رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والستون
أخترق أذنيه صوت زقزقة عصفورًا قريبًا، يزقزق باعلان سطوع يومًا جديد، أفرجت أهدابه عن رماديته، ففتحها وأغلقها مجددًا في محاولةٍ للاعتياد على الضوء النافذ بعينيه.
نهض عن ساق أخيه يتفاجئ ببقائهما هنا حتى طلوع النهار، وما ألم قلبه أن أخيه لم يزعج منامته وبقى محله حتى غفى مستندًا برأسه على السيارة من خلفه وذراعه يحيط بجسد عُمران كالذي يضم صغيره!
ابتسامة مشرقة شقت طريقها لوجهه، فناداه بخقوتٍ: علي.
تسلل مسمعه إليه ففتح عينيه يهتف بعدم وعي وهو يتفقد ساقه: عُمران!
هدأت انفعالاته حينما وجده يجلس جواره، ويطالعه باهتمامٍ، عاد يستند برقبته على السيارة من جديدٍ، تفحص ساعته قائلًا بدهشةٍ: معقول نمنا هنا لدلوقتي؟!
قطع عُمران صمته هادرًا: مفوقتنيش ليه يا علي؟!
رد عليه بابتسامته الجذابة: مصدقت إنك تنام شوية فمستحيل كنت هقومك.
وسأله وهو يتفحصه بعناية: إنت كويس؟
اتسعت ابتسامته ونهض ينفض ثيابه: أكيد هكون كويس وأنا عندي أخ طيب وحنين زيك يا دوك.
استند علي على مقدمة سيارته ونهض ينفض ملابسه هو الاخر: تعالى نروح مكان هادي نفطر ونتكلم شوية قبل ما نرجع البيت.
أومأ برأسه وأشار له: اركب.
أجابه على وهو يهم بالتحرك لمحل سيارته: راكن عربيتي قدام شوية، اطلع وأنا وراك.
اجتاحته السعادة لتتبع أخيه إليه، ليس بكل الاحوال ما نقوله نقصد معناه، ربما يطالب لسانك من أمامك بالرحيل ولكنك من الداخل تتمنى أن يعارض حديثك ويتبعك رغمًا عن أنفك!
فتح عُمران باب سيارته باستخدام الريموت الالكتروني وقبل أن ينجرف على للطريق قال بامتنان: شكرًا إنك متخلتش عني حتى بعد ما طلبت منك تكون بعيد.
مرر يده إليه ومازال يتابع طريقه كأنه لم يستمع له من الاساس: اركب وبطل عبط.
ضحك بملئ ما فيه وصعد لسيارته يتحرك للطريق الرئيسي ومن خلفه يتبعه علي.
تربع الألم بحدقتيه كالسهم النافذ، يواجهها بصدمته التي أعربت عن مدى حزنه، بينما الأخيرة عينيها ساهمة بالهاتف الموضوع من أمامها.
شعرت وكأن هناك فوم من النيران عالق بحلقها، لم تتمكن من ابتلاعها أو حتى طردها خارج جوفها، فرددت بهمسٍ باكي: كدب يا سيف، والله العظيم بيكدب.
مازال يقف أمام الفراش الذي تعتليه، صامتًا، حزينًا، يجلي صوته البائس: يعني الورقة دي مزورة؟
أعتصرت جفنيها من فرط بكائها وهزت رأسها بالنفي، قائلة بنحبٍ: لا مش مزورة، أنا فعلًا مضيت عليها بعد ما أقنعني إننا مينفعش نتقابل كتير بدون ما يكون بينا عقد جواز، ولإني كنت لسه بدرس فمستحيل أخواتي يوافقوا عليه عشان كده اقترح عليا العقد العرفي ده، احنا اساسًا معندناش الكلام ده بالمغرب بس هو أقنعني.
اهتز بوقفته قبالتها ومازال يحرك رأسه بصدمة ألا تسترسل حديثها، ولكنها استطردت موضحة: لما اكتشفت حقيقته سرقت العقد اللي عنده وقطعته ولما سألت شيخ قالي إنه مش جواز أصلًا، يعني هو كداب لا عمره كان ولا هيكون جوزي.
ما له يشعر بعظمه يسحق بقوةٍ حتى خرت قواه ولجئ بجلوسه لطرف الفراش، يحتضن رأسه بين يديه، بينما تلك القابعة من خلفه تراقبه بدموعها المنهمرة، فإذا بها تقترب إليه، تضع كفها على ظهره وهي تستجديه متوسلة: مسمحتلوش يقربلي يا سيف، والله العظيم بيكدب عليك محصلش بينا حاجة.
رعشة يدها انتقلت لضروعه، فطرق باب قلبه تنبهه بحالتها المؤلمة، اعتدلت بجلسته المحنية، وإلتف بجسده إليها حتى بات يجلس قبالتها، فوجدها تفرك يدها وهي تستكمل الجزء الاخر من حديثها: ولو عايز تتأكد من كلامي أنا مش همنعك ده حق...
ابتلعت جملتها فور أن ضمها إليه، يحيط رقبتها بيد والأخرى يلفها حول خصرها بحمايةٍ، قائلًا بضيقٍ: يوم ما أشك في أخلاقك هتكون نهاية علاقتنا اللي مبتدتش يا زينب، أنا مصدقك يا حبيبتي وواثق فيكِ.
واستطرد يوضح سبب حزنه الصريح: أنا اتفاجئت بالورقة دي، لإنك مسبقش وحكتيلي عليها.
أراد أن يبعدها ليستكمل حديثه فإذا بها تتعلق بالتيشرت الخاص به وتناشده بتوسلٍ: متبعدش يا سيف!
ابتسم بفرحةٍ لرغبتها ببقائها بين حصاره بقلعته التي شيدها بعشقٍ لها، مسد عليها يحيطها بحبٍ بينما عقله شارد بذلك الحقير الذي لم يستسلم بعد، وبوصول تلك الرسالة يؤكد له بأنهما مازال تحت أعينه، ومن المؤكد بأنه سيفعل المُحال ليصل لها.
حبيبته وزوجته هي، إن فرط بنفسه لن يفرط بها، فليت ذلك المختل يعلم ذلك، مال سيف برأسه فوق رأسها وهمس لها ومازالت أصابعه تتغلغل خصلات شعرها الناعم: أول مرة أشوفك بشعرك. وشكلي كده مش هصمد كتير قدام الجمال ده كله.
وتايع مازحًا: زينب هو أنا ينفع أتحرش بيكِ؟
ضحكت بقوةٍ بينما يتابع هو بمرحه: بأدب والله العظيم هكون محترم قدر ما تمكنت!
لكزته بقوة وهي تهدر بالمغربي: سيف احترم راسك، ولا غادي نهبط نشكيك و ندير ليك محضر تعدي و يضيع مستقبلك المهني يا دكتووور
رمش بعدم استيعاب لما نطقت به، وكأنها ألقت إليه تعويذة مخيفة، تابعته تنتظر سماع ما سيقول، متحفزة لمشاجرة عنيفة بينهما، ولكنه اهدر اعدادها فور أن نطق ببلاهةٍ: الترجمة هتنزل أمته؟!
تحررت ضحكاتها بصوتٍ أطربه، حتى أن عينيها أدمعت من فرط نوبة الضحك التي أعتلتها وقالت من بينها: نوضحلك بالمصري مفيش مشكلة، بقولك إحترم نفسك، بدل ما أنزل اعمل فيك محضر تعدي، ومستقبلك المهني هيضيع بعدها يا دكتور!
أشار على ذاته متصنعًا البراءة: محضر تعدي فيا أنا يا زينب! عايزة تسجني جوزك عشان حلمه البريء إنه يدخل بيكِ دنيا!
طرقت بكفها على كتفه العريض: متقلقش يا حبيبي هيدخلوك في الحبس دنيا وأخرة مع بعض!
تصنع الحزن بمهارةٍ: مكنتش أعرف إن قلبك قاسي كده! ليه تجرحي مشاعري بالشكل ده يا زينب؟!
أمسكت يده تمنعه من الرحيل قائلة بحزنٍ: أنا بهزر معاك يا سيف، أنا مقدرش أعملها لإني بحبك وآ.
ابتلعت باقي كلماتها فور أن تبدلت ملامحه، فأحاطها بيديه هاتفًا بمكرٍ: سامع يا قلبي نطقتها قدامي أنا وأنت ومن غير ما نضغط عليها.
وتمعن بمُقلتيها المنفرجة صدمة منه: اشجي جوزك حبيبك باللي جوه قلبك يا دكتورة!
أمال جسدها بين يديه، يده أسفل ظهرها وقدميها منعرجة خلف حركته، بينما خصلات شعرها الطويل يلامس الأرض، رفع كفه الأخر يحيط وجهها، ويقترب إليها ومازال يمنع سقوطها عن الأرض بمسكته القوية، فما أن اخترق مسافتهما حتى همس بافتتانٍ: حبك ليا ميتقارنش بحبي ليكِ يا نور عيني، أنا دايب في حبك يا زينب!
أسبلت تجابه تلك الرجفة التي دغدغت عذرية قلبها ومشاعرها، من قال إنها اختبرت الحب يومًا كان مغفلًا لا يفقه بفنون الحب، فها هي تكتشفه من جديد على يد زوجها الحبيب.
وجدته ينساق خلف نداء عينيها فأتاها ملبيًا، وما كان منها الا الاستسلام، وتلك المرة تمنحه من الثقة ما جعله لينًا متفهمًا حتى باتت زوجته قولًا وفعلًا.
أدمى محاولة ذلك السفيه لهدم حياتهما وبدأها هو مستعينًا بفروض عشقه، ليجعلها سكنة له ويكون هو مرساها!
ثبت دريكسيون السيارة جيدًا حتى تمكن من فتح هاتفه، فرفع السماعة الخارجية يجيبها: أيوه يا حبيبتي.
أتاه صوتها يجيب: يوسف طمني الوضع عندك أيه؟
أجابها والحزن والخوف يلتصقان به: جمال اختفى من المستشفى مش عارف راح فين، روحتله شقته مش هناك ودلوقتي طالع على الشركة، خايف عليه من اللي بيفكر يعمله يا ليلى.
تنهدت بوجع وقالت: هو معذور يا يوسف ومن حقه ينتقم لمراته، إنت مش متخيل هي حالتها هتكون عاملة ازاي لما هتفتكر اللي عمله فيها، حتى لو عرفت إنه كان مغيب عن الوعي.
اللي حصل كان صعب، أنا عاجز ومش عارف أساند عُمران ولا جمال!، بس اللي متأكد منه آن دكتور على مستحيل يسيب عُمران، لكن جمال اللي فعلًا لوحده!
منه لله اللي عمل فيهم كده، أنا مش قادرة أستوعب ولا أصدق إن في ناس بالبشاعة دي يا يوسف، إزاي هان عليه يعمل كده في ابن أخته! واللي يوجع إنه عارف إن حمل مايا صعب وإنها تشوف جوزها بوضع زي ده ممكن لا قدر الله تجهض الجنين وبالرغم من كده وصلها الخبر ومهموش!
انجرف للطريق الجانبي يجيبها ببسمة ساخرة: اللي زي نعمان هما اللي بقوا بكترة يا ليلى.
واستطرد يغير الحديث: المهم إنتِ صاحية بدري ليه كده، انتِ راجعه البيت متأخر!
ابتسمت وأخبرته بتفاخر: أنا منمتش أصلًا، هنام ازاي وعندنا عريس وعروسة يا دكتور.
تقوس جبينه مستغربًا: وانتِ مالك بيهم مش فاهم!
فتحت الكاميرا تطالبه باتصالًا، فأبعد الهاتف عن أذنيه ووجهه لعينيه، فوجدها قبالته بابتسامتها التي يعشقها، تدير الهاتف للصينية الموضوعة على رخامة المطبخ خاصتها، تحمل الكثير من أصناف الطعام الفاخرة.
اتسعت ابتسامته سعادة بزوجته التي لم تقصر مع أخيه بالرغم مما تعرضوا له من ضغط الأمس بالعمل بالمركز، وازداد بما حدث مع جمال وصبا، فظلوا بالمركز لساعاتٍ إضافية، وبدلًا من أن تستريح ظلت بالمطبخ الساعات المنصرمة ترتب الاطعمة الشهية لهما.
عاتبها يوسف بحنان: ليلى إنتِ ليه ضغطي على نفسك وانتِ تعبانه، كنتِ لفتي نظري للموضوع ده وأنا كنت هطلب ليهم أكل جاهز.
اتجهت للمقعد الخاص بالرخامة ومالت تخبره بضيقٍ: أكل جاهز أيه! والله ما هتعرف تجيبله الحمام اللي أنا عملاه ولا طاجن ورق العنب ده!
ضحك بصوته كله وقال يشاكسها: حمام ومحشي ورق عنب! طب وأخو العريس مش هينوبه من الحب جانب ولا أيه؟
ارتكنت على معصمه تمنحه نظرة محتقنة: لا مفيش.
ابتسم وقال: خايف عليكي يا ليلى، ومش عايز أتقل عليكي، يومنا مكنش سهل النهاردة.
اهتمامه وخوفه عليها أرضى ضيقها، فقالت بحبٍ: متقلقش عليا يا حبيبي أنا كويسة، خلي بالك انت من نفسك، أنا عملت أكل زيادة ليك وللبشمهندس جمال عشان عارفة إنك مش هتسيبه، ابقى عدي عليا خده قبل ما تروح بيه شقة سيف.
انتفض بمحله حتى سقط الهاتف أسفل قدميه حينما ذكرته برفيقه: فكرتيني بجمال، اقفلي لازم أروح الشركة بسرعة قبل ما يتهور.
صرخت به قبل أن يغلق: ما تنساش البقسماط يا يوسف.
توقف عن لف مفتاح السيارة وعاد يسلط نظره للهاتف بعدم استيعاب، هدأ قليلًا حينما تذكر بأن المرأة ما هو الا متاهة مغلقة يصعب على أي رجل الخلاص من توابعها، لذا قال بايجاز ينهي مكالمته: أحل الكوارث اللي ورايا وهجبلك الخباز بالفرن لعندك حاضر.
وأغلق الهاتف بهدوءٍ يفتخر بأنه تحلى به لتلك اللحظة، وعاد لقيادته المتعجلة ليلحق به.
توقف الزمان من حوله، وكأنه لم يخوض حياته بطولها وعرضها ليُوضع بتلك اللحظة، اللحظة الحاسمة التي جمعته بذلك الصديق.
تحجر الحديث على شفتيه، فسابق الشيخ مهران بحديثه حينما قال ساخرًا من صمته وصدمته: المفروض إنك تتوقع الزيارة دي بعد ما رجعت تقلب في اللي فات!
انقبض الألم بين حدقتيه، وبصعوبة هدر: أنا آآ...
انتظر سماع ما سيقول ولكنه وللعجب لم يجد ما سيقول، بل اختذل عينيه عنه وأخفاها بحرجٍ منه، دنى إليه الشيخ مهران وجلس على مقعدٍ كان يجاور لمقعد مصطفى المتحرك، انشغل بسبحته قليلًا ومع كل حركة يلامس حباتها كان يمنع غضبه، يسيطر على شيطانه الا ينطق بالسوء وبما سيحمله ذنوبًا هو بغنى عنها، فارتفع صوته بعض الشيء وهو يصيح
«لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم».
استمد نفسًا طويلًا بعدها وقال بحزن: أنا مقدرش أعترض على حكمة ربنا ومشيئته، بس بعد ما عرفت الحقيقة من حضرة الظابط وأنا متقفليش جفن، وكل اللي بيترددلي ليه؟
رفع مصطفى وجهه المبتل بدموعه إليه، فتابع الشيخ مهران بحزن: ليه تعمل فيا كده؟ صحيح احنا مجمعتناش صداقة متينة بس الكام ساعة اللي كنا بنقعد فيهم كل 15 يوم عشان ندخل للكشف كانت بالنسبالي عشرة طيبة، سمعتك وعرفت عنك كل شيء ونصحتك وقتها تعرف زوجتك الاولى بجوازك وآنك تعترف باللي في بطنها، وقولتلي انك هتعمل كده فعلًا.
واستطرد يعاتبه بألم: صحيح علاقتنا اتقطعت بعدها ومعرفتش عملت أيه مع زوجتك التانية ولا الاولى بس أخر ما توقعته إنك تعمل فيا كده!
تدفق الدمع على وجه الشيخ مهران، وبصوته الباكي قال: ليه تخليني ارتكب وزر بدون ما أعرف وأكتب آيوب باسمي! عارف يا مصطفى لو كنت عرفتني الحقيقة وقتها وقولتلي ان ابني مات وإنك مش عايز الولد كنت هخليك تكتبه باسمك وكنت هربيه بردو بس على الأقل مكنتش هتحط في الوضع اللي إنت حطتني فيه ده!
وتابع وهو يشير بكفيه: أنا مش عارف هواجه الحاجة ازاي! ولا آيوب نفسه لما يعرف هيعمل أيه؟!
مال مصطفى على يد الشيخ مهران يقبلها: سامحني يا شيخ أبوس ايدك سامحني.
سحب كفه بدهشةٍ من فعلته التي توضح مدى عجزه: استغفر الله العظيم، مصمم تركبني ذنوب ليه!
بكى باختناق حجر على رئتيه وهو يخبره: كنت غبي محسبتش حساب للحظة دي، كل اللي كنت بفكر فيه هو عمر ابني ومراتي اللي بين الحيا والموت، والله العظيم لو كانت عرفت بحاجة زي دي كانت راحت فيها ومكنش ابني هيسامحني ولا كنت هسامح نفسي.
وتطلع له يستعطفه ليسامحه: كان ممكن أوديه ملجأ أو أشوف حد يعتني بيه فملقتش غيرك تكون أمين على ابني، بس خوفت أقولك فترفض كل اللي فكرت فيه وقتها إنك انسان خلوق، وهتربي ابني التربية اللي مش هعرف أربيهاله، وفي نفس الوقت كنت حزين لما عرفت إن ابنك اتولد ميت، صعب عليا كسرتك كل ما بفتكر فرحتك وكلامك عن الحمل اللي حصل بعد كل السنين دي، فكنت واثق انك هتحبه وهتديله اللي فشلت أديهوله.
وطرق بيديه معًا على أذرع المقعد المتحرك: أنا ظلمت ابني وظلمتك وظلمت مرتاتي الاتنين وربنا انتقملكم كلكم مني يا عم الشيخ، بقيت زي مانت شايف عاجز، وخلاص أيامي معدودة في الدنيا بسبب مرضي الخبيث (كانسر)، عشان كده كشفت الحقيقة لابني، مش عايز اموت وأنا حامل ذنب زي ده يا شيخ مهران.
تغضنت معالمه بالشفقة تجاهه، فعاد يجلس محله وهو يهمس: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، أسأل الله العلي العظيم أن يشفيك.
رفع عينيه الغائرة له حينما قبض مصطفى على كفه بقوةٍ، وبرجاء وتوسل قال: سامحني يا شيخ، سامحني وخلي آيوب يسامحني بالله عليك!
صوت شهقة مكبوتة جذبت انتباههما، فاستدار، الشيخ للباب حيث محل وقوف آدهم الباكي، يعز على قلبه رؤية أبيه بتلك الحالة ومع يعجز تدخله هو ترك فرصة عسى أن يسامحه الشيخ مهران فيرتاح والده.
تغلف قلب الشيخ مهران بضمادة طبية فور رؤيته وجه ذلك الشاب، شرد بكل لحظة مضت عليه منذ أن دلف لحياته وحياة عائلته.
أخبره مصطفى منذ قليل بأنه كان سيفشل بتربية آيوب! لا والله لقد سبق له رؤية نبل أخلاق ذلك الشاب، سبق له ان رأى رجولته ومروءته، ما دفعه للتفكير باتجاه معاكس، أن ما حدث كانت ارادة الله سبحانه وتعالى ليحظى بابنًا كآيوب يكون عمله الصالح في الحياة من بعده!
الابن البار الذي لم ينجبه، ولم يقدر له بإنجابه، أزاح الشيخ بقايا دموعه ورسم ابتسامة هادئة هادرًا ومازالت عينيه تحتضن عين آدهم: اللي ابنك عمله معايا ومع عيلتي يشفعلي بأن أسامحك يا مصطفى.
وأخفض عينيه له يخبره: أنا مسامحك. بس صدقني صعب ابني يسامحك انا عارفه أكتر من أي حد.
وبفخر قال: آيوب ابني وهيفضل ابني، أنا لو كلفت ابنك يغير نسبه فده عشان خوفي من ربنا عز وجل لكن ابني مش هيفارقني طول ما فيا النفس وحي، إنت اتخليت عنه فأنا مش هتخلى عنه ولو طالبت تقاسمني فيه اعذرني أنا هكون هنا أناني وهقولك لأ.
وببسمة شملت معنى الألم قال: أنا مش نبي من الانبياء أستغفر الله، أنا بشر فهكون أناني وهقولك ابني لأ يا مصطفى.
انهمرت دموعه رغمًا عنه واستكمل: أنا عشان محملش ذنوب أكتر من اللي هشيلها هخليك تغير اسمه وهخلي ابنك يصارحه بالحقيقة لكن يفارق بيتي ويفارق أمه ويفارقني ده عمره ما هيحصل ابدا، بس اطمن مش همنعه عنك أبدًا.
رد عليه مصطفى بلهفة: مش عايز أكتر من مسامحته يا شيخ، ولو فضل معاك أنا مطمن عليه بس بالله عليك متحرمنيش منه، خليه يزورني ولو مرة واحدة كل اسبوع وآ...
ابتلع باقي كلماته بمرارة الألم حينما أفاق على حقيقة صادمة، ابنه ليس طفلًا صغيرًا ليتلاقى أمر الشيخ مهران، فور علمه بالحقيقة لن يستمع لأحدٍ ولن يأتي لزيارته.
هز مصطفى رأسه بجنون وصرخ: لأاااا متقولوش الحقيقة يا شيخ مهران، معتش هشوفه تاني لو عرف، أرجوك متقولوش.
غامت عين آدهم بالدموع، فولج للداخل ينحني على مقعد ابيه يحاوطه بقوة ويترجاه: اهدى يا بابا، صحتك عشان خاطري.
استنجد به بفرحة لوجوده: عمر، تعالى يا عمر، الشيخ مهران لو قال لاخوك الحقيقة هيبطل يجي معاك هنا، قوله ميقولهوش حاجة، عشان خاطري يابني قوله.
قبل يديه معًا وبصوتٍ مبحوح قال: هعملك كل اللي انت عايزه بس اهدى.
بكى كالصغير على ذراع آدهم، فضمه إليه ومازال الشيخ يتابعهما، فابتسم وقال: من شخصية ابنك وطريقة تعامله معاك بيأكدلي انك كنت أب له عظيم يا مصطفى، فأكيد اللي حصل ده كان خير ليا.
ونصب عوده يخبره قبل رحيله بابتسامته البشوشة: اطمن أنا هخليه يسامحك، ومش هيبطل يجيلك متخافش، حتى لو عارض هجيبه بنفسي وأجيلك كل جمعة بإذن الله.
واستطرد بعدما خطى خطوتين لباب الغرفة: هستناك تنورني في الدكانة يا حضرة الظابط. السلام عليكم ورحمة الله.
قالها ورحل على الفور تاركًا آدهم يضم أبيه باحتواءٍ وحبًا، فعاد به لغرفته ومدده على فراشه، ثم قدم له أدويته خشية من أن تتعثر حالته.
صف يوسف سيارته أسفل الشقة القابع بها محل عمل جمال البسيط، صعد للاعلى فتفاجئ بخلو المكان من الموظفين، ولج للداخل يتجه لمكتب جمال، فتخشبت يده على مقبض الباب فور سماعه صوت تأوهات خافتة تأتي من الداخل.
دفع الباب بجسده وولج للداخل يبحث عنه بذعرٍ، فصعق حينما وجده يلف يده حول عنق السكرتير الذي ينزف وجهه وجسده بغزارةٍ.
لوهلة فقد السيطرة على جسده وبات يردد كالصنم: عملت أيه تاني يا جمال؟ أنا مش ملاحق ألم بلاويك يا أخي!
مشطه جمال بنظرة شاملة ثم عاد لما يفعله وكأن حديث الأخير كجناح فراشة أزعجت خديه، رمش يوسف في محاولته لاستيعاب كتلة البرود التي أحاطت رفيقه، فهرع إليه يدفعه عنه صارخًا به: إنت فقدت عقلك ولا أيه؟ ذنبه أيه المسكين ده؟
حاول جمال إبعاده عن مرمى بصره الناري ولكنه لم يستطيع، فصاح منفعلًا: وسع يا يوسف، وأقسم بالله لأقتله، الكلب اللي بتدافع عنه ده بعني وقبض تمنى من نعمان الحقير، هو اللي، بعت الرسايل لصبا ولعمران من موبيلي وكلمهم على أنه ضربني بعربيته، ومسح الرسايل ورجع التليفون كأن لم يكن.
اندهش مما استمع إليه، ما بال هؤلاء بأصدقائه! كأن العالم اتحد بأجمعه ليفرقونهما عن بعضهما!
استغل جمال تصلب جسده واندفع لذلك الذي يسترخي باهمالٍ على أحد المقاعد الخشبية بعد أن تلقى عقابه، لكمه جمال بشراسةٍ تتصاعد منه كالبركان: هقتلك إنت واللي بعتني ليه يا، هدفعكم التمن غالي، ايدكم القذرة اللي، اترفعت ولمست مراتي لو متقطعتش مبقاش راجل.
بالرغم من عدم فهم السكرتير للغته العربية الا أنه كان يعلم السبب وراء موجة غضبه، فمن المؤكد بأن ما فعله قد كُشف، وهو الآن يتجرع أشد أنواع الخيبات والندم لما فعله.
عاد الوعي لذلك الغائب، فجذبه من تلباب قميصه الملطخ بالدماء: فوق يا جمال لو قتلته هتلبس نفسك بلوة! اينك محتاجك بلاش تعمل كده.
منحه نظرة من جحيم أخافت يوسف وجعلته يخشى ما سيفعله جمال بنعمان إن كان هذا عقاب ذلك السفيه: ابعد يا يوسف، محدش هيقف قدامي ولا هيوقفني عن اللي هعمله سمعت!
كتف يديه وصرخ بمن خلفه: اغرب عن وجهي قبل أن أتركه ينحر عنقك الرخيص هذا!
هرول للخارج متعثرًا بخطواته فور سماعه إنذار النجاة، بينما دفع يوسف جمال للمقعد وانحنى يصرخ بوجهه: إنت عايز تضيع نفسك! محدش قالك تتنازل عن حقك بس مش بالشكل ده يا جمال.
قولي بأي شكل أخد حق مراتي اللي استباحوها يا دكتور يا محترم؟
قالها بهدوء قد يجعلك تخمن عقلانيته ولكنه من الاساس كان يصدر من اعماق شخصًا ذُبح دون رحمة، وبقانونه من لا يرحم لا يُرحم.
خرج يوسف عن صمته يخبره برزانته الحكيمة: جمال أنا معاك مش ضدك صدقني، ولو عايزني أساندك هساندك وأفديك بروحي وإنت عارف، بس أنا خايف عليك من نوبة الغضب اللي إنت عايشها دي، آنت محتاج تصلح اللي بوزته باللي بتعمله ده هتعك الدنيا لانك هتبعد عن صبا وابنك اجباريًا لما يحاكموك، فبلاش ترتكب اللي يخليك تخسر نفسك.
وتابع وهو يجلس قبالته: أنا كنت راجع بيتي اريح بعد ورديتي بس بما إنك فقدت عقلك فللأسف مضطر ألازمك عشان أطمن إنك مش هتأذي نفسك.
انتصب بوقفته يتجه للحمام الخاص بمكتبه، لحق به يوسف فاستدار إليه يقول بتهكمٍ: أيه هتدخل معايا الحمام كمان؟!
مال يستند على الحائط واضعًا يده بجيب بنطاله: هو مفيش فرق بينا بس مش للدرجادي يعني! اتفضل أنا مبسوط هنا ومش ناقصني حاجة فخد راحتك!
أغلق الباب بوجهه فاغلق يوسف عينيه بفزعٍ وقال: بني آدم همجي أقسم بالله هيعش غبي وهيموت متخلف!
وجلس على مقعد مكتبه يلف المقعد وهو يتابع: Zero عقل.
خرج من المرحاض يلف منشفته من حوله، تاركًا المياه تعبر فوق وجهه كالشلال، فجذب منشفة قصيرة يمسح وجهه ويديه ليتمكن من التقاط هاتفه الذي يعلن تمرده للمرة الثانية.
مال يجلس على السراحه وفتح سماعة هاتفه يجيب بصوته الشجي: شمس هانم بنفسها بتتصل!
وصلت إليه صوت ضحكاتها، وبرقتها المهلكة قالت: بتتريق يا كابتن والامتحانات سحلاني!
وتابعت بدلال: انت المفروض تستخدم مركزك ده وتخليهم ينجحوني من غير فرهدة!
أو على الأقل تديني أي جهاز أو تعلمني كام حركة أقدر أغش بيها الامتحان وأطلع زي البرنسس.
ضم منخاره يفركه بضحك: ده أنا كده بشجعك للفساد رسمي! وبعدين ميرضنيش يقولوا حرم عمر الرشيدي غشاشة تيجي ازاي دي يا شمسي!
تحلت بصمتها لتتمكن من سماع صوت ضحكاته، وفجأته حينما قالت: وحشتني أوي.
ابتسم وهو يخبرها بعاطفة: مش أكتر مني يا شمس، بس خلاص هانت إسبوعين وامتحاناتك تخلص وهتنوروني كلكم هنا عشان فرحنا.
بلهفة قالت: طيب ما تيجي يوم تقضيه معايا وترجع.
ازاي ده؟!
زي الناس، مش إنت ظابط مخابرات!
بيقولوا! وفضولي بيقولك وراها أيه الجملة دي؟
وراها إن ظباط المخابرات بيقدروا يعملوا أي حاجة في أي وقت.
ابتسم بسخرية وقال: شكلك بتشوفي أفلام هندي كتير يا شمس هانم.
ضحكت وقالت: الصراحة شوفت أفلام كتيرة بس اللي شوفته لما قابلتك خلاني أتصدم إن الهندي الأوفر حقيقي وموجود.
ابتسم وحبها يسكن وجع يومه، فقال: ازاي؟
تنحنحت بخجل وهي تخبره: يعني كنت بشوفك كده زي الراجل الخارق، وفعلًا من أول ما شوفتك وإنت كنت بطلي الخارق.
وأيه كمان يا شمس؟
آآ، ها؟
ما كنتي ماشية كويس، كملي أنا أيه بالنسبالك يا شمس؟
بخوفٍ مضحك قالت: معنديش تصريحات أقول أكتر من كده، عُمران هيقتلني!
زفر بضجرٍ وهمس لها: يادي عُمران اللي لاعب عليا دور حماتي العقربة وحمايا الكشري مش مقصر نهائي!
كبتت ضحكاتها وقالت: متزعلش يا حبيبي.
بعشق ردد يتذوق جمال كلمتها: حبيبك!
بخجل قالت: جوزي حبيبي ها يا كابتن عايز أحلى من كده كلام.
ضحك بصوته الرجولي وقال ساخرًا: لا ده أنا كده هبقى طماع وجشع، كفايا عليا كلمة جوزي دي هتديني الأمل إني مش هرجع أشوفك بالملحفة السودة تاني، ممكن نوصل لمرحلة النقاب أو الخمار أنا وحظي النحس بقى!
وتابع يشاكسها: بقولك أيه يا شمس؟
أممم.
هو عُمران أخوكي ده بيشرف على شنطك اللي بتحضريها لجوازنا، أكيد بيشرف مهو حاشر مناخيره في كل كبيرة وصغيرة خاصة بينا!
أيوه بيختار معايا أون لاين، إنت أصلك متعرفش ذوق عُمران باللبس عامل ازاي، وبالأخص فساتين السهرة اللي اختارهالي، بالعكس ده فدني جدًا باختيار فستانيني بعد الحجاب.
قضم شفتيه معًا بأسنانه ناطقًا من بين اصطكاك أسنانه: طمنتيني!
وهمس بصوت ظنه غير مسموع: كده هعمل حسابك معايا وأنا بشتري حاجتي.
هتعمل حسابي في أيه؟
لا يا حبيبتي متخديش في بالك، ركزيلي إنتِ بس في مذكرتك وامتحاناتك عشان مش ناقصة تلكيكة من سي عُمران أخوكي اللي مش مفهوم ده!
انفجرت ضاحكة وقالت: وفيها أيه يعني لو جبت ملحق يا كابتن!
ردد ساخرًا: أهو ده اللي ناقص! أنا أترقى وانتِ تشيلي الكحك!
ضحكت بملء ما فيها وقالت: اطمن مفيش هنا الكلام ده، أنا كده كده ناجحة وبعدين أنا كمان عايزة أمتحن وأخلص عشان أكون معاك يا آدهم.
يااه معقول! شكل كده أخر شخص شوفتيه النهاردة كان دكتور علي، خليكي جنبه اليومين دول هينفعك قبل الجواز وبعده.
هحتاجه بعد الجواز في أيه مش فاهمه؟
ضحك وهو يخبره بمرح: أي ست بعد الجواز بتحتاج لدكتور نفسي يا حبيبي!
وليه الرجالة مش بتحتاج؟!
بنفس وتيرة ضحكاته قال: بعد الدراسات اللي اتعاملت على إيد بعض الستات أكدوا إن الرجالة تنحصر لدِبَبَةٌ القطب الشمالي حيث الثلج والبرق والرعد فبالتالي مفيش تقصير عكسي علينا.
احنا كائنات بنجلط ومبننجلطش!
يعني إنت عايز تجلطني وتزهق نفسيتي وتخلي أخويا يعالجني نفسيًا يا آدهم؟
مش أنا يا عيون آدهم دول كارم وكرم بإذن الله.
مين دول؟
دول أولادنا بإذن الله هنجيب تؤام يا شمسي.
ومالك واثق أوي كده؟!
مش عارف بس حاسس إن كرم ربنا كبير بعد صبري على الابتلاء فهيجبر بخاطري بإذن الله.
ابتلاء!
أيوه وهو أخوكِ أي ابتلاء بردو! ده عمل أسود من الدرجة اللي يصعب فكها بالملح ولا بالتعويذات!
حبيبتي انا صبري عليكي وعلى أخوكِ بمثابة الجهاد في سبيل الله! هاتيلي واحد كاتب كتابه ومش عارف يطول نظرة بريئة!
وتنهد يخبرها: أنا خايف يوم فرحنا يبلغ عني إني مرتشي يا شمس!
غمس كفيه بالمياه ونثره على وجهه، يحاول أن يزيل عنه رواسب تلك الليلة القاتلة، فوجد المرآة ترتعش من أمامه وترسم له ملامح وجه زوجته المرتعشة، نظراتها التي تترجاه أن يصدقها بينما لسانها يعجز حتى عن الدفاع عن نفسها في موقف لا حديثًا بعده.
أدمعت عين جمال ومد يده بالمرآة كأنه يحاول لمس شبح زوجته الظاهر على سطحها، فوجد أنه يطالع ذاته، انقلبت نظراته للاستحقار، ونظرات كارهة، فكور يده ولكم المرآة بكل قوته وهو يحرر آهة تضيق شريانه.
فسقط أرضًا يجلس بين الزجاج وهو يضع يديه معًا فوق رأسه يمنع وصول صوت يوسف الذي يطرق الباب لمسمعه، بينما تنسدل الدماء من فوق رأسه وهو غير عابئ بها.
نجح يوسف بكسر الباب بعد أن دفع أحد المقاعد المعدنية بالباب عدة مرات حتى إنصاع إليه، وهرع يبحث عنه بفزعٍ.
انحنى إليه يبعد يديه عن رأسه ويشمله بنظرة قلقة: جمال!
هدأت وتيرة أنفاسه فور أن اطمئن لسلامته، اتبع سير الدماء ليصل لاصابة يده فمنحه نظرة حزينة وقال: ليه كده يا جمال؟ عايز توصل لأيه باللي بتعمله في نفسك ده!
رفع عينيه الدامعتان له وقال: أنا شوهتها يا يوسف! يارتني ضمتها وسمعتها، عمرها ما هتنسى ولا أنا هنسى، عمرها ما هتسامحني.
وبانكسارٍ استطرد: أنا خسرت صبا خلاص يا يوسف.
منحه نظرة حزينة ونهض يبحث بالادراج عن صندوق الاسعافات الاولية، وما أن وجده حتى عاد يضمد جرحه قائلًا وهو يباشر تعقيمه: صبا اللي استحملت كل ده معاك بتحبك يا جمال، يمكن تكونوا غلطوا انتوا الاتنين بس ممكن ابنكم يقرب ما بينكم ويدلكم الفرصة دي.
هز رأسه رغم عدم اقتناعه، ونهض فجأة يردد: خدني المستشفى عايز أشوفها قبل ما أروح مشوار مهم.
مشوار فين؟
لم يجيبه الا بكلمات مختصرة: خدني ليها يا يوسف!
انتفضت بنومتها فور أن انفتح باب الجناح، فهرولت إليه تصيح ببحة صوتها المفقود: عُمراان!
ضمها إليه بيده وربت عليها باحتواءٍ، فعاتبته ومازالت تتشبث به باكية: كده تسبني طول الليل قلقانه عليك! موبيلك اتقفل ومرجعتش البيت! لولا على كلم فاطمة وجت قالتلي انك معاه وفضلت معايا طول الليل أنا كان هيجرالي حاجة.
أبعد وجهها عنه يقبل عينيها الباكية: بعد الشر يا حبيب قلبي. أنا كويس والله. بس كنت محتاج أكون لوحدي شوية وآ.
بتر حديثه ببعض الارتباك، فسألته مايا بخوف: وأيه يا عُمران؟
جذبها للفراش وانحنى قبالتها يتمسك بيديها ويطالع عينيها بنظرة عاشقة: مايا أنا عارف إنك بتحبيني، وبسبب الحب ده حاربتي الكل وأولهم أنا، خلتيني في النهاية أخضعلك وأنهزم قدامك، أنا عارف إنك قوية وصعب حد يهزمك فمش عايزك تخسري قوة شخصيتك دي دلوقتي، حافظي على اللي في بطنك يا مايا، واجهي اللي بنمر وهنمر بيه بقوة، مش عايز أحس بالقلق والخوف عليكي طول الوقت.
سكن الخوف أضلعها فسألته بشكٍ: ليه بتقول كده يا عُمران؟
نهض عن الأرض وجلس جوارها بحزنٍ شبع ملامحه وهو يرفع هاتفه نصب أعينهما: بمكالمة تليفون واحدة هعملها همحي بيها إسم شركات نعمان وللأبد، هيخسر كل اللي بناه وبيمتلكه.
واستدار بوجهه لها يخبرها بعجزٍ: مش قادر أعملها، حاسس إني ضعيف! مش قادر انتقم لكسرتي ولوجعك ولا لجمال ومراته.
وببسمةٍ ساخرة تعقبها دمعة من عينيه أضاف: مش قادر أنتقم من اللي عراني وعرى مرات أخويا يا مايا؟
انهمرت دموعها، فسحبت هاتفه وألقته بعيدًا عنهما، ثم أمسكت لائحته تخبره بحماسٍ: لانك مش زيه يا عُمران، ولا عمرك هتكون زيه، وبالرغم اللي عشته لسه قلبك صافي ومتقصرش.
هز رأسه ينفي ما تقول، مرددًا بوخزٍ يطحن قلبه: عايز أنتقم يا مايا، عايز أتشفى فيه، بس مش قادر، خايف من لحظة الندم اللي ممكن أعيشها بعد ما أفوق! خايف أكون سبب في حسرة أمي لو جراله حاجة، نعمان هيموت لو خسر ثروته وفلوسه يا مايا.
غمست أصابعها بين أصابعه وهتفت: بلاش تعمل كده، فكر فيا وفي ابنك وانسى اللي عشناه يا عُمران.
رفع وجهه لها وبابتسامته المؤلمة قال: وجمال وصبا هينسوا! وأنا هنسى اللي جمال عمله وقاله!
سحب نفسًا طويلًا وزفره يخفف عن ذاته: يوسف بعتلي من شوية نتيجة تحليل جمال، كان أخد مخدر قوي.
تهللت أساريرها وتمسكت بالحجة المقنعة: طيب الحمد لله، يعني اللي عمله ميتحسبش عليه يا عُمران.
مال لها برقبته وابتسم يخبرها: سمعي قلبي اللي بينزف كلامك وقوليله ينساه ويعالج نفسه!
ولفظ ما داخله مستطردًا: جمال قال اللي مينفعش بعده تبرير ولا شفاعة، نهى كل اللي بينا حتى لو كان مش واعي، أنا مدرك إنه غصب عنه ومش بارادته بس مش هقدر أتعامل معاه لإني صعب أكون زي الاول.
وتعمق بعينيها وهو يستطرد الجزء الهام: عشان كده يا مايا أنا محتاج أبعد. وبترجاكِ متعارضنيش.
أزاحت دموعها وسألته باهتمامٍ: تبعد فين؟
رد عليها بنفس هدوئه: مصر، هنزل مصر كام يوم أريح فيهم أعصابي.
بلهفة قالت: لو ده اللي هيريحك خلاص هنسافر من بكره.
ربت على كفها المسنود لصدره وقال: لوحدي يا مايا. حابب أكون لوحدي.
سحبت كفها بحزنٍ، وصاحت بعصبية: ليه مصمم توجع قلبي عليك يا عُمران!
جذبها لاحضانه مجددًا يخبرها: بعد الشر عليكي من أي وجع، أنا خايف عليكي يا مايا حملك صعب مينفعش تركبي طيارة بحالتك دي. ممكن متقلقنيش عليكي وتكوني كويسة إنتِ والبيبي لحد رجوعي؟
ضمت شفتيها معًا بحيرة: طيب هترجع أمته؟
أجابها بحب: معرفش يمكن اسبوعين أو تلاتة مش أكتر من كده.
ونهض يتجه لخزانته يبدل ثيابه: هنزل دلوقتي عشان فاطمة كلمتني من الشركة، في كام حاجة ضرورية لازم أنجزها قبل ما أحجز التذكرة. عايزك ترتاحي لحد ما أرجع.
أومأت برأسها بخفة وتابعته وهو يصفف شعره ويستعد للخروج ومازال يخادعها بأنه على ما يرام!
استردت جزء ضئيل من عافيتها، فرفعت لها الممرضة السرير لتتمكن من حمل صغيرها الباكي، تحاول أن تقوم باطعامه لمرتها الاولى.
ابتسمت وهي تتأمل ملامحه للمرة الاولى، ولكن بسمتها البسيطة سُلبت منها وصرخت ألمًا من شدة تورم شفتيها التي نزفت فور ان ابتسمت، قبض حياتها وألقاها بالظلام فحتى الابتسامة حرمت منها.
مالت صبا على جسد الصغير تضمه بقوة وقد انهالت دموعها، تمرر يدها على شعره الناعم وتهمس بصوتٍ قد جف صداه: زي القمر يا حبيبي، ربنا يحميك ويباركلي فيك.
وضمته لصدرها ثم مالت على الوسادة تتذكر كل ما فعله بها وتنهمر دموعها على عينيها، تتمنى من صمام قلبها الا تراه بحياتها قط، فأتاها القدر بما تبغضه حينما انفتح بابها وولج من خلفه يناديها بلهفة فور أن رآها قد استعادت وعيها: صبا!