه زعلان منه!
أشارت له نافية الا أنها عاد بها للداخل يجذبها للاندماج برفقته بدوامة عشقهما التي سحبتهما بخوفها بترحابٍ.
ولج علي لغرفته فوجدها تجلس على الأريكة مندمجة بقراءة أحد الكتب بتركيزٍ تام، وما أن تخلل لها رائحة البرفيوم خاصته حتى أغلقت عينيها تسحب نفسًا بعبقه الخاص هامسة بعشقٍ: علي!
فتحت عينيها فوجدته يستند على الكومود، مربعًا يديه أمام صدره، يتطلع لها بحنينٍ عاشق، راق له شعورها به وتسلل رائحته التي بات يدمنها لأجل تعلقها وحبها الشديد لها، فما أن نطقت إسمه حتى تبسم بجاذبيته الخاطفة، ودنى يستند على المكتب مرددًا بصوته الرخيم: مش قولنا ممنوع السهر يا فاطيما هانم! ولا الكتاب ده عمل اللي مقدرتش أعمله وخلاكي منجذبة ليه كل الوقت ده!
وانتصب بوقفته يسترسل بحزنٍ مصطنع: أنا شكلي كده هغير من الثقافة والكتب وأي شيء يلفت نظرك!
نهضت تلحق به وهي تغلق الكتاب قائلة بصوتها الهادئ: مش هقرأ تاني لو ده هيزعلك يا علي.
التفت لها ومازال محتفظ بأثر ابتسامته: لأ يا حبيبتي اعملي اللي يخليكِ مرتاحة وتأكدي إن ده هيسعدني.
ابتسمت واتجهت لطرف الفراش تنتظره لحين أن ينتهي من حمامه الدافئ، فخرج يجفف خصلات شعره الطويل لرقبته وهو يتفحص انعكاسها بالمرآة، فاتجه ليحتل مكانه قائلًا بنظرة دافئة: عايزة تقوليلي أيه وربكك بالشكل ده!
وكأنها كانت تنتظره أن يشعر بتوترها كالمعتاد منه، فقالت: أنا خايفة يا علي. مش حاسة إني هقدر أنزل مع عمران ومايا بكره الشركة. خايفة يحصل شيء يحطني أنا وعمران في موقف محرج.
وزمت شفتيها بتيهةٍ: انت فهمني!
فرق ذراعيه وضمها إليه يخبرها بحنانٍ رزين: مفيش حد في الكون ده كله فهمك أدي يا فاطيما. بس أنا عايزك تتأكدي ان الخطوة دي مهمة ليكي، لازم تختلطي بالعالم الخارجي يا فاطمة مينفعش عالمك يتوقف عليا أنا بس. اندمجي مع مايسان وعمران وخليكِ متأكدة إنهم أهل ثقة وأكيد عمران هيقدر حالتك وهيأخد احتياطاته.
مالت برأسها على صدره وتعلقت به، اعتدل بمنامته وضمها إليه هامسًا بحبٍ: نامي يا حبيبتي بكره مستنيكِ يوم مهم. ومتقلقيش أنا جنبك ومعاكِ. مش هسيبك أبدًا يا فاطمة!
أغلقت عينيها باسترخاء وسرعان ما غفت بين ذراعيه فطبع قبلة على رأسها وأغلق عينيه هو الأخر باستسلامٍ.
رفعها عنه ووضعها على الوسادة بحذرٍ، ثم جذب التيشرت الخاص به يرتديه، سحب عُمران هاتفه وخرج لشرفة غرفته يحرر زر الاتصال ويرفع سماعته لاذنيه بترقب لسماع صوت المتصل به، فأتاه بعد دقيقة يجيبه بنعاسٍ مرهقٍ: عمران! خير في أيه!
أجابه بسخطٍ وهو يميل للسور الحديدي: أخبارك يا عريس، أمورك تمام؟
اتاه صوته المتعصب: متصل بيا الساعة تلاتة الفجر تقولي أخبارك! عمران انت عايز أيه أنا تعبان ومرهق ولازم أكون عند استاذ ممدوح الساعة 8الصبح!
واسترسل أيوب قبل أن يأتيه رد عمران الوقح: اطمن أنا نايم في أوضة لوحدي ومحصلش حاجة لإني ببساطة عمري ما هعملها ونفسي تصدق ده! الشباب كلهم مصدقيني وانت الوحيد اللي مصمم على اللي في دماغك معرفش ليه؟!
استدار عمران يولي السور ظهره وهو يراقب زوجته الغافلة على فراشها بنظرة عاشقة، فاضت بنبرته الهامسة لأيوب: لآن محدش شايف النظرة اللي بتداريها جوه عيونك غيري، بتحاول تقنع نفسك إنك مبتحبهاش وبتنفر منها بس في شيء جواك بيثور عليك كل مرة وبيقولك إنها مالكة جزء منك إنت متعرفهوش، جواك شيء بينبهك بالعاصفة اللي جايلك تحاربك بكل قوتها وهتبان قدامها ضعفك وفقدان سيطرتك على قلبك ونفسك!
ببساطة فاهمك لإني خضت نفس التجربة قبل كده بس الفرق البسيط إن الانسانه اللي كنت بحارب نفسي عشان مكنش معاها كانت تستاهل وتستاهل أخوض علشانها معارك وحروب، لكن إنت معركتك خسرانه يا أيوب. صدقني يا ابن الشيخ مهران مينفعش!
تعمد تذكيره للمرة المائة والثلاثون بكناية أبيه ليعود عما سيختلق داخله، فهتف أيوب بجدية تامة: مفيش شيء جوايا ليها أكتر من إني بصون وعدي يا عُمران. أرجوك إفهمني أنا عمري ما حبيت قبل كده حتى بنت عمي اللي المفروض في حكم المخطوبين عمري ما رفعت عيني وبصتلها مجرد بصة هتخليني مخنوق وأنا شايل الذنب ده بين ضلوعي، مستني اللحظة اللي تكون فيها حلالي بس كُلي ثقة إنها الانسانة المناسبة تكونلي زوجة تحافظ على عرضي وشرفي وأولادي فحتى لو قلبي مال لآديرا في يوم من الايام فمش دي الإنسانه اللي أمنها على حتة مني يا عمران فتأكد إني كأيوب هكون غيرك في حربك لإني مش هطلع منها خسران أنا بقدر أسيطر على نفسي ومشاعري كويس. إتربيت كده وعيشت كده وهموت كده!
ابتسامة مريحة شقت على شفتيه، فتنهد براحة غمرته وقال: ريحتني. روح نام عشان تكون فايقلي بكره أصل بصراحة مش هعديلك اللي عملته على خير، عشان تبقى تشيلها بعد كده بضمير يا عريس الغفلة!
وتابع بسخرية: متنساش قبل ما تتخمد تعقم نفسك كويس وبالذات ايدك ورقبتك اللي كانت لفة دراعاتها حوليها، وحسابنا يجمع بكره يا ابن الشيخ مهران!
وأغلق بهاتفه دون أن يودعه ومن ثم ولج لغرفته متوعدًا للأخر لحين رؤيته بالغد!
غردت الشمس بفستانها الذهبي تستقبل يومها الجديد بمحبةٍ ودفءٍ، اجتمعت العائلة صباحًا على مائدة الافطار، فاستغلت فريدة اجتماعهم وقالت: ابتدوا لموا الحاجات المهمة اللي هتحتاجوها لإننا هننقل بكره.
ردت عليها مايا وهي تلهو بشوكتها بطبقها: أنا جهزت هدومي امبارح بالشنط لما حضرتك قولتيلي باقي حاجات عمران وده مش عارفة هننقلها ازاي محتاجين تريلا!
توقف عن مضغ طعامه وصاح متعصبًا: محدش يقرب من لبسي وساعاتي وجزمي أنا دافع فيهم نص ثروتي. عزلوا انتوا على بركة الله وسبيوني هنا مع خزنتي أنا عنيت لحد ما صممتها بالنظام اللي يريحني ويريح تنسيق لبسي!
ضحك أحمد حتى ظهرت غمازات وجهه وصاح بتهكم ساخر: وماله يا بشمهندس البيت هناك واسع ويكفي كل اللي يخصك ولو زعلان أوي على تصميم الخزنة بتاعتك تقدر تختار الجناح اللي يناسبك وصمم لنفسك مكان لهدومك زي ما تحب محدش هيمانع!
زم شفتيه بسخطٍ: هو أنا فاضي يا عمي! أنا ورايا مشروع ضخم داخل فيه أنا وجمال هيحتاج كل وقتي وطاقتي كلها.
ابتسم بحبورٍ ومحبة عظيمة: المول التجاري اللي بقى حديث كل شركات المعمار. حقيقي أنا فخور بيك يا عمران ومتحمس أشوفه بشكله النهائي.
منحه ايتسامة ممتنة لدعمه المتواصل إليه، بالرغم من أن نعمان الغرباوي من العائلة الا أنه يواجه نجاحه بكل حقد يمتلكه بينما بالمقابل يأتي عمه الحنون ويدعمه قلبًا وقالبًا.
قاطعتهما فريدة غاضبة بنبرتها المتعصبة: يعني أيه يا عمران! هنفضل في البيت ده علشان حضرتك خايف على لبسك وجزمك وساعاتك الغالية لتتبهدل!
وأزاحت منديلها الورقي عن تنورتها وهي تصيح بضيقٍ شديد: أنا مش طايقة أقعد في البيت ده استحملت طول الفترة اللي فاتت لحد ما نلاقي البيت المناسب وخلاص أحمد لاقاه وفاضل اننا نمشي من هنا وللأسف مش هقدر أطلع من هنا لوحدي لازم كلكم تكونوا معايا!
نهض على مسرعًا إليها يقبل يدها بحنانٍ: اهدي يا حبيبتي عمران ما يقصدش حاجة احنا معاكي مكان ما تكوني، ومعندناش مشكلة نعيش في بيت تاني. ولو على حاجة عمران الغالية يقدر يأخد شوية هدوم ليه بشنطة صغيرة ويسيب باقي حاجته هنا لحد ما يفضى ويعمل غرفة مجهزة لحاجته زي اللي هنا ويبقى وقتها ينقل حاجته. الموضوع بسيط ومحلول مش كده ولا أيه يا عم الوقح؟
ترك الخبز عن يده وأسرع تجاهها بضيق من ذاته لما قاله، وردد بنبرة رخيمة هادئة: مقصدتش والله يا فريدة هانم. لو عايزانا ننقل حالًا معنديش مانع مدام ده هيريح حضرتك.
لانت معالمها ورفع يديه تحيط باليمني خد عمران وباليسري خد على مرددة بصوتٍ محتقن بالدموع: ربنا ما يحرمني منكم أبدًا.
وضمت كتفيهم بعناق ثلاثي جعل الفتيات يبتسمن بحبٍ، فاندفع احمد إليهم يبعدهما للخلف ويضم فريدة بتملكٍ مضحك، هاتفًا بمرحٍ: ايدك يالا منك ليه. مش كفايا السنين اللي اتعذبتها وهي في حضن غيري جايين تكملوا على اللي فاضل جوايا من صبر!
تعالت ضحكاتهما الرجولية، وخاصة حينما ردد عمران بنزقٍ: شوف الراجل اللي دبرنا خطط وعملنا اجتماعات عشان نجوزهاله!
وتابع بغمزة ماكرة: ماشي الله يسهلو يا عم.
وأشار لفاطمة ومايا: يلا نتحرك احنا علشان منتأخرش.
ابتعدت فريدة عن أحمد متسائلة باستغراب: واخد فاطمة على فين يا عمران؟
ضمت مايا فاطمة لها وأجابتها: هتنزل معانا الشغل من النهاردة يا فريدة هانم.
ابتسمت بفرحة لتأكدها بأن ما يفعله ابنها الصغير سيأتي بثماره لحالة فاطمة، ان تولت هي العمل بشركات زوجها بعد وفاته واكتسبت تلك القوة والرزانة من المؤكد بأنها ستحمل نفس الصفات التي هي بحاجة لها، أجلت حنجرتها قائلة بتمني: ربنا يوفقك يا حبيبتي، روحوا انتوا وأنا هأخد زينب وشمس ونلم الحاجات المهمة عشان بكره الصبح هنتحرك على طول.
وعلى ذكر ابنتها التفتت من حولها تتساءل باستغراب؛
هي فين شمس؟
اجابتها وهي تهبط للاسفل بابتسامة شاحبة: أنا هنا يا مامي، صباح الخير.
اجابوها بودٍ فاتجهت لمقعدها وجذبت طبق الطعام تتناوله بآليةٍ، جذب على المقعد المجاور لها ومنحها نظرة متفحصة قبل أن يردد بخبث: بمناسبة اللمة الحلوة دي في خبر يخص شمس ولازم تعرفوه.
انتبهت له شمس باهتمامٍ حتى الجميع، فكانت زينب أول من تسائلت باهتمام: خبر أيه؟ انتي امتحنتي يا شمس والنتيجة ظهرت ولا أيه؟
نفت ذلك قائلة: أنا لسه مش امتحنت أصلًا.
ارتشف على من كوب قهوته بهدوء جعل عمران يردد بضيق وهو يتفحص ساعة يده: ما تنجز يا دكتور مش فاضيلك!
ترك الكوب وتطلع تجاه عمه ووالدته وقال: آدهم نازل مصر الاسبوع اللي جاي وطلب مني آنه يكتب الكتاب بعد بكره ويأخد شمس معاه تتعرف على والده وعيلته، وعايز الفرح بعد امتحانات شمس على طول يعني بعد شهرين. أنا قولتله هبلغ فريدة هانم وهرد عليك.
تلون وجهها بالأحمر القاني، واخفضت عينيها أرضًا تخفي توترها الشديد، وتابعت رد والدتها وعمها، فكان أحمد أول من قال: والله الولد ده راجل وبصراحه ابن اصول متربي على قيم مبقتش موجودة في شباب اليومين دول، أنا عن نفسي معنديش مانع طالما شمس بتحبه وهو بيحبها هنعوز أيه أكتر من كده؟!
واستدار لزوجته يتساءل بلطفٍ: ولا أيه رأيك يا فريدة؟
سحبت نفسًا مطولًا تمنع به دموعها، ابنتها الوحيدة ستغادرها بعد فترة زمنية محددة وبدايتها الزواج، ولكنها ستكون مع من أحبت وهي تعلم جيدًا فراق علاقة كانت تنعم بالحب بينهما، لذا قالت ببسمةٍ صغيرة: لو ده هيخليها تكون سعيدة فأوكي معنديش مانع.
اتسعت ابتسامة شمس بفرحةٍ، على الرغم من حزنها الشديد منه ولكنه فجأها حينما طلب من عائلته أن تسافر برفقته للقاهرة، كانت حزينة لإنها بعيدة عنه وهو بنفس الدولة وما يزيد حزنها سفره لدولة أخرى فإن كان يصعب عليها رؤيته هنا فكيف ستتمكن من رؤيته وهو بعيدًا عنها.
اتجهت إليها فاطمة تضمها قائلة ببسمة جذابة: مبروك يا شمس. ألف مبروك يا حبيبتي.
ضمتها بكل ود لصدرها وردت عليها: الله يبارك فيكي يا فاطيما تسلميلي يا جميلة.
لفت مايا ذراعها حول كتفيها قائلة بمشاكسة: مبروك يا شموسة. كان نفسك تنزلي مصر أهو حضرة الظابط هيخطفك مننا وهيحقق أمنيتك.
اخفت وجهها بكتفيها بخجل وهمست لها: ميرسي يا مايا.
ابتسمت لها زينب وقالت بفرحة صادقة: مبروك يا شمس ربنا يهنيكِ يا حبيبتي.
ابتعدت عن مايا وأحاطتها بسعادة: الله يبارك فيكي يا زوزو عقبالك يارب.
ابتسم عمران وقال بمكر: عريسها موجود ومتقدم ومنتظر الرد.
اسبلت فاطمة بعينيه مندهشة: مين ده يا عمران؟
رد عليها وهو يتابع زينب المنكمشة بخجل: دكتور سيف أخو دكتور يوسف صاحبي، معاها في نفس الجامعة وفي اخر سنة وبصراحة ولد راجل ويوسف مربيه تلاتين مرة وأنا كعمران صعب أرفضه بس نقول أيه لدكتور على الديمُقراطي قالك الرأي رأيها وأدينا مستنين!
رددت فريدة بلباقة: سيف شاب محترم جدًا بس ده ميمنعش إن زينب بنوتة زي العسل ومكسب ليه مش العكس يا حامي اصدقائك ونافش ريشهم جنب ريشك!
تعالت الضحكات فيما بينهم، فأشار عمران للفتيات: نكمل كلامنا بعدين يا فريدة هانم المهم ننجز علشان مش فاضي ورايا كذه حاجة لازم أخلصها قبل ما أروح لجمال المستشفى والدته هتعمل الجراحة النهاردة.
قالت بتمنى: ربنا يقومها بالسلامة، هبقى أروح معاك زيارة ليها بعد ما ترجع البيت.
هز رأسه بتفهمٍ والابتسامة الممتنة تجوب على وجهه، فانطلق برفقة مايا وفاطمة لسيارته قاصدًا شركته.
تركت فريدة ابنتها برفقة زينب يجمعون الأغراض الهامة بجناحها واتجهت لغرفة علي، وجدته يضع شهاداته التقديرية ودروعًا حصد عليها بمراحله التعليمية بكرتونٍ متين، واستكمل وضع كتبه وأغراضه الشخصية حتى ملابس فاطمة وما يخصها، وما أن شعر بأنفاسٍ على قرب منه حتى استقام بقامته واستدار للخلف فوجدها تقف أمامه مرتبكة للغاية، أشار لها ببسمته الجذابة: فريدة هانم. اتفضلي.
منحته ابتسامة خافتة وولجت تغلق باب غرفته من خلفها، متجهة لطرف الفراش القريب من مكتبته حيث يحزم كتبه وأغراضه.
عادت تفرك أصابعها بتوترٍ تسلل لنبرتها المهتزة: عايزة نبدأ من النهاردة ينفع؟
جذب المقعد الخشبي ووضعه قبالتها بحماسٍ: طبعًا، اتكلمي باللي حابه تقوليه.
استندت على عمود الفراش الخارجي وربعت يدها أمام صدرها تحيل بها ذكريات الطفولة، وبدأت بتحرر صوتها الرقيق: من لما كنت طفلة وأنا مكنتش لوحدي، كان حوليا أخويا وأختي الله يرحمها بس مكنش ده اللي مخليني محسش بالوحدة، السر كان في وجود أحمد جنبي، كنت بحس إنه بيكملني، كأننا روح واحدة في جسمين. مفيش حلم حلمته مكنش هو فيه، حتى حلم شكلي بفستان الفرح زي أي بنت كنت بتمناه بس وجنبي أحمد.
اتسعت ابتسامتها وهي تستطرد: أحمد مكنش بس ابن عمي وحبيبي. كان صديقي اللي محرم عليا يكونلي صديق. كان أبويا اللي بيخاف عليا وقت ما برجع متأخر أو بلبس لبس عريان، أمي الحنينه اللي بتنصحني أحافظ على نفسي ازاي وأهون على نفسي وقت زعلي حتى وقت مرضي. كان أختي اللي قادرة تفهم وتصون أسراري بدون ما تتعصب عليا وتقولي هبلغ ماما باللي عملتيه. كان حبيبي اللي بيوعدني إنه هيكون جنبي لأخر العمر وفجأة قطع وعده وسبني وحيدة.
مجرد تذكر ما خاضته جعل عينيها تدمعان مستكملة: حسيت إني كنت في دفا وفجأة بقيت بين التلج وجسمي بيتجمد وعاجز يحس بأي شيء. احساس آنه اتخلى عني وبإرادته كان أبشع من كابوس قومت منه، كل اللي اتبقالي من حبيبي ساعة وبرفيوم خاص بيه وقت ما بشتقاله بضمهم ليا وبعدها بكره ضعفي اللي خلاني ألجئ ليهم وبحس إني أقذر ست. ست خاينة بتخون جوزها وبتحن للماضي اللي كان حقها في يوم من الأيام، عشت في معاناة كل ما بفتكرها قلبي بيتلف حوليه شوك.
وتمعنت برمادية عينيه اللامعة بدمع رافض سقوطه وقالت بابتسامة: لحد ما جيت انت يا علي، كأنك كنت بتهون عليا كل اللي أنا عايشاه لوحدي. من أول ما شيلتك بين ايديا وأنا واثقة إنك هتكون ليا العوض عن كل ده، اتمنيت اسميك أحمد بس خوفت سالم يحس باللي كان بيني وبينه، خوفت أكرهك بسببه لإني مكنتش لسه أعرف الحقيقة.
وشردت بالفراغ وقد احتل وجهها كتلة من الجمود: طول عمري عايشة دور الست القوية اللي قادرة تتغلب على كل ظرف تتعرضله لحد ما اكتشفت اني كنت ضعيفة وساذجة لدرجة إن الانسان اللي عشت عمري كله في تأنيب ضمير علشانه طلع هو الأمهر في التمثيل، كان الشيطان اللي كان بيوسوس ليا إني بخونه لمجرد تفكيري في اللي فات. وجعني وداس على قلبي وكأنه كان بيملك الحق على حياتي ونفسي!
وتعمقت بالتطلع إليه وهي تردد بنفور: أنا بكرهه ومش مسامحاه يا علي، كان نفسي يكون عايش ويشوفني مع أحمد. كان نفسي يتأكد إنه منجحش يبعدنا عن بعض حتى لما كنت معاه كان قلبي مع أخوه. لما كنت بديله حقوقه الشرعية كنت بتكوي بالنار وأوقات كنت بوهم نفسي إني مش معاه مع أحمد!
أزاحت تلك الدمعة المتمردة على خدها وقالت وهي تتجه هاربة منه: هروح أشوف زينب وشمس خلصوا ولا لسه. ونكمل بعدين.
نهض خلفها يناديها: ماما!
توقفت عن الخطى وبقيت جامدة محلها دون الاستدارة له، فدنى قائلًا: مكنتيش خاينة كنتِ إنسانة عظيمة قدرت تضحي طول السنين دي كلها علشان أولادها. إنسانة بالرغم من عشقها الكبير لشخص اتمنتت تعيش معاه الا أنها حاربت وصمدت وافترقت عنه علشان تكون مع أولادها، صدقيني اللي فات ده مهما كان صعب ومؤلم بس قواكي وقوى علاقتك بينا لدرجة خلتنا مؤهلين لجوازك من عمي وإنكم بعد كل العوائق دي اتجمعتوا.
استدارت إليه باكية وهرولت لأحضانه كالطفلة الصغيرة التي تتخفى داخل حضن أبيها، طوفها على ودموعه تهوى على خديه، يعلم بأنها مازالت تكبت الكثير بداخلها ولكن كونها قالت تلك الكلمات القليلة سيأتي البقية بعدها وستخبره بكل شيء.
ربت بحنان على ظهرها حتى ابتعدت عنه تمنحه ابتسامة صغيرة، وتركته وغادرت لجناحها تنفرد بذاتها قليلًا وتستجمع قوتها لتواجهه بباقي ما بداخلها ولكن أولًا ستعاون الفتيات لترحل من هذا المكان الذي يضيق عليها كلما استعابت ما فعله زوجها بها.
اتبعتهما فاطمة للداخل، فأشارت لها مايا للمكتب الذي يقابلها متسائلة بحماسٍ: ها أيه رأيك بقى؟
سلطت نظراتها على المكتب الفخم المقابل لها، لونه الأبيض زاد من راحتها، كان يحوي على حاسوب ولجواره هاتف أرضي، اتجهت للمقعد تحتله بابتسامة صغيرة، وأخذت تتفقد سلة الأقلام بانبهارٍ.
أحاط عمران كتف مايا التي تراقبها بفرحةٍ، وضمها لاحضانه مستغلًا انشغال فاطمة بتأمل مكتبها، وهمس لها: خلي بالك منها يا مايا وأكدي على حسام محدش يدخل المكتب هنا ولا يزعجها بأي شكل من الأشكال لحد ما على الأقل تأخد على المكان.
هزت رأسها بتفهمٍ وهمست له: متقلقش يا حبيبي هبلغه وهشدد عليه. وأنا كمان هكون معاها ومش هسيبها.
طبع قبلة على جبينها وهو يردد بحبٍ: حبيب قلب حبيبك إنتِ!
وابتعد عنها يتحنح بخشونة ليلفت انتباه فاطمة: أنا هنا في مكتبي يا فاطمة لو عوزتي أي حاجة مايا موجودة وأنا هنا جنبكم لو احتاجتي حاجة متتردديش.
رددت بابتسامة مشرقة: حاضر.
غادر عمران لمكتبه فوجد المحامي ونعمان بانتظاره، منح نعمان نظرة منفرة واتجه يحتل مكتبه بكبرياءٍ، ليجد الأخر يقابله بغلظة: ما بدري يا ابن فريدة مش عارف إن في معاد بينا ولا بتستهبل!
وضع قدمًا فوق الأخرى بتعالي وعدم مبالاة بحديثه، ووجه حديثه للمحامي متجاهلًا وجوده: جهزت الأوراق كلها يا مسعد؟
أكد له باحترامٍ: أيوه يا باشا.
تابع وهو يجذب حاسوبه يراقب مقابلاته لليوم: حطيت فيه الشرط اللي قولتلك عليه؟
أكد له مجددًا: أيوه. وتقدر حضرتك تتأكد بنفسك.
حمل عنه الملف يراقب ذاك البند المشروط بالعقد بينما يتابعهما نعمان بدهشة لحقت سؤاله: شرط أيه ده؟!
رفع رماديته المحتقنة يقابله بها وصاح بحزمٍ: بند من بنود العقد اللي هتوقع عليه بيقيدك عن بيع الشركة لأي شخص غريب، في حالة إنك عايز تبيع الشركة مسموحلك بشرط يكون الشخص ده من جوه عيلة الغرباوي.
وتابع بقوة صارمة: مهو أنا مش بعد كل التعب ده أقدملك الشركة على طبق من دهب وتأخدها إنت وتديها للي لفة عليك زي الحية علشان توصل لهدفها.
انتفض بوقفته يصرخ بعصبية وجنون لمجرد تخيله بأنه انكشف أمره أمامه: تقصد أيه بكلامك القذر ده يا ابن فريدة!
بقى محله على مقعده يراقبه ببرودٍ: يا خال متخلنيش أشك في ذكائك! أنا من على الكرسي ده قادر أعرف كل كبيرة وصغيرة عن بلاويك السودة، بس اللي عايزك تعرفه إنك مش أول واحد هيلينا ترسم عليه دور الحب أبو أجنحه وردية، سبق وعملتها على تلات رجال أعمال معروفين وأخدت اللي وراهم واللي قدامهم وإنت ما شاء الله مبقاش وراك اللي يتأخد منك غير الحنجرة والخيلة الكدابة اللي واهم نفسك بيهم.
صرخ بانفعالٍ يخفي به تدهور موقفه أمام المحامي الذي يشهد اهانته بوضوح الشمس: اخرس قطع لسانك عيل قليل الرباية.
اتسعت ابتسامة عمران وحذره بمكر: أبويا الله يرحمه بقى مات وسبني أمانه في رقبتك وإنت اللي معرفتش تربيني يا خال كنت مشغول مع الراقصات.
واستطرد بغمزة وقحة: لو فاكر إن هيلينا هترجعلك شقاوة زمان تبقى غلطان دي هتأخدك لحم وترميك عضم يا خال ووقتها متجيش هنا تعيط زي النسوان لإن وقتها هتشوف وش تالت لعمران الغرباوي مصدفش ليك إنك اتقابلت فيه.
جذب العقد من يده ووقع عليه، ثم دفعه تجاهه يشير له: موافق على شرطك إمضي وخليني أغور من وشك.
سحب القلم يوقع وهو يهتف ساخرًا: وأنا اللي واقع في دباديبك أوي، إنت تلزق أي مكان تكون فيه يا خال، فلتصحبك السلامة في أي مكان تغور ليه!
وحمل العقد لمايا وقعته وعاد به يلقيه إليه مشيرًا لباب مكتبه: مش عايز أشوفك ولو صدفة. لما يتقرص ودنك وتخسر وقتها افتكر اني حذرتك ونبهتك.
منحه نظرة حاقدة وهتف له بوعيدٍ: هتدفع التمن غالي يا عمران، وديني لأندمك على معاملتك وطريقتك معايا وساعتها هنشوف مين اللي هيبوس رجل مين.
منحه قبلة بالهواء وغمز له: مستنيك يا خال. ربنا يديك طولة العمر!
وفتح الباب يشير له: مع السلامة يا نعمان!
ارتدى مريال المطبخ على خصره وشرع بجلي الأطباق، ومن ثم اتجه ليقلب القهوة على نيران هادئة، وانحنى يجذب الملابس من المغسلة ومن ثم خرج للشرفة يقوم بفردها على الحبال الداخلية، وولج يضع الشطائر التي صنعها على الصينية ووضع القهوة، ثم اتجه لغرفة شقيقه يهزه برفقٍ: سيف، قوم يالا إنت مش مأكد على ليلى إنك وراك محاضرة مهمة!
جذب الغطاء على صدره العاري يخفي وجهه من أسفله وهو يهتف بانزعاجٍ: يووه يا يوسف بقى انت كل يوم الصبح تقلق منامي!
جذب الغطاء عنه وشمله بنظرة خاطفة جعلته يزوى حاجبيه: إنت نايم كده ليه مش خايف تأخد برد!
تطلع للغطاء الذي أصبح بيد أخيه فنهض على الفور يرتدي بنطاله بحرجٍ: أيه يا يوسف الله. مش عارف أخد راحتي في أوضتي كمان ما تعتقني لوجه الله!
ضحك ساخرًا من ذاك الذي يسرع بارتداء ملابسه باحراجٍ، وردد: الله يرحم لما كنت بتعملها على روحك وأنا اللي كنت بحميك وآ.
كبت سيف فمه بصدمة مما تفوه به وترجاه بدهشة: آدهم هنا لو سمعك هيقول أيه، عايز تفضح أخوك يا يوسف!
ارتفع صوت ضحكاته وأخبره مازحًا: خلاص يا دكتور سيفو متزعلش. وبعدين ما أنت اللي صاحي تتدلع وأنا ورايا حالة ولادة عايز أروح المستشفى انجز قبل ما أروح لجمال!
جذب المنشفة واتجه لحمام الغرفة: اعتبرني لبست وجهزت، انزل انت.
لحق به مستندًا على باب المرحاض، وابتسم له وهو يناديه: سيف.
مرر فرشاة الاسنان لينظفها وهمهم له: مممم
ربع ذراعيه أمام صدره وقال: هتبقى عم قريب، ليلى حامل.
بصق المعجون من فمه واستدار له بابتسامةٍ واسعة وصاح: بجد يا يوسف؟
هز رأسه بتأكيدٍ فاحتضنه بقوة وهو يردد بفرحة: مبروك يا حبيبي ألف مبروك، ربنا يكملها على خير ويرزقك بولد صالح بار بيك وبيها.
ضمه بحبٍ وطبع قبلة على كتفه بحنان، وفجأة دفعه للخلف وهو يتأمل قميصه بصدمة: بهدلت القميص الله يخربيت معرفتك. هنزل المستشفى ازاي دلوقتي يا حيوان!
انفجر ضاحكًا وهو يتأمل بقايا معجون الاسنان على قميص يوسف الابيض، وقال بصعوبة بالحديث: خدلك قميص تاني من عندي.
رفع احد حاجبيه بنزقٍ، فحك سيف لحيته النابتة بتفكير: صحيح انك أعرض من فوق شوية عني بس إن شاء الله نلاقيلك حاجة تناسبك. أول ممكن نستعير من آدهم واحد هو هوجان في نفسه زيك كده.
قال من بين اصطكاك أسنانه: ادخل كمل اللي بتعمله وكُل واشرب قهوتك وانزل جامعتك بمنتهى الهدوء.
ووضع يده بجيبه يجذب مبلغ من المال يضعه بيده بقوة وكأنه يصفع يده قائلًا: اتفضل مصروفك.
واتجه للمغادرة وهو يحذره بشراسة: مش عايز ألمح خلقتك النهاردة، القميص جديد وبالتكت بتاعه يا حيوان.
فور مغادرته ضحك سيف وهتف يناديه: هتقاطع اخوك عشان الفميص يا جو!
فتح الباب الحديدي وولج يبحث عنه بمقلتيه المحتقنة إلى أن وجده يتفنن بأحد التصميمات ولجواره يجلس الاستاذ ممدوح يراقبه ببسمة هادئة، فما أن رأى من يقترب منهما حتى تساءل بدهشة: خير يا عمران؟
انتبه أيوب لنطق إسم رفيقه فاستدار للخلف فوجده يضع يديه بجيب سرواله الرمادي، ويمنحه نظرة النمر الواشك على افتراس فريسته.
ابتلع ريقه بخوفٍ غريبٍ يداهمه لمرته الأولى، فحتى مكانة أبيه لم تجعله خائفًا مثل الآن، اقترب منه عمران يستند على اللوح ويتأمل ما صنعه مبديًا عدم اعجابه بما فعله: مش بطال!
واستقام بوقفته وهو يخطو بين الرفوف الضخمة متمعنًا بها بنظرة غير مرضية، أتت بقوله: هو الأرشيف ده متنضفش من أمته يا أستاذ ممدوح التراب مالي الدنيا بشكل غير طبيعي!
سيطر الكهل المتحاذق على ابتسامته فهو يعلم ماذا يحاول تلميذه الأول بصنعه خاصة بعد أن قص له أيوب تفاصيل ما حدث بالأمس، فقال: مش فاكر والله يا بشمهندس. بس بتسأل ليه؟
قال وقد استقرت عينيه على أيوب المتأهب لما سيفعله ليعاقبه كما وعده: بقول إن ميصحش البشمهندس يشتغل وسط التراب والفوضي دي عشان كده لازم ينضف مكانه بنفسه لاننا مش بنسمح لأي حد يدخل أرشيف وسجلات الشركة ولا أيه يا أيوب؟
عبس بعينيه بضجرٍ، فلم يترك له عمران فرصة المناص بل جذب المجلدات الضخمة ووضعها بيده ومن ثم الأخر فالأخر حتى اختفى أيوب خلف طابق كامل من المجلدات جعلته يصيح بلهاثٍ: كفايا يا عمران مش قادر أشيل كل ده!
أتاه رده الساخر: شيل يا عريس والا إنت مبتقدرش تشيل غير الحتت الطرية!
ضحك ممدوح بعدم تصديق لما يحدث أمام عينيه، فتحرك أيوب ليضع ما بيده جانبًا ويعود لعمران يناوله المتبقي من المجلدات، وحينما انتهى قال وهو يطعنه بنظرة اخيرة: امسح الرفوف ورجعهم مكانهم زي الشاطر كده، ولما تخلص اطلع فوق لحسام هيفهمك هتعمل أيه لانك هتكون بدالي النهاردة طول اليوم.
كاد بالرحيل فجذبه أيوب بعدم استيعاب: مكانك فين! عمران أنا شاب جامعي وبتعلم لسه فبالله هكون مكانك ازاي متهزرش!
أخفض رماديته ليد أيوب الممتدة لجاكيته الباهظ فسحبها أيوب وهو يدمس شفتيه بغيظٍ، فأجابه الاخير ببرودٍ: استاذ ممدوح معاك هيساعدك.
وتركه واتجه للمغادرة فأوقفه تلك المرة بمسكة يده وهو يخبره: طيب وجمال أنا عايز أكون موجود معاه في يوم زي ده.
منحه بسمة باردة وصاح؛
واجبك وصل يا عريس، ركز في المطلوب منك وبس.
وتركه وغادر وهو يشير للممدوح بتتابعه فما أن خرج خلفه حتى أغلق باب المكتب على أيوب ومال عليه يهمس له: استاذ ممدوح أنا عايزك تتوصى بأيوب، تفرمه من الشغل لدرجة إنه يرجع ميحلمش غير بسريره وبس ميجيش في دماغه شيء غير إنه يريح جسمه ويرجع هنا تاني، حضرتك فاهمني؟
ضحك ممدوح وهز رأسه: وصلت، بس خد بالك الولد معندوش نية إنه يقرب منها وأنا شايف الصدق في عنيه.
رد عليه بخوف صادق: الشيطان شاطر يا استاذ ممدوح ولو حصل هتبقى كارثة لو البنت دي حملت منه، أرجوك ساعدني أنا خايف عليه. عصرت دماغي عشان ألقى حل مش لاقي غير إنها تأسلم وده مستحيل.
ربت على يده بحنان: مفيش مستحيل على ربنا يا ابني. عمومًا اطمن أيوب بقى زي ابني وجوه عيني متقلقش.
ودعه بابتسامة صغيرة وغادر على الفور فعاد ممدوح للداخل فوجد أيوب يقف على الدرج الخشبي ينظف الرفوف وما أن رآه حتى قال متهكمًا: كان بيوصيك عليا مش كده!
ضحك وهو يهز رأسه فمال على الدرج يستند عليه بتعبٍ: والله ما أنا عارف بيعمل كده ليه. ده أنا لو عند أخ أكبر مني مش هخاف منه بالشكل ده!
بالاعلى.
تابعت مايا عمل فاطيما باهتمامٍ، عاونتها على تنسيق الملفات بشكلٍ اكثر احترافية، وحينما قدمت ملفها الأول قالت بإعجاب: الله عليكِ يا طمطم هو ده الشغل ولا بلاش.
ابتسمت لها بمحبة وقالت: بفضل الله ثم تواجهيهاتك يا بشمهندسة.
مالت تقبل جبهتها بحب: حبيبتي يا فاطمة والله أنا مبسوطة من وجود معايا أوي، كنت بحس إن هنا لوحدي وماليش حد ولما عمران قال إن صبا ممكن تنزل معايا فرحت بس الهبلة اتحججت بتعب الحمل وكنسلت الموضوع وأهو ربنا عوضني بسلفتي وأختي القمراية.
اختبرت فاطمة أحاسيس غريبة من ضمة مايا لها، فأحاطتها بابتسامة مشرقة وقالت: انتي اللي زي القمر وتتحبي يا مايسان ربنا يسعدك ويفرح قلبك الأبيض.
أغلقت مايا الحاسوب وقالت بحماس: حيث كده بقى فكك من الشغل وتعالي ننزل نتغدى في أي مطعم، في مكان هنا جنب الشركة بيعملوا بيتزا إنما أيه عجب، بينا؟
التقطت حقيبتها مشيرة لها بنفس مصطلحها: بينا يا ريسة!
تعالت ضحكاتها وشاركتها الاخرى ومن ثم هبطوا معًا للأسفل.
أوصل حسام الضيف الزائر للأسفل بعد أن هاتفه عُمران وأوصاه أن يُوصله للأرشيف بنفسه، فشكره بتهذبٍ: شكرًا يا بشمهندس.
رد عليه حسام باستحسان: أنا في خدمتك يا باشا.
وتركه وغادر بينما أكمل الضيف طريقه للأسفل حتى وصل للباب الحديدي، دفعه وأخذ يتطلع لذاك العالق على الدرج الخشبي بكتلة مجلدات ضخمة يرصها بانتظامٍ ويبدو الانهاك يشكل خرائطه على وجهه، فناداه بخفوتٍ: أيوب!
أطل من فوق المجلد يتأمل من يناديه، فابتسم وهو يناديه بلهفة: آدهم!
وهبط إليه مبتسمًا ومتسائلًا: بتعمل أيه هنا؟!
أجابه وهو يتفحص ملابسه المتسخة باستغرابٍ: جاي علشانك.
وسأله وهو ينفض الأتربة عن قميص بذلته: إنت أيه اللي بهدلك بالشكل ده؟!
أمسك أيوب يده ودفعه ليجلس قبالته على الطاولة الخشبية المتهالكة، قائلًا بتوسل: أبوس إيدك خلصني من عمران. من ساعة ما شافني نازل إمبارح شايل آديرا وهو اتجنن، هالكني في الشغل وفاهم إنه كده بينتقم مني.
تمردت ضحكة رجولية على شفتيه جعلت الاخير يرتاب لامره متسائلًا بحيرة: بتضحك على أيه يا آدهم؟
استعاد اتزانه رغم احتفاظه ببسمته الجذابة وقال: مش بينتقم منك يابو قلب طيب بيهدك عشان لما ترجع بيتك ميكنش عندك أي نية شيطانية غير النوم والاسترخاء، فهمت حاجة؟
فرك أنفه بحرجٍ طفيف وهمس له: طيب وليه كل ده والله ما عندي نية لحاجة يا جدعان!
رفع يديه بغمزة مرحة: مصدقك يا عم الشيخ بس الطاووس الوقح عنده وجهة نظر محتلفة. حظك!
ضم شفتيه معًا بقوة وصمت قليلًا ومن ثم قال: طيب ما تلين انت دماغه وتخليه يخف عني!
استند على الطاولة وهتف له متصنعًا الحزن: كنت أتمنى يا أيوب والله بس كتب كتابي بعد بكره على أخته فلو أنا اللي اتدخلت هيسيبك ويستلمني أنا!
اعتدل بوقفته بابتسامة واسعة: بجد. هتتجوز يا آدهم؟
صحح له بابتسامة هادئة: كتب كتاب بس والفرح بعد امتحانتها ان شاء الله.
وضع يده على كتفه بسرورٍ: مبروووك يا عمهم. أهي دي الاخبار اللي تفرح وسط الجو المترب ده.
رفع آدهم يده يشدد على كتفه مثلما فعل وقال: عقبالك بس مع اللي تستاهلك.
ابتسم وهو يجمع شمل الحديث، فتابع آدهم بجدية: نستني كنت جايلك ليه.
وأخرج من جيب بنطاله ساعو رجالية فخمة، قدمها له مشددًا على حروفه: إلبسها ومتقلعهاش أبدًا يا أيوب على الأقل لحد ما ترجع مصر.
تناولها منه وتفحصها باستغرابٍ: ليه؟
نزع ادهم عنه ساعته ووضعها جانبًا، ثم وضع الاخرى بمعصمه قائلًا: انت بتقول انك بتعزني معزة كبيرة فوجود الساعة دي في ايدك هتأكدلي كلامك خصوصًا اني مسافر القاهرة الاسبوع الجاي.
انقبضت ملامح أيوب وفاضت بالحزن، فأمسك يده وقال برجاءٍ صغيرًا في عهده الثاني: مينفعش تخليك هنا معانا.
ابتسم وهو يراقب مسكة يده وقال: والدي راجل قعيد ومن بعد وفاة والدتي مبقاش ليه غيري. كل فترة بيكلمني وبيترجاني أرجع والمرادي مصمم إني أرجعله وشكله مريض فعلًا. أنا وعدته ومقدرش أتراجع. خايف يجراله حاجة فذنبه يكون في رقبتي.
هز رأسه متفهمًا وردد بنبرة متحشرجة من الحزن: ربنا يشفيه ويباركلك فيه.
أحاط كتفه بذراعه وقال بابتسامة جذابة: هنتقابل تاني يابن الشيخ مهران، وعد لما تنزل مصر هتلاقيني أنا اللي بستقبلك في المطار. هما كلهم تلات شهور هيعدوا بسرعة البرق. وبعدين الموبيل اخترعوه ليه؟
اتسعت ابتسامة ايوب وضمه إليه، فاحتواه آدهم ومازالت تعابيره مندهشة من الحب الاخوي الغريب المتبادل بينهما، لوهلة تمناه أن يكون ذاك الأخ الذي تمنى أن يمتلكه، كان دومًا حزينًا يتساءل لماذا ابقاه والديه وحيدًا دون شقيق أو شقيقة وحينما اشتد عوده علم بأمر تعب والدته وعدم قدرتها على الانجاب فتقبل الأمر واعتاد عليه، ودعه آدهم واتجه للمحامي يرتب أوراق عقد القران بعد أن تحدث على إليه وزف له موافقة عمه ووالدته.
بالمشفى.
وقف جمال جوار والدته يحبس دموعه بتمكنٍ، ولجواره تقف زوجته عاجزة عن الحديث إليه أو حتى تهدئته، تعود الحاجة أشرقت لحديثها الباكي فتزيد من وجعه: وصيتي أخواتك يا جمال، لو جرالي حاجة حطهم في عينك يا ابني. أنا عارفة اننا تقلنا عليك وشيلناك فوق طاقتك. مصاريف علاجي وتعليم اخواتك وجوازتهم وعمرك مرة ما اشتكيت ولا قولت مش قادر، طول عمرك اللي في ايدك مش ليك يا حبيبي. عشان كده لو جرالي حاجه هموت وأنا راضية عنك يا ضنايا.
انحنى تجاهها يقبل يدها الممتلئة بالمحاليل والأجهزة وردد برعشة باكية: متقوليش كده عشان خاطري يامه، هتخرجي والله وهتبقي زي الفل.
ربتت على خصلات شعره الفحمي بيدها الاخرى وقالت: ربنا يراضيك ويسعدك زي ما انت سبب سعادتي، ربنا يجبر بخاطرك زي ما انت جابر بخاطري أنا واخواتك يا حبيبي.
لم يحتمل سماع المزيد فبكى على يدها وهو يترجاها: كفايا عشان خاطري متوجعيش قلبي يامه.
طرقات باب الغرفة ومن ثم ولج ذاك البشوش بالورود، ليقترب منها يسيطر على حزنه لرؤيته انهيار رفيقه بحرافية، فهتف بمرح: مساءو فل على أجمل ست اتخلقت في الكون كله، شوفتي المرادي جبتلك ورد أحمر علشان تعرفي إن علاقتنا اتطورت من حب وتسبيل لمرحلة مينفعش فيها الحبيب!