قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والخمسون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والخمسون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والخمسون

تسلل الألم لجسدها رويدًا رويدًا، لا تعلم لآنها تحاملت عليه وقد حذرها الطبيب من ذلك، أم أن رؤيته قبالتها تزيد من وجعها المدفون داخل أعماق قلبها.

مالت على الفازة الضخمة المحاطة بالزرع الأخضر أمام باب منزل الشيخ مهران، تعافر ألا تسقط، وببكاءٍ رددت بصوتٍ كان مسموع لذلك المنصدم: يُونس!
رعشة سرت بقلبه المتجمد فأزاحت برودته، مدته بالحرارة ليعود خافقًا، مستقبلًا لحياة خرج منها إجباريًا.

تخبط مشاعره أمامها جعله صامتًا، يوازن ألف مسألة صعبة، بحاول إستيعاب بأنها الآن أمامه، في منزل عمه بالتحديد، يحاول ربط العلاقة بينها وبين ذلك الصغير، يحاوى استجماع خيوط الخيط ليصل لحقيقة صادمة بأنها والدة فارس الذي حكى له عنها!
توارت صفاء مُقلتيه حول جحيم انتقامه من الخائنة التي دعست رجولته ومزقت حبه دون أن ترأف به، تلك التي قضى خمسة سنوات من عمره يتفنن بالتفكير بطريقة ماكرة للانتقام منها.

وضع يونس الصغير، وتحرك إليها بخطواتٍ، قاتلة، بطيئة، حتى بات قبالتها.
كانت مازالت تنحني لطول الفازة الضخمة، تحيطها بكلتا ذراعيها، فأمسك الحائط ووقفت بصعوبة حتى باتت قبالته بأعينها الباكية.

أنساها شوقها إليه كل ما حدث بالماض، تناست ما إرتكبته بحقه، تناست بأنها مازالت على ذمة رجلًا غيره، تناست حتى أنها الإن أمامه بشعرها دون غطائها ونقابها!
سخرت نظراته منها، فإن رآها أحدًا من المخرجين تتقن الدور لتلك الدرجة يقسم بأنه سيبع ثروته لأجل أن تعمل معه، تحاول أن تريه حبها الجارف إليه وقد نفت خيانتها وما إرتكبته تمثيلها الزائف.

رفعت كفها السليم إليه تضعه على صدره، ورددت ببكاء وصوتًا يُسمع بالكد: ربنا حققلي دعواتي وطلعت عايش!
وتابعت ببسمة واسعة: حمدلله على سلامتك يا يونس.

أخفض بصره ليدها التي مازالت تلامس صدره، ثم انتقل لها بنظرةٍ جامدة، لتجد يده تقترب من كفها، جذبه يونس واعتصره بين يده هاتفًا بقسوةٍ فاحت رائحتها إليها: إنتِ بتعملي أيه هنا؟ البيت ده أشرف من إنه تسكنه واحدة رخيصة وخاينة زيك، بس اللي مش فهمه أيه اللي يخلي عمي يقعدك في بيته ويكدب عليا!
وجذبها بقوة للداخل وهو يصرخ بغضبٍ: عمي، يا شيخ مهراااااان.

بكت وهي تحاول تخليص كفها من معصمه، فخشيت أن يكرهه فارس، فأمسكت يده تحيلها عن يدها ولكن قبضته كانت قوية للغاية، فرددت بتوسل: بلاش قدام الولد، أنا همشي مش هقعد تاني هنا يا يونس.
مال بجسده تجاهها وأشار باصبعه: اسمي ميترددش على لسان واحدة قذرة بنت زيك!

واستدار تجاه فارس الذي يختبئ خلف الباب المفتوح وبهدوءٍ يعاكس ثورته قال: ادخل جوه دلوقتي. يلا!
انصاع له وهرول للغرفة التي تخصهما، بينما خرج الشيخ مهران يعدل جلبابه وهو يتساءل بخوف: في أيه يا يونس، بتصرخ كدليه يابني؟

انتهى من وضع جلبابه حول رقبته ليصعق كليًا من رؤية خديجة بين يد يونس، اتبعته الحاجة رقية فصاحت بصدمة: خديجة! طلعتي من أوضتك ليه يا بنتي!
وتساءلت بلومٍ وهي تتطلع لها: وفين حجابك؟

انحنت للأريكة تجذب غطاء للرأس وأسرعت تضعه حول رأس خديجة، فلفت انتباهها ليد يونس التي تحيطها، فحاولت تفرقيهما وهي تصيح بضيق: سيبها يا يونس، مينفعش كده يابني حرااام!
فشلت بفك معصمه، بينما ابتسم هو ساخرًا: فاكراني مغفل وبعوض شوقي ليها! أنا قرفان وأنا ماسكها أساسًا.

وألقاها بقوة لولا ذراع الحاجة خديجة التي تلقفتها بين ذراعيها، خطى يونس للأمام وبالأخص أمام الشيخ مهران، يتطلع له بنظرةٍ ألمته، وسأله بجمود: ليه يا عمي؟ ليه تفتح بيتك لآنسانه قذرة زي دي، خانت ابنك وداست على كرامته ورجولته؟
ارتبك الشيخ أمامه، ودنى إليه يحيط كتفيه بين ذراعيه قائلًا: في حاجات كتير إنت متعرفهاش يا يونس.

صاح بعصبية هادرة: دي أخر واحدة أحب أعرف عنها حاجة.
ازداد صوت بكائها ورقية تحيطها بقوةٍ وتحاول أن تهدئها، خرج يونس عن صمته القصير حينما قال: هي مش العمارة دي أنا ليا النص فيها؟

اندهش الشيخ مهران من حديثه، وردد ببسمةٍ ألم: أيه يا يونس بتفكر تخلص عمك من العمارة عشان مد إيده لبنت صاحبه اللي سابها في أمانته!
هز رأسه ينفي ذلك، وانحنى يقبل كفه بكل احترام: العفو يا عمي، بس من فضلك لو إنت بتحبني بجد خرجها من هنا، تغور في أي داهية مش فارقة.

اتسعت ابتسامة الشيخ وقال يذكره: بس خديجة وأمها مكنوش ساكنين يا يونس، إنت بنفسك اللي صممت تبيعلهم الشقة بعقد تمليك، يعني قانونًا الشقة بتاعتها.
صرخ بغضبٍ جعل الشيخ مهران يخاف عليه: كنت أهبل وبريالة، لكن خلاص مسحتها، ولو وصلت إني أخرجها من هنا بالقوة هعملها يا عمي، لإني مستحيل أقعد في مكان ال دي فيها!

كان مكتوف الأيدي لا يعرف ماذا يفعل، فقال بهدوء: طيب اهدى يا حبيبي احنا نص الليل والجيران حولينا مينفعش صوتك ده!

باصرار قال وأنفاسه تشوش على صمتهم: ههدى لما تغور من هنا.

خرجت خديجة من أحضان الحاجة رقية وقالت بخفوتٍ ينمي عن شحوبها: خلاص يا عمي الشيخ أنا همشي. هو عنده حق مينفعش أفضل هنا بعد كل اللي عملته معاه.

أوقفها الشيخ مهران محلها: مش هتخرجي من هنا يا بنتي سامعة.

وأشار لزوجته قائلًا بنبرة آمرة: خديها جوه يا حاجة.

أومأت له وساندتها للداخل، بينما اقترب مهران من ابن أخيه يحاول لمس جانبه الانساني: يابني إعقلها هتمشي فين دلوقتي في نصاص الليالي وبحالتها دي.

قال بقسوةٍ تملئ عينيه: ميخصنيش، ترجع للراجل اللي فضلته عليا، تغور في ستين ألف داهية المهم مشفهاش هنا لا هي ولا أمها ولا أي مخلوق من عيلتها.

تنهد الشيخ بقلةٍ حيلة، وهتف إليه: والدتها توفت من أربع سنين، وجوزها هو اللي عمل فيها كده ولو رجعتله المرادي هيقتلها يا يونس لان آيوب رفعلها قضية خلع.

آه من قلبًا خان جسد صاحبه ومال لمن أحبه، بالرغم من أن يتخذ القسوة وعدم اللامبالة بها منهجًا يدرسه لجميع تعابير وجهه وجسده، الا أن قلبه وخز بقوةٍ لسماع ما قال، واتبعه بالخيانة عقله الذي بدأ يُصيغ له عن حالها البائس حينما فقدت والدتها وهو الوحيد الذي يعلم تعلقها بها.

كانت يتيمة الأب والإن الأم والأب، يا ليتها لم تفعل به ذلك، ليتها تركت بابها مواربًا له، والله وبالله إن كانت تركته لكان يغمسها الآن بأحضانه يهون عنها كل ما طالها بغياب والدتها واختبارها لذلك الاحاسيس الموجوعة.

اتبع النغزة نغزة أخرى، من فعل بها ذلك زوجها!، ذلك اللعين الذي يحشد داخله انتقام جهنم ليلهبه بنيرانها، ترى ما الذي حدث بينه وبينها ليفعل بها ذلك؟ وهل تلك هي المرة الاولى التي يرفع يده عليها؟! مهلًا مهلًا لقد أخبره فارس بأنه يضرب والدته باستمرارٍ، والمؤلم له إنها ذاتها خديجة، هل من المفترض أن يكون سعيدًا!

وعلى ذكر فارس يقف عقله عاجزًا عن شعوره تجاه هذا الطفل الذي لم يراه الا بفترة لا تذكر، هل من المحتمل أن يكون ابنه!

عند تلك الحد وجحظت عين يونس بقوةٍ، لا يحتمل تلك الثورة المشتعلة داخله، فأفاق على هزة يد الشيخ مهران المتساءل بلهفةٍ وقلق: مالك يابني إنت كويس؟

ابتلع ريقه بصعوبة، وكل ما يتردد له أن يهرب من هنا، لا يريد الاستمرار بسماع المزيد عنها أو عما يخصها، يود الانهيار بعيدًا، فرفع من صوته الثابت لتستمع له من الداخل عن قصدٍ: اسمع يا شيخ مهران، عشان الصداقة اللي كانت بينك وبين أبوها هديك أسبوع، أسبوع واحد تشوفلها أي مكان تاني غير هنا، لو مغرتش من هنا بعد اسبوع يبقى أنا اللي همشي من هنا وإنسى إن ليك ابن أخ كان معتبرك في يوم أبوه.

واسترسل بألمٍ وهو يهرب للخارج: وطول ما هي في بيتك بيتك متحرم عليا دخوله يا عم الشيخ!

ترك يونس الشقة وهرول للدرج ومنه لشقته، يغلق بابها بالمفاتيح والمزلاج، وكأن هناك شبح يركض من خلفه.

سقط جسده الذي ظنه قويًا خلف بابه، سرت رجفة هادرة به من شدة انفعاله وغضبه، وأخيرًا من بعد خروجه من ذلك القبو سمح لذاته بالبكاء، فبكى كالصغير، وكف يده يكتم شهقاته بخوف من أن يستمع له حوائط منزله، وكأنه يفعل جرمٍ لا يصح به، وكأن إنهياره أمرًا غير مسموح!

مال يونس بجسده خلف الباب وتكور كالجنين، يضم ذاته ويبكي دون توقف، مرددًا بهمسٍ مبحوح: ليه عملتي فيا وفي نفسك كده؟
هما رموا السهم وإنتِ رشقتيه في قلبي، ليه يا خديجة؟!

مال بوجهه على أرضية رخام شقته، هاتفًا ببكاء: مفيش حاجة من اللي عملتها معاكي شفعتلي! عملتيها وإنتِ متأكدة إن بعدها يونس هينتهي، كنتِ عارفة إنك روح يونس اللي بتحركه، هما اخدوا حياتي وإنتِ خدتي قلبي وروحي!

تعالت شهقاته المؤلمة وتابع باستنكارٍ مؤلم: إزاي قدرتي تسلمي نفسك لراجل غيري؟ ازاي قدرتي تعمليها؟!

اعتدل بنومته متكئًا على ظهره، وكأنه متعمد أن يُؤلم نفسه ليخفف من حدة وجع قلبه، فيشتته بالوجع الجسدي، انهارت دموعه رغم هدوء جسده، فردد ببحة سيطرت على حلقه: يا رب لو كان لقائي بيها أقسى من عذابي في سجن الدنيا رجعني ليه تاني يارب!

فرق ذراعيه على الرخامٍ، وأغلق عينيه باستسلامٍ، تاركًا دموعه على وجنته دون أن يهتم بإزاحتها.

بالأسفل.

بقى الشيخ مهران على المقعد المقابل للفراش ينتظر أن تضع الصغير الذي يغفو على ذراعيها للفراش، وزوجته تجلس جوارها تحاول أن تهديها قائلة: خلاص يا بنتي بطلي عياط، اللي حصل حصل.

استدارت برأسها وقالت بحرجٍ: والله ما كنت عايزة أعملك مشاكل يا عم الشيخ، أنا كنت نايمة وقلقت ملقتش فارس جنبي، خوفت يكون معتز درى بقضية الطلاق اللي آيوب رفعها لإن المحامي كلمني وقال إنه هيعرف خلال يومين تلاته.

واسترسلت وهي تزيح دموعها بطرف حجابها الطويل: قومت أدور عليه زي المجنونة، لقيت الباب مفتوح فخرجت لقيت يونس قدامي، اتصدمت ومعرفتش أتصرف.

ورفعت عينيها المتورمة من البكاء إليه: بس أنا مش هكون السبب إنك تخسر ابن اخوك، بكره الصبح همشي وأروح أي حتة بعيدة عن هنا.

قالت الحاجة رقية بشفقةٍ وحزن: هو إنتي قادرة تصلبي طولك يا بنتي!

كان الشيخ صامتًا يستند بوجهها على عكازه، فنهض واقفًا وقال: نامي يا بنتي والصباح رباح، ومتحمليش هم اللي بيني أنا وابني، لما يعرف إن فارس ابنه وإننا عملنا كل ده ليه هيهدى وهيسامح أنا عارفه كويس.

انتفضت خديجة عن الفراش واتبعته بوقفته القريبة من باب الغرفة، تصيح بلوعةٍ: لااااا، أبوس إيدك يا عم الشيخ متعملش كده، أنا لو أعرف إن يونس خارج مكنتش قبلت إني أعرف على معتز قضية الطلاق.

التفت لها الشيخ وبقت عينيه أرضًا عنها: ليه يا بنتي، عايزة تحرميه من ابنه وتستحملي عيشتك مع البني آدم ده ليه؟!

عادت بضعة خطوات لأقرب مقعد، ورددت تبرر سبب جملتها: يونس لو عرف الحقيقه مش هيسكت وخصوصًا لو عرف بموضوع ابنه، مش بعيد يروح لمعتز ومعتز شراني يا عم الشيخ، ممكن يرجعه السجن تاني أو يحاول يقتله!

ارتعب الشيخ وتعالت شهقات الحاجة رقية، فنهضت إليه تصيح برعبٍ: خديجة بتتكلم صح يا مهران، أنا مش مستغنية عن ابني!

تنهد بقلة حيلة، فأصبح عاجزًا حتى عن التفكير، فقال بحزنٍ تعمق إليه وجعله كالذي يصارع الموت: ابني وابن اخويا في يوم واحد، اللهم لا اعتراض، لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.

وتابع وهو يخرج من الغرفة: نامي يا بنتي واطمني ربك موجود وقادر يخلصنا من كل اللي احنا فيه.

وقال قبل أن يغلق باب الغرفة: خلبكي معاها يا حاجة رقية.

فهمت ان زوجها يخشى أن تحمل ابنها وتترك المنزل، فأشارت له بطاعةٍ: حاضر يا عم الشيخ، روح إنت أفرد جسمك قبل صلاة الفجر.

هز رأسه وغادر منحي الجسد، يشعر بأنه بحاجة للقاء ربه الآن ليشكو له ما يضيق صدره، فتوضأ وقام الليل بين يد الله عز وجل.

صباحًا في لندن.

تجلس قبالة معشوقها وحبيبها وزوجها، لتناول طعام الافطار، ذلك العاشق الذي يخصص لها وقتًا صباحًا لها قبل مغادرته لعمله.

يحاول بشتى الطرق أن يملأ يومها ومتفهمًا لانشغالها بالخروج لحفلات الوسط الآرستقراطي المتكررة، لم ينالها غضبه يومًا وكل دقيقة يمضيها برفقتها يخبرها أنها أعظم انتصاراته.

ترك كفها فنجان قهوتها وتسللت ليده المتمسكة بأحدى المجلات التي تتحدث عن المشروع الذي بات حديث العالم، وصُيغ أن عمران سالم الغرباوي المسؤول عن تنفيذه بينما أصبح أحمد الغرباوي شريكًا بنسبة تفوق المساهمين.

شعر بكفها فترك ما يحمله واستدار إليها مبتسمًا، منحته ابتسامة رقيقة وسألته مباشرة دون أي صياغة للحديث: مبسوط معايا يا أحمد؟

ترك المجلة والجرائد جانبًا، وقرب مقعده إليها، حتى بات يجاورها، فسحب كفها المدفون بين كفه الخشن وقربه لشفتيه يقبله بحنانٍ، وصوته الرجولي يهمس: وأنا أيه اللي في حياتي يخليني سعيد غير وجودك جنبي يا فريدة!

تعمقت بالتطلع لرماديته، وقالت بحزنٍ لمسه أحمد بصوتها: أنا بحبك أوي يا أحمد.

انزوى حاجبيه باستغرابٍ، فريدة هانم الغرباوي ليست من النوع الذي يصرح عن مشاعره بشكلٍ مباشر، تلك السيدة يعرفها أكثر من أي شخصًا، كالمجلة التي كانت بين يديه منذ قليل، يعلم بدايتها من الغلاف للغلاف الأخر الذي يعلن عن نهايتها.

رفع أحمد يده لوجنتها، إبهامه يمرره عليه برفقٍ وعينيه متعلقة بعينيها: في أيه يا فريدة؟ ليه شايق في عينك حزن وإحساس بالذنب تجاهي!

تهربت من مرآة ستعكس حتمًا حقيقتها، فرفع ذقنها لتواجه رماديته مجددًا، متنعمًا بزرقة عينيها الفاتنة، فظن أنها تمر ببعض التقلبات لذا قال: حبيبتي اللي فات من حياتنا خلاص اتمسح اللي جاي هنكتبه احنا بايدينا.

وتابع بهدوءٍ وحذر: لو حاسة إن الماضي صعب تنسيه ومحتاجة لمساعدة مفيش مانع تلجئي لعلي، هو هيقدر يساعدك ويسمعك يا فريدة.

هزت رأسها بابتسامةٍ تحاول صنعها، وما ان كاد بمتابعة عمله على الحاسوب حتى أسرعت بالحديث قبل أن تتهرب منه: أنا زعلانه لإني حرمتك من الخلفة يا أحمد، احساس الذنب مش مخليني مرتاحة، إنت ذنبك أيه تتحرم من إن يكونلك ولد!

سحب نفسًا طويلًا يهييء به الحديث، وقال بحبٍ مرسول من مُقلتيه: أنا مش هكدب عليكي وأقولك إن بتمنى يكونلي ابن أو بنت منك، بس أنا مش طماع أو أناني يا فريدة، مش طماع لإن كفايا إنك معايا واتجمعنا بعد فراق السنين دي كلها، ومش أناني أطالبك بشيء فوق مقدرتك وخصوصًا وانتي هتستقبلي أول حفيد ليكِ.

واسترسل قائلًا برضا تام عن حديثه السابق: ولو على رغبتي إني أكون أب فأقسملك بالله بأن على وعُمران وشمس أولادي، ولعلمك بقى الأولاد طالعين شبهي أكتر من أبوهم الحقيقي نفسه.

ابتسمت بفرحةٍ، وغمرها شعور الراحة لقرارها المصيري التي اتخذته، لا تعلم إن أخبرته بحملها ورغبتها في التخلص من جنينه حينها ستختلف وجهة نظره، ما قاله الإن بناء على واقعه ولكن ان حدث الأمر ووقع حينها سيختلف كل شيء!

قاد سيارته متجهًا للمشفى، اليوم هو المعاد المحدد لخروج والدته، صف جمال سيارته وهبط متجهًا للمشفى، فوجد صبا تجلس بالخارج وعلى ما يبدو بأنها كانت تنتظره، فما أن رأته حتى نهضت واتجهت اليه.

وقف قبالتها بجمودٍ، لم تمنعه من الدخول بكلمة واحدة بل دنت إليه فتوقف هو، كانت ترتدي نظارة سوداء تحجب عينيها عنه، فطال بنظره تجاهها بفضول لمعرفة ما تخبئه خلف تلك النظارات التي ترتديها لمرتها الاولى.

تنحنح يجلي صوته ليقطع صمتها الغريب: خير؟

دون أي حديث منها، رفعت ظرف مغلق إليه، تناوله منها وفتحه في نفس لحظة تردد سؤاله: ده أيه؟

تفاجئ بمفتاح شقته، وذهبها الخاص، وبعضًا من المال كان قد تركه لها مسبقًا لمتابعتها مع الطبيب ولاحتياجها الخاص لأغراضها.

زفر بضيقٍ شديد، وقال: وبعدين يا صبا؟ أفهم من اللي بتعمليه ده أيه؟ عايزة توصلي لأيه يعني!

أجلت حبال صوتها المبحوح وقالت: مش عايزة أوصل لحاجة، ده مفاتيح شقتك وحاجتك بما ان اللي بينا انتهى.

التاع قلبه ألمًا وأمسك يدها بقلقٍ فشل بتلاشيه: صوتك ماله؟ وليه لابسه النضارة دي!

قالها وهو يزيحها عنها فصعق حينما وجد عينيها منتفخة بشكلٍ مقبض، جذبت صبا النظارة من يده وارتدتها خشية من أن يظنها تحاول أن تستعطفه، ثم قالت: هتلاقي الفلوس ناقصة بس إن شاء الله هردهملك قريب.

ودون أي اضافة منها استدارت تجذب تلك الحقيبة التي لم يتثنى له رؤيتها، وما كادت بالرحيل حتى اوقفها بعصبية: إنتِ راحة فين؟ وأيه الشنطة دي؟!

وتابع وهو يجذبها لسيارته: اركبي يا صبا وبطلي العبط ده انتي وابني ملزومين مني حتى لو منفصلين!

جذبت ذراعها منه ودفعته بقوة جعلته يرتطم بباب السيارة ربما لأنه لم يتوقع فعلتها: شفقة يعني! لا متحملش هم ابني أنا هقدر أربيه وأصرف عليه كويس، بلاش نزود مسؤولياتك ونتقل من حملك وإنت على أكتافك مسؤوليات كبيرة يا بشمهندس.

وسحبت حقيبتها واتجهت لتوقف سيارة أجرة، فجذبها إليه بعنفٍ غير معهود، صارخًا بغضب: إنتِ شكلك اتجننتي، إنتِ متخيلة اني هسيبك هنا في دولة غريبة ولوحدك!

وقدم لها الظرف قائلًا: الشقة دي بتاعتك حتى لو كانت ايجار، والدهب ده شبكتك ولا يمكن أسترده منك حتى لو مش لاقي أكل مش بنفصل عنك!

واستطرد بهدوء يحاول التمسك به: اعقلي يا صبا واهدي، ماما خارجة النهاردة ومش حمل كل ده.

وقال وهو يعيد فتح باب سيارته: اركبي هوصلك قبل ما أدخلها.

ابتسمت ببسمة باهته وقالت: مش راجعه معاك يا جمال، أنا خلاص حجزت طيارة على مصر بجزء الفلوس اللي اخدتها من المبلغ اللي معاك، فمش هبقى حمل عليك تاني.

وسحبت الحقيبة هادرة: رلنا يعوضك بالزوجة اللي تعوضك عن أنانيتي عن إذنك.

برق بصدمة لما فعلته، لقد تسللت من بين أصابعه كالمياه، وقف يتابعها وهي تعبر الطريق الاخر بارتباكٍ، مال على السيارة يضم رأسه بيديه وقلبه يزيد من وجعًا وُلد بأعماقه.

فاغلق باب سيارته بقوةٍ وعبر خلفها، رأته يأتي إليها والفرحة تزيد بداخلها، هي بالنهاية لا تريد خسارته، وبقرارة نفسها تعلم بأنها مخطئة.

وقف قبالتها يسحب الحقيبة ثم قال: ممكن نقعد ونتكلم شوية.

طالعته من خلف نظارتها وقالت: بس هتأخر على معاد الطيارة.

قبض على الحقيبة بغضب: مش هتسافري يا صبا، مش هتبعديني عن ابني فاااهمه!

ابتلعت غصتها المؤلمة بصعوبة بالغة، هل كل ما يعنيه ابنه! ماذا عنها؟
حسنًا حسنًا لقد أخطأت تعلم ذلك، ولكن ألا يحق لها أن تُمنح فرصة، ازدردت ريقها وقالت بضعف سيطر عليها: متقلقش مش هحرمك منه، إنت أبوه وليك نفس الحق اللي أنا بملكه.

صوتها المتعب وحالتها تلك، استسلامها هذا يوقظ كل وجعٍ داخله، وخاصة حينما قالت: لو تقدر تخلص أوراق الطلاق قبل ما أسافر يكون أفضل، لإن برجوعي لمصر هيكون الموضوع صعب.

اتسعت مُقلتيه بدهشةٍ، وقال بسخرية: أوراق الطلاق! انتِ مستبيعة بقى! استسلمتي بدري اوي!

ابتسمت بنفس عمق وجعه وقالت: معتش شيء ممكن يتعمل بعد ما نطقت الكلمة دي، خلاص كده.

دنى إليها حتى تقلصت مسافتهما: يعني أنا مستهلش إنك تحاربي عشاني يا صبا؟ مستاهلش إنك تحاولي ترجعيني ليكِ؟

أزاح نظارتها السوداء وقال بوجع: بالرغم من جرحك ليا الا إني مش قادر أشوفك بالحالة دي، صعب عليا أسمع صوتك وأحس بتعبك ده، أنا اللي انهزمت ومن أول جولة! أنا اللي بتوجع منك وليكِ!

أخفضت وجهها أرضًا وبكت بانهيارٍ، هامسة بصوتٍ اختفى نهائيًا وبات مسموعًا بالكد: آسفة، سامحني.

جذب يدها وجذبها إليه، ضمها بكل قوته، لدرجةٍ جعلتها متجمدة من الصدمة، جمال زوجها لا يملك تلك الجراءة لفعلها، والآن يفعلها وسط المارة غير، عابئًا لأي شيء.

ارتعش جسدها بين يديه وشعرت بأنها غير قادرة على الوقوف.

ترقبها أن تحيط ظهره ولكن وجدها متخشبة لا تعرف ماذا تفعل؟، مال إعلى كتفها وقال بخشونة صوته الرجولي: رديتك يا صبا.

ازداد نحيبها بشكلٍ ملحوظ، فرفعت يديها وتعلقت به بقوةٍ جعلته يزيد من ضمها، فقال وقد شعرت هي بأن دموعه قد تدفقت على وجنته: آسف إني اتخليت عنك بالسهولة دي، بس كان غصب عني جرحك ليا كبير ومش راضي يلم!

رددت ببحتها المؤلمة: والله عمري ما بصيت لراجل غيرك، أنا بس لفت نظري طريقة لبسه مش اكتر. آسفة والله ما هقول كده تاني، بس متسبنيش أنا بحبك والله.

ظل يضمها حتى ينتهي من اخفاء دموعها، وحينما استعاد ثباته ابتعد عنها وقال: خلاص يا صبا بلاش نتكلم في اللي فات، يلا عشان منتاخرش على ماما أكتر من كده.

وحمل الحقيبة وأمسك يدها يعبر بها الطريق مجددًا لسيارته، وضع الحقيبة بصندوق السيارة ليخفيه عن والدته ثم أشار لها: يلا ندخل.

فتحت الباب الأمام وقالت بخفوت: هستناك هنا.

استدار بعدما كاد بالدخول: لا. تعالي معايا عشان يوسف يكشف عليكِ الأول، شكلك مجهد وتعبان.

انزلقت الدموع من عينيها بكثرةٍ، فهبط الدرجة الخارجية ليكون قبالتها، أمسك يدها وسألها بقلقٍ: مالك؟ التعب زاد عليكي؟!

هزت رأسها بالنفي وهمست له: مقدرتش أفهم حبك ليا صح، مواقفك كلها ليا بتعترف بحبك وأنا كنت عامية مبشفش!

ابتسم وهو يراقب الطريق من حوله، فمرر إبهامه على كفها وقال: هخليكي تشوفيه كويس، من هنا ورايح هصدعك بكلمة بحبك لحد ما تقوليلي خلاص يابو عُمران صدعت!

شملتها الفرحة ولكنها تساءلت باستغراب: عُمران!

هز رأسها مؤكدًا بثقة: طبعًا ابني مش هيكون الا على إسم الشخص الأقرب ليا، عُمران أفضاله عليا كتيرة، فحابب إن ابني يكون على اسمه بس ربنا يستر وميبقاش وقح زيه!

ضحكت على جملته الاخيرة، وقالت: سميه زي ما تحب، أنا مش معترضة.

جذبها ليغلق باب السيارة وولج بها للداخل بصمتٍ، بينما أحاطتها فرحة رده لها وعدم تأثر علاقته برفيقه لأجل حديثها الأحمق.

بالمركز الطبي الخاص بعلي الغرباوي، وبالأخص بغرفة الكشف الطبي الخاص بالنساء والتوليد.

زفر يوسف بضجرٍ، وهو يتابع تلك التي تتمدد على الفراش قائلة وهي تتصنع الألم: مستني أيه اكشف عليا، أنا تعبانه وعندي إغماء فظيع!

مرر يده على جبينه يفركه بغضبٍ، وابتعد بمقعده المتحرك متجهًا الى مكتبه، نهضت ليلى تخفض سترتها، وقالت بعصبية: إنت دكتور إنت! بقولك تعبانه تسبني بالشكل ده!

رفع بصره عن الحاسوب وأشار بيده للباب: روحي لشغلك يا دكتورة، إتاخرتي!

جذبت ليلى أحد المقعدين المقابلين إليه وصاحت بانفعالٍ: ده ردك يا يوسف، ابنك تعبني وأنا مش قادرة بقولك اكشف عليا واديني علاج تسبني بتوجع وفوق كل ده بتتعامل معايا بمنتهى البرود!

عاتقت يديه وجهه وهمس بسيطرة تامة على أعصابه: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!

وأبعد يديه هادرًا بغضب: ليلى أنا بقيت كاشف عليكي أربع مرات وإنتي في شهرك الأول! وده غلط مش فاهم انتي دكتورة ازاي أصلًا! وبعدين يا حبببتي كل الاعراض اللي بتقوليها دي طبيعية جدًا جدًا لما يخترعوا ليها علاج إن شاء الله هبقى أكتبهولك.

جذبت حقيبتها وصاحت بانفعال: بتتريق عليا يا يوسف ماشي.

وقف عن مقعده وقال يراضيها: حبيبتي أنا أقدر. حاولي بس تاخدي الامور بشكل طبيعي واشغلي عقك في شغلك.

وتابع باستغراب: بس غريبة يعني بقالك كام يوم في البيت، إنتِ بطلتي تدخلي عمليات ولا أيه؟

جلست على سطح مكتبه وأخرجته من حقيبتها كيسًا بلاستيكًا وهي تجيبه: برفض أدخل عمليات أساسًا، أنا أم ومقبلش إن ابني يشوف منظر الدم والمشرط والفيلم الرعب ده.

زوى حاجبيه بصدمة: هو فين ابنك معلش؟

أشارت لبطنها المسطح بتلقائية: هنا، إنت نسيت إني حامل ولا أيه؟!

حك لحيته بغيظٍ، وقال مبتسمًا بالاجبار: ودي حاجة تتنسي، ده موضوع مصيري ومستحيل يتنسي!

وهمس بصوتٍ غير مسموع: منك لله يا عُمران، نقيت فيها أديني بدفع التمن غالي!

بتقول حاجة؟

تنحنح بخشونة: أنا أبدًا.

ورفع من حقيبتها الكيس البلاستيكي متسائلًا بذهول: ده أيه يا ليلى؟

رفعته له وقالت ببسمة فخورة: بقسمات يا حبيبي، مقدرش أمشي من غيرها، ده العلاج اللي مخترعهوش للاغماء، أول ما أحس إني هجيب اللي في بطني أطلع الكيس، عشان كده بطلت أظهر في المستشفى، يعني أكيد متقبليش إنهم يقولوا عليا دكتورة البُقسمات جت دكتورة البُقسمات راحت!

جلس على مقعده بتعبٍ بدأ يهاجمه، وقال بصعوبة: ليلى إنتِ بتعملي كل ده عشان أندم وبعد كده أقولك خلي ابننا يبقى وحيد وبلاش نخاويه! لو الحكاية كده فأنا ندمت من دلوقتي ومش هتتكرر تاني يا حبيبتي.

عبست بعينيها مدعية البراءة: جو حبيبي أيه الكلام اللي بتقوله ده!

قاطعهما صوت طرقات الباب، فابتعدت ليلى عن طاولة مكتبه واتخذت المقعد القريب منه ثم جذبت حقيبة يدها تضمها إليها كابنها الرضيع، بينما اصبعها يختطف المقرمشات وتتناولها بنهمٍ.

هز رأسه بقلة حيلة، وتعالى بقوله: ادخل!

ولج جمال للداخل، فنهض يوسف يستقبله بترحاب وفرحة: جيمي، أيه المفاجأة الحلوة دي؟

عانقه هامسًا بمشاكسة: على اساس انك مكنتش سهران معايا طول الليل!

وابتعد يصوب بصره تجاه الجالسة وقال: ازيك يا دكتورة ليلى، عاملة أيه؟

أجابته ببسمة هادئة وقد راق لها بأنه يتطلع بمكانٍ قريبًا منها دون أن يجرحها بنظراته: الحمد لله بخير يا بشمهندس، أخبارك مدام صبا أيه؟

قال وهو يتجه للخارج: معايا بره أهي.

وعاد إليهما بها، فاندهش يوسف وطالعه بنظرة مستفهمة فمال إليه يهمس: ردتها.

ضمه يوسف بفرحة وسط نظرات تعجب الفتيات، وهمس له: طول عمرك راجل يا جمال.

تبادلت الفتياتين السلام بحرارةٍ، وجلستا يتطلعان إليهما، فقال جمال: كنت جاي أخد والدتي فقولت أعدي عليك تشوف صبا، صوتها رايح خالص وشكلها مجهد.

نهض يوسف عن مكتبه وقال بترحابٍ: أوي اوي. اتفضلي لأوضة الكشف يا مدام صبا.

ولجت ليلى برفقتها تعاونها على الاسترخاء بالفراش الطبي، وبالفعل فحصها يوسف وعاد يدون لها بعض الادوية قائلًا ببسمة جذابة: البيبي كويس الحمد لله وكل أموره طبيعية، الدوا ده لوجع واحتقان الحلق، والاجهاد ده هتحتاج للراحة مش أكتر.

التقط منها الروشتة، وأخبره: ماشي أنا هطلع لماما، أشوفك بليل إن شاء الله.

أومأ له بتفهمٍ، فحينما يكون أحد من ثلاثتهم برفقة زوجته لا يطول بالحديث مع الاخر مثلما اعتادوا.

غادر جمال وصعد لوالدته، عاونها على الجلوس بالامام وصبا بالخلف، وعاد بهما لشقته مرة أخرى، وبداخله حربًا فيما سيفعله بعلاقته مع زوجته!

مفاجأة أيه يا على قولي؟!

قالتها وهي تستمع لمكالمته، فلم يمر يومًا دون أن يهاتفها علي، أتاها صوته الدافئ يخبرها: لو قولت مش هتكون مفاجأة يا روح قلب علي، خليني أفجئك بطريقتي.

وتابع بحبٍ: يلا يا حبيبتي متعطليش نفسك وكملي شغلك.

ردت عليه بشوقٍ: هستنى أعرف أيه هي بفارغ الصبر، مع السلامة يا علي.

أغلقت الهاتف وتركته على سطح المكتب، ثم حملت الملف من أمامها واتجهت للباب المتصل بمكتب عُمران تطرقه.

رفع عينيه عن حاسوب والأوراق من أمامه، مشيرًا لها بابتسامة هادئة، فولجت للداخل تضع ملفها أمامه، قائلة: راجع الملف ووقعه.

جذب منها الملف يوقع في الخانة المطلوبة وقدمه لها، فضيقت حاجبيها بانزعاجٍ: ازاي تمضي من غير ما تراجع الحسابات؟!

جذب الاوراق السابقة لديه وقال: واثق إن حساباتك كلها صح يا فاطيما، وحتى لو عندي نية للمراجعة فالنهاردة مش يومه.

وأشار على الملفات المتراصة من أمامه بضيق: أنا مش فاهم إزاي انشغلت في المشروع وسبت الدنيا بالشكل ده، تقريبًا قدامي هنا يومين عشان أروح.
ابتسمت وسحبت بعض الملفات قائلة: متقلقش هحاول اساعدك.

اتسعت ابتسامته فرحة: ربنا يخليكي لأخوكي الغلبان اللي معتش حد حاسس بيه في الشغل غيرك.

اكتفت بهزة ممتنة له، فقال بمرحٍ: قبل ما تمشي لازم تفهمي أن للأخ واجبات ولازم تتعمل مظبوط عشان يتفانى في الأخوة، واهم واجب عليكي كوباية قهوة مظبوطة كل ساعتين بدون ما أنا اللي أطلب على أساس إني محرج منك وكده فبالتالي لازم تكوني ذكية وتفهميني بدون ما لساني يتواقح ويطلب الطلب ده.

تحررت ضحكتها وردت عليه: عنيا حاضر.

غادرت لغرفة مكتبها بينما عاد يتابع عمله بانهاكٍ، فإذا بهاتفه يدق للمرة التي تخطت الرابعة والعشرون.

رفع عُمران شاشة الهاتف يتطلع لاسم المتصل ببسمة مستمتعة، هامسًا بخبثٍ: طق من غيظك أما نشوف مين فينا اللي بيتلوى دراعه يابن أشرقت!

انتهى الرنين وصدح صوت رسائل يستقبلها الواتساب، حرر عُمران الشاشة ليجد ثلاث ريكوردات منه، فتح أولهم وهو يلف بمقعده باستمتاعٍ: وبعدين معاك يا عُمران بكلمك من الصبح ومش بترد، انا عارف إنك متعمد ده. بتعاقبني يعني ولا أيه مش فاهم أنا!

الرسالة الاخرى بعد السابقة بساعة تقريبًا: طيب رد ونتكلم متعودتش يومي يعدي من غير ما تكلمني إنت! عشان كده مشيت بدري امبارح! لانك زعلان اني طلقت صبا، مهو أنا أكيد مخدتش القرار ده من فراغ يا عُمران، وانت عارف اني بشاركك كل حاجة بس في حاجات مينفعش احكيها، احترم قراري ورد عليا بدل ما والله العظيم أجيلك وأسيب أمي أنا قولتلك اهو.

الرسالة الاخيرة التي وصلت منذ ثوانٍ: ردتها يا عُمران ارتحت! افتح بقى!

تحررت ضحكة على وجهه، فأشرقته بجاذبية لا تخص سواه، فحرر هو زر الاتصال المتلهف إليه وما ان استمع لصوته يجيبه حتى قال بفرحة: مبسوط أوي إنك عقلت يا جيمي، خليك كده عاقل عشان أحبك.

انفجر به غاضبًا: انت يعني بتلوي دراعي عشان أردها يا عُمران!

ضحك مستهزءًا: احلف انك ردتها عشاني!

صمت الاخير وقال: بصراحة أول ما شوفتها مقدرتش أتحمل فكرة إني هبعد عنها!

لانك بتحبها يا جمال، ويا سيدي أنا مش عايز اعرف سبب الطلاق ولا اللي بينكم كل اللي عايز أقولهولك ان خراب البيت مش سهل، أنا أكتر واحد جربت ازاي تعيش من غير أب، ومهما انت حاولت تحافظ على ابنك وتعوضه والله ما هتقدر طول ما أنت ووالدته بعيد عن بعض، فكر في ابنك وفي بيتك يا جمال، حاول ازاي تصلحه مش تخربه!

وتابع بحزنٍ تعمق داخله: كلنا بنغلط، مفيش حد اتولد ملاك، ادي فرصة مرة واتنين لان حياتك مع الانسانة اللي بتحبها تستاهل إنك تعمل كده وتضحى، يمكن تغلط إنت النهاردة وتسامحك هي، وبكره الدور هيجي عليها وهتلاقي نفسك بتغفرلها وإنت راضي لانها سبق وقدمتلك العفو.
خليك واثق إن الدنيا عمرها ما هتكون وردي وبفراشات، لسه في تعثرات كتيرة جاية لازم تكون مستعدلها كويس.

ماشي يا عم أحمد شوقي، هشوفك عند سيف النهاردة؟

باستنكار سأله: نعم! انت ناوي تروح وتسهر، أمال ردتها والكلام اللي كنا بنرغي فيه ده أيه! انت بتشتغلني ولا فاضي بروح أمك!

آه من لسانك اللي عايز مقص مالوش فرامل يقصه ده. يابني أنا اتنيلت ورجعتها بس بردو محتاج أحسسها بغلطتها عشان خايف تكررها يا عُمران.

حزن عُمران لما تسبب هو به رغمًا عنه، ولكنه أحرز نقطة ايجابية حينما نجح بضغطه عليه ليعيد حياته، فتنهد قائلًا: خلاص يا جمال زي ما تحب. بس عشان خاطري الولد اللي جاي مالوش ذنب.

عُمران متخنقنيش أكتر من كده، ها جاي بليل ولا أيه النظام؟!

أجابه بانهاكٍ: لا مش هقدر عندي شغل متلتل فوق دماغي، بسبب المول، هحاول أخلصه عشان الاسبوع الجاي هنكون أنا وانت في الموقع كل يوم.

طيب مش هطول عليك، أشوفك بكره يا وقح!

ضحك بسخرية: مقبولة منك يا متهور!

وأغلق الهاتف ثم عاد لعمله، فقاطعه حسام سكرتيره الخاص يناديه: مستر عُمران، في واحد محامي بره مصر يقابل حضرتك وبيقول إنه جايلك في مسألة شخصية!

استند بظهره على المقعد، ويده تلهو بالقلم: وده عايز أيه ده!

رفع كتفه بحيرة، فقال عُمران: دخله لما نشوف حكايته أيه!

خرج حسام يشير للمحامي: تفضل سيدي بإنتظارك.

ولج للداخل يصافحه وهو يردد برسمية باحتة: يشرفني مقابلتك وجهًا لوجه سيدي.

أجابه عُمران بفتور: أشكرك، تفضل بالجلوس.

جلس قبالته يردد بارتباك ملحوظ: سيدي، لقد جئتك بطلبٍ من احدى السجينات التي تبنيت الدفاع عنها، واليوم حينما فشلت باخراجها طلبت مني الحضور إليك بشكلٍ خاص وآ...

قبل أن يستكمل كلمة واحدة سأله عُمران بصوتٍ محتقن: ما إسمها؟

لعق شفتيها بتوترٍ: ألكس!

واستكمل قبل أن يتحرر وحش عُمران: طلبت مني إخبارك بضرورة زيارتها لتخبرك أمرًا هام متعلق بآ...

أطاحه عُمران عن مقعده، ودفعه للحائط هادرًا بانفعالٍ شرس: كيف تجرأ على الحضور هنا وذكر إسم تلك العاهرة أمامي!

فتح باب المكتب ومن ثم دفعه بالخارج أرضًا وأشار له بتهديدٍ: إن أتيت إلى هنا مجددًا أعدك أنك لن تخرج حيًا أيها المعتوه.

وصرخ بعنفوان: حسام اطلب (Security Guard السيكيورتي جارد) من تحت يرمي الكلب ده من هنا، وممنوع يظهر في مكتبي مرة تانية والا مش هيحصلك كويس.

وتركه وولج لمكتبه يغلق بابه بقوةٍ، وعاد لمقعده ينظم أنفاسه حتى هدأ تمامًا.

دث مفتاحه بباب الشقة، ولج بالأكياس الضخمة التي يحملها يناديها وعينيه تفتش عنها: سدن!

عاد يكرر ندائه والاخرى تقف مندهشة أمام مرآة المرحاض، فخرجت تقف أمامه مرددة كالبلهاء: أهناك فتاة هنا غيري!

التفت تجاه الصوت وسريعًا ما استدار، يضع يديه على عينيه صارخًا: كيف تخرجين أمامي كذلك ألا تخجلين يا امرأة!

انزوى حاجبيها البني باستغرابٍ، فشملت ذاتها بنظرة متفحصة، كانت تحيط جسدها بمنشفة ضخمة لا تبرز شيئًا منها الا كتفيها، ومنشفة أخرى على شعرها، رددت آديرا ساخرة: بربك يا آيوب أرتدى ثيابًا أقصر من تلك المنشفة! إنها محتمشة عن كل ملابسي!

وجد أنها تمتلك كل الحق، ولكنه ظل كما هو، وناولها أحد الأكياس قائلًا: لقد اشتريت لكِ ثيابًا جديدة، ارتدى منها الآن واخرجي لنتحدث قليلًا.

جذبت منه ما يقدمه، وقالت بفضول: هل ستقص لي عن أمر تلك السدن المسلمة والحقيقة التي تحدثت عنها بالأمس؟

أومأ برأسه وقال: سأفعل ولكن ترتدى ملابسك أولًا.

اتجهت لاحد الغرف وتفحصت ما بالأكياس، فوقفت مبهورة من الفساتين بسيطة التصميم، انتقت احدهم وارتدته، فجحظت عينيها بانبهارٍ تام، وانطلق صوت ضحكاتها المجلل وهي تدور بسعادة أمام المرآة.

هرعت للخارج تصرخ بحماسٍ لذلك الذي يتحدث بالهاتف مع آدهم الذي يخبره بأنه بالاسفل بصحبة علي، ليجد تلك التي تصيح: أنظر آيوب لقد أصبحت كالأميرات!

قالتها وهي تلف وهي تفرد ذراعيها بسعادة، انزلقت الكلمات عن فمه، فبقى يراقبها بانبهارٍ، كانت فاتنة بكل ما تحمله الكلمة بهذا الفستان الأسود المحتشم، كان يهبط باتسارع لا يحدد منها أي شيء سوى جمال وجهها وتأنقها باحتشام تام.

لاول مرة يراها جميلة حقًا، رغم وجهها المتورم، لم يغريه جمال العري وكشف ستر جسدها بطريقة كانت تجعله يشعر بالنفور دائمًا تجاهها، والآن قد تيقن بأنها باتت مصدر أشد خطورة عليه.

أفاق من غفلته على صوت آدهم: يابني روحت فين أنا تحت البيت هتنزل ولا أيه؟!

رد عليه بعد استيقاظه: نازل حالًا.

وأغلق الهاتف، ثم تابعها وهي تعود إليه مجددًا حاملة الحقيبة، تخرج منها فستانًا وراء الأخر وتهاتفه بسعادة: أريت إنه جميل حقًا! انتظر سأجرب هذا.

أوقفها قائلًا: انتظري سدن أريد أن أخبرك بشيءٍ.

تأففت بضيق: لماذا تناديني بهذا الأسم الغريب، اسمي هو آديرا.

اقترب منها يجيبها برفق: ألم تعتنقي الدين الاسلامي بلندن؟

هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال: حسنًا لن يظل إسمك آديرا بعد.

بانزعاج قالت: ولماذا سدن بالتحديد؟! هل كان أخي يعلم بأنني سأعتنق الدين الاسلامي لذا اشتري لي هذا السلسال؟!

امتص انزعاجها حينما قال بحنان: سأجيبك على كل أسئلتك أعدك بذلك، ولكن على الذهاب الآن، أصدقائي بالأسفل ينتظروني، وإلى، أن أعود لا أريدك أن تخرجي من المنزل مثلما فعلتي بالأمس، هل تعديني؟

بدى المكر مختبئ بخضرة عينيها، ولكنها هزت رأسها تؤكد له: حسنًا.

وجذبت وشاحًا قد وجدته بالكيس البلاستيكي قائلة ببسمة جعلته لا يود رفع عينيه عنها: سأسمح لك بالذهاب أن عقدت لي هذا الوشاح كما أرى على السيدات هنا.

منحها ابتسامة رائعة وقال: سأفعل بكل تأكيد.

وبالفعل أحاط آيوب شعرها برابطة تخصها، ليعكصه على شكل دائري، ثم وضع لها حجابًا صغيرًا ترتديه أسفل الحجاب الخارجي.

وضع الحجاب الخارجي عليها ووضع الابرة بمنتصف الحجاب، ثم وضع طرفيه على كتفيها، ووقف يتفحصها هامسًا دون ارادة منه: بسم الله ما شاء الله!

دغدغها مشاعر تزورها لأول مرة، كانت حزينة حينما ترى النفور منه، ولأول مرة تراه مبهورًا بجمالها، فشعرت بأنها ملكة قبل أن تخطف نظرة لنفسها بالمرآة، يكفيها أنه يراها بهذا الجمال.

شردت بذلك الرجل العظيم، الذي لا يغريه العري بل الاحتشام، احترمته كثيرًا واحترمت دينه الذي يجعله يكن كل الاحترام للمرأة ولزوجته بشكلٍ خاص، لذا تحمست لخطوتها التي تخطط لها منذ الصباح، فوقفت بالشرفة تراقبه وهو يصعد لتلك السيارة الضخمة ويغادر بها الحارة.

بمنزل الشيخ مهران.

طرق يونس الباب مرتين متتاليتين حتى فتحت الحاجة رقية الباب، فقالت بابتسامة رائعة: ادخل يابني واقف بره ليه؟

بجمودٍ وتحفظ قال: قولت لحضرتك مستحيل أدخل مكان هي فيه، عايزك تناديها محتاج أتكلم معاها في شيء.

وتابع بتحذيرٍ: ويا ريت تقوليلها تلبس نقابها لاني مش طايق أشوف خلقتها.

أومأت بحزن: حاصر يا يونس.

وبالفعل ما هي الا دقائق وخرجت برفقتها، تطالعه عينيها الباكية بحيرةٍ، تهرب من نظراتها وقال: هو سؤال واحد هسألهولك وبعدها همشي على طول.

هزت رأسها اشارة له، فتابع بعد مجاهدة بالحديث: فارس ابني؟!

تجمدت الحاجة رقية محلها ما بال تلك الهزيلة، سقطت دموعها تباعًا وبدت عاجزة أمامه، مما دفعه للضحك بسخرية مؤلمة: هو السؤال ده صعب للدرجادي! ولا إنتِ من كتر خياناتك مبقتيش عارفة مين أبوه!

أيه اللي بتقوله ده، بتخوض في عرض الولايا يا يونس!
كلمات صرخت بها الحاجة رقية غاضبة، ولكنه تجاهلها وصرخ بمن تقف مرتجفة أمامه: سألتك سؤال انطقي!

أجابته بصوتٍ مرتعش: معتز أبوه.

طعن قلبه دون رحمة منها لمرته الثانية، ومع ذلك استكمل بثبات: وأيه اللي يثبتلي انك مبتكدبيش؟

تركته وولجت للداخل ثم عادت له بحقيبة يدها تخرج إليه الشهادة المزورة، فما أن طالعها يونس حتى أغلق عينيه بألمٍ، وألقاها إليها بغضب واستحقار، كيف سمحت له بالتقرب إليها؟ كيف سمحت بأن تحمل جنينه!

خشيت خديجة أن يكون صمته يعني بأنه لا يصدقها، فقالت؛
ولو عايز تتأكد أكتر اعمل تحليل واتاكد مش همنعك. أنا مستحيل أنسب ابن لأب مش أبوه!

ابتسم ساخرًا ونطق: اللي سبق وخانت تعمل أكتر من كده.

وتركها وغادر دون أن يلفظ بكلمة اخرى، فتعالت شهقاتها الباكية بصوتٍ مزق قلب رقية، فضمتها إليها وهي تردد بقلة حيلة: حلها من عندك يا رب!

بسيارة آدهم.

كان آيوب منشغل بالحديث مع على عن حالة يونس، بينما هو شاردًا، حزينًا، فلقد تلقى بالامس نتيجة الفحص وقد كان ايجابيًا كما توقع هو وأبيه، اذًا آيوب هو أخيه بنسبة مئة بالمئة، لا يعلم كيف سيصارحه بالأمر.

لمحه يبتسم لعلي، فابتسم بدوره هو الاخر وبداخله يقسم أن لا يدع الحزن يطرق بابه.

توقفت سيارته أمام المحل الرئيسي الخاص بيونس، فهبطوا ثلاثتهم واتجهوا للداخل، فوجدوا ايثان بالداخل.

استقبلهم بحفاوة واخبرهم أن يونس بالطريق، جلسوا على المقاعد ينتظرونه، وما هي الا دقائق وولج يونس ملقيًا السلام فأجابوه جميعًا، ونهض إليه آيوب فتعجب من رؤية الغضب يحيل عينيه، فاستغل التهاء ايثان بالحديث مع آدهم وعلى وجذبه جانبًا يصيح من بين اصطكاك أسنانه: كنت عارف إن الخاينة دي في بينك ومقولتليش، لا وكمان رافعلها قضية خلع!

ابتلع آيوب ريقه بتوتر وقال: مكنش ينفع أتخلى عنها يا يونس، جوزها راجل معندوش رحمة وآ.

قاطعه ساخرًا: وأيه يابو قلب رهيف، ولا تكنش أغريتك وكلت بعقلك حلاوة إنت كمان، فعايز تطلقها منه وتتجوزها انت!

جحظت أعينه بصدمة، وقال: أيه اللي بتقوله ده يا يونس! أنا الست اللي كانت في يوم مرات أخويا محرمة عليا ليوم الدين!

أخفض عينيه أرضًا وقال بحرجٍ: أنا آسف يا آيوب، بس لما شوفتها عند عمي وأنا هتجنن.

ربت على كتفه وهدر بتفهمٍ: ولا يهمك المهم تعالى أعرفك على على صاحبي من لندن.

خرج برفقته واتجه إليهم، جلسوا قبالتهم، فأشار آيوب عليه: ده الاستاذ على أخو عُمران صديقي اللي كنت بتكلم معاه.

صافحه يونس بودٍ، بينما مد إيثان يده يصافحه بحرارة: أنا أعرف أخو حضرتك وأتمنى أنك تقنعه يشتغل عندي(عارض أزياء Fashion model)، عنده كاريزما وحضور رهيب.

ضحك على وأجابه: بلاش تشتغل مع عُمران في شيء مهم وشايفه حلم لآنه مش بس هادم الأحلام والملذات ده هيفرم حلمك ويحشيه في صينية مكرونة بشاميل، وإسأل آيوب هو أكتر واحد هيعرف يديك معلومات عن الطاووس الوقح!

ضحكوا جميعًا، فأكد آيوب: والله بحاول أقنعه مش راكبة معاه!

زفر إيثان بضيق: طيب ليه ميبقاش طيب وعِشري زي حضرتك كده؟

ردد آدهم ضاحكًا: عُمران وطيب في جملة واحدة! يا كابتن إيثان خليك في جيمك تدرب عضلات الناس بدل ما بعد كده تحتاج اللي يدربلك عقلك عشان يرجع طبيعي زي ما كان!

ابتلع ريقه بارتباكٍ وقال: ليه هو مجنون؟

انفجروا ضاحكين، الى أن قال آدهم بصعوبة: لا وقح ومعندهوش حدود. وأدي أخوه اسأله!

كان على يتابع يونس بدقة، جعلت آيوب ينهض وهو يشير لايثان: تعالى بره عايزك.

وعلى الفور لحق بهما آدهم لعلمه المسبق لما يحدث هنا، وقبل أن يخرج وضع مفاتيح سيارته لعلي قائلًا: المفاتيح أهي يا علي، يادوب ألحق مشواري قبل معاد الطيارة بليل.

شاكسه ببسمة جذابة: ماشي يا حضرة الظابط بس خد بالك من المية واليخت، مش عايز مشاكل مع عُمران أنا!

رفع يده لعينيه: شمس في عنيا الاتنين، حتى لو وصلت أكون مركب نجاة ليها مش هتأخر.

أشار له ضاحكًا: طيب الحق وقتك لإنه بدأ ينفذ.

أشار بيده بسلامٍ عاجل وخرج على الفور، بينما بقى على قبالة يونس يتابعه ببسمةٍ هادئة، فشقها قائلًا بمكرٍ: من ساعة ما قعدنا وأنا ملاحظ إنك ساكت ومش بتتكلم خالص، ده حتى صاحبك بيتكلم وبيضحك أكتر منك.

استند بظهره للمقعد وقال ببسمة ساخرة؛
وأيه اللي يخلي الواحد يفرح ويجيله نفس للكلام!

بدأ بدوره بمهارةٍ، فتابع على نفس المنوال: وأنت فاكر إن كل اللي، حواليك دول معندهمش اللي يخليهم بحالتك دي أو أبشع منها، بس الأغلب بيتناسى اللي بيواجهه وبيحاول يتجاهله عشان يقدر يعيش.

ربع يديه حول صدره وتابعه بقوله المستهزأ: مفيش شخص بيقدر ينسى، كل ده كدب.

مال على بجلسته للأمام وقال مبتسمًا: هي صحيح كدبه بس هما كمان بيحاولوا يشوفوها كده عشان يكملوا الحياة اللي لو وثقوا إن اللي شافوه حقيقة وواقع حياتهم هتتدمر، زي ما أنت بتدمر حياتك كده يا يونس.

اتسعت حدقتيه بدهشةٍ: تقصد أيه؟!

اتسعت ابتسامته وقال بصوته الرخيم: اللي شوفته في حياتك أيًا كان صعوبته فلو محاولتش تسيطر عليه هيدمر اللي باقي من حياتك، وهيخليك محلك سر، أول ما تلاقي نفسك واقف تحارب وتبعد عن كل ذكريات المؤلمة دي إعرف إنك اتغيرت وبقيت قوي وقادر تقف قدام نفسك وتهزمها.

رمش بعدم استيعاب، شعوره بالارتياح لحديث هذا الشخص أرغمه على سؤاله بذهولٍ: إنت مين؟!

أجابه ببسمةٍ جذابة: دكتور على الغرباوي دكتور نفسي وأكتر حد ممكن يساعدك.

نهض يونس عن مقعده هادرًا بعصبية: آه عشان كده آيوب جابك، سيادته شايفني مجنون!

لم تتلاشى ابتسامته بل تابع ومازال جالسًا بثقةٍ وثبات مهيب: الدكاترة النفسية مش تخصصهم علاج المجانين يا يونس، وعشان أكدلك المعلومة كلنا محتاجين لدكاترة نفسية حتى أنا بحتاج لنفس الشيء، محدش سليم نفسيًا بنسبة مية في المية، كلنا جوانا وجع مدفون، كلنا بننجرح وبنتألم لإننا بالنهاية بني آدمين.

وتابع وقد انتصب بوقفته برزانة: في اللي بيقدر يتخطى مواقفه الصعبة لوحده وفي اللي بيحتاج لحد يأخد ايده وهنا الفرق.

ارتخت تعابيره المشدودة رويدًا رويدًا، فانحنى على لسطح مكتبه وجذب قلمًا وورقة، وأخذ يدون رقمًا أسفل نظرات يونس التي تراقبه.

انتصب بوقفته بعدما ترك الورقة على سطح المكتب وقال: في ناس حواليك بتحبك وبتتمنى إنك تكون كويس، وأولهم آيوب اللي اترجاني أخبي عليك إني دكتور نفسي عشان مشاعرك، بس في حالتك وشخصيتك اللي كونت عنها فكرة سريعة لقيت إن الصدق بينا هيكون أسرع طريقة إنك تكون أفضل.

واستطرد مشيرًا للورقة: ده رقم تليفوني أنا راجع لندن بليل، لو حابب تكمل معايا اتصل بيا لو مش حابب براحتك محدش هيجبرك، لإن لو إنت اللي مختارتش تساعد نفسك بنفسك يبقى لا أنا ولا غيري هيقدر يساعدك.

ومنحه ابتسامة أخيرة قائلًا: اتشرفت بمعرفتك يا يونس، عن إذنك.

وتركه وغادر بينما يونس سقط على المقعد حائرًا، مرتبكًا، يشوبه الاختناق، لا يعلم ماذا يفعل؟ لكن كل ما يعلمه أنه شعر بالارتياح الحديث لهذا الشخص الذكي!

انتهى الشيخ مهران من تلاوة وارده اليومي بخشوعٍ تام، مستغلًا بقائه بمفرده بالمنزل بعد ذهاب الحاجة رقية برفقة خديجة للطبيب، وتركوا فارس معه فوضع له الألعاب وجلس يقرأ وارده.

تعالت الطرقات ودق الجرس فنهض الصغير يفتح الباب، وقف حائرًا أمام تلك المرأة، مما جعل الشيخ يصدق بالله العظيم وينهض ليرى من القادم.

وقف حائرًا أمام تلك الفتاة، فسألها باستغراب: انتي مين يا بنتي، وعايزة مين؟

أدمعت عينيها برعبٍ مما هي قادمة لفعله، فرفعت كفها إليه وفتحته، فرأى بيدها سماعتين صغيرتين الحجم، تطلع لها وقال باستغراب: ده أيه؟ مش فاهم؟!

وحينما دقق النظر لها ثارت معالمه بغضبٍ عارم، فأشارت له بالسماعة على أذنيه ففهم بأنها تود أن تتحدث معه والسماعة تلك ما هي الا طريقة ليتمكن من فهم حديثها، اندهش بالبداية لرؤيتها بملابس محتشمة وحجابًا جعلها رائعة، لذا رضخ لها ووضع السماعة مثلما مدت يدها ووضعت من أسفل ححابها الاخرى وقالت: أريد الحديث معك شيخ مهران، لقد أتيت لمصر من أجل اللقاء بك، أرجوك امنحني فرصة الحديث إليك، آيوب بريء لم يتزوج بي الا لحمايتي من عمي، وبفضل آيوب والظابط المصري تخلصنا منه بعد ان اختطفني أنا وآيوب، كان يريد ان يقتلني يا سيدي!

بدد غضب الشيخ وشعر بأن تلك الفتاة تحمل بجعبتها الكثير، ربما ظلم ابنه الوحيد وهو يرغب أن يكون احتماله صائبًا وكم يتمنى أن يكون كذلك.

أشار لها بهدوءٍ: تعالي ادخلي.

استمعت لصوت المترجم، فابتسمت بسعادة وكأن العالم ابتسم لها، ولجت للداخل ولحق بها بعدما ترك بابه مفتوح على مصرعيه، وجلس على بعد منها يسألها بقلقٍ: آيوب اللي عمل فيكي كده؟!

انتظرت قليلًا لسماع المترجم، وما أن فهمت ما قال حتى أشارت بجنون: لا لا سيدي لم يفعل بي كذلك، آيوب شخصًا طيب القلب لا يفعل كذلك أبدًا.

وبحزنٍ قالت: بالأمس كان حزينًا بعد ما حدث بينكما، فأخبرني بأنه لم يتزوجني الا لحمايتي كما كنت أعلم وحينما شعرت بأنني سبب تعاسته رحلت ليلًا وتعرض لي بعض الرجال لولا أن أنقذني هذان الشابين اللذان كانوا هنا بالأمس.

هز الشيخ رأسه وقال: طيب قولي اللي انتي جاية تقوليه عشان ميصحش قعدتنا كده يا بنتي.

وكأنها محاميًا امتلك فرصة الدفاع عن متهمًا بريء، وهي ستجيدها لاجل ذلك الشاب الخالوق، فقالت بلهفة: يا سيدي أنا فتاة يهودية ولدت يتيمة، لم يكن لي الا أحدٌ الا أخي وعمي، كان هو المسؤول عنا ورأيت فيه الأب الذي حرمتني منه الحياة، رأيته أماني وفجأة تبددت صورته المزيفة ورأيته شيطانًا يريد انتزاع روحي! روح ابنته!

قالتلها ببكاءٍ جعل قلبه يرق لها، واستطردت دون أن تلتقط أنفاسها خشية من أن يطردها دون سماع براءة آيوب كاملة: إلتحق أخي للجامعة، ومن حينها وأصبح شخصًا مختلفًا عما كان عليه، شك به عمي وراقبه ليعلم بعدها بأنه اعتنق الدين الاسلامي على يد مصري، جن جنونه وأراد ان يجعله يعود عن دينه.

انهمرت دموعها وقالت: رفض وقطع علاقته بعمي وابتعد، إلى أن أتاني خبر وفاته بطريقة كسرت احدى أجنحتي، فكان هو جناحي الأيمن وعمي جناحي الأيسر، أصبحت دونه عالقة لا أستطيع أن أحلق وأنا أملك جناحًا واحدًا.

زرع عمي الكره والحقد لهذا الشاب المصري الذي غوى أخي وجعله ينفر من ديانته، ومن ثم قام بقتله، وهددني إن لم أقتله سيقتلني هو، لذا كنت مرغمة على البحث عنه وقتله.

برق الشيخ بصدمة مما خاضه ابنه دون أن يحدثه شيئًا، فتابعت بندمٍ: أجل سيدي هذا الشاب الجامعي هو آيوب، ومن تجلس أمامك هي نفسها تلك الفتاة العبرية التي حاولت قتله لأكثر من خمسة مرات، وكل مرة ترتعش يدها أمام صلابته وشجاعته، حتى الخوف لم أراه يومًا بعينيه.

تمردت شهقاتها بصوتٍ عالي، وقالت بخزي صريح: وفوق كل ذلك قدم لي السكن والمال والطعام، دون أي مقابلًا يا سيدي!

وتطلعت بعمق عينيه الباكية ندمًا على اقترفه بحق ابنه ويده التي طالت وجهه، فقالت ببكاء: أتعلم كنت أرى نظرات الأعجاب والرغبة بعيون الرجال تنهمش جمالي الا هو!

وبثقةٍ قالت: هو ليس مثلهم يا سيدي، أقسم بقسم آيوب أقسم بالله الواحد الأحد أنه لم يمسني حتى بنظرة منه حتى بعدما أصبحت زوجته!

شخصًا تقيًا مثله أرغمني على الشك بأمر كونه قاتلًا أو إرهاربيًا مثلما أوهمني عمي، هُدمت ظنوني تجاهه وقد صدقت حينما تأكدت بإن عمي هو من قام بقتل أخي بعد أن قام بتعذيبه ليرتد عن دينه.

ورفعت يدها تشكو له باكية: أخبرني يا عم الشيخ كيف يمكن للأب أن يقتل ابنه ويحاول قتل ابنته؟

توسلت له أن يتركني ولكنه لم يفعل، ضربني وكسر عظامي والأصعب لي هو كسر جناحي المتبقى فلم يعد لي ما أستطيع الحياة لأجله، ألقاني بعدما طعني بالسكين وكنت قد استسلمت للموت لولا رؤيتي لآيوب بمنامي لما استيقظت وتحاملت على اصابتي وذهبت إليه بشقة صديقه الذي كان يقطن بها لأسكن شقته دون أن يشاركني بها.

تابعت ببكاء، جعله يبكي هو الاخر: رأته بحُلمي يحملني على ظهره ويطوف بي حول الكعبة التي أخبرني عنها مرة، تعجبت لحلمي الغريب كنت اظن أن أخي من سيزورني بأخر أنفاس لي بالحياة ولكن آيوب من فعل.

السعادة التي رأيتها بحلمي منحتني العزيمة للفرار من مستنقع عمي، وحينها جُبر أن يتزوجني لإنه رفض أن يبقيني معه دون عقد زواج.

وانهارت أسفل الأريكة باكية، تزحف إليه وتتمسك بيده تردد ببكاء حارق: أرجوك سامحه يا عم الشيخ، أقسم أنه لم يعتبرني يومًا زوجته.

نهض مهران وعاونها على النهوض قائلًا ببكاء: قومي يا بنتي، أنا غلطت في حقه ولازم أعتذرله.

هزت رأسها بابتسامة سعيدة وقالت تدعمه: نعم، نعم سيدي لقد ظلمته بكل تأكيد، كان يحميني من عمي وحينما اختطفنا أخبرني بأن أخي وضعني بأمانته قبل موته لهذا كان يحميني، حتى أنه لم يطالبني باعتناق دينه أنا من فعلت وصديقه عُمران من دعمني على ذلك، وحينما سألته ماذا ينبغي على فعله بعد نطقي بالشهادتين أخبرني أن الشيخ مهران والد آيوب الجدير بفعلها.

وازاحت دموعها وقالت برجاء الا يخذلها: هل يمكنك أن تأخذ يدي لأعرف قواعد الدين وكيفية اداء صلاتي يا سيدي؟

أغلق عينيه يعتصر تلك الدموع، لقد جعله ابنه فخورًا به، والآن يمنح شرف توبة تلك الفتاة، فتح عينيه الباكية وقال: أنتي من النهاردة بنتي وده بيتك، وزي ما ساعدت ناس كتير هساعدك يا بنتي.

انحنت تقبل يده ببكاء فربت على حجابها وهو يبعد يده: العفو يا بنتي.

ابتسمت بفرحة كبيرة، ولكنها عادت تسأله بحبٍ: هل يعني ذلك بأنك سامحت آيوب ولن تعود لضربه مجددًا؟!

اتسعت ابتسامته وقد قرأ حبها الواضح لأبنه، ولكنه لم ينزعج إن كانت بالطهارة والعفة التي التمسها بحديثها ورغبتها بتعلم اصول الدين فسيكون فخورًا بها كزوجة لابنه الغالي آيوب، جلى صوته الوقور وقال: مش هضربه، هأخده في حضني أكيد.

ابتهجت كثيرًا وقبل أن تضيف كلمة واحدة استمعت لطرق باب المنزل، تركها الشيخ مهران وخرج للباب، فوجد آيوب يقف على عتبة بابه المفتوح، رفض أن يدلف خشية من أن يطرده أبيه ففضل البقاء ودق الجرس.

خرج اليه الشيخ مهران بأعين حمراء من فرط البكاء، ليتفاجئ به يقف حزينًا، وما أن رأه حتى قال بلهفة: بابا أرجوك متطردنيش أنا والله مقدر على زعلك ولا على غضبك عليا.

أمسك أيوب يده وقبلها وارتفع بقامته يضع قبلة على رأسه هاتفًا بحزن: حقك عليا والله كنت هحكيلك كل حاجة بس مكنش الوقت مناسب، خديجة وخروج يونس كل ده لخبط الدنيا، بس أنا جاهز أحكيلك كل حاجة. بس اسمعني انت ومتطردنيش تاني.

وسأله بصوتٍ وضع فيه كل ألمه: هتدخلني يا بابا؟

جذبه الشيخ مهران باكيًا لاحضانه، ويده تحاوط رأسه بقوة، مرددًا ببكاء: هدخلك حضني وبيتي وكل اللي أملكه في حياتي يابني، حقك عليا يا عوضي في الدنيا بعد صبر عشرين سنة.

ربت آيوب على ظهر أبيه وردد ببكاء هو الاخر: طيب بتعيط ليه شيخ مهران، أنا عمري ما شوفتك بتعيط!

ابتعد عنها وجذبه للداخل ثم أغلق الباب من خلفه وقال: ليه يا آيوب؟ ليه محكتليش على كل اللي عشته في بلاد بره، كده تخبي عني كل ده حتى لما خطفوك وحولوا يقتلوك!

برق بدهشة وسأله: مين اللي قالك الكلام ده آدهم؟!

أتاه الرد من خلفه، صوتها المتساءل: أين ذهبت يا عم الشيخ؟!

استدار خلفه بصدمة جعلت عينيه على وشك الخروج من محجرهما، وبصعوبة ردد: آديرا! بربك يا فتاة ماذا فعلتي تلك المرة؟!

علي الطائرة المتجهة إلى لندن، كان على يقرأ باحدى كتبه وهو يبتسم لتخيله فرحة زوجته بحضوره المفاجئ بعد أن حذر شمس من اخبار أحد بعودتهما، ولجواره مالت شمس على نافذة الطائرة تحتضن سلساله برقبتها بشرودٍ وابتسامة تركتها ذكريات هذا اليوم الذي من المستحيل لها نسيانه، تتذكر كيف قضت اليوم برفقته على يخت من أروع اليخوت الذي رأته في حياتها، تتذكر ما ان خطت قدميها اليخت حتى استدارت اليه ورددت: واوووو يا آدهم اليخت تحفة بجد وشكله غالي أوي اوي، هو بتاعك؟

منحها ابتسامة مهلكة وأجابها وهو يتجه للقيادة: أنا آه مرتاح ماديًا بس مش لدرجة إنه يكون عندي يخت غالي أوي كده يا شمس، ده بتاع القائد بتاعي أداني مفتاحه النهاردة علشان أخرجك بيه لما عرف إنك راجعه لندن.

اتجهت إليه وضمته من ظهره، فقال بخبث: متقلقيش يا شمس هانم هقدر أعيشك في مستوى قريب من اللي إنتِ عايشة فيه.

تلاشت ابتسامتها وتراجعت عنها تهدر بانفعال: أيه اللي بتقوله ده يا آدهم، مستوى أيه اللي بتتكلم عنه! أنا حبيتك لشخصك إنت! حبيتك وأنا كنت فاكراك مجرد بودي جارد عادي! وحبيتك بردو وانا فاكرك سفاح ومجرم زي راكان، جاي دلوقتي وتكلمني عن المستويات!

وقف القيادة واستدار لها يمسك يديها: حبيبتي عارف كل اللي بتقوليه ده، أنا كنت بهزر معاكي ومش هكرر هزاري السخيف ده تاني أوعدك.

منحته ابتسامة هادئة، فعاد لقيادته لتقترب مجددًا وتضمه باستكانة جعلته سعيدًا، وخاصة حينما همست له: عرفت ليه لقبتك بالكابتن، أديك بتسوق اليخت أحسن من أجدعها قبطان أو كابتن طيران!

وتابعت وهي تغلق عينيها بنعاسٍ: قولي حاجة واحدة مبتعرفش تعملها!

ضحكة تلو الاخرى حتى انفجر بنوبة من الضحك جعلتها تتجه له وتتساءل بفضول: بتضحك ليه؟

قال ليثير فضولها أكثر: أقولك بس متضحكيش.

هزت رأسها تؤكد له، فقال ضاحكًا: العجلة! بفضل الله تلاقيني مع الدبابات ماشي، طيارات ميضرش، عربيات تلاقي، سفن ميضرش، موتوسيكلات شغال، الا العجلة كل ما بحاول أركبها بقع بيها زي الأهبل اللي ساب هيبته في بيته قبل ما يخرج، مع إني في التدريب عندي جهاز شبيه بيها بس بردو فاشل فشل ذرايع فيها، لذا حفاظًا على ماء الوجه بطلت أبص عليها مجرد نظرة بريئة.

استمعت له بعناية وضحكت وهو تستمع له باستمتاع، قص لها عن مواقف طريفة تعرض لها حينما كان يتدرب، أو بعملياته الخاصة.

ساعات مضت عليهما حتى غروب الشمس، تلك اللحظة التي قضوا بها تناول الطعام كانت رائعة وحولهما المياه والغروب يلطف الاجواء.

وبعدها جلسوا على سطح اليخت يراقبون الغروب باستمتاعٍ.

خُلقت بينهما مشاعر جياشة دون أي تجاوزات، كان أمينٍ عليها أكثر مما توقعت، تأكدت للحظتهما الأولى بأنه سيضعف أمامها لا محالة، ففجئها حينما عافر رغباته بسيطرةٍ تامة، وقد تهيئ لأن يبقيها بأمانٍ حتى من نفسه.

اكتسبت شمس ثقة جديدة عن تلك التي تمنحها لعائلتها، ثقة تجيد طعمها لمرتها الأولى، فابتعدت وتعمقت بحدقتيه لتحرر الكلمات عن أنفاسها المتسارعة: أنا بعشقك يا كابتن!

ارتسمت ابتسامة جذابة على وجهه، يده تتشابك بين خصلاتها الحريرية وتجذبها لتميل على كتفه بحمايةٍ، وهمس لها بصوتٍ مغري أشعل من عذابها: وأنا ميت فيكِ يا شمس هانم!

أفاق من شرودها على صوت علي: يلا يا حبيبتي وصلنا، انتي نمتي ولا أيه؟!

هزت رأسها نافية، ولحقت به حتى صعدت بالسيارة التي تنتظرهما، فما أن وصلوا للمنزل حتى صعدت شمس لغرفتها بانهاكٍ.

أما هو فقد عد للمنزل يحمل شوق العالم بأكمله للقائها، لا يعلم كيف مر ذلك الأسبوع عليه ليعود إليها، كان يعلم بأنه سيجدها تغفو بفراشها مع قرابة الساعة الواحدة صباحًا، تلاشت ابتسامته الجذابة وتبخرت حينما وجد فراشه مرتبًا وكأنها لم تبيت يومها به!

ظن أنه سيجدها بغرفتها الجانبية فاتجه إليها يناديها بشوقٍ ولهفة: فطيمه!

تجعدت ملامحه بدهشةٍ حينما لم يجدها أيضًا بغرفتها، فأسرع للطابق الأول قاصدًا غرفة والدته، طرق الباب أكثر من مرةٍ فلم يجد أحدٌ، حتى عمران وشمس، فهبط للأسفل ينادي أحد الخدم الذي استيقظ على الفور يجيبه بوقارٍ: ما الأمر سيدي؟

سأله على بقلقٍ يكاد يمزقه: أين الجميع؟

أجابه الخادم مسرعًا: السيدة مايسان هاجمها ألمًا مفاجئًا فحملها السيد أحمد وذهبت برفقته السيدة فريدة للمشفى، أما السيدة فاطيما والسيد عمران لم يعدان بعد من الخارج.

ضيق عينيه باستغرابٍ، وجذب هاتفه مشيرًا له: عد لغرفتك.

هاتف على فطيمة وعمران ولكن لم يجيبه على مكالماته، فكاد أن يجن من فرط قلقه لما يحدث هنا، كيف يتسنى لعمران ترك مايا وهي بتلك الحالة ويذهب بهذا الوقت برفقة فاطمة!

هاجمه عقله دون رحمة، وأقصى ما يخشاه أن تكون قد هاجمت فاطمة نوبة أو حدث بها سوءًا، جذب هاتفه مجددًا وطلب أحمد الذي أجابه على الفور: أيوه يا حبيبي، عامل أيه؟
أنا كويس يا عمي، طمني انت مالها مايا؟
أتاه صوته المرهق يجيبه: مفيش حست بتعب وعمران مكنش موجود فجبناها المركز ليوسف.
أسرع بسؤاله لما وجده هام: عمران فين لحد دلوقتي وفاطيما مرجعتش؟

عمران وفاطيما اتاخروا النهاردة، وأخر مرة كلمت عمران قالي إنه كان عنده اجتماع مهم هيأخره بره جايز يكون صمم يرجع فاطيما معاه.

أغلق على الهاتف بعدما استمر بهدوئه مع عمه، وجلس على أحد المقاعد يحاول تهدئة ذاته، يكفيه أنها الآن باتت أكثر نضجًا وقوة أهلتها للتعامل مع العالم الخارجي، ولماذا قد يشعر بالقلق وأخيه لجوارها!

اقتحم صوت سيارة عمران مسمع علي، فنهض عن مقعده واتجه للشرفة يراقبه بتمعنٍ، فاتسعت عينيه بصدمة جعلته يتجمد محله لا يقوى على الحركة قيد أنامله، وبالكد استدار بجسده ليكون مقابل لباب المنزل الذي انصاع لمفتاح عمران ودفعة قدمه الخافتة جعلته يتسع لمرورهما معًا!

اتجه عمران بخطواتٍ بطيئة للمصعد، وقبل أن يخطو منه توقف وهو يتطلع ذاك المتيبس من أمامه، فهمس بذهولٍ: علي! إنت رجعت أمته؟

بقى جامدًا وجهه خالي من التعابير، حدقتيه تنخفض رويدًا رويدًا على تلك المستلقية على ذراع أخيه، وكأنها فاقدة الوعي!

ابتلع لعابه بتريثٍ وهو يجاهد لتماسك انفعالاته، وبدأ يقترب ليكون مقابله وجهًا لوجه، فاستطاع أن يرى وجه زوجته المجهد وحجابها وملابسها الغير مرتبة بشكلٍ يثير الريبة!

سقط وجه فاطمة إليه فور تهدل ذراع عمران للأسفل بعدما استحوذ الارتباك عليه من صمت أخيه وجمود نظراته الغريبة، فتمكن تلك المرة من لقط علامات الأصابع الخمسة الماسدة على خدها المتورم وكأنها نالت عشر صفعات قوية.

ضم على شفتيه معًا بقوة ومد نفسه بصبر يجعله لا يحتمل حتى مجرى تنفسه، لا يسمح أن تزوره مجرد شكوك تدفعه لأخيه أي شكوك يود قتلها رغم أن كل ما تنظره عينيه ما هو الا هلاكًا وجحيمًا يلوح له!

تنحنح عمران وهو يناديه بتوترٍ: علي. إنت ساكت ليه؟!

تلك المرة قرر رفع عينيه ليواجه أخيه، فحرك رماديته ليقابله بنظرة طويلة طعنت قلب عمران باجتيازٍ، وخاصة حينما انحرفت عينيه لعلامات الاظافر التي تضم رقبة أخيه وخده الأيسر، فأغلق على عينيه على الفور ومزق شفتيه من فرط ضغط أسنانه عليها، وردد بصعوبة أنفاسه المنفعلة: فاطمة مالها؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة