قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والثمانون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والثمانون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع والثمانون

مازال يتمسك بساقيه ودموعه تنهمر بضعفٍ، جعل آيوب متخبطًا فيما سيفعله، أعماه غضبه وجعله قاس القلب، كان ليدفعه عنه وكأنه بقعة ستلوث جسده، فمال برأسه للأعلى يستمد نفسًا ثقيلًا، فاختلج بصره صورة تتوسط حائط الردهة لآدهم، ذاك الصديق الرائع الذي سانده دومًا، ولم يتخلى عنه أبدًا، كل ظرف أحاطه الخطر به كان آدهم المغوار المخلص له، فإن ابتغى قلبه بظلام ما فعل مصطفى به، هل يستحق آدهم ذلك؟

وهل جزاء الاحسان الا الاحسان؟!
أسمى ما زرعه الشيخ مهران داخله، لن يستطيع تخطي ما نشأ عليه منذ الصغر، انطوى جفنيه يعتصر دموع وجعًا يعصف به، لزم استحضار ثباته القوي؛ لينحني إلى ذلك الذي يميل على ساقيه، يعيق حركة جسده، سانده آيوب وجذب المقعد المتحرك يضعه من فوقه، وسقط على المقعد من خلفه فاقد الطاقة والقدرة على تحريك جسده حتى أصغر اصبعيه.

تحرك مصطفى بمقعده المتحرك تجاه محل جلوسه، أمسك يده الملقاة على ذراع المقعد، وردد ببكاء: سامحني يا آيوب، سامحني عشان أرتاح من العذاب الا أنا فيه.
سحب يده بعنفٍ عن يده، وطالعه بنظرة منفرة من بين حمرة عينيه الدموية، هاتفًا بحشرجة ذبحت حلقه: إنت ليك عين تطالبني بالسماح؟ أنا لو بكرمك دلوقتي فده عشان ديون آدهم اللي للاسف مش هقدر أكون موجود بعد كده عشان أردها.

جحظت عين مصطفى هلعًا من تفسير مبطن كلماته، فأستطرد يوضح له: أنا مش عايز أشوفك تاني في حياتي، لا إنت ولا آدهم سامع.

ونهض عن المقعد كأنه مسه جان، بل هرع بخطواته للخروج من هذا المنزل، حرر الباب العملاق وأسرع يتخطى حديقة المنزل الصغيرة، وما أن وصل للبوابة الحديدية الخارجية حتى تفاجئ بعُمران ينتظره، مستندًا على مقدمة سيارته، ويديه مدسوسة بجيوب جاكيته الاسود الطويل، وما أن رأه حتى هم للقائه، والحزن والوجع يختمان رماديتياه بشكلٍ ملحوظ، جعل آيوب يبتسم وهو يهتف بسخرية مؤلمة: الظاهر إن أنا الوحيد اللي مكنتش عارف الحقيقة.

رد عليه بثبات يليق بشخصيته القوية: الحقيقة لو مش باختيارك عمرها ما تكون مفروضة عليك، إختيارك هو اللي هيريحك وهيخليك تتغاضى عن أي كلام هيتقالك.
تهاوت دمعة من عينيه رغم ثبات بسمته، وسأله باستهزاء: وأيه اللي المفروض أختاره؟
رد عليه عُمران بحنان: الشيخ مهران اختيارك، عشان كده هتكمل معاه وانت رامي وراك أي حقايق ممكن تشوش على اختيارك ده.
تقلصت ابتسامته لوجع منطوق بلسانه: ازاي بعد ما آ.

قاطع حديثه متعصبًا: بعد ما أيه؟! معقول حاجة زي دي تخليك تبعد عن الراجل اللي رباك، الشيخ مهران هو أبوك يا آيوب، حتى لو اسمه إتشال من ورا إسمك.

هز رأسه معترضًا على حديثه، وقال بتيهةٍ: مبقاش ينفع خلاص يا عُمران، مش هقدر آآ، أنا مشتت ومش عارف مكاني فين!، آآآ. أنا كنت لما بتوجع من حاجه بروحله وبترمي في حضنه، عُمري ما حسيت بالراحة دي غير معاه، فجأة يطلع مش أبويا! طيب ازاي وأنا ما حستش ولو مرة إنه مش أبويا!

واستطرد وهو يشير على منزل آدهم من خلفه بتعبٍ نفسي لمسه عُمران منه: طيب وأسامح إزاي!، هبعد إزاي؟ ده آدهم يا عُمران، آدهم اللي فداني بروحه أكتر من مرة، قولي هعاقب أبوه على اللي عمله معايا ازاي؟ أبوه اللي المفروض أبويا، وآدهم آآ، إدهم أخويا! أنا. أنا مش عايز الحقيقة المرة دي، أنا عايز أنسى اليوم ده وأشطبه من حياتي كلها، مش هقدر أتحمل الوجع ده، آآ. أنا مش عايز غير مكان صغير في بيت الشيخ مهران يا عُمران، مش عايز غير حضن أمي ومحبتها ليا، إزاي هيحرموني من كل ده، لا يا عُمران لأ. مصطفى الرشيدي أناني، وآدهم كمان أناني يا عُمران، دمروني دمروني!

قالها واستند على السيارة، ينهار باكيًا، يبكي دون توقف كالطفل الصغير، ولجواره تنهمر دموع عُمران متأثرًا به، يحيطه ذكرى يومًا شبيهًا بيوم آيوب، يوم إنهار مثله تمامًا، ولكنه وبفضل الله عز وجل وحبه إليه منحه أخًا عظيم مثل أخيه علي، ومؤكدًا من على آيوب بوجوده بذلك الوقت، لذا سيكون خير الداعم إليه.

اقترب عُمران منه بعدما أزاح دموعه بجدارة، استند على السيارة جواره، وقال بصوتٍ يحتبس فيه دموعه: مفيش حاجة اتدمرت ولا حاجة يا آيوب، مكانك في بيتك وفي قلب الشيخ مهران محفوظ، حتى الحاجة رقية هتفضل عمرها كله تعاملك إنك ابنها، الحقيقة اللي عرفتها النهاردة دي مش هتفرق معاهم في حاجة، بدليل انهم عرفينها من وقت رجوعك لمصر ومع ذلك إنت محستش منهم بأي تغير.

واستطرد وهو يتعمق فيه: بالعكس الخوف ده عندهم هما لتختار بيت مصطفى الرشيدي وتبعد عنهم.
رفع عينيه الباكية لمن يجاوره، وقال بألمٍ: يوم ما أختاره هيكون أخر يوم في عمري، أنا كرهته وكرهت آ.
ابتلع باقي جملته داخله، ودفنها داخل دموعه، وهمس من بين شهقاته الضعيفة: لأ، آدهم لأ، مش قادر ولا هقدر أكرهه.
والتفت إليه من جديد يبكي: أنا موجوع أوي يا عُمران، حاسس إني تايه ومش عارف أروح فين؟

تدفق الدمع على وجه عُمران، فأخفض وجهه يزيحها سريعًا ثم استدار إليه يلكزه بمرح: بقى أنا بقالي ساعة مرمي جنبك وفي الآخر تقولي تايه ومحتار أروح فين؟ طيب قولي أتعامل معاك إزاي دلوقتي بروح أمك!
أزاح آيوب دموعه ولم تزوره حتى ابتسامة غافلة، فعاد عُمران يشاكسه: بذمتك ده كلام، حضن صاحبك وبيته مفتوحلك في أي وقت، بس مش في التوقيت الحالي للاسف.

وتابع وهو يحيط كتفه ليحركه إلى السيارة: لاني هوديك المكان اللي تستحق تكون فيه.
انتصب بوقفته انصياعًا لدفعة عُمران، وسأله بارهاق: هنروح فين؟
اجابه بهدوء ماكر: مكان هترتاح فيه.
وفتح باب السيارة يشير له بسخرية: مش عارف مودك قافش ازاي وعُمران سالم الغرباوي بيفتحلك باب عربيته بنفسه!
صعد ببطءٍ تام، وكأنه لا يستطيع تحريك جسده، إتجه عُمران لمقعده وتحرك على الفور لمحله المنشود.

صعد لشقته بخطواتٍ هزيلة، أخرج مفتاحها ليحرر بابه، ولكنه تفاجئ به مفتوحًا، ومواربًا، ولج للداخل والقلق قد ضمه بعناقٍ على صغيره، ولج غرفته القريبة من باب الخروج يناديه بلهفةٍ: فارس!

هرول لغرفته حينما لم يجده بالغرفة المخصصة للأطفال، إلتفت تجاه الصالون الذي يتوسط الردهة، فتوقف محله يبتسم تلقائيًا حينما رأها تغفو على الأريكة وهي تحمل صغيرها فوق ساقيها، على ما يبدو بأنه استفاق من نومه وحينما لم يجده انتابته نوبة من البكاء.

اقترب يونس منهما يتأملها بعشقٍ لا تقبل كلمات وصفه، يحاول بشتى الطرق منع عينيه أن تحتضن ملامح وجهها البادية من أسفل نقابها المرفوع، ولكن اشتياقه قتل عقله اليقظ، بقى أمامها ساكنًا كسكون الموج بمنتصف المياه، يتمنى لو أنها كانت زوجته بتلك اللحظة، يتمنى لو كانت تحل له فيستطيع أن يمس خصلتها المتمردة من أسفل حجابها بحريةٍ، ولكنه حتى لا يمتلك حق التطلع إليها.

أخفض يونس عينيه أرضًا، ثم عاد يتطلع لها، هاتفًا بتمني ومحبة: اللهم قربني منها، وإجعلها قرة عيني. زوجتي وحبيبتي، اللهم ردها لي بقلبٍ محتفظ بحبها وعشقها لي، وإن كانت بعد المسافات خففت رباط محبتنا فسبحانك القادر على مد الوصال بيننا!

لفظها بعاطفته وتمنى لو أن دعوته لا ترد، جلس على حافة المقعد وأخذ يراقبهما قدر المستطاع، يتساءل إن لم ينجح ذلك السفيه بفعلته ولم يتمكن من التفرقة بينه وبين أعز ما أمتلك، كيف سيكون مسار حياتهم دون ما تعرضا لهما معًا؟!
استعاذ بالله من شيطانه الحاضر وهمس بصوتٍ خافت: اللهم لا إعتراض على قضائك، الحمد لله على كل حال.

مال رأس خديجة، فاعتدلت بجلستها المؤلمة، انتبهت لمن يجلس قبالتها يتأملها بنظرةٍ حنونة، وضعت صغيرها على الأريكة المذهبة، ونهضت تخفض نقابها، هاتفة بارتباكٍ: يونس إنت رجعت أمته؟!
نصب عوده يجيبها: لسه حالا.
هزت رأسها وقالت تبرر وجودها بهذا التوقيت: فارس لما فاق من النوم وملقكش موجود، كان بيعيط ورفض يطلع ينام عندي فوق، عشان كده اضطريت انزل معاه لحد ما ترجع من بره.

وأضافت بتوترٍ طفيف: إنت اتاخرت ليه كده في صلاة الفجر؟
رد عليها بابتسامته الخافتة: نورتي بيتك يا ست البنات.
ضمت يدها تفركهما خجلًا، واتجهت للخروج قائلة على استحياء: انقل فارس أوضته وغطيه من البرد، تصبح على خير.
رنا إليها يوقفها عن الفرار: وبعدين يا خديجة، هنفضل على الوضع ده كتير!
قضمت شفتيها بارتباكٍ، واستدارت تدعي عدم استيعابها لحديثه: كده ازاي؟!

تغاضى عن الدور الذي تجيده الآن، وقال بشكلٍ مباشر: أظن إن عدتك خلاص خلصت، يعني البعد والانفصال المفروض ده مبقاش له داعي، خديجة أنا مش متحمل فكرة عيشة كل واحد مننا في شقة دي، من بكره هكلم عمي ونكتب الكتاب.
اقتحم أفكارها صور بائسة من حياتها الزوجية السابقة، وكأنها تساق لنفس المصير، فرددت بتلعثم: مش هينفع دلوقتي يا يونس.
وبتوتر قالت: قولتلك قبل كده إني محتاجة وقت!

حدجها بنظرةٍ خاوية، وصاح بخشونة: هو العمر فيه وقت أد أيه عشان تاخدي المدة دي، المفترض مدة الفراق تبقى كام سنة من وجهة نظرك؟!
أحكم الكماشة حول حججها المنصوبة، فباتت لا تجد ما تحكيه، لذا وبكل وضوح هتفت: يونس أنا مش معترضة على جوازنا وأنت عارف ده، بس أنا مش جاهزة دلوقتي.
أسبلت غضبه المكبوت عن جدارة، فزوى حاجبيه وهو يطعنها بنظرة ساخرة: وست الحسن هتكون جاهزة أمته؟

لم تستطيع ابتلاع اهانته وقالت تصارحه بمنتهى الصدق: انا مش بتدلل عليك، أنا متحددلي عملية تجملية هعملها عند دكتور نازل مصر بعد شهرين، الدكتورة اللي بتابع معاها أخدت منه المعاد وبتجهزني.

توسعت حدقتيه بشكلٍ مرعب، حتى بات وكأنه سيتحول بين لحظة وآخرى، وكلما دعست قدميه بخطاها، تراجعت خديجة تبتلع ريقه الهادر بهلعٍ، فاذا به يصرخ بوجهها بجنون: عملية أيه! إنتِ اتجننتِ ولا السلوك لمست عندك! عايزة تكشفي نفسك على دكتور! لأ وما شاء الله مقررة ومقتنعة بقرارك وواقفة قدامي بتتكلمي بكل بجاحة!

ارتابت حتى قحل ريقها، فانخفض صوتها المرتعب: أنا قولتلك قبل كده أني بقيت مشوهة! و مش هقدر أبدأ حياتي معاك من غير ما اتخلص من الماضي اللي عشته، وده جزء من ذكرياته اللي مش هيسيبني أبدًا.
وأضافت والدموع تكتظ عينيها: أكيد يعني قرار زي ده مخدوتش بالساهل، وخصوصًا لما الدكتورة بلغتني أنها مش هتقدر تعملي العملية، وإن ليها دكتور متخصص، بس هعمل أيه أنا مجبورة يا يونس!

تقسم أنها بتلك اللحظة تستمع لصوت أسنانه تصحك، وكأنها تتهشم تباعًا، تلاقى ظهرها حائط الردهة ومازال يدنو منها، حتى لطم الحائط بيده، بدى يحارب شيئًا يود التحرر عن لسانه ومازال لا يرغب بقوله، جاهد ليهدأ من انفعالاته وقال هامسًا بأنفاسه الثقيلة: متحلميش إني هقبل إنك تتكشفي على حد حتى لو كانت دكتورة، كفايا الوجع اللي أتعايشت معاه طول الفترة اللي فاتت، وسبق وقولتلك قبل كده أن عيني دايمًا شايفاكي ست البنات كلها.

تهاوت دموعها واعترضت بصوتها المبحوح: مش هقدر آآ.
أوقفها ينهي نقاشهما الذي بدأ ينبش بزقاق الماض: خديجة أنا مش هرغي كتير في حوار أخدت فيه قرار، خلصت وانتهينا.
تلاقت الآن عينيها به منذ بداية حوارهما، فلمس فيها انكسار أنثى تجاهد لم بقاياها، انكسر ضلع من أضلعه وتلاه صوت حطام قلبه، وخاصة حينما إنسحبت من النقاش بخيبة أمل، فاتجهت لتخرج من المنزل باستسلامٍ.

حررت الباب على أخره وما كادت بالخروج منه حتى قال لها: الآثار اللي فاكراها تشويه دي أكتر حاجة ممكن تريح أي وجع جوايا لحظة ما أتخيلك في يوم مع القذر اللي عيشتي معاه، دي الدليل الوحيد على حبك ليا يا خديجة!
وأضاف بحزمٍ: أول ما عمي يروق من اللي بيمر بيه هنكتب الكتاب، جهزي نفسك يا ست البنات.

اكتفت بهز رأسها وغادرت بعدها على الفور، بينما يتابع ظلها المبتعد بنظرة حزينة، أتجه يونس لابنه يحمله لغرفته، وتمدد جواره على الفراش يحتضنه بقوة، يشم ريحه عساه يتنعم براحة فقدها منذ اختفاء آيوب، ورؤية الشيخ مهران بتلك الحالة دونه.

توقفت سيارة عُمران بعد فترة من القيادة، مما دفع ذلك الذي يغفو جواره على الافاقة، اعتدل بجلسته يفتح جفونه الثقيلة، ويتأمل المكان المحيط به باهتمام، فتفاجئ به يصف السيارة أمام بناية الشيخ مهران.
استدار تجاهه وبكل حدة سأله: إنت جايبني هنا ليه يا عُمران؟!
أجابه ورماديته ساكنة على لافتة الحارة التي تحمل اسم الشيخ مهران: قولتلك هخدك على أكتر مكان هترتاح فيه.

تبسم ساخرًا، وقال: وأنا قولتلك انه مبقاش مكاني خلاص.
استدار إليه عُمران يحيطه بنظرة طويلة، ثم قال بهدوءٍ: ده أول مكان فكرت فيه أول ما قولتلك هاخدك مكان هترتاح فيه، متكبرش يا آيوب، أنت متقدرش تبعد عن الشيخ مهران ولا الحاجة رقية، مش هتقدر زي ما هما كمان ميقدروش يبعدوا.

وتابع وهو يشير باصبعيه على باب العمارة: بمجرد ما هتدخل من الباب ده هتلاقي راحتك وأمانك، وهتعرف إنك مخسرتش أي مكانة كانت ليك عندهم زي ما انت فاكر، بالعكس أنا واثق أنهم بيتألموا أكتر منك وخوفهم من فقدانك أكتر شيء مسيطر عليهم.
أخفض آيوب رأسه وافرج عن دموعه، وبقهر قال: مش هقدر أواجهه يا عُمران.

مال يرفع ذقنه للأعلى، وبعصبية هدر فيه: بقولك أيه انا مبصحبش العيال الفرفير، ومع ذلك ضميتك لشلة المقاطيع عشان استرجلتك، هتنخ وتعملي فيها سوسن من أول مشكلة هتقابلك في حياتك هشد عليك وهغيرلك قطع غيار، استجمد كده ومتشدش عرق العصبية عندي، عشان لو طلع هيبهدل أمك!

وتابع وهو يفتح باب السيارة الكترونيًا: انزل قابل أمك وأبوك بالحضن، وتقف واقفة أسد راجع مكانه ودايس كل حاجة وراه، ولحظة ما تنخ وتحس نفسك هتقلب على قطة بلدي أفتكر إن ليك صاحب إسمه عُمران سالم الغرباوي، ويا بخت الا أنا في حياته، أمه أكيد دعياله في ليلة مفترجة!
ضحك رغمًا عنه، وهتف بحنقٍ: عُمران إنت مغرور أوي!
عدل من جاكيته على كتفه بعنجهية: يا بختك عشان أنا في حياتك يابن الشيخ مهران.

لمست كلماته الاخيرة وجعه الغائر، فعبث مرددًا: ابن الشيخ مهران!
اكد عليه بقوة: ابنه ونور عينه وإنت عارف كده كويس.
ودفعه خارج السيارة بعنف مرح: ويالا بقى متقرفناش، شاقطك من خامسة الصبح ولحد دلوقتي لسه مكتئب، إنزل
فلقت دماغ أمي بروح أمك!
تعالت ضحكات آيوب بصخب، ومال على نافذة السيارة يشاكسه: بقى دي أخرتها، بتبعني يا خواجة!
ارتدى نظارته بغرورٍ طاووسه الوقح، ونطق: تلاشاني عشان متعضش إيدك ندمًا يا بشمهندس.

قهقه ضاحكًا وصاح: أنت اتخلقت عشان غيرك يتلاشاك أساسًا.
هدأت ضحكات عُمران وبجدية قال: ارجع مكانك وبيتك يا آيوب، وأوعا تسمح لأي حاجة مهما كانت صعوبتها تفرقك عن أهلك وناسك، اتواجع وحلها وإنت معاهم ووسطهم، احسبها بعقلك وشوف ربنا من عليك بأيه، في البداية هتكون صعبة بس بعد كده هتشوفها من جانب تاني.

وأضاف بحزن: مهما كان غلطة مصطفى الرشيدي متغتفرش بس كفايا إن ليك أخ زي آدهم، ومن ناحية تانية علاقة جديدة هتضيفلك ناس ساندة ضهرك، عوض ربنا ليك إن ليك أب زي الشيخ مهران وأب تاني مش هتقدر تبص على مميزاته دلوقتي، غيرك اتحرم من النعمة دي ومقدرها جدًا، الخلاصة إنت مش هتأخد قرار سليم وإنت عقلك مش فيك، فخدلك هدنة تقرر فيها القرار الصح اللي متبقاش ندمان عليه، فهمت ولا عقلك في غفلة يابن الشيخ مهران؟

ابتسامته الجذابة ازدادت وقوله يسبقها: فهمت يا بشمهندس.
شغل محرك السيارة وأشار له: اتصل بيا وقت ما تحتاجني مع أني متأكد أنك هتعملها قبل خروجي من الحارة، فياريت تخلي عندك دم وتكلمني بعد ما أخد بريك يفكني من الكآبة اللي جتني من خلقة أمك دي!
ضحك بصوته المسموع وقال: ودي تيجي يا خواجة، مقدرش أستغنى.
رد يشاكسه: لا استغنى وغني بعيد عني يا حبيبي، ومن غير سلامات.

وتحرك بسيارته على الفور، بينما صعد آيوب للاعلى بخطوات مترددة، أبقته أمام باب الشيخ مهران ثلاثون دقيقة، حتى استجابت يده للطرق الخافت، فمازالت الساعة السابعة صباحًا، يعلم ان أبيه يعود بعد صلاة الفجر ويغفو هو ووالدته بذلك الوقت، ولكنه تفاجئ باستماعه للطرق الخافت وكأنه كان يجلس خلف الباب، يقابله بابتسامة ودموع ورمت جفونه، وصوت متقطع يناديه: آيوب، ابني!

وجذبه يحتضنه بقوةٍ، بينما الآخر يفك تجمد جسده تدريجيًا ويشدد من احتضانه، محررًا دموعه هو الآخر.
عاتبه الشيخ مهران ومازال يضمه بقوة: قفلت موبايلك ومشيت من قبل حتى ما تسمعني، وراجع وش الصبح، هونت عليك تعيشني في القلق ده يا آيوب، هونت عليك!

مال على كتفه دون أن يتفوه بأي كلمة، فربت الشيخ على ظهره وهو يدعو له بصوت كان مسموعًا له، خرجت الحاجة رقية تناديه ببكاء وتهرع إليه هي الاخرة، تلقفته من زوجها تنزوي بأحضانه وهي تبكي بانهيار وتردد: كنت عارفة أن امك مش هتهون عليك يا آيوب، كنت عارفة إنك مش هتبعد.
أحاطها ومازال يبكي بوجعٍ، لا يرضا عن حالة والدته التي تسبب بها، رعشتها وانقباض قلبها بدى مفسرًا عن حالاتها دون أي توضيح.

ربت عليها بكل حنان، ومن امام بصره تطل زوجتت الباكية هي الاخرى، تقف على أعتاب غرفتها تراقبه بكل اهتمام، بينما هو يتطلع لها ويده تربت على ظهر والدته، وأمام اصرارها لحق بها لغرفتها، وغفى برأسه على ساقها، بينما تمرر يدها بحنان فوق رأسه، ومازالت تقرأ الرقية الشرعية عليه، ومن جوارها الشيخ مهران يراقب حالته بقلق، فاطمئن حينما غفى آيوب سريعًا على ساق رقية التي تقبل رأسه بين الحين والآخر ودموعها تنهمر فوق جبين آيوب الذي يشعر بها، ويئن وجعًا على ما خاضته وتخوضه الآن، وخاصة من حديثها عن ثقتها بما زرعته بتربيته وها قد حصدته حينما عاد إليهما في نفس لحظة افتراقه عنهما، هو فعليًا لا يستطيع الافتراق عنهما أبدًا!

واصل آدهم وشمس الخطى فوق الرمال، للوصول لجناحهما الذي بدى بعيدًا ومرهقًا لشمس بعد رحلة سفرها، حتى أنها حملت حذائها ذو الكعب المرتفع، وباتت تفتقد كل التعليمات الأرستقراطية التي تلقتها على يد فريدة هانم.
ألقت الحذاء أرضًا ونادت من يسبقها بخطوتين: آدهم.
توقف عن اتباع العامل واستدار لها، فوجدها تجلس على الرمال بتعبٍ، كبت ضحكته وانحنى إليها يهتف بسخرية: الرحلة لسه مبتدش شمس هانم!

احاطته بنظرة تقيمية، وكأنها تقيم قدرته الجسدية، وفجأته حينما قالت ببساطة: هو أنت ينفع تشيلني بدل الشنطة دي؟
راقب الحقيبة التي يحملها على كتفه، وعاد يتطلع لها قائلًا بتسلية: لا طبعًا الشنطة أخف منك بكتير، وبعدين إنتِ عايزة تكسري ضهري وأنا عريس جديد، ترضهالي يا شمس؟!

كشرت عن أنيابها وصاحت بضيق: نعم! أمال أيه جو ظابط المهمات المستحيلة، وسفاح المعادي اللي عايشهم دول، والعضلات اللي مربيها دي لزمتها أيه لو مش قادر تشيلني معلش!
واضافت وهي تربع يدها أمام صدرها بغيظٍ: بص يا آدهم يا تشيلني وتدلعني زي ما عمران وعلى كانوا بيعملوا وقت ما بتعب يا ترجعني ليهم، انا أساسًا مش مصدقة إني بعدت عنهم!

أفزعها حينما ألقى الحقيبة عن كتفه، وفرد ذراعيه قائلًا بسخرية: دراعاتي بانتظارك شمس هانم.
توسعت ابتسامتها بسعادة، فحملت حذائها الثمين، وهرولت إليه تقفز لطول ذراعيه، ضحك رغمًا عنه، وانحنى يلتقط الحقيبة على ظهره، ثم تحرك بها بخفة وكأنها لا تزن شيئًا بين يديه.
تطلعت له شمس بهيامٍ، وقالت تشاغبه من جديد: كابتن، ممكن أريح شوية هنا؟

قالت وهي تشير على كتفه، فردد مازحًا: استوليتي على دراعي، مجتش على كتفي يعني، أقولك اعتبريني ملكية خاصة لحد ما نوصل الجناح بس.
مالت إليه تحيط كتفه بابتسامة واسعة، فمال يهمس لها بخبث: اتمنى تفضلي بالقرب ده بره وجوه الجناح.
ابتعدت عنه تطالعه بريبة، وبغضب قالت: متحلمش كتير يا كابتن!
ضحك بصوته الرجولي، وغمز لها: تعليماتك أوامر شمس هانم.

ولج بها للجناح المزين بالورود خصيصًا لاستقبال العروسين، فوضعها على الفراش بين باقة الزهور، واشكال المنشفة المحاطة بها، تلمست شمس بتلات الزهور من حولها بفرحة، ودارت بها تلقاها لاعلى وهي تردد: ريحتها تحفة بجد.
راقبها بابتسامة جذابة، وأخذ يراقبها وهي تحمل بعضًا منها وتلقاها من فوقها، صوت ضحكاتها ينعشه، عقله لا يفكر سوى باستغلال كل لحظة ستجمعه بها، وكأنها لحظاته الاخيرة بالحياة!

جلس آدهم على طرف الفراش يراقبها بابتسامة هادئة، بينما تقفز هي فوق الفراش بجنون، حتى تهاوت جواره من فرط حركاتها، فوجدته ينحني إليها، يحرر حجابها الذي بدأ يتدلى باهمال من فرط حركاتها.
تهاوى انذار الخطر داخلها، وخاصة مع رؤية نظراته التي ملأتها عاطفة عشقه لها، وهمسه الذي بدى كجرعة مخدر سارية عليها لأول مرة: اتحقق حلمي وبقينا مع بعض.

ابتلعت ريقها بتوتر وهو توزع نظراتها بين نطق كلماته وعينيه التي لا تفارقها، تجده يدنو وهو يحمل اصرار اللقاء، وما أن اجتمع بها حتى ابتعدت تردد بارتباكٍ: آآ. أنا. هأخد شاور.
وتركته وهرولت إلى الحمام، فزفر وهو يلقي بجسده على الفراش ناطقًا بضيق ساخر: من أولها محاولة هروب!

كاد عُمران أن يحطم هاتفه الذي يحاول الوصول به لآدهم لمرته الثلاثون، وكالعادة لا يستمع الا ان الهاتف مغلق، حرر وضع التسجيل وهدر بانفعال.

«لو إنت فاكر إنك لما تقفل موبيلك أنا مش هعرف أوصلك تبقى متعرفش انت مناسب مين يا حضرة الظابط، لينا حساب طويل أوي، وبدايته سفرك المفاجئ من غير علمنا، وتانيه تسرعك ومواجهتك مع آيوب في وقت إنت مش موجود فيه، عقلك فقد ذكائه بمهمة من مهماتك العبقرية أكيد، ودلوقتي زي الشاطر كده هتفتح موبيلك وهتكلمني أول ما هتسمع رسالتي والا وقسمًا بالله هتلاقيني في وشك، ولو جيتلك ديتك معايا يومين تلاتة وهجمعك بيها في محكمة الاسرة، وأنت عارف ان عمران الغرباوي أد كلمته، إعقلها كده ومتخلنيش أخرج شياطيني عليك، أنت عارف اننا مرتبطين بشمس جدا ومع ذلك مخليها قافلة الموبيل وانت كمان قافل موبيلك، فبلاش ندخلها حرب ونخلصها بدري كده، إعقلها بعقلك اللي شاكك بوجوده حاليًا».

ألقى الهاتف على مقعد السيارة الذي يجاوره، والعصبية تتمكن منه، يطرق بأصابعه على المقود، فاذا بهاتفه ينير من جديد، حمله وكله أمل لسماع صوت شقيقته، ولكن آماله قد خابت حينما وجدها رسالة من علي، تحمل موقع لاحدى الاماكن، حرر الاتصال به وما أن أجاب قال: ده أيه؟
اتاه صوته الغامض يخبره: موقع مكان هتجيني فيه، ولا فاكر أن مسموحلك إنت بس تبعتلي مواقع أجيلك فيها.

وأضاف قبل أن يغلق الهاتف بوجهه: لما تتغر وتحس إن مفيش منك اتنين أفتكر إن أنا البابا!
برقت رمادية عُمران بصدمة، فأخذ يراقب الهاتف برقم أخيه بدهشة، هادرًا بعدم تصديق: كملت!

أعاد تشغيل هاتفه وأتبع الموقع بضجرٍ، فاستمرت قيادته لخمسة وعشرون دقيقة حتى وصل لمحل سيارة أخيه، هبط من السيارة ينزع نظارته السوداء، ويلتفت متفحصًا المكان بتركيزٍ، فوجده يصف السيارة جوار، محل بسيط للكشري المصري، وينتظره جالسًا فوق سطح سيارته، ومن جواره يضع طبقين من الكشري الساخن، ويحمل بيده طبقًا إضافيًا على ما يبدو أنه كان يلتهمه للتو.

صعد عُمران لجواره على سطح السيارة، وتنهد بضيق، هاتفًا: خير يا بابا علي!
وضع الطبق عن يده وقال مبتسمًا: مزاجي رايق وقولت أروقك معايا يا حبيب بابا، سمي الله وكل بايدك اللمين، وبلاش توسخ هدومك عشان أجبلك كاندي كتير.
احتقنت رماديته وبالكد منع لسانه السليط عن إخراج ما لا يحمد، اكتفى بتأمل الطعام وعاد يتساءل ساخطًا: فين ال Healthy food يا دكتور؟
أجابه وهو يلتهم الملعقة بتلذذ: في أجازة مؤقتة.

وأشار للاطباق بينهما: مد إيدك.
تنهد بارهاقٍ تسلل إليه، فاسند ظهره لزجاج السيارة والتقط إحدى الاطباق يشرع بتناولها، وبين الحين والآخر يتفحص هاتفه بلهفة، راقبه على من طرف عينيه بمكرٍ، اتبع نبرته: سيب العرسان يتهنوا بشهر العسل، متبقاش خنيق!
رفع عينيه المحتقنة إليه، وصاح متعصبًا: خنيق! البيه ضحك علينا وقال هيسافر بليل واخدها ومشى من ورانا وإنت عادي عندك كده!

ترك الطبق عن يده، وجذب المنديل يمسح فمه، ثم قال بمنطقية: شمس بقى ليها زوج مسؤولة منه يا عُمران، مبقاش لينا تحكمات عليها زي الاول، وحتى لو عملناها فمن حقها تعيش حياة طبيعية مع جوزها زي أي بنت.
صاح بعنف: لا طبعًا، مش من حقه ولا من حقها، شمس ملزومة مني ومنك لحد أخر يوم في عمرها، إنت إزاي أصلًا تتكلم كده!
زفر بيأسٍ منه، وهدر: شكلي محتاج لدكتور نفسي، وأنا خارج نطاق الخدمة اليومين دول.

واسترسل بسخرية: ربنا ينجدنا منك ومتكنش مايا حامل في بنت، لو حصل حياتي هتتقلب قلبة من الطراز الفريد.
وعاد يخبره بابتسامة زائفة: يعدي شهر العسل ونشوف حوارك اتفقنا؟
صاح بعصبية: ليك نفس تهزر يا علي!
أجابه باستهزاء: واعمل أيه عشان أرضي جنابك، أنتحر من برج إيفل ولا أكهربلك نفسي!

عاد يتناول طعامه هادرًا بغضب: لا دي ولا دي، أنا مستغناش عنك أنت كمان، أنا السبب في كل ده، المفروض مكنتش جوزتهم أصلًا ولا قبلت بالمهزلة دي!
زوى على حاجبيه بدهشة: هما مين دول؟
اجابه بتلقائية أبادت علي: أمك وأختك!
وتابع بعينٍ ماكرة: بس عندي أمل يرفعوا قواضي خلع ونخلص منهم إن شاء الله.
أوشك على باصابته بذبحة صدرية، ومع ذلك قال: وفاطيما مصيرها معاك أيه عشان متفاجئش بس؟

استدار يتعمق بنظرة له، وقال: لا فاطمة ميتخافش منها، مش من النوع الزنان اللي تزن على فراق بيت العيلة، بالك لو كانت فريدة هانم نجحت تطفشها من البيت كنت طفشتها من الجوازة كلها، لاني ببساطة مقدرش أخليك تبعد عني، إنت فاهمني مش كده!
رمش على بصدمة، وضم شفتيه في حسرة بينما يهمس: أنا داير أعالج في خلق الله وأخويا الأحق، لازم أحجزله أوضة بالمركز، بس هعالجه ولا أربيه الأول؟!

ناداه عمران باستغراب: علي! بتكلم نفسك!
رسم ابتسامة واسعة: لا متخدش في بالك، كمل يا حبيب قلب بابا، كمل!
منحه نظرة ساخرة واستكمل تناول طعامه، ثم قال: روح هاتلي قهوة مظبوطة تخدر كلابي الصعرانة دي، أصلهم لو اتسابوا عليك هيقطعوك وإنت غالي عليا يا علي!
منحه نظرة نارية، فردد ببراءة لا تعهد اي طريق لوقاحته: سهران من امبارح ومحتاج قهوة أنا!

ترك ما بيده واتجه لاقرب مقهى، بينما يتناول عُمران طعامه بغيظٍ حتى أتاه رنين هاتفه برقم آدهم، فأسرع يجيبه بغضب: شمس فين؟
=طيب قول ازيك، عامل أيه، مش داخل دخلة عديم الذوق اللي متلقش بيك دي؟
أنا معنديش المقدرة أتنافس معاك بالكلام الفاضي حاليًا، عايز أسمع صوت شمس وحالا.
=شمس في الحمام وخارجة، المهم طمني على آيوب يا عُمران؟
مش قبل ما أطمن على أختي الأول.
=ليه هو أنا خاطفها!

كلامي سمعته كويس، ومعنديش مانع أعيده تاني وعاشر، ادي الفون لشمس وحالًا.
=عُمران هو إنت بتتكلم جد!
انا مبهزرش، عايز أسمع صوت شمس، أنا قلبي مقبوض عليها بشكل غريب، فياريت تحترم ده وتديها الفون.
انقبض قلب آدهم سماعه تلك الكلمات التي دفعته لتذكر مهمته، فنهض يتجه لحمام الغرفة، يطرق بابه وهو يناديها: شمس.
أتاه صوتها تجيبه على استحياء: شوية وخارجة يا آدهم.

قال برفق: خدي راحتك يا حبيبتي، بس خدي الموبيل مني كلمي عمران.
هرولت تقف خلف الباب تتساءل بلهفة: بجد!
مدت ذراعها تلتقط الفون، وأسرعت بغلق الباب بوجهه بعنف جعله يكبت ضحكاته بصعوبة، بينما بالداخل تتقهقهر لابعد نقطة بالحمام حتى لا يستمع لصوتها، بينما تهمس بصوت منخفض: عُمران.
اتاها صوته المتلهف: شمس طمنيني عنك يا حبيبتي، عاملة أيه؟
ردت عليه بفرحة: أنا كويسة وبخير.

تساءل بريبة: ليه بتوطي صوتك كده! انتِ كويسة يا شمس!
اجابته بارتباك وحرج: انا كويسة، بس مترددة ومرتبكة ومش عارفة أعمل أيه؟
ضيق رماديته بدهشة: تعملي أيه في أيه؟!

امتقع وجهه بحمرة طاغية، وخطت ذهابًا وايابًا وهو تحيط وجهها الاحمر، ناطقة بتردد: أنا مش عارفة المفروض اكلم مين، فريدة هانم مستحيل تسمعني وعلى بتكسف منه جدا جدا مفيش قدامي غيرك بس للاسف إنت راجل وأنا المفروض اتكسف منك وكده، عشان كده ممكن تكون اختي لخمس دقايق!
ضحك رغمًا عنه وقد تفسر له الموقف، وبصعوبة نطق من بين ضحكاته: أنتِ هربانه في الحمام يا شمس!
صاحت بانفعال: عُمران متضحكش، هقفل المكالمة على فكرة.

تعالت ضحكاته مجددًا وقال: أنا فخور بيكِ لمية سنة قدام، وراضي عنك جدًا جدًا.
عادت تصيح بانفعال: هقفل سامع؟
هدأت ضحكاته وقال: خلاص خلاص سكت اهو، بس خدي بالك بالرغم من فرحتي بموقفك الا إن في حتة يمين عندي بتقولي أنك مينفعش تعملي كده والحتة الشمال بتقولك كملي وإدبيه.
تشوش عقلها مما تستمع اليه، وبتوتر قالت: يعني اعمل أيه؟!

تلاشت ضحكاته، وأخذ يحدثها برفقٍ: شمس إنتِ ليه مرتبكة كده، مفيش حاجة تستدعي الخوف والتوتر اللي انتِ فيه ده، مش ده آدهم اللي انتي اختارتيه من ما بين بلطجية. راكان كلهم، فمالك بقى؟!
وجدت أنها تتجه لمنعطف مخجل لا ينبغي التطرف إليه، فاخذت تهزي: ما انت السبب، منعتني من الخروج معاه الا بحدود رغم اننا كنا كاتبين الكتاب، فمخدتش عليه بالشكل الكافي.

سخر من حجتها الباطلة: عُمران الغرباوي شماعة رمي المصايب، مبقتش اتفاجئ من أي حاجة بتحصل في العيلة دي.
زفرت بضجر: عُمران ممكن تساعدني بدون ما تشتكي من طريقة كلامي، بقولك أعمل انك اختي الكبيرة!
هتف مستهزئًا: مش عايزاني بيبي سنتر لاولادك أنتِ والبلطجي اللي عندك بالمرة.
=هقفل المكالمة صدقني!

تنهد بيأسٍ من حجب لسانه السليط، وقال بثبات دون أن يتطرق لحديث يخجلها أو يحرج لجوئها إليه بوقت كذلك: شمس انا أوقات بكون ضد آدهم أو بكل الاوقات what ever يعني، بس مقدرش أكون ظالم، آدهم بيحبك ومستحيل يأخد خطوة وهو حاسس إنك مش مستعدة ليها، خليكِ واثقة فيه وفي حبك وهو هيقدر ده ومش هيخذلك.

وتابع بمحبة وحنان: المشاعر بين الزوجين بتتراضى بالقليل لو كان في حب بينهم، وانتوا بتحبوا بعض، فاطمني، كل اللي أنتي فيه ده طبيعي ومرت بيه أي بنت، اللي ناقصك بس أنك تطمني وتثقي أنه بيحبك.
ارتضت ملامحها وتلاشى عنها أي خوف، ظنونها بمساعدته الكاملة قد تمت على أكمل وجه، فقالت براحةٍ: مش بقولك أعظم اخ.
ضحك وقال باستهزاء: أخت، أم، أخ مش هتفرق كتير، المهم إنك متفضحناش وتفضلي عندك كتير.

ومازحها بضحك: الظاهر إني ظلمت الكابتن وشادد عليه حيلي في حين إنك انتي اللي عايزة الشد.
هتفت بضيق: لا شد ولا جذب، سلام يا باشا.
اغلق الهاتف وابتسامته تتسع على وجهه بوضوحٍ، استدار ليعود لمقدمة السيارة فوجد على ينتظره بالقهوة وأخبره: وشك نور ببقى كلمتها.

صعد على لمقدمة السيارة، بينما انحنى عمران يجذب شيئا ما من السيارة ثم اتجه اليه، ارتشف قهوته على رشفتين، ثم قدم له كتاب يحمله، فتساءل على بدهشة: ده أيه؟
أجابه بمنتهى الهدوء وهو يزيح الاطباق ويغفو فوق قدمه: كتاب نتشته من عربيتك، وواضح من العلامة انك لسه في أوله، كمل قراية لحد ما أغطسلي ساعة كده وفوقني.
التقط منه الكتاب وقال بانزعاج: كتاب أيه؟ انا نازل اتمم على الاجهزة، يوسف مستنيني.

نهض يتعمق بعينيه بنظرة درامية اتبعت قوله: اخوك ولا الاجهزة يا علي؟
ضحك وهو يخبره: الاجهزة طبعًا يا حبيبي!
تمدد على ساقه وهو يهدر بضحك: كنت عارف إن هتختارني، تصبح على خير يا دوك.
راقب الطريق من حوله وصاح: هتنام في الشارع!
لم يجد أي رد منه فقد غفاه النوم سريعًا بشكل جعل على يشفق عليه، فسحب كوب قهوته ومضي يقرأ كتابه في صمتٍ.
بالمركز الطبي.

التقطت اذن يوسف صوت ضجيج من غرفة الكشف التي ستخصص لعلاج الاطفال، وما أن ولج للداخل حتى تفاجئ بسيف يهرول بالغرفة كالمجنون ومن خلفه تهرول زينب وهي تصيح بصدمة: سيف بطل رخامه وخليني أسحب منك عينة دم، مش قادرة أفسر موقفك الغريب ده!
هرول تجاه أخيه يصرخ بهلع: االحقني يا يوسف، ابعدها عني بالبتاع اللي في ايدها ده.
كبت يوسف ضحكاته بصعوبة وقال: دكتورة زينب معلش سيفو عنده عقدة من الحقن.

جحظت عينيها في صدمة وقالت: نعم!
قال يجاريها مازحًا: دي الحقيقة اللي خبناها عنك ولو عايزة تطلقي أنا أعرف مأذون كويس أوي ومبياخدش أتعاب، شغال يخلص البشرية لوجه الله!

تعطل حاسوب فاطمة عن العمل بشكلٍ مفاجئ، ولم يتبقى على اجتماعها الالكتروني الا خمسة عشر دقيقة، فلم تجد حلًا بديلًا الا الاستعانة بحاسوب زوجها.
بحثت عنه بحقيبته السوداء حتى عثرت عليه، جلست تفتحه وتعيد فتح حساباتها الشخصية عليه، لتبدأ اجتماعها بمهارة عالية، وثقة باتت تمتلكها بعد معاناة وتقدم هائل بعلاجها، وما ان انتهت حتى نزعت حجابها وجلست تستريح بتعب، وترتشف من كوب عصير البرتقال خاصتها.

صفقت عينيها بصورة على الموضوعة خلفية على الحاسوب، كانت له وهو يجلس على مقعده يتأمل باحد الكتب ويده تعبث بنظارته، كان وسيمًا لدرجة سحرت أعينها وجعلتها تميل على يديها، تتأمله لوقتٍ لم تمل به، وفجأة وجدت يدها تفتح الاستديو الخاص به، تتفنن بالتطلع لكل صورة يحتفظ بها، سواء صورته بمفرده او يشاركه بها أحد من افراد عائلته، حتى صورها القليلة برفقته كان يحتفظ بها.

ابتسامتها تزداد تعمقًا مع كل صورة، حتى انتهت من رؤيتها بالكامل، فاغلقتها وكادت بالخروج لولا أن لفت انتباهها ملف موضوع من فوفه اسم #فطيمة.
فتحته فاطمة والدهشة تحيط بملامح وجهها، فوجدتها مذكرات مدونه من علي، وما صدمها لم تكن بداية ما قرأته ولكن ما كل سطر تتعمق به، لتصيبها صدمات متتالية، ودموع لا حصى لها، يقص بقصته مراحل تطور علاجها، بداية من قصة حبه ونهاية باقتراح عمران المدبر لها بالعمل برفقته.

كل نجاح أحرزته طوال فترة عملها كان مسجلًا، كل شيء بحياتها مسجل، حتى امتناعها عن الحمل، تعاملها مع الرجال الذي بات طبيعيًا عن بدايته، كل شيء يحرزه كنجاحه كطبيب متخصص بعلاج حالة كانت لا تحمل أي آمال للشفاء، وكأنها كانت مجرد حالة استكشافية له! كل سطر أهانها وأوجعها بطريقة قاسية، لدرجة أنها كانت تخشى أن يكون أحدًا برفقتها فيقرأ ما تقرأه، تخشى أن يتطلع أحدًا على حياتها المطروحة أمامها بملف على حاسوب زوجها، عذرًا لم يكن زوجًا كان مجرد طبيبًا مستغلًا كما تراه الإن وفي تلك اللحظة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة