رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع والأربعون
لم يخرس لسانه الطويل أحدٌ يومًا، لطالما كان طويل اللسان، وقحًا، متفننًا بردوده الباردة، ولكن ما نطقت به آشرقت جعلته يبرق لها بصمتٍ تام، لا يتقن حتى برسم بسمة زائفة على وجهه.
مازالت فريدة تقدم سلامها لجمال قبل أن تلحق بابنها، فولجت برفقته للداخل لتصل بالقرب من الفراش، فمدت يدها إليها وبرقةٍ رددت: حمدلله على سلامتك أشرقت هانم.
لوت شفتيها بتهكمٍ، ورددت بصوتٍ لم يكن مسموع الا لعُمران الجالس لجوارها على الفراش بصدمته المطولة: هانم! باينها بنت ذوات!
ورفعت من صوتها تجيبها بنزقٍ: الله يسلمك. مكنش له داعي تتعبي نفسك وتيجي معاه. واجبك وصل!
اندهشت فريدة من طريقتها الغريبة معها ولكنها لم تعلق، حتى جمال طاله جزءًا من الدهشة والذهول من طريقة تعامل والدته الذي يشهده لأول مرة، فتنحنح يشير لفريدة بحرجٍ: اتفضلي يا فريدة هانم.
هزت رأسها بخفة وإتبعت اشارته فجلست على المقعد القريب من عُمران، فتدحرجت أشرقت لطرف الفراش وهي تسحب عُمران خلفها هامسة بحنقٍ: أيه الجراءة وقلة الأدب دي، لزقة في الواد قدامنا من غير خشى!
ازداد جحوظ أعين عُمران بشكلٍ مخيف، وكأنه ابتلع الكلمات وعلقت بفمه، استدعت حالته نظر جمال وفريدة التي كانت أول من تساءلت: مالك يا حبيبي إنت كويس؟
هز رأسه ومازال صامتًا، ليأتيه همس أشرقت: حبك برص يا بعيدة سيبي الواد لمراته ولفي على حد غيره!
سعل عُمران بقوةٍ وكأنه يلفظ أنفاسه الاخيرة، فأسرع جمال إليه بزجاجة مياه مرددًا بقلقٍ: إنت مالك النهاردة؟
هز كتفيه اجابه عدم علمه بشيءٍ لما يحدث معه، فوجد أشرقت تميل عليه وتهمس له بحزنٍ: يا ابني أنا بحبك وبعزك زي جمال ابني متخليش العقربة دي تخرب حياتك، ده جمال لسه مفرحني بخبر حمل مراتك ويعلم ربنا فرحتلك من قلبي.
وتابعت وهي تعود لنظراتها المتفحصة بنظرةٍ تقيمية: هي صحيح حلوة وعينها زرقة، بس والله الجمال ما كل شيء، مراتك بردو جميلة وطيبة وبتحبك والله.
استجمع شجاعته الهادرة، وحشد بحة صوته الهادرة ليهمس لها بصوتٍ يُسمع بالكد: دي فريدة هانم!
تشدقت بنزقٍ: هانم على نفسها يا أخويا، النوع ده مبيتسماش عليه غير عقربة وخرابة بيوت!
ابتلع ريقه بارتباكٍ وتمنى أن لا يكون حوارهما مسموع لوالدته، فردد بصعوبة بالحديث: فريدة هانم أمي!
جحظت عينيها بصدمة وعدم استيعاب جعلته يزيد من توضيح الأمور عساها تفهم ما يخبرها به: يعني لا تجوز ليا بأي شكل من الأشكال!
ازدادت صدمتها وانتقلت حالة عُمران إليها، رمش عُمران بشكلٍ مضحك وتابع بجدية مضحكة: أنا بحاول من ساعتها أقولك بس خايف عليكي، إنتي مهما كان لسه خارجة من عمليات!
تعلقت عينيها بفريدة التي بدأت تلاحظ ما يحدث بينهما، وعادت تتطلع لعُمران متسائلة بصوتٍ يجاهد للخروج: متأكد إنها أمك؟!
سؤالًا لا يجده منطقيًا من جميع الزوايا ولكنه أسرع بهز رأسه اجابة لها، فعادت بنظراتها إليها ولسؤاله مجددًا: عندها كام سنة؟
ابتلع ريقه بتوترٍ من تعابيرها التي لا تبشر: 43 سنة.
اتسعت مُقلتيها صدمة فاشارت إليها باستنكارٍ: دي 43! دي أصغر منك إنت شخصيًا!
أخفض ذراعها واحتضنها سريعًا ليخفي ما يحدث عن والدته حتى لا تنتبه لاشارتها وهمس لها: مش كده يا شوشو فريدة هانم هتأخد بالها، وبعدين انتي عندك فقدان ذاكرة ولا أيه؟ فاكرة لما كنت عندك وقولتلك إنها بتمشي البيت كله على نظام غذائي ومبتسحملناش نأكل أكل فيه دهون لذا بستفرض بأكلك كأني عايش في معتقل.
هزت رأسها بتذكر فأكد لها مجددًا: ده المعتقل بعينه اللي كنت بكلمك عنه بقى!
سألته بهمسٍ خافت: هي مخلفتش غيرك بس؟
نفى ذلك موضحًا: لا على أخويا الكبير وفي شمس أصغر مني.
بصدمة أردفت: كمان! هي لحقت تخلفكم أمته يابني!
ضحك بشدةٍ ومال لآذنيها يخبرها: اتجوزت قبل ما تكمل ال17 سنة. احنا عندنا كده البنات بيجوزها صغيرين!
حدجته بنظرةٍ جامدة قبل أن تصدمه: ما أنا متجوزه عمك الحاج وأنا عندي 14سنة وقدامك أهو شبه برميل الطُرشي!
وتابعت بذهول وصدمة مستها قبل أن تطوله: وتاخد الكبيرة بقى أنا عندي 42 سنه يعني أمك اللي قدامي دي المفروض إنها أكبر مني بسنة!
وتعلقت عينيها بفريدة التي تتابعهما هي وجمال بذهول: طيب ازاي؟! دي مستحيل تكون حملت وولدت! طب بذمتك ذي هتبقى جدة ازاي!
إلتفت عُمران للخلف يقيم والدته بنظرةٍ سريعة، وكأنه أول مرة يراها وقال: مش عارف!
هزت رأسها هي الاخرى: ولا انا!
وابتلعت ريقها بتوترٍ تخبره: بقولك أيه يا ابني إنت تبطل تخرج معاها عشان محدش يخوض في سيرتك والاحسن تشوفلها واد اين حلال وتجوزها.
ضحك بصوته كله وقال: هي فعلًا متجوزة عمي من كام شهر.
وأخرج هاتفه يقدمه لها قائلًا بمكرٍ: خدي شوفي صوره عشان تبقى صدمتك كاملة!
تناولت منه الهاتف تتفحص صورة أحمد الذي عاهدته شابًا يكبر ابنها بأعوامٍ بسيطة لشعيراته الييضاء القليلة التي تحاط بشاربه وشعره، فصدمها عُمران حينما أخبرها عمره الحقيقي، لذا قدمت له هاتفه قائلة بتعبٍ: كفايا كده عليا النهاردة. انا حاسة إني قلبي هيقف وهيدخلوني العمليات تاني.
تعالت ضحكاته وقال بصعوبة بالحديث: ألف سلامه عليكي يا حبيبتي.
ومد يده لوالدته قائلًا: طيب نستأذن احنا بقى ونبقى نعدي عليكم وقت تاني.
أمسكت فريدة بكفه وودعتها ببسمة جميلة: فرصة سعيدة أشرقت هانم.
وخرجت من أمامها ومازالت أعينها تبتلعها بدهشةٍ، فما أن اوصلهما جمال للخارج وعاد لها حتى تمسكت بيديه وسألته بفزعٍ: البت دي تبقى أمه ولا بيضحك عليا عشان مبلغش مراته إنه ماشي على حل شعره! قولي الحقيقة!
فهم الآن ما كان يخوضه عُمران من صدمات طاعنه، حُلت شفرات حالتهما الغريبة منذ لحظة ولوج فريدة، فتنحنح بخشونةٍ: فريدة هانم تبقى والدة عُمران ودكتور على صاحب المركز ده.
لطمت صدرها بخفةٍ وتحلت بالصمت لساعة كاملة تفكر بالأمر، وجمال ينظف الغرفة ويتابعها بنظرة قلق إلى أن خرجت من قوقعة صمتها ونادته فأسرع إليها بلهفةٍ فوجدها تخبره بحزمٍ واصرار: اسمع أول ما انزل على مصر تكلمني دكتورة ريجيم وتحجزلي في جيم أنا مستحيل أقبل بالجسم المفشول ده لازم أبقى موزة وسمبتيك زي فريدة هانم دي هي مش أحسن مني!
ومسكت ذقنها بحركة شعبية مردفة بخوفٍ: ده لو الحاج كان شافها كان رمى عليا يمين الطلاق!
كبت جمال ضحكاته وقال: جيم أيه يا ماما بعد عملية القلب دي!
أصرت بقولها: هلعب رياضة يعني هلعب محدش هيحوشني عن الوزن المثالي بعد النهاردة!
واجهت فريدة عُمران بسؤالها المباشر: هو في أيه؟ ليه Mamy Jamal باين عليها الانزعاج من زيارتنا؟
كبت ضحكته بسيطرة تامة، واستدار إليها: لسبب بسيط جدًا إنها كانت فاكراني بخون مايا وجايب عشقتي أعرفها عليها.
رمشت بصدمةٍ وهي تحاول استيعاب تلك الجملة الغير مرتبة، فتابع عُمران ساخرًا: مهو يا حضرتك تكسري قواعد الدايت بتاعتك يا تبطلي تخرجي معايا أنا أو على خوفًا على سمعتنا!
توقفت عن المضي قدمًا واستدارت لتقابله، مردفة بحاجبٍ مرفوعًا: طيب على أوكي لكن إنت والخوف على سمعتك من أمته؟
حك جبهته بحرجٍ، وبمزحٍ قال: عفى الله عما سلف يا فريدة هانم.
منحته ابتسامة جذابة وبحبٍ كبير قالت: أنا فرحانه بتغيرك وباللي بقيت عليه يا عُمران. عارف أنا عمري ما أنسى اليوم اللي فضلت فيه جانبي. كنت مذهولة ومش مستوعبة أن الشخص التقي ده هو نفسه عُمران ابني المشاكس.
ابتسم وهو ينحني يقبل كف يدها باحترامٍ، فربتت على خصلاته الطويلة بحنانٍ، وسرعان ما ابتعدت مردفة بمزحٍ: خليك بعيد عشان سمعتك يا بشمهندس.
انطلقت ضحكاته الرجولية بقوةٍ، وأشار لها بحركةٍ آرستقراطية راقت لها: فريدة هانم!
هزت رأسها بامتنانٍ وانطلقت تسبق خطاه حتى خرجت برفقته للاستقبال فتوقفت تخبره بمكرٍ: عُمران روح إنت لشركتك. أنا هفضل بالمركز شوية. عايزة أطلع على تصميم مكتبي وأشوف مايا نفذت اللي طلبته منها هي والفريق ولا لأ.
هز رأسه وقال: طيب يا حبيبتي لما تخلصي رني عليا وأنا هجي أوصلك.
ردت عليه ببسمة هادئة: متشغلش بالك بيا. هبقى أكلم السواق أو أحمد.
فهم رغبتها بالعودة برفقة زوجها، فمنحها وقتها الخاص دون ان يضيق عليها، فطبع قبلة على رأسها وأردف: زي ما تحبي، خلي بالك من نفسك.
أومأت براسها بخفة، فارتدى عُمران نظارته السوداء واستدار لينطلق لسيارته فتفاجئ بصبا تدلف من باب المركز، وعلى ما يبدو بأنها كانت تتبعه برفقة فريدة التي تعرفت عليها فور رؤيتها، فقد سبق لها رؤيتها حينما كانت بزيارتها الاولى برفقة جمال يوم الوليمة التي أعدتها مايسان وفاطيما.
وجدته يرنو إليها، وما أن أصبح قبالتها وضع عينيه أرضًا وقال بابتسامةٍ مرحبة: مدام صبا أزيك؟
منحته ابتسامة صغيرة وقالت: أنا بخير الحمد لله. دي فريدة هانم مش كده؟
هز رأسه وقال موضحًا: أيوه كنا فوق عند والدة جمال ولسه نازلين من شوية.
رن هاتفه فأطلع على اسم المتصل، فكان حسام سكرتيره الخاص فتنحنح هاتفًا: عن إذنك لازم أتحرك للشركة حالًا.
تنحت جانبًا وأجابته: اتفضل.
إتجه لسيارته قادها لشركته، وتبقت هي تتطلع عليه مرددة بحزنٍ: حتى أمه واقف يحضنها ويدلع فيها. الشخص ده أيه!
وتابعت صعودها للأعلى وعقلها شارد بالتفكير بمقارنتها حول رؤيته برفقة زوجته بالأمس وبما رأته الآن.
انتهى من مقابلة ادارة المشفى، ومر على زمائله بشوقٍ لأيام عمله بهذة المشفى، فإذا بهاتفه يزف له مكالمة معشوقته.
جلس على بالاستراحة الجانبية وحرر زر الاجابة مرددًا بابتسامةٍ مشرقة: صباح السعادة والجمال على أجمل قمر طل من لحظة ما فتح عيونه يستقبل نهاره!
وصل له صوت ضحكتها، وقالت على استحياء: وحشتني يا علي.
أغلق عينيه بقوةٍ وهمس: الرأفة بقلب على المسكين!
وتابع معاتبًا: هو أنا يعني كان لازم أسافر عشان أسمع منك الكلام اللي يوقع القلب ده!
أنا بحس إني مراهق لأول مرة يا فطيمة!
المشاعر اللي معشتهاش في مراهقتي وكنت بحس إني مختلف ومش طبيعي زي باقي الشباب جيتي إنتِ وأقمتيها حرب عليا وعلى كل مشاعر اتدفنت جوايا!
سماعه لصوت أنفاسها العالية كفيل بجعله يتخيل مظهرها والخجل يكتسح ملامحها، فابتسم وقال: سكتي ليه يا قلب علي؟
تنحنحت بخفوت: بسمعك!
تقبل خجلها بصدرٍ رحب وأبدل حديثه: إنتِ فين؟
ردت عليه: أنا تحت بستنى زينب بتلبس ونازلة، أصل أنكل أحمد أصر يوصلنا في طريقه. هي للجامعة وأنا للشركة.
سألها بدهشةٍ: ومايا فين؟
وصل له صوت ضحكتها وطربته بصوتها الخجول: أصل عُمران منعها تنزل الشركة تاني.
=ليه؟
آآ. أصلها أغمى عليها امبارح وأخدها عملها تحاليل فطلعت حامل.
بفرحةٍ كبيرة تساءل: بجد؟
أكدت عليه وهو تلهو بحقيبتها بخجلٍ: آه. فرحتلها أوي. البيت كله سعيد بالخبر ده وبالأخص فريدة هانم.
ابتسم وهو يهمس لها بصوتٍ أربكها: عقبالك ما قلب علي. ساعتها فرحتي هتكتمل.
تنحنحت وأسرعت تخبره بارتباكٍ: زينب نزلت. يلا سلام.
ولم تنتظر سماع وداعه لها وأغلقت سريعًا، فتعالت ضحكاته وهو يراقب شاشة هاتفه باستمتاعٍ، فبحث عن رقم شقيقه وحرر اتصاله ليباركه بذاته فأتاه صوته المتلهف يخبره: على حبيبي وحشتني أوي. كنت لسه حالًا هطلبك عشان أفرحك. أخوك هيبقى أب وهتبقى أنت عمو علي. جهز نفسك يا دكتور!
انطلقت ضحكاته الصاخبة إليه وصاح مازحًا: واحدة واحدة. خد نفسك وانت بتتكلم. ثم إن أخبارك بقت قديمة أوي.
وتابع بغرورٍ: الخبر وصلني من بدري يا بشمهندس.
=أممم. العصفورة لحقت تبلغك!
أجمل وأحلى عصفورة بالكون كله. هتعارضني؟
=الله يسلهو يا دكتور! المهم أنا كنت هكلمك عشان أخد رأيك في حاجة بخصوص فاطمة.
اعتدل على بجلسته وسأله بجدية: اتكلم.
أتاه صوت عُمران الجادي يخبره بقلقٍ واهتمام: يوسف قالي إن مايا عندها مشاكل بسيطة يعني انيميا وضغطها واطي ومحتاجه ترتاح عشان شهورها الأولى من الحمل، وبالتالي منعتها تنزل الشركة وفاطمة من النهاردة هتنزل لوحدها فمش عارف يا على هتقدر تتأقلم من غيرها ولا أيه. خصوصًا إنها هتكون بديلة مايسان وهتنزل معايا في بعض الاحيان للموقع. إنت رأيك أيه؟
تنهد براحةٍ فقد ظن بأن هناك أمرًا خطيرًا متعلق بصحتها، فقال بعدما صمت قليلًا يستعيد ثباته: هي فاهمه وعارفة ده كويس، ومدام لبست ونزلت النهاردة من نفسها يبقى هي وثقت فيك وعلى فكرة ده كان باينلي من قبل ما أخد قرار السفر ويمكن ده السبب اللي خلاني أسافر وأنا مطمن، فطيمة بدأت تثق فيك وفي اللي حوليها من البيت يا عُمران وده في حد ذاته تقدم كبير في حالتها.
واستطرد بلهفة وتوتر: خد بالك منها وراعي حالتها زي ما وصيتك.
أجابه الاخير بوعدٍ صادق: متخافش يا علي. فاطمة عندي في غلوة شمس والله. متقلقش عليها طول ما هي معايا، وبعدين بقى إنت هتأخدني في دوكة ومش هتقولي أيه الرسالة اللي كلها تهديد دي؟
تذكر على رسالته التي أرسلها بالأمس إليه وصاح بوعيد: كويس إنك فكرتني. أنت أيه اللي مهببه في شمس ده يا وقح! البنت مكنتش، عايزة تسبني أنزل للمستشفى ومرعوبة من آدهم!
ضحك بملئ ما فيه وقال: برا?و. حبيبة قلب أخوها اللي بتسمع كلامه دي تتشال على الراس وتستاهل العربية الجديدة اللي طلبتها.
=بقى كده! عُمران إنت عايز تخرب جوازة أختك؟
بالظبط كده.
وبضيقٍ قال: بصراحة يا على جوايا غيرة رهيبة معرفش سببها. إنت أزاي بارد كده! شمس هتسبنا يا على مش هتعيش معانا تاني. مش هنعرف نشوفها كل يوم ولا نخدها في حضننا وتتدلع علينا وقت ما تعوز فلوس أو تتحامى فينا من فريدة هانم لما ترتكب غلطة، أنت ليه مش قادر تتخيل إن هيكون ليها حضن وسند غيرنا!
ضم مقدمة أنفه بقلة حيلة وهتف بحنقٍ: عُمران إتلم بعيد عن البنت لحد ما أرجع وأعالجك يا حبيبي. لإن بعد اللي سمعته ده يؤسفني أقولك إنك مريض نفسي!
أغلق الهاتف بوجهه ونهض ليتجه للخروج من المشفى بعدما أنجز نصف مهمته باختيار عشرة أطباء ماهرون، فمر على الاقسام بطريق خروجه، حتى مر من أمام قسم النسا والتوليد.
أخفض عينيه أرضًا وتابع سيره ولكنه توقف فور سماعه صوتًا أنوثي يناديه: علي!
ألتفت خلفه فتفاجئ بها تقترب منه وعلى وجهها ابتسامة واسعة، غير مصدقة بأنها تراه أمامه، فرددت بسعادةٍ: مش مصدقة بجد إني شايفاك، إزيك يا على أيه نسيتني ولا أيه؟
ردد وهو يتطلع لها بدهشةٍ: يارا مش معقول!
ابتسمت إليه ورددت بسخرية: طبعًا ما انت مصدقت مروان خطفني منك فخدتها زعله ومبقتش بتسأل عليا، هان عليك العشرة والصداقة يا علي؟
تنحنح بحرجٍ لتذكر ذلك الجزء المتطرف من حياته، لا ينكر بأنه كان هناك مشاعر داخله تخصها، بالنهاية كانت خطيبته وستصبح زوجته، وحينما اختار قلبها مروان ابن عم الجوكر مراد زيدان(رواية الجوكر والاسطورة)، فتركها تعيش مع من أحببت وتخصص هو بالحالات التي كانت تعالجها يارا بإحدى المستشفيات النفسية، بعد طلبها منه بأن يكون محلها لانشغالها بالتجهيز لزفافها من مروان.
تذكر كيف كان يتألم وحينها ظهرت فاطمة بحياته لتداويه وتجعله يقارن بين مشاعره تجاه يارا ومشاعر الحب الذي ولد داخله، فأصر وقت عودته إلى لندن أن ترافقه فاطمة لتكون حالته الخاصة بعد أن كانت الدكتورة يارا مسؤولة عنها.
أفاق من غفلته على صوتها المنادي: روحت فين يا علي؟
اعتدل بوقفته يجيبها بابتسامة هادئة: معاكي أهو. المهم طمنيني عنك.
وأشار بمرحٍ على بطنها المنتفخ: ولد ولا بنوتة هتورث موهبة مامتها الدكتورة.
ضمت بطنها بلينٍ وقالت: بنوتة. وعلى فكرة معايا ريان عنده سنتين ونص.
اتسعت ابتسامته وقال بفرحة صادقة: بجد؟
أشارت بيدها على من يخطو إليهما يستند على يد والده: أهو.
استدار على تجاه إشارة يدها فوجد مروان يقترب منهما بملامح منزعجة، كونه رجلًا يتفهم سبب ضيقه لذا طوال الفترة الماضية لم يحاول بأي شكل من الاشكال التواصل مع يارا، مع أنها كانت تحاول الحديث معه للصداقة والعشرة الطويلة بينهما.
قدمتهما يارا لبعضهما قائلة: مروان. شوف قابلت مين بعد السنين دي كلها. دكتور على الغرباوي فاكره؟
منحه نظرة مشتعلة وقال: من الأشخاص اللي مستحيل تتنسي.
ضم على شفتيه بحرجٍ، يحاول قدر الامكان التخفيف من حدة الاجواء فقال وهو ينحني ليداعب شعر الصغير: ما شاء الله تبارك الله أيه الجمال ده كله.
وحمله إليه ثم طبع قبلة على وجنته، ثم قال: شكل مروان بالظبط. ربنا يحميه ويباركلكم فيه يارب.
وقدمه لفارس الذي التقطه منه يجيبه ببرود: تسلم، عقبالك!
أجابه بتمني: يا رب.
تفاجئت يارا بدبلته السوداء المحاطة لاصبعه فسألته باهتمام: إنت خطبت ولا أيه يا علي؟
ضحك وهو يتطلع لدبلته قائلًا باعتزازٍ غريبًا: اتجوزت، ومش هتصدقي مين.
بلهفةٍ قالت: مين؟ أكيد دكتورة من زمايلنا.
هز رأسه يبدد تخميناتها وقال: اتجوزت فاطيما يا يارا.
اندهشت وشاركها بدهشتها مروان الذي بدى أكثر راحة حينما سمع بأمر زواجه، فسألته يارا باستغراب: ازاي يا علي، إنت عارف حالتها كويس!
ابتسم وهو يجيبها بهيامٍ بسط لمروان ولها قصة عشقهما المختصرة: الحب دفعني وساعدني أعالجها، هي كمان استقوت بحبي ومسكت فيه بكل قوتها. هي كانت محتاجلي وأنا كنت محتاجلها أكتر من احتياجها ليا.
اتسعت بسمتها ونظراتها تحيط بزوجها بعشقٍ تدفق إليها حتى بوجود علي، ورددت بحبورٍ: إنه العشق يا دكتور علي. ما أنا سبقتك.
وعادت تطلع إليه تتساءل باهتمامٍ: طيب قولي أنت لسه بتشتغل في نفس المستشفى اللي كنا فيها بلندن ولا اتنقلت؟
عدلت من جاكيت بذلته وأجابها بثباتٍ: لأ. رجعت المستشفى بتاعتي وحولتها لمركز طبي لجميع التخصصات علشان كده أنا هنا في مصر بجمع الفريق الطبي بنفسي.
شجعته بفخرٍ: برا?و عليك يا علي، ربنا معاك ويوفقك يا ررب. والله لولا البلونة دي كنت سافرت وجيت حضرت الافتتاح بس إن شاء الله تتعوض ويكونلي زيارة ليك أنا ومروان والاولاد على اعتبار ما سأكون ولدت. ولا أيه يا مروان؟
تلك المرةٍ رسم ابتسامة حقيقية بعدما تأكد من اندراج العلاقة بينهما لعلاقة زمالة عادية، وصافح على بحرارة: أكيد طبعًا هنيجي ونهني، مبروك الجواز والافتتاح يا دكتور.
سعد على كثيرًا لتلقي تلك المصافحة المعبرة عن تلاشي صخور الماضي، فكم كان حانقًا على تصرفاته بالماضي ونزاعه التي وصل للتطاول بينه وبين ممروان فحينما تعقل وجد ذاته هو المخطئ ومن لم يخطئ جميعًا بشرًا ولسنا بملاكٍ بأجنحتين.
ودعهما على وغادر للسيارة التي تنتظره للعودة لمنزل آدهم والراحة تغمره وتحيط به لتلك المقابلة.
ولجت للجامعة بارتباكٍ يحيطها، فبالفترة الماضية امتنعت عن الذهاب خاصة بعد ما حدث لسيف، وها هي تضطر للعودة بعد أن أخبرها أحمد بأن يمان قد هرب من لندن بعدما اتهمه سيف بما أصابه، وتسجيلات الكاميرات الخاصة بها خدمت أقواله فخشي أن تكتشف الشرطة اعماله الغير شرعية لذا فر هاربًا.
أحاط كفها ذلك الخاتم المندث بسلسالها الذهبي، وبداخلها تشعر بذنب الاحتفاظ به دون معرفة صاحبه، فحينما كانت تنتظر أمام غرفة العمليات خرجت احدى الممرضات تقدم لها ملابس وأغراض سيف الشخصية، فلمحت ذلك الخاتم الفضي المحاط بفص أزرق كانت تراه بيد سيف على الدوام.
لا تعلم لما احتفظت به وطوقته بعقدها الذهبي ليظل يلازمها، والآن وجودها بالجامعة تشعر بأنها تحتاجه دونًا عن أي وقت، فكمشت يدها حول السلسال الطويل الظاهر من أسفل حجابها.
كانت بطريقها للصعود للطابق المخصص لفصلها، فما أن صعدت لمنتصف الدرج حتى وجدته يهبط للأسفل حاملًا كتبه وأغراضه.
تعالت خفقات قلبهما كالقرع، يجزم كلاهما بأن الأصوات كانت منصوبة للآدان ولجميع من بالحرم الجامعي، هبط سيف إليها ببطءٍ وبابتسامةٍ اهلكتها قال: عاملة أيه يا زينب؟
رمشت بتوترٍ وأجلت أحبالها الصوتية بصعوبة: كويسة. الحمد لله.
وبترددٍ قالت وعينيها تشير لذراعه المحاط بالجبيرة: وإنت؟
هز ذراعه المصاب قائلًا بمزحٍ: أهو امتحنت بايدي التانية مع إن خطي مكنش يتشاف ولا يتفهم في ورقة الامتحان بس ماشي الحال. المهم نعدي السنة دي بقى.
وسألها بفضولٍ: أول مرة تنزلي الجامعة من بعد اللي حصل؟
هزت رأسها وردت بتوترٍ: أيوه. عم دكتور على قالي إن الحارس اللي كان بيراقب يمان شافه بيهرب هو ورجالته بعد ما اتهمناه باللي حصلك واللي عمله معايا قوى من الموقف.
بدى الانزعاج والضيق متوغلًا بملامحه وقال بحدةٍ: فلت منها ابن ال. بس مصيره هيرجع ووقتها هأخدلك حقك منه وقدام عينك يا زينب.
ارتبكت بوقفتها أمامه، مازال مصرًا أنها تخصه رغم رفضها له، وللحق بداخلها شعور يغمرها بالسعادة، فأشارت له بتوتر: عن إذنك زمان محاضرتي بدأت.
تابعها وهي تصعد للأعلى، وقبل أن تنجرف للطابق ناداها، استدارت له فوجدته يبتسم لها ويخبرها: هستناكِ تحت. خلصي وانزلي على طول.
كادت بالاعتراض فقال سريعًا: هعزمك على آيس كريم.
وتابع بغمزة أفتكت بصمودها: بال?اتيليا زي ما بتحبي.
حاولت الاعتراض أو الحديث فسبقها مجددًا: متقلقيش عما تخلصي محاضرتك هكون إستأذنت من دكتور علي.
وتركها وغادر ومازالت تقف محلها تتأمل الفراغ بصدمة من اتخاذه للقرار واصراره بتنفيذه وابلغها بأنه سيأخذ الأذن وكأنه يخبرها بأن لا عليها سوى الحضور!
صعد آدهم مبنى الجهاز، طالبًا بإصرار مقابلة الجوكر، فجلس بالمكتب الخارجي قبالة الساعة والنصف حتى وصلت الاوامر بالسماح له بالدخول لمكتبه.
طرق آدهم باب المكتب وولج للداخل بخطواتٍ بطيئة حتى وصل قبالة مكتبه، كان يستند بساقيه على المكتب، ويسترخي بمقعده بتعبٍ بعد انتهائه من التدريب، فتح زرقة عينيه يتأمل ذلك المرتبك بنظرةٍ مستمتعة، وردد بخشونةٍ وهدوء مخيف: شكلك مش لطيف وإنت واقف مرعوب ومهزوز قدام القائد بتاعك!
ونهض عن مقعده يلف من حوله حتى يقف قبالة آدهم متابعًا بحدةٍ: وأنا تلاميذي معلمتهمش يواجهوا أي مشكلة بالخوف والجبن!
ارتبك آدهم وبدى غير مستجيب الفهم لما يحدث، هل يواجه غضبه لما فعله بلندن أم ان هذا الغضب لرؤيته يخشى عقوبته؟!
طرق مراد على سطح مكتبه بقوةٍ ليفق آدهم من شروده على صوته الهادر: إنت جاي ليه طالما معندكش اللي تقوله!
ازدرد ريقه بحرجٍ: باشا أنا عارف إني غلطت وعرضت حضرتك لموقف محرج مع القادة بس مقدرتش أسيب صديقي محتاج لمساعدتي ومساعدوش حتى لو كنت شخص عادي كنت هساعده.
ضيق عينيه الزرقاء ومال يستند على حافة مكتبه، يتفحصه بنظراتٍ تجوبه من الأعلى للأسفل، وبعد صمتًا طويلًا قال: لو مكنتش ادخلت كنت شكيت في قدراتك!
رفع آدهم عينيه إليه بصدمة فوجده يبتسم له، مستطردًا بمكرٍ: رحيم حكالي على اللي حصل.
وتابع وهو يقابل مُقلتيه بنظرةٍ واثقة: واحد بتدريبك البسيط قدام الاسطورة وقدرت توازنه في المهمة الصعبة دي، ده يخليني أنا والقادة نثني عليك، انا نفس كنت فخور إنك من تلاميذي.
ورفع يده يربت على كتفه وهو يتجه لمقعد مكتبه بخطواته الواثقة: متقلقش تنفيذك للمهمة بالدقة والبراعة دي نفى عنك أي غضب.
احتل مقعده بهدوء لم يكن داخل ذلك الذي يتابعه باندهاشٍ، فابتسم مراد وقال بخبث لا يليق سوى بالجوكر مراد زيدان: عارف إن رحيم رعبك مني ومن مواجهة القادة. خليني أقولك إن ده جزء من تدريبك أو بالمعنى الأوضح مينفعش أشوف ابني بيرتكب شيء يفوق قدراته وأقف أشجعه إنه يعيد نفس اللي عمله مع إنه مش غلط، هكتفي بس أنبهه أنه مينفعش يقوم بالتصرف ده الا لما يكبر ويكون عنده الخبرة الكافية اللي تخليه يقدر يتصرف من غير ما يرجعلي. فهمت يا عمر؟ ولا تحب أقولك آدهم زي ما بتحب؟
اتسعت ابتسامة آدهم بفرحةٍ، وكأن جبالًا مرسخة انزاحت عن كتفيه، فاندفع تجاه مراد الذي نهض يستقبل ضمته الرجولية والاخر يهتف بفرحةٍ: فهمت. فهمت يا باشا. وأوعدك هنفذ كل الأوامر زي ما تجيني.
ربت على ظهره بقوةٍ تليق بجسده الصلب: كده يبقى الدرس وصل. يلا متنشغلش عن عروستك وجهز فرحك ومتنساش تعزمني.
هز رأسه بسعادة واحترامًا لشخصٍ بمهارة الجوكر: أكيد طبعًا...
واسترسل بحرجٍ: أنا كنت جاي لحضرتك عشان أخد رأيك في شيء عرفته عن المقدم سند برهام، وأنا هيكون من الصعب اتدخل لحل موضوع زي ده.
أشار له بالجلوس قبالته وردد بوجوم: إنت ليه مُصر تدخل نفسك في حوارت مش بتاعتك يا آدهم؟
جلس قبالته يجيبه بحزنٍ: صدقني يا باشا ربنا سبحانه وتعالى اللي عمل كده عشان يرفع الظلم عن شخص بيعاني على إيده ومش بس هو في كذه سجين بيمارس عليهم طغيانه. الموضوع مش سهل ومحتاج لمساعدة حضرتك فيه.
أنصت له جيدًا فأشار له بضيقٍ لسماع من يعاني ظلمًا، أكثر ما يثير غضبه أن يستغل كل ذي منصب منصبه لفعل السوء لذا فمن المؤكد أن آدهم اختار الأنسب ليخلص يونس عن مظلمته!
خاب أملها، ظنت بأن الاختبار المنزلي ربما يخالف ذمته والآن تحمل بيدها تقرير الفحص من المعمل الخاص بالمركز الطبي لابنها، يؤكد لها مئة بالمئة إنها تحمل بجنين.
وقفت فريدة تنتظر سيارة أحمد شادرة، عينيها تدمعان تأثرًا بما يخطر لها بفعله، هي تعلم بأنه ذنبًا فاضحًا ولكن ماذا بيدها تفعله!
تظن بأنها جريمة أن تحتفظ بجنينٍ وهي بذلك العمر، ابنتها من المفترض ستزف عروسًا بعد أيامًا وابنها ينتظر جنينًا قريبًا، كيف ستواجه الجميع بذلك، وما صدمها الإن بأنها بنهاية الشهر الثاني من الحمل لذا عليها سرعة التحرك قبل أن يكبر حجم الجنين.
تناست ما تفكر به لحظة رؤيتها لسيارة أحمد تقترب منها فرسمت ابتسامة مصطنعة وصعدت جواره تفكر بتمعنٍ بما ستفعله.
تابعت فاطمة عملها بمهارةٍ، وشعور الأمان يروداها بوجود عُمران بمكتبه تاركًا الباب الفاصل بين الغرفتين مفتوحًا بينهما، كما ان سماحه لها بالعمل بمكتبها واطلعه على ما تنتهي منه كان يريحها كثيرًا.
انتهت من مراجعة حسابات الميزانية المتعلقة بالمشروع فاتجهت اليه تطرق الباب المفتوح، فرفع رماديته لها يشير: ادخلي على طول يا فاطمة.
هزت رأسها بخفة ووضعت الملف من أمامه، تخبره بصوتٍ بدى مندهشًا أو مصعوقًا: المشروع هيتكلف 78مليون دولار!
صدمة قولها جعلته يرفع عينيه عن الاوراق ويتطلع لها ببسمة ساخرة: طيب وفيها أيه؟
ابتلعت ريقها بارتباكٍ: هو إنت مسمعتش المبلغ كويس ولا أيه؟
أزاح نظارة النظر عنه وقال ببسمة مشاكسة: قوليلي يا فاطمة أنتي تعرفي إني ليا شركاء معايا في المعمار والشركات؟
هزت كتفيها بحيرةٍ، فقال موضحًا: أنا مش لوحدي. فريدة هانم شريك ب10في المية وشمس ب10 ومايا ب10في المية وعلى جوزك ب20في المية وإنتِ كمان شريكة ب10في المية اتنقالك الأسهم بمجرد ما بقيتي واحدة من عيلة الغرباوي.
وتابع بعنجهية مصطنعة: انا ليا الحصة الاكبر 40 في المية لأني انا اللي بدير وبكبر رأس المال عشان كده تلاقيني مغرور حبتين.
رددت بتلعثمٍ وضيق: أنا مش عايزة حاجة! آآ.
قاطعها بحزمٍ: مش بمزاجك يا فاطمة دي كانت وصية بابا اللي يرحمه لزوجاتنا. هو فرض وشيء مقدس بالنسبة لعيلتنا، فريدة هانم لما اتجوزت من بابا اتنقلها الأسهم بشكل تلقائي. زي ما تقولي ده نظام عيلتنا.
وتابع وهو يقدم لها الملف: المهم انا هعمل شيك بالمبلغ ولما يوصل نبدأ على طول بإذن الله.
هزت رأسها بصدمة تخيلها أن أحدًا سيحمل مبلغًا كهذا، فتابع بعدما تذكر شيئًا هامًا قد يفيد أخيه بعلاج فاطمة: بقولك أيه يا فاطمة أنا بكره عندي عشاء عمل مع شركة ستون، هنروح أنا وجمال وهيكون في كذه حد من السكرتاريه. أيه رأيك تيجي معايا؟
صمتت قليلًا تفكر، ثم قالت على استحياءٍ: طيب ممكن أسأل على وأرد عليك بليل لما نرجع البيت؟
ابتسم باحترامٍ وقال: طبعًا. طبعًا تقدري ونص كمان.
ضحكت على طريقته بالحديث واستأذنت بالانصراف فعاد هو يتابع عمله بتركيزٍ، إلى أن ولج إليه حسام متجهمًا يخبره بخوفٍ: مستر عُمران.
زفر بمللٍ والتف بمقعده المتحرك: يا نعمين يا حسام! لخص بالقنبلة اللي ناوي ترميها في وش أمي!
أتاته القنبلة من خلفه تندفع تجاه المقعد المقابل له، يردد ببرودٍ يشبهه: ازيك يابن فريدة؟
أنصت لباب المعتقل يُفتتح من جديدٍ، ونفس الفلاش يضاء عليه، وكأنه يؤكد لها بعودة بصيص الأمل إليه رغمًا عنه، فتفرس بملامح من يقف أمامه وقال باستغرابٍ: رجعت تاني ليه يا باشا؟
انحنى آدهم إليه وقال بصوته الرخيم: يونس إسمعني كويس. إنت خلاص براءة ولو عايز تخرج معايا حالًا هخرجك بس ده أنا مش عايزه.
رمش باهدابه عدة مرات وردد بعدم تصديق: أخرج منين! يا باشا حاول تستوعب إن خروجي من هنا هيكون على القبر، صدقني مستحيل يسبني أخرج.
أمسك بيده وجذبه لينهض قبالته يصيح به بصوتٍ قوي: يونس فووق ومتفقدش إيمانك بربنا عز وجل، أنا هنا قدامك بقولك هخرجك وهأخد حقك ده وعدي ليك ووعد عمر الرشيدي دين في رقبته ليوم الدين. أنت متعرفش أنا مين ولا أقدر اعمل أيه!
وتابع والاخير يتطلع له بأعين دامعة لا تصدق سماع ما يقول: أنا مش ظابط عادي يا يونس، بقولك أنا واللي ورايا قدرنا في 24ساعه نثبت برائتك وخلاص مبقاش في شيء يدينك بس خروجك من هنا مش ده هدفي ولا اللي أنا عايزه.
أنا مش فاهم حاجة يا باشا؟
اوضح له ببسمةٍ ماكرة لا تليق الا بضابط تربى وترعرع على يد الجوكر المزعوم: يوم واحد يا يونس! يوم واحد هتستحمل فيه الألم وبعده تخرج وإنت محقق انتقامك.
وصاح بصوتٍ كان كالسوط لذلك الهزيل: قولي عايز تخرج من هنا مزلول وعايش في عناء نفسي لحد مماتك ولا عايز تنتقم وتشوف حقك بيرجعلك؟
انهمرت دمعة حملت معاني القهر من حدقتيه فصاح بصوتٍ مكلوم: هنتقم منه ازاي يا باشا ده رتبة كبيرة وأنا آآ.
قاطعه بعنف: عايز تنتقم ولا تخرج حالًا معايا؟
أخفض عينيه أرضًا ورفعها لذلك الملاك الذي هبط يحل عنه عقدته التي نغزته وجردته من كرامته وكبريائه ورجولته وردد باصرار: عايز حقي يا باشا!
ابتسم له آدهم وتابع بصوتٍ جهوري مخيف بخطته للقضاء على ذلك اللعين: يبقى تفوق وتسمعني كويس في اللي هقوله!
جلست بحزنٍ وضيق يتمرد على وجهها الأبيض، تمر بها الساعات ولم تيأس من انتظاره، تجوب الشرفة كل ساعة تقريبًا على أمل قدومه، عينيها متعلقة على باب الشقة بلهفة وحزن.
لأول مرة تشعر بأنه يعني لها كثيرًا، اعترفت آديرا لذاتها بأن ما بداخلها لآيوب ليس مجرد شعورًا بريء، هي بالتأكيد تحبه!
انفرجت ملامحها فور أن استمعت لصوت طرقات باب المنزل، ركضت بسرعةٍ هائلة تفتح الباب وهي تهتف بسعادةٍ: آيوب!
تلاشت ابتسامتها حينما وجدت إيثان أمامها، منحها ابتسامة صغيرة وقال: آيوب ذهب مع أبيه للمسجد وطلب مني أن أصل لكِ هذا الطعام وأن أخبركِ بأنه لن يستطيع القدوم اليوم لإن عائلته قد أتت للترحاب به. ربما بالغد يستطيع الحضور.
غلبها الحزن فالتقطت منه الأكياس وقالت بصوتٍ محتقن بالدموع: أخبره فقط أن لا ينساني هنا.
انتقل لإيثان حبها الكبير لآيوب فارتبك للغاية لشعوره بقدوم كارثة ستحل على ابن الشيخ مهران الذي عشقته فتاة أجنبية غير محتشمة، ولكنه برع في تزيف بسمة وقال: حسنًا سأخبره.
ورحل من أمامه، فحملت الاغراض ووضعتها على الأريكة ثم ولجت لغرفتها ترتمي على الفراش وتردد بخفوت: لا أريد شيئًا الا رؤيتك آيوب! ما حاجتي لتناول الطعام وإنت لست جواري تشاركني به!
وضعت الحساء على النار ووقفت تتابعه، حتى تسلل لها صوت زوجها الغاضب الذي يصيح بعنفٍ: إنتي يا فين المرهم اللي كنت جايبه الاسبوع اللي فات، هو إنتي وابنك القرد ده مبتسبوش حاجة في حالها أبدًا.
أغلقت خديجة النيران وهرعت إليه تشير له: ثواني وهجبهولك.
صفق باب الخزانة بغضبٍ، فاهتزت بقوةٍ جعلت جزءًا من ملابسها يسقط أرضًا أسفل قدميه، فالتقطت عينيها شريط الدواء الملقي باهمالٍ.
سقط قلب خديجة وجحظت عينيها حينما انحنى يلتقط الدواء ويقربها منه، ومن ثم اقترب منها بأعينٍ حمراء كلهيب الجمرات يتساءل بهدوء قاتل: ده أيه؟
تعلم بأنه يعرف كنايته لإنه يلجئ له كثيرًا ليخفي أمر تعاطيه للسموم والمخدرات التي يرتشفها فيلجئ لحبوب منع الحمل ليخفي عن دمائه تعاطيها أثناء أداء عمله الحكومي.
تراجعت خديجة للخلف وهي تشير له ببكاءٍ وخوفًا قاتلًا: آآ، أنا. آآ.
هوى على وجهها بصفعة ابادت الدماء عن شفتيها من قوتها وصرخ بها بسباب بذيء: انتي أيه يا بقى انتي مش عايزة تخلفي مني أنا! ده أنا اشتريتك يا رخيصة، سترت عليكي وخدتك على عيبك وكتبت ابن ال باسمي عشان ميخدش عار أبوه والناس تعايره بأن ابوه في السجن واخرتها تحرميني من الخلفة طول السنين دي يا فاجرة يا.
وهوى عليها بصفعات متتالية وهو يصرخ بجنون: لسه بتحبيه ومش قادرة تنسيه يا بنت ال أقسم بالله لاقتله وأقتلك انتي وابنك.
بكت وصرخت بانهيار: حرام عليك بقى، طلقني وارحمني من اللي أنا فيه. معتش في شيء تاني هقدر أقدمهولك. طلقني واتجوز واحده تخلفلك الولد اللي انت بتتمناه لكن أنا بكرههك ومستحيل هقبل أخلف منك ولو حصل هموت نفسي ومش هيهمني حد ولا حتى ابني اللي بتهددني بموته ليل نهار.
وبصرخٍ يفوق الاخر قالت: سمعت أنا بكررررهك وبقرف من نفسي بسببك!
جن جنونه فسحب حزامه وهوى عليها بضربات قاتلة جعلتها تتمايل أرضًا فاقدة للوعي، فركلها بقوة وهو يصرخ: والله لأوريكِ يا زبااااالة. وهتشوفي.
غادر من امامها وتركها تغوص بدمائها، فشعرت بلمسات يد تحمل المياه لوجهها، فتحت خديجة عينيها المتعبة ببطءٍ فوجدت ابنها يحاول افاقتها وهو يبكي بخوفٍ.
استقامت بجلستها وضمته إليه مرددة بهمس: يا رب ارحمني يا رب، يا رب إحفظه ورجعهولي هو أملي الوحيد يا رب، هو اللي هيخلصني من عذابي، يا رب لو كان ميت فأقبض روحي واجمعني بيه ولو لمرة واحدة!
ونهضت تتكئ على الحائط بصعوبة، ثم جمعت جزء من ملابسها هي وابنها، وارتدت اسدالها وخرجت به من المنزل، تتحامل على نفسها بصعوبة، فسألها الصغير ببكاءٍ: هنروح فين يا ماما؟
انهمرت دموعها تأثرًا، توفت والدتها ولم يعد لديها أحدٌ سوى الله، مشت جواره وهي تجيبه بانهيار: مش عارفة!
وجدت قدميها تتبع طريق منزله، هو الوحيد الذي لم يرد بابه بوجه أحدٌ، طرقت خديجة باب منزل الشيخ مهران، وما أن انفتح الباب حتى استسلمت لغشاوتها وسقطت فاقدة للوعي، ليهدر بها من يقف أمامها بدهشة: خديجة!
انحنى آيوب تجاهها بصدمة من رؤية وجهها الملطخ بالدماء، خرجت لمرتها الاولى دون نقابها على عجالة للنجاة بحياتها وحياة الصغير، وها هي تستسلم لغيمتها السوداء وقهرها الملازم لها بعد ان تفرقت عن محبوب طفولتها وأمانها الوحيد، يونس!