رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخمسون
أخيه الغائب يقف قبالته بعد فراقٍ دام لأكثر من خمسةٍ أعوام، قضاهم حائرًا لا يعلم إن كان حيًا يرزقُ أم انتقل لرحمة ربه، كانت أقصى أمنياته أن يعلم هل مازال حيًا أم قد قُتل، ففجأه آدهم بأكثر مما تمناه لدرجةٍ جعلته يقنع ذاته بأنه يتوهم، ولكن أعين أبيه الباكية تعكس غير ذلك.
حسم صراعه الجائر بأن اختطفه لاحضانه، يتلمسه ليتهيئ لتلك الحقيقة الهامه، فردد ببكاءٍ استل رغمًا عنه: يُونس!
افتقده كثيرًا ولكن رغمًا عنه عاجز عن بقائه داخل أحضانه، فهتف به مُتألمًا: متلمسش ضهري يا آيوب.
ابتعد عنه للخلف يشمله بنظرةٍ أكثر تفحص، وزنه الذي انتقص بشكلٍ ملحوظ ففقد كتلته العضلية التي نمت بفضل ممارساته للرياضة بالجيم الخاص برفيقه إيثار، وجهه الشاحب والمحتفظ بكدماتٍ حديثة دمائها مُجلطة وبعدها لآثار قديمة تدل على طبيعة ما خاضه، والمؤلم له هي ماذا تخفي ملابسه من اصاباتٍ؟!
انهمرت دموع آيوب كأمطار رعدية تهاجم دون موسمها، فأمسك كفيه بين يديه المرتعشة: أنا مش مصدق إنك قدامي! أنا كنت وحيد من غيرك يا يونس. كلنا كنا هنموت عليك ومش عارفين نوصلك.
ربت على كفه بتفهمٍ، وقال برجاءٍ لمس به آيوب انكساره: امسح دموعك واهدى. من فضلك مش عايز حد ياخد باله مننا.
أبعد الشيخ مهران ابنه وفتح ذراعيه لابنه الاخر هاتفًا باحتقانٍ اكتسح نبرته: ابني حبيبي!
أدمعت أعين يونس وهو يرى دموع عمه لمرته الاولى، عمه الذي اشتد عوده وهو لجواره، وحينما يحيطه شيطانه بأنه خُلق وحيدًا دون أب أو أم كان يصفع ذاته بأنه منحه شيخًا فاضل يربطه به صلة القرابة القوية، فألقى آلامه عرض الحائط وولج لحضن أبيه وهو يغلق عينيه بقوةٍ ليجابه تلك الآلآم القاتلة لاحتكاك صدره المجروح بصدر أبيه ويده التي تتلمس ظهره بحنانٍ، على الأغلب بأنه من صدمته لم يستمع لصراخه وهو يخبر آيوب بعدم ملامسة ظهره.
بعد آيوب أبيه عن ابن عمه وهو يبتسم بلطف ليخبي مفهومه: خلينا نطلع فوق بدل الواقفة دي يا بابا.
هز رأسه بتفهمٍ، واستدروا ليصعدوا لبنايتهم فوجدوا آدهم يقف بعيدًا بمدخل المنزل بالتحديد ليترك لهم مساحة خاصة، كان الشيخ مهران أول من تقدم منه يضمه بكل محبة وهو يردد بامتنانٍ: أنا عاجز عن شكرك يابني، إنت باللي عملته ده متتخيلش أسعدتني ازاي، انت ردتلي روحي بعد ما غابت عني لخمس سنين!
ضمه آدهم بمحبةٍ كبيرة وقال: أنا معملتش حاجة يا عمي. دي إرادة ربنا سبحانه وتعالى. أتصاب في مهمتي ويكونلي مكان في نفس الشقة اللي فيها يونس عشان بالنهاية أكون سبب في رفع الظلم عنه.
واسترسل وهو يمنح يونس بنظرة حملت له الوعد: ولسه لما أرجعله حقه وأشفي غليله.
وكأنه أيقظه لشيءٍ هام فهبط الدرجتين التي كاد بهما استكمال طريقه للأعلى، وإتجه يقف قبالة آدهم يخبره بنبرةٍ عميقة: إنت وعدتني إن بعد ما هتخرجني هنتنقملي منه بس هو زي ما هو لسه في منصبه!
تفهم عصبيته الهادرة وقال بثقةٍ: وعد عمر الرشيدي دين وسيف على رقبته يا يونس، بس اللي انت متعرفهوش إن الموضوع طلع أكبر مما تتخيل، أنا بعد ما زرعت كاميرات التجسس في زنزانتك واتفقت معاك تستفزه عشان يبقى معايا دليل قاطع إنه بيستغل منصبه لصالح عيلته ومصالحه الشخصية طلعت من عندك وقابلت القائد بتاعي حكيتله عنك وهو قالي هيتكفل بالقضية دي وهيحقق فيها بنفسه، وحظك بقى إن اللي تابع الموضوع ده هو الجوكر لما دور وراه اكتشف مصايب يعني مش بس ده اللي بيعمله في اللي أكبر من كده.
وتابع بهدوءٍ رزين: لو اخدنا خطوة وحاسبناه على اللي عمله معاك ومع غيرك هيتجازى وممكن يتقاعد بس ده مش اللي احنا عايزينه. احنا باللي بندور عليه لو أثبتناه هنلف حبل المشنقة حولين رقبته. أما الكلب التاني فمتقلقش وخليك مطمن أنا مش ساكت وقريب أوي هجيلك أباركلك على رجوع حقك بالكامل.
ارتسمت ابتسامة ممتنة على وجه يونس الذي تناسى كيف يبتسم! فوجد ذاته يحتضن آدهم بقوةٍ لا تجاهي أوجاعه، وكأنه وجد بأنها أبسط حقوقه لما فعله لأجله، وردد إليه: شكرًا لإنك في وسط العتمة اللي كنت فيها كنت الأيد اللي خدتني للنور!
ارتعش جسد آدهم بصورة ملحوظة، وكأنه تناسى مقاومات مبادلة الآخرون، ففرق ذراعيه وقربهما من ظهره دون ملامسته لأنه الوحيد الذي يعلم حجم اصابته، وهالته دموعه التي التمعت بعينيه شاعرًا بحنين غريبًا لأخيه!
ترى إن قابله بعد تلك السنوات هل سيصفح له عدم علمه بوجوده؟ والأهم هل سيسامح أبيه وهو ذاته عاجزًا عن ذلك! لا يعلم لما تمنى بتلك اللحظة أن يكون يونس نفسه أخيه المفقود! ويتعزز شعوره بأن ينتهي غضبه وتهدأ ثوراته ويندفع لاحضانه مثلما فعل يونس الآن!
ابتعد يونس عنه يراقب ملامح وجهه بدهشةٍ من رؤية دمعاته اللامعة، ظنه رجلًا قويًا مجردًا من المشاعر كحال أغلب ضباط الذي تعرض للضرب على ايديهم داخل ذلك المعتقل المظلم، فوجده يتأثر بالمشاعر الصادقة بشكلٍ عزز من حبه واحترامه لذلك الشخص النبيل.
تحرك آيوب عن مكانه يخفي آدهم الذي يحاول ازاحة دموعه دون أن يراه أحدٌ، وهتف بمرحٍ: يونس من فضلك بقى تحترم نفسك، آدهم صاحبي أنا من لما كنت في لندن مش هتيجي في كام يوم وتكونله البيست فريند.
ازدادت ابتسامة يونس بينما انفجر آدهم ضاحكًا وهو يصيح بعدم تصديق: آيوب سيف طبع عليك ولا أيه؟
غمز له بمشاكسةٍ: بيطبع عليا بمزاجي ووقت ما أحب.
وبصدقٍ قال: أنا مش عارف أشكرك ازاي يا آدهم جمايلك بقت مغرقاني. مرة أنقذت حياتي والمرة التانية أنقذت أخ...
ابتلع كلماته حينما اندفع والده يتساءل بجنون: انقذ حياتك ازاي! إنت تقصد أيه يا آيوب؟
سيطر التوتر على ملامحه، وكأن ما حدث أخر شيئًا توقعه، فكان مكشوفًا ليونس الذي تأكد من أن أخيه الصغير يخفي أمرًا كارثيًا، بينما استبدى آدهم سرعته الملحوظة بادراك الأمر كما تدرب فقال بصوتٍ واثق أدهش آيوب الذي لوهلة صدق الأمر: اللي حصل أن آيوب كان راجع مرهق وتعبان من الجامعة فكسل يقف يفقش لنفسه بيضتين وصمم ينزل يشترلنا أكل، وسبحان الله إني رفضت أكل معاه عشان يكون فينا واحد سليم ينقل التاني للمستشفى.
قالها بطريقة مازحه، بينما تعمق الشيخ بسؤاله: مستشفى ليه يابني؟
أجابه ببسمة جذابة مستغلًا بعض المعلومات التي يشملها عنه: لآن الأكل مكنش نضيف كفايا وآيوب أساسًا عنده حساسية. تعب جدًا وأخدته المستشفى بس الحمد لله أخد أدويته وبقى كويس وواقف قدامك أهو يا عم الشيخ!
وتابع بمكرٍ: هو مكنش عايز يقلقكم هنا في مصر بس لسانه مسحوب منه بقى هنعمل أيه!
ضحك الشيخ وقال بمحبةٍ كبيرةٍ: يعني أنا لسه بشكرك على اللي عملته مع يُونس طلعت إنت مسبق بجمايلك مع ابني. قولي بقى أشكرك أنا ازاي دلوقتي؟
فاجئه آدهم حينما قبل أعلى رأسه باحترامٍ قائلًا: معرفتي بحضرتك وبابنك ويونس بالنسبالي مكافأة. انا اكتسبت عيلة ومفيش بينا شكر ولا جمايل.
احتل الفخر والاعجاب حدقتي الشيخ، فأشار على درج منزله: اطلع بقى كُل لقمة معانا لو معتبرنا عيلتك بجد.
رد عليه بحرجٍ: أنا للأسف لازم أمشي لإن عندي شغل مهم. بس أوعدك إن في مرة تانية مش هرفض ده أبدًا.
ربت على كتفه بحنانٍ وتفهم: ماشي يابني. البيت بيتك تشرفنا في أي وقت.
استأذن منهم آدهم وغادر لسيارته فاتبعه آيوب، فقال الاخير بمشاكسة: جاي ورايا ليه ما تطلع تشبع من أخوك.
أجابه وهو يبتسم بمحبة عارمة: جيت أوصلك لعربيتك وأشكرك مرة تانية.
تنهد آدهم بتعبٍ: هو أنت مبتزهقش يا آيوب، كام مرة هكرر كلامي وهقولك إنك أخويا؟
استند على مقدمة السيارة وتساءل بمكر: يعني أنا أخوك فمن حقي أعرف دلوقتي إنت مالك؟
بصر له بدهشةٍ من ملاحظته لحالته بالرغم من أنه كان بارعًا بتبديد أحزانه، فتابع آيوب بضيقٍ: إنت فيك حاجه وبتحاول تكون طبيعي يا آدهم.
سحب نفسًا كبيرًا وكأنه يبتلع الهواء من حوله، ومال جانبه على مقدمة سيارته يخبره بارتباكٍ: مفيش يا آيوب، أنا بس مخنوق لإني شديت مع بابا شوية في الكلام ودي يمكن المرة الاولى اللي أعمل فيها كده بس غصب عني.
رد عليه بحكمةٍ: ومدامك عارف غلطك أيه اللي مخليك متردد تعتذر وتبوس ايده؟!
تطلع أمامه بصمتٍ مطول وعاد يميل برأسه تجاهه قائلًا: مش متردد بس الموضوع صعب، أنا اتعودت أشوف بابا بأجمل صورة تتخيلها، لدرجة اني اديته أكتر من مكانة واكتفيت بيه.
زوى حاجبيه بعدم فهم، فتابع آدهم ببسمة ألم: يعني مكنش ليا أصدقاء فكان هو صديقي، كنت بعيد عن عيلتي لطبيعة شغلي فكان هو كل عيلتي حتى بعد وفاة والدتي بقيت بشوفه أبويا وأمي وأخويا وصاحبي وكل اللي بمتلكه. قدوتي اللي بفتخر بيها وفجأة صورته اتهزت قدامي لما حكالي عن شيء متعلق بيه فغصب عني أنا عاجز ومش قادر أخد رد فعل!
ترك آيوب محله ووقف قبالته تلك المرة فكان أكثر طولًا منه لانحناء جسد آدهم العريض للسيارة، وقال بتفهمٍ لحالته: طيب يا آدهم مهما كان والدك عمل أيه لو إنت كنت أول واحد يجلده ويبعد عنه مين هيقف جنبه ويهونها عليه! كلنا بنغلط احنا مش ملايكة على الأرض.
هز رأسه مرددًا بعزمٍ لانهاء الحديث: عندك حق، أنا لازم أسمعه مرة تانية وأكون جنبه.
واستقام بقامته الشامخة وهو يمنحه ابتسامة رائعة: شكرًا يابن الشيخ مهران.
ضحك آيوب على لقبه الذي بات متنقلًا بين أصدقائه، فقال مشاكسًا: دي تالت مرة حد يقولي يابن الشيخ مهران بنفس الطريقة النهاردة.
ومين قالهالك قبلي؟
سيف وهو متعصب في مكالمة الصبح لإنه متخيل إني حجزت تذكرة سفري مع اني لسه واصل من كام يوم! وعُمران من ساعتين وهو متعصب لنفس السبب!
تعالت ضحكاته الرجولية وقال ممازحًا: ولما تروحلهم هتلاقيني أنا اللي متعصب هنا لنفس السبب.
تلاشت ابتسامته وهتف مستنكرًا: ليه هو أنت مش راجع معانا؟!
أجابه ببساطة: هرجع ليه. آيوب أنا ماليش مكان محدد بكون فيه، بلف العالم وبروح أي مكان تكون فيه مهمتي. لكن الاكيد إني الفترة دي مستجم هنا عشان تحضيرات فرحي.
ربنا يتمملك بخير. أنا موجود وهساعدك.
وبمرحٍ قال: أنا أكتر منك خبرة في اختيار القاعات، الديكورات، واللذي منه يعني!
ضحك بصخبٍ وهو يضرب كفه بكف آيوب: كويس رحمتني من أصعب جزء في الموضوع.
رقبتي فداك يابو الصحاب...
واستطرد بموجة ضحك: بس حوار البدلة والأوتفت كاملًا عليك وعلى الطاووس الوقح هو الجنتل مان اللي فينا وبصراحة مضمنش أنه يساعدك إنت بالذات.
ضحك آدهم وقال: لا ما أنا متأكد من نفس الحاجة، أنا إلى الآن مازلت بوجه غضبه وغيرته الغريبة على شمس!
وانتبه آدهم لأمرٍ تناساه تمامًا: صحيح يا آيوب هو الشيخ مهران لسه ميعرفش حوار آديرا!
استدار بخوفٍ خلفه وكأن أبيه يراقبه، وصاح هامسًا بشكل أضحك آدهم رغمًا عنه: هووووش أيه يا آدهم ما تروح جوا البيت وتفضحني يا أخي!
قال بضحكة ساخرة: حقك عليا أنا آسف! بس لمؤاخذة يعني هتفضل مخبي أمرها لأمتى ما كده كده هتتفضح! إنت هنا في مصر مش لندن يعني الخبر مهما يتكتم هيتذاع في النهاية.
تنهد بحزنٍ شديد وقال بتردد: بصراحة يا آدهم أنا كنت ناوي أقعدها في البداية عند إيثان لحد ما أقدر أمهد للشيخ مهران الحكاية بس انشغلت مع قرايبنا اللي جيهم يسلموا عليا وبعد كده في حوار يخص يونس وطليقته ودلوقتي هو رجع. لكن في شيء جوايا رافض نهائي مواجهة والدي إنت متتخيلش ممكن يحصل أيه لو عرف. كمان أنا حاسس إن مفيش داعي أعمل ده، أنا خلاص دوري انتهى، خلصنا من عمها وبقت في أمان فمالهاش لازمة تفضل على ذمتي.
برق بدهشةٍ: عايز تطلقها؟!
هز رأسه مؤكدًا، فتابع آدهم برزانة وتفكير: بس يا آيوب إنت جبتها هنا معاك لما تطلقها هي هتروح فين أعتقد إن هي دلوقتي مبقاش ليها حد غيرك!
زفر بضيقٍ وأجابه: مهو ده اللي مسكتني عن قراري، عايز أوفرلها سكن ومبلغ محترم تصرف منه ولحد ما أعمل ده سايبها على ذمتي عشان لو اضطريت أقابلها أو أزورها.
رفع أحد حاجبيه باستنكارٍ: عايز تفهمني إنك مشفتهاش من يوم ما وصلناها لشقة صاحبك؟!
أكد له دون أن يرف له جفنًا: أيوه. إيثان اللي بيوصلها الأكل والفلوس وطلبت منه كتير تشوفني بس أنا مشغول أو بصراحة مش حابب العلاقة تتعمق بينا بشكل يخليها تتعلق بيا خصوصًا إنها أسلمت ومحتاجه اللي يرشدها للطريق فبحاول أفكر في طريقة تجمعها بالشيخ مهران عشان يساعدها بدون ما أظهر في الصورة.
ربت على كتفه بقوةٍ ومنحه الثقة: أعمل اللي تشوفه صح يا آيوب أنا عارف إنك حكيم وهتقدر توازن الامور...
وسأله بدقةٍ جعلت الاخير يندهش من عدم نسيانه لشق الحديث السابق: لكن قولي بقى حوار طليقة يونس ده أيه؟!
بالأعلى.
تناسى تمامًا وجود خديجة بداخل منزله، فوقف يتابع زوجته وهي تحتضن يونس ببكاء حارق، وعينيه مصوبة على غرفة آيوب بتوترٍ قاتل، لا يود خسارة ابنه الأكبر مهما كان الثمن، ألا يكفيه ما تعرض له من عذاب وقهرًا وما أصعب أن يُقهر الرجال!
حاول تشتيت عقله مطمئنًا أن خديجة لا تتمكن من التحرك من فراشها لاضلاعها المنكسرة، فحاول أن يكون صامدًا حتى لا يثير شكوكه مفضلًا متابعة حوار زوجته ويُونس.
كانت متعلقة به بقوةٍ، بعدما عاد فقيدها الذي ظنته توفاه الله، فقالت ببكاء يشق الصدور: والله العظيم كان عندي ثقة في الله عز وجل إنه مش هيخذل قلب أم بتدعيله في كل صلاة، وبعظمته أستجابلي دعواتي وقر عيني بيك يا حبيبي.
قبل جبهتها ويديها معًا، لا يتناسى فضلها العظيم عليه، بفضلها لم يكن يتيمًا قط، كانت له أمًا يتحاكى عنها لألف سنة.
مسدت على شعره الغزير ورددت بحبٍ وحيرة لما قد تفعله لاجله فقالت: اقعد يا حبيبي هحطلك الاكل يارتني كنت أعرف إنك جاي كنت عملتلك وليمة.
بقى واقفًا محله وبصوتٍ متعب قال: معلشي يا أمي مش هقدر، عايز أرتاح وأكون لوحدي شوية. كنت هطلع على فوق على طول بس حبيت أشوفك وأطمنك عليا.
تمسكت بذراعه بعنفٍ والخوف يتغلغل حدقتيها، كأن الشرطة عادت لتسحبه عنها، فعاد لها نفس ذلك الشعور المقبض هاتفة باندفاعٍ: لأ يا يُونس مش هسيبك تبعد عننا تاني، سريرك جوه زي ما هو يا حبيبي.
ربت على يدها مرددًا بتوسلْ: معلشي أنا محتاج أكون لوحدي. وبعدين أنا شقتي فوقك ومش رايح في مكان بعيد عنك.
اتجه إليهما الشيخ مهران، ومرر يده على كتف ابنه بتفهمٍ: خلاص يابني اطلع ارتاح فوق ولما تفوق انزل نتجمع عشان في حاجات كتيرة تخص شغلك وفلوسك وايجار العمارة لازم تعرف كل اللي فاتك دي فلوسك بردو.
منحه نظرة عاتبته بقوة والتفت بجسده له يهاتفه بصوتٍ ارتفع عن هدوئه: فلوس أيه اللي بتتكلم عنها يا عمي! أنا مديون ليك بكل اللي امتلكه.
ابتسم ببشاشته الودودة وردد: لا يا حبيبي ده تعبك وشقاك. واللي لازم تعرفه إن محلاتك الصغيرة بقوا ما شاء الله أربع محلات ماسكين ناصية الحارة داير ميدور وإسمك منور عليهم، وكل أرباح تجارتك على ايجارات العمارة حطنهالك في حساب بنكي ما شاء الله عدي التمانية مليون جنيه وباقي فلوسك متدورة في رأس المال.
تفاجئ بما يستمع إليه وردد بحيرة: منين ده كله يا عمي ومين اللي دور المحلات وآيوب كان مسافر بيكمل تعليمه؟
أجابه بابتسامة واسعة فخورة باختياره لصديقٍ كان كالوتد بظهره: إيثان يابني ساب شغله وماله ومسك ادارة المحلات ورفض يأخد أي مليم لنفسه، دور الشغل من تاني يوم اتقبض عليك فيه وما شاء الله دماغه وأفكاره في تسويق الانترنت ده خلت اسمك في حتة تانية.
واسترسل متعمدًا الضغط على حروفه: يعني يا حبيبي لو خارج وفاكر انك خسرت فلوسك وسمعتك فده مش صح لان كل اللي في الحارة عارفين اللي فيها وإنك اتحبست ظلم بسبب اللي معتز آآ...
قاطعه بوجعٍ وكأنه لم يحتمل ضربة سوط أخر: بلاش تفتح سيرته ولا سيرة الخاينة دي يا عمي، سبوني من فضلكم لوحدي مش عايز حد يطلعلي أنا لما هبقى كويس هنزل.
احترم رغبته وربت مجددًا عليه: زي ما تحب يابني المهم أنك وسطينا وبخير.
ابتسم ساخرًا على جملته الاخيرة، من يراه منتصب بوقفته يظنه على ما يرام، والفضل يعود لله ثم لذلك الآدهم الذي اخترع قوقعته، فقد أصر على أن ينعم يونس بحمامٍ دافئ ومنحه حقيبة بلاستيكة حملت قميصًا أسود وبنطالًا جملي ارتدهما عوضًا عن ملابسه الذي اهترت، وأزال عنه الاتساخ والقذارة التي علقت إليه من بقائه بذلك الحبس المميت.
خرج يُونس من شقة عمه وصعد للطابق الثاني الخاص بشقته، تهربت منه عينيه للدرج فكانت تلك الخائنة من وجهة نظره تسكن الطابق الثالث، كانت تمر عليه في ذهابها وعودتها، والآن تركت له أمقت الذكريات التي قد يحملها إنسانًا حمل يومًا عشقًا لها.
ولج لشقته سريعًا وكأنه يتهرب من آلامه فأتاه ألمًا أعنف من السابق حينما أصبح بشقته التي تحمل جزءًا صغيرًا من ذكرياتهما.
خمسة عشر يومًا جعلهم جنة لها لتصفعه الإن بلهيب يبدأ بالتهام قلبه ويتسلل لجسده كالفيرس القاتل!
بينما داخل غرفتها، تسلل لها صوته فظنت نفسهل تتوهم سماعه، وحينما ارتفع نسبيًا انتفضت بالفراش، ساحبة ذراعها من أسفل رأس صغيرها النائم، وحاولت قدر الامكان الاستقامة بجلستها ولكنها تأوهت وتمددت بعجزٍ ومرضًا تام، هامسة ببكاء: يونس!
جاهدت مرة أخرى للنهوض فسقطت أرضًا محدثة صوت ضوضاء قوي ولجت لأجله السيدة رقية تهرع لمساعدتها قائلة بشفقة: يا قلبي عليكي يا بنتي، قومي.
عاونتها لتتمدد مجددًا، فتعلقت بذراعها وسألتها ببكاء: أنا كنت سامعة صوت يونس. بالله عليكي قوليلي إنه عايش وإني مكنتش بحلم!
انهمرت دموع رقية تاثرًا وقالت: لا يا خديجة مكنتيش بتحلمي. يونس عايش وخرج النهاردة من السجن.
ارتسمت ابتسامة واسعة على محياها، وحاولت النهوض مجددًا وهي تردد بلوعة شوقها المحترق: خديني ليه يا حاجة رقية أنا عايزة أشوفه وآآ.
ابتلعت باقي جملتها حينما استيقظت من حلمها الجميل بمرارة ما فعلته به، من المؤكد بأنها أخر شخصًا قد يود رؤيته، فتهدل جسدها على الفراش مجددًا بانكسارٍ ودموع القهر ينهمر من عينيها.
مسدت رقية على وجهها بحنان وقالت: معلشي يا حبيبتي بكره هيعرف الحقيقة وهياخدك في حضنه، يونس طيب وقلبه مش أسود.
وتابعت تملي عليها تعليمات زوجها: اسمعي يا خديجة كنا لسه من شوية بنتكلم أنا وعمك الشيخ وقال إنه مستحيل يسيبك تمشي من هنا، وبردو هو خايف يونس يشوفك فأنا هنقلك لأوضتي أنا وعمك الشيخ أمان عن اوضة آيوب، يونس عمره ما دخل اوضتي. فأنا عايزاكي لما يكون موجود هنا متتكلميش ولا تعملي أي صوت يا بنتي.
هزت رأسها بطاعه ودموعها تنهمر كالشلال: حاضر والله مش هعمل صوت بس عايزة اسمع صوته، خليه ينزل دلوقتي واتكلمي معاه عايزة اشبع من صوته بلاش ألمحه لو هيعمل مشاكل.
همست ببكاء: يا حبيبتي اللي بتقوليه ده حرام انتي لسه على ذمة راجل تاني، بس متقلقيش آيوب وكلك صاحبه ومسك قضيتك وماشي في الاجراءات.
أغلقت عينيها بقوة وقهر يجتاحها واستدارت تجاه ابنها النائم، فالتفتت لها من جديد تتساءل: طيب وفارس؟!
أجابتها بابتسامة عذباء وهي تمسد على شعر الصغير: مش هينفع نمنعه من الخروج ده مهما كان طفل. عشان كده هنظهره ليه وهنقوله ان ابن ناس قريبنا سايبنه هنا لأي حجة بقى هنرتبها يعني. وأهو فرصة يشوفه ويكون قصاده.
وسحبت الغطاء تداثره على جسدها وتخبرها: ارتاحي يا حبيبتي وبكره هنقلك للاوضة، متخافيش وارمي حمولك على الله عز وجل.
بوهنٍ رددت: ونعم بالله.
طرق آيوب باب شقة يونس مرات متتالية، فوقف يونس خلف الباب وردد بارهاقٍ: وبعدين معاك بقى يا آيوب أنا مش منبه على عمي وقايله عايز أقعد لوحدي!
وتابع بانفعالٍ: ثم انك بقالك ربع ساعه بتخبط وأنا مطنشك مفتقدتش الأمل!
رد عليه بصوتٍ حزين: يُونس افتح. أنت عارف إني مش هنفذ اللي انت عايزه.
استند على الباب بجبينه وردد بتعب: عشان خاطري انزل يا آيوب أنا محتاج أكون لوحدي افهم بقى!
طرق بعصبية كادت باسقاط الباب، وصراخه الشرس يتحرر عن مرقده: خلاص اقفل براحتك أنا هبات هنا قدام الباب.
وبالفعل ترك آيوب الاكياس البلاستيكة جانبًا وجلس أمام باب الشقة، فزفر يونس بنزقٍ، وحرر المزلاج مرددًا بغضب: هتفضل طول عمرك عنيد واللي في دماغك بتنفذه من غير ما يهمك كلام حد.
ابتسامة مشرقة تشكلت على وجهه الوسيم، ونهض يحمل الأكياس ويتجه للداخل بفرحة طفل سمح له والده بالذهاب لقضاء عطلة الصيف.
هز رأسه بيأسٍ، فيبدو أن السنوات الماضية لم تغير أحدًا سوى زوجته الخائنة، أغلق الباب واتبعه للصالون الفخم المجاور له.
فجلس مسترخيًا بصمتْ استفز آيوب الذي يحاول سحبه للحديث، فبدأ باقتراحه بتناول الطعام وحينما صده يونس لم ييأس فعرض صنع القهوة ولم يترك مشروبًا الا وعرضه عليه، فأطلق يونس زفرة حارة وقال بضجر: آيوب هتقعد تقعد وإنت ساكت مش بعامل طفل أنا!
قال بابتسامة اتشحت بالبرود قد ما تمكن: مهو أنا مش هتأقلم مع وضع الصمت اللي انت فيه ده، عايزك تتكلم وتفضفضلي وتقولي ناوي على أيه؟
رد عليه بارهاق: مش ناوي على حاجة ولو كترت في كلامك هطردك بره ومش هيهمني تنام ولا تتقتل قدام باب الشقة!
هز رأسه وقد بدى أنه اقتنع بأنه غير مستعدًا للحديث، سحب أحد الأكياس البلاستيكة واقترب منه بتردد وارتباك لاحظه يونس فسأله بقلقٍ: ده أيه؟ وليه متوتر بالشكل ده؟
فتح الكيس من أمامه فظهرت المراهم الطبية والكريمات وبعض الادوية من أمامه، وبحزنٍ قال: أنا عارف إنك موجوع ومش هتقبل تشاركني أوجاعك بس أنا مش هسيبك كده، حتى لو رفضت هحطلك غصب عنك.
تعمق بالتطلع إليه، وازدرد ريقه بغصة ألمته، فردد بصوتٍ محتقن: بلاش. بلاش عشان خاطري يا آيوب.
تألم لألمه ولكنه لم ييأس فقال بهدوءٍ: طيب هسألك سؤال لو أنا كنت مكانك كنت هتتخلى عني حتى لو أنا طلبت منك تبعد؟
ضم شفتيه معًا وكأنه يعتصرهما داخله، واستغرق مدة من التفكير، فلم يكن راضيًا لأن يرى أحدًا اصاباته وتوابع الظلم المستبد الذي إهانت به رجولته وجرد من كيونته دون رأفة.
كان يريد الاختلاء بذاته ليتخلص من ذكرياته واعتياد عينيه علة الظلم، كان بحاجة ليلملم جروحه فلا بأس إن حرر صرخاته أو بكى كالصغير، ولكن في حضرة أخيه حُرم حتى من ذلك.
تنهد يونس بوجعٍ وعاد يتطلع لآيوب الذي يتطلع له بنظراتٍ متوسلة الا يرفض معالجته لجروحه، فهز رأسه باستسلام ٍ، جعل الفرحة تشرق من جديد على وجهه، وقال: طيب تعالى مدد في الاوضة.
سحب كفه من يده وأجابه بغضب: لاااا، مش عايز أدخل الاوضة دي. ومن بكره تغيريلي عفش الشقة كله يا آيوب.
ربت على يده ليسترخى، فلا يريد خسارة فرصة معالجته، فقال: زي ما تحب، تعالى نروح أوضة الاطفال.
هز رأسه بخنوعٍ واتجه للداخل، راقبه آيوب وهو يتجه لاحد الأسرة، وبدأ في حل أزرار قميصه ببطءٍ وتردد واضح، حتى نجح أخيرًا بنزعه عنه.
جحظت أعين آيوب صدمة، وبدى على وشك فقدان كل محاولاته للثبات، قلبه يتمزق وفؤاده يُنتزع منه بقوةٍ لرؤية كل تلك الجروح التي أصابت جسد أخيه، ليته يتمكن من نهش لحم من فعل به ذلك.
بقى محله يحمل كيس الدواء وجسده يدور دون رأفة منه، خشى أن يلاحظه أخيه فاقترب وهو يجاهد لرسم ملامح عادية، تماسك لأصعب درجة ليضع ما بيده على صدره والأخر يغلق عينيه ويئن بصمتٍ.
وحينما جلس خلفه يعالج ظهره ترك آيوب العنان لدموعه تتساقط لتغسل وجهه المحترق، بكائه على الرغم من إنه ليس مسموعًا ولكن شعر به يونس فقال ومازال مغلق العينين: انزل عيط تحت واتحسر على أخوك براحتك. بلاش قدامي عشان بالله ما ناقص.
اتجه للسرير المقابل له يخبره باصرار: مش نازل ومش هسيبك واللي عندك أعمله.
زفر بقلة حيلة وتمدد على الفراش يغلق عينيه: عايز أنام وبس يا آيوب.
نهض يجذب الغطاء لساقيه مراعيًا عدم لمس ظهره الذي تتركز به الجروح بكسرةٍ عن صدره، وهمس له: نام ولو احتاجت حاجة ناديلي أنا جنبك.
هز رأسه وأغلق عينيه مجددًا محاولًا أن يحظى بنومة مريحة بعد أن حُرم من أن يحظو بقطعة حصير تمنع عنه رطوبة الأرض المتصلبة من أسفله.
في لندنٍ.
عاد لشقته ليبدل ملابسه سريعًا قبل غداء العمل الذي سيجمعه هو وعُمران مع أهم مساهم بالمشروع التجاري، مرر جمال يده بين خصلات شعره المشعث بإرهاق قد ذهق ملامحه، فقد قضى أيامه كُلها برفقة والدته، لم يتركها منذ خروجها من العمليات حتى هذا اليوم، ولولا أن وجوده برفقة عُمران هامًا للغاية لما كان اهتم بالذهاب.
أفتقد راحته ونومه المريح بمنزله وفراشه ولكنه تحامل لأجل والدته رافضًا تركها للممرضات، فكان هو من يتوكل باطعامها وأدويتها ومعاونتها بالذهاب للمرحاض.
أغلق باب الشقة من خلفه وعينيه تبحث عن زوجته، فوجدها تجلس أمام التلفاز، رسم ابتسامة هادئة وقال: كنت بدور عليكي في المطبخ ولما ملقتكيش قولت أكيد انك هنا.
منحته نظرة باردة وقالت: عادي يعني قولت أمدد شوية وأنا بتفرج على المسلسل.
وتساءلت وهي تقضم ثمرة التفاح أمامها: غريبة إنك راجع بدري النهاردة.
أجابها وهو يتجه لغرفة النوم: ورايا معاد مهم مع عُمران. غداء عمل.
وضعت طبق الفاكهة عن يدها ولحقت به تطلق إحدى شرارتها: يعني اليوم الوحيد اللي جته بدري من المستشفى هتخرج فيه؟
سحب أحد بذلاته الآنيقة وقال: يعني بمزاجي يا صبا ما قولتلك شغل مهم.
أصرت إليه بطلبها، وكأنها تتحجج لخلق المشاكل من العدم: طيب ما تكنسله وتيجي نخرج نتغدى برة في أي مكان حلو.
ارتدى بنطال البذلة ووضع حذامه من حول خصره قائلًا بنفس نبرته المتمسكة بالهدوء: مينفعش لازم أكون موجود معاه لإني شريكه. وبعدين عُمران مصمم أكون موجود.
ربعت يديها أمام صدرها وقالت بحقدٍ: مدام بتنفذ طلباته وبتعزه أوي كده بصله واتعلم منه.
توقف عن غلق أزرار قميصه، واستدار تجاه مكان وقوفها مرددًا بدهشةٍ: أتعلم منه! تقصدي أيه بكلامك ده؟
اندفعت بهجومها الضاري تلقي ما اعتمرها: قصدي تتعلم من معاملته الرقيقة لمراته، تتعلم من طريقته بالكلام، حتى طريقة لبسه واستايله! اهتمامه بجسمه وآ...
قُطعت صفعته جملتها، فاعتدلت بإيماءة وجهها وكفها يحتضن خدها، مرددة بصوتٍ مرتعش: بتضربني يا جمال!
انفعلت أنفاسه المنطلقة من داخله، وصاح بغضبٍ ساحق: إنتِ بأي عين تقفي قدامي وتتكلمي عن راجل غيري! وبأي حق تسمحي لنفسك تبصي وتدققي في شكله وجسمه ولبسه أنا بجد مشفتش وقاحه أكتر من كده!
واستطرد بصراخ أرعبها: أقسم بالله لاندمك على كل كلمة خرجت منك يا صبا. أنا زي ما أنا ومش هتغير لا عشانك ولا علشان أي حد، وبعدين إنتِ أيه مفيش ليكِ كاسر! بقى أنا طالع عيني في الشغل ليل نهار، ورافض إنك تقعدي مع أمي وقايم بكل طلباتها عشان واجب عليا أولًا وعشان عارف إنك تعبانه من الحمل، بعاني وشايل فوق طاقتي وانتي مقضياها مقارنات ومستحلة لنفسك تبصي لراجل بصة زبالة بالشكل ده وفوق كل ده جاية تتكلمي قدامي!
وتابع وهو يلقي المزهرية المتطرفة على الكومود، صارخًا: امشي من وشي مش طايق أشوفك.
وكأنها أفاقت من جنون غيرتها وحقدها لفضاحة ما ارتكبته، فاقتربت منه تردد بدموعٍ غائرة: أنا آسفة والله ما أعرف قولت كده ازاي. أنا مبصتلوش أنا شوفته كذه مرة وعجبني استايل لبسه وطريقته مع والدته ومراته وآ...
تتعمد أن تخرج أسوء ما فيه، فكور يده وصاح بانفعالٍ: اخرسي مش عايز أسمع حاجة.
ودنى إليها يردد وعينيه ترمقها باستحقارٍ: أنا صونتك وعمري ما رفعت عيني في عين واحدة في حين إنك مقضياها مقارنات بيني وبين رجالة تانية، الظاهر إن طيبتي معاكي اديتك الجراءة إنك تتكلمي قدامي عن اللي جواكي فخليني أنا كمان أصدمك بشيء مكننش أتمنى أقوله بس عشان مقارنتك لشخصية عُمران تكون كاملة من كله.
واسترسل ببسمةٍ ألم لخوضه بسيرة صديقه المخلص والأخ القريب لقلبه دونًا عن أشقائه: كنتِ هتقبلي إنك تكوني على ذمتي وأنا يكونلي علاقة بواحدة غيرك! كنت هتقبلي إنك تعيشي معايا في بيت واحد وأنا ليا أوضة بشاركها مع عشيقتي، كنتِ هتقبلي بكرهي ليكِ واهانتي ليكِ واجباري ليكِ تكوني موجودة في أي مناسبة احضرها وايدي في ايد عشيقتي!
جحظت عينيها صدمة ورفض تام لهذا التخيل فأضاف ببسمة ساخرة: مايا قبلت بده وده كان جزء من شخصية عُمران غير علاقاته السابقة، ودلوقتي بعد ما اتغير وبيعوضها عن اللي شافته بصيتلها في حياتها!
وجذب جاكيته وحذائه واتجه للخروج متغاضيًا عن قميصه المهمل، فلم يعد يحتمل البقاء معها بنفس المكان لأكثر من ذلك.
لحقت به وهي تناديه فاستدار يصيح بشراسةٍ: متنطقيش اسمي على لسانك. خليكي قاعدة هنا لوحدك لمقارناتك العظيمة، ويا بنت الحلال مدام أنا مش مالي عينك ولا بمواصفات فارس أحلامك الخيالي واتصدمتي بيا فأنا ميرضنيش تعيشي معايا معذبة هديكي فرصة تعيشي مع راجل غيري وعشان تعيشي حياتك بدون أي عائق هسيبك على ذمتي لحد ما تولدي، سبيلي الولد هربيه وروحي شوفي حالك مع اللي تتمنيه.
صعقت مما استمعت إليه فقالت ببكاء: انت بتقول أيه يا جمال! هتطلقني بالسهولة دي! هتبعد عني يا جمال!
منحها نظرة شملتها من رأسها لأخمص قدميها، وخرج مسرعًا صافقًا الباب من خلفه، ولج للمصعد يستكمل ارتداء ملابسه واستند على المرآة يبتلع تلك المرارة المريرة، كيف تسمح لذاتها بالتطلع لرفيقه بتلك الدقة، كيف فعلتها وهي على ذمته!
خرج من المصعد لسيارته واتبع الموقع على هاتفه ليصل للفندق المنشود.
زفر بضيقٍ وهو يقف أمام عددًا ضخمًا من حقائب السفر الكبيرة، يتفحصهم بضيقٍ، وزمجرته المحتقنة تصل لزوجته القابعة بالفراش بتعبٍ، فنهضت تلحق به متسائلة بفضولٍ: مالك يا عُمران؟
استقام بوقفته يلتفت إليها مربعًا يديه بمنتصف صدره العاري المحاط بالمنشفة: مش عارف ألاقي هدومي! حقيقي أكتر شيء مزعج كان إني وافقتكم وجيت معاكم هنا بالبيت ده ولا لاقي أي وقت أصمم وأنفذ فكرة الرفوف اللي في دماغي ولا هدومي مترتبة بشكل كويس!
كبتت ضحكاته بصعوبةٍ، مازال كما عاهدته يعشق ترتيب ملابسه وأغراضه بتناسق مثالي مريض، فسألته وهي تتحلى بجدية زائفة: طيب قولي عايز تلبس أيه وأنا هساعدك.
جاب غرفة الملابس ذهابًا وإيابًا يجيبها بغيظٍ: no way أنا مبعرفش ألبس على ذوق حد
حتى لو كان الحد ده إنتِ يا بيبي، أنا ليا ذوقي الخاص!
زمت شفتيها بسخطٍ: طيب والحل أيه دلوقتي!
خبط بكفيه على ساقيه: مش عارف يا مايا. كده هتأخر!
وأشار لها وهو يعود للحقائب يبحث بعناية: اتصلي بجناح على واتاكدي إن فاطيما خلصت لحد ما أحاول تاني أنقيلي شيء كويس.
هزت رأسها وابتسامتها تتسع، فاتجهت للفراش وجذبت هاتفها المسنود للكومود وطلبتها فأخبرتها بأنها استعدت بالفعل منذ ساعة كاملة والآن تنتظر عُمران الذي تأخر كثيرًا.
أغلقت الهاتف وزفرت هامسة بسخريةٍ ويدها تمسد على جنينها: أوعى تطلع لبابي هشفق على قلب مراتك من الغيرة من دلوقتي!
هبطت فاطمة تنتظر عُمران بالأسفل، فانتبهت لفريدة الجالسة بشرود وحزنًا غامضًا، اتجهت إليها تنحنح برقة لتلاحظها الاخيرة، فقالت بابتسامة راقية كحالها: فاطيما إنتِ خارجة؟
أمأت برأسها: أيوه رايحة مع عُمران غداء عمل. مصر إني أروح معاه بس بصراحة أنا مرتبكة.
أخفضت ساقها عن الاخرى ونهضت إليها مرددة باهتمامٍ وحنان: لازم يا فاطيما، خروجك وشغلك في حد ذاته هيمحنك القوة، وبعدين أنا عايزاكي كمان معايا في ادارة مركز على الطبي، هتكوني مسؤولة عن الحسابات وبكده هتساعديني. زينب كمان هتكون موجودة معانا فالموضوع هيكون لطيف وهيعجبك.
تحمست للغاية وكادت بأن تشكرها ولكن صوتًا رجوليًا، مشاكسًا صدح لهما: مش معقول يا فيري بتقصري على عقل موظفتي وشريكتي وبتغريها تكون معاكي!
وبدراما مضحكة قال: طيب وأنا مفكرتيش فيا! بس في اللحظة دي هقولك no way فاطيما تتخلى عني لإنها عارفة إن مايا مش هتقدر تنزل الشركة وهي تعبانه صح يا فاطيما؟
ابتسمت مرحبة بتمسكه بها، وقالت لتراضي الاطراف: خلاص أنا هفضل مع عُمران لحد ما مايا تولد وتقوم بالسلامة إن شاء الله وبعدها هشتغل مع حضرتك يا فريدة هانم لإني بجد متحمسة للفكرة من دلوقتي.
اتسع ثغرها بابتسامة رقيقة وقالت: تمام يا حبيبتي. يلا روحوا عشان متتاخروش.
غادر عُمران برفقتها، بعد أن اعتلت المقعد الخلفي، وصل بعد عشرون دقيقة للفندق المقام به الغداء، هبط مسرعًا من مقعده حينما وجد أحد العاملين بالفندق يمارس مهنته بفتح أبواب السيارات، فوضع يده على يده الواشكة على فتح باب فاطمة المرتبكة، قائلًا ببسمة جذابة: عذرًا، إليك مفاتيح السيارة.
وناوله المفتاح وابتعد يفتح بابها إليها، طُعمت نظراتها بالامتنان، وازدادت ثقتها بأنه لطالما لجوارها سيمنع أي سوءًا يحدث معها مثلما أخبرها زوجها الحبيب.
اتبعته للداخل حيث طاولة تتوسط المكان المحجوز أكمله لذلك الاجتماع، فكانت الطاولة ضخمة وتضم عدد لا بأس به من النساء والرجال.
مشط عُمران الطاولة بعينيه، واختار، الجلوس بنهايتها رغم أنه سيكون المغزى الرئيسي للاجتماع، ولكن حرصًا منه أن يبعد زوجة أخيه عن الأعين، فسحب المقعد ما قبل الاخير وجلس عليه تاركًا لها الاخير حتى لا يجاورها أحدًا.
تعجب جمال من فعلته فترك مقعده ونهض يلحق به، فجلس جواره من الناحية الاخرى يهمس له بصوتٍ كان مسموع لفاطمة: أنا حجزتلك جنبي في أول التربيزة قعدت هنا ليه؟!
أجابه بايجازٍ: عشان فاطمة تكون مرتاحة في قعدتها.
هز جمال رأسه بخفوت، فسأله عُمران باهتمامٍ: طمني شوشو أخبارها أيه؟ وحشتني أوي والله.
اتسعت ابتسامته وردد يخبره بأخر المستجدات: من ساعة زيارتك الاخيرة إنت وفريدة هانم وهي مُصرة تعمل دايت وتروح جيم!
طالعه قليلًا بدهشة انقلبت لموجة من الضحك، فشاركه جمال بتحفظٍ، بينما ردد الطاووس الوقح: طيب بلغها بقى إن أول ما تخرج من المستشفى تخصصلي يوم كامل هاجي أخدها وأرجعها بليل، وقولها إن الخروجة دي هتشكرني عليها أول ما ترجع مصر ويقابلها الحاج وقتها هيزيد عشقها ليا.
تقوست شفتيه وصاح بيأس من تغيره: ناوي على أيه يا وقح. أمي مش حمل دماغك السم دي!
عدل من جرفاته الرمادي وأجابه بغرورٍ: كل خير يا جيمي. وبعدين لازم يكون عندك ثقة فيا شوية!
احتل حزنًا غامضًا عينيه وأجابه بنبرة عميقة: ثقتي فيك أكبر مما تتخيلها يا عُمران.
ترك كوب المياه الذي تجرعه بأكمله وقال بشكٍ: في أيه؟
تنحنح يجيبه بخشونة: في أيه بس ما أنا كويس أهو!
منحه نظرة متفحصة جعلت الاخير يتهرب منه، وصاح بعصبية لا تليق بهدوئه: بطل تبصيلي نظرة المحقق كونان دي!
تطلع أمامه وحرر جاكييه الأسود ليحصل على جلسة مريحة هادرًا بوعيدٍ: ماشي يا جيمس لك روقة بعد الاجتماع، هقررك بطريقتي!
حدجه الاخير بنظرىٍ مشتعلة وغير سياق الحديث حينما مال للامام قليلًا ليتمكن من رؤية زوجه أخيه، مرددًا بلطفٍ: إزيك يا مدام فاطمة. منورة الاجتماع.
رفعت مُقلتيها إليه، وبتوترٍ ملحوظ لهما قالت: ميرسي.
عاد جمال بظهره للمقعد باستغراب من طريقتها الغامضة ولكنه لم يعلق وتابع الاجتماع باهتمامٍ.
ازداد عدد المتواجدين تدريجيًا، حتى احتل الصف المقابل لهم عدد منهم، ووضع الطعام ليتناولونه قبل بدأ الاجتماع.
نهض عُمران يجذب احد الاطباق، واضعًا أصنافًا متعددة من الطعام ووضعه قبالة زوجة أخيه حتى لا تضطر للوقوف والانحناء بجسدها أمام الرجال الحاضرون برفقة السيدات، حتى المياه والمناديل الورقية وضعها، كأنما يصطحب معه ابنته الصغيرة أو شقيقته شمس المعتادة منه على المعاملة الرقيقة تجاهها.
واستدار تجاه جمال فوجده غير عابئ بالطعام من أمامه، عقله شارد فيما حدث بينه وبين زوجته، فسأله بمزحٍ: عايز مساعدة! أغرفلك طبق ولا أيه نظامك؟
أشار له نافيًا: لا ماليش نفس.
جحظت عينيه بدهشةٍ، فترك الطبق من يده وجلس جواره باهتمامٍ: اتكلم يا جمال وقولي مالك بدل ما أقسم بالله أنيمك مكانك.
وبهمس مكبوت بغيظه: مهو أنا مش هحايل في أمك طول القعدة انطق!
زفر بمللٍ منه، وبنزقٍ نافر قال: متخانق مع صبا يا عُمران ارتحت!
زم شفتيه ساخطًا: تاني! أقصد عاشر. إنت يابني آدم معندكش دم! راعي إنها حامل ومش حملك.
راقبه بصمتٍ فراقب الجمع وعاد يميل هامسًا ليتمكن من سحب الحديث من فمه: بص لو نرفزتك إن ريحتك مقرفة مثلًا فمتقلقش تقريبًا كل الحوامل كده. أنا اتاكدت من يوسف امبارح!
منحه نظرة ساخرة، فحك لحيته النابته وعاد يخبره: طيب طلبت منك أكلة مش موجودة في لندن وقلبتها نكد عليك!
مال للأمام على الطاولة بقلة حيلة، فجذبه عُمران للخلف بعصبية كادت باسقاط المقعد ونهض يجذبه من رقبته صارخًا بانفعالٍ، متناسيًا وجوده بمكانٍ هكذا: بروح أمك قاعد تتدلع عليا، ما تنطق فيك أيه؟ مبقتش حمل أنا المناهدة كفايا قرف نعمان ومصايبه!
برق جمال بصدمة وصاح للاخير: عُمران إنت اتجننت الناس حولينا!
تهدل ذراعه عنه بحرجٍ شديد وعاد لمقعده ببطءٍ راسمًا بسمة بالكد وردد: أعتذر لكم. اكملوا طعامكم نحن على ما يرام تمازحنا فحسب!
عاد الجميع لتناول طعامهم والاحاديث الجانبية فيما بينهم تغطي على المعركة الدائرة بين عمران وجمال الذي صاح بعصبية: عجبك كده!
أجابه بنزقٍ: مهو أنا مقدرش أقعد هادي وشايفك بالوضع ده وأنا أساسًا فضولي!
رغمًا عنها يصل لهما حديثهما، وجل ما يسيطر على تفكيرها اكتشاف جوانب غامضة من شخصية عُمران، حالها كحال من ينخدع كونه شخصية صارمة مخيفة، من ذو القساة قلوبهم، أعجبها اهتمامه برفيقه في اطار حوار عاديًا بينهما.
سحب عُمران طبق إليه ووضع به قطعتين من اللحم، غمس قطعة صغيرة بشوكته وقربها من جمال الذي تأفف بضجرٍ: ماليش نفس أحلفلك بأيه عشان تصدق! بلاش تحسسني إني المدام وقلقان على اللي في بطني من قلة الأكل!
ألقى الملعقة بطبقه وتركه من أمامه دون أن يتناول شيئًا هادرًا باستهزاء: وإنت تطول يا معفن!
وتابع يحذره باشارة منه: بلاش تستفزني يا جمال بدل ما أقوم أطربق تربيزة كفار الجاهلية دي فوق دماغك!
ضحك رغمًا عنه فما أروع تشبيهه، حيث كانت تضم كميات طعام مبالغ به، فمال إليه يخبره بارتباكٍ من رد فعله: عايز أسحب منك لقب الطاووس الوقح وأحطلك بعد إسمك سايكو بحيث تكون عُمران سايكو!
ضاق برماديته بنظرة ساخرة، وعدل من جاكيته بغرور وثقة: أنا لو دماغي سايكو (مجنون) زي ما بتقول مكنتش وصلت للمكان ده! أنا دماغي ألماظ حر واللي جايلي لحد مكتبي واثق كل الثقة إنه جاي المكان الصح.
كاد بأن يشاكسه جمال ولكن قطعه حديث الممولين، بالحديث بفخر عن المشروع الضخم المقام بمبالغ مُذهلة، وبعد حوار طويل شرع بفخر تعامله مع شركات عُمران الغرباوي لتنفيذ مشروعه، وبالاشادة إليه انطلقت وابل من التصفيقات والأعين تتجه إلى مكانٍ جلوسه، فأصبح مكان فاطمة بارز للعلن، مما أزعج عُمران كثيرًا.
نهض من محله يشير لهم بكبرياء وثقة اتبعت نبرته القوية: شكرًا لكم، ولكني لست المسؤول عن المشروع بمفردي، لدي شريكًا أخر يساندني.
وأشار لجمال معلنًا إسمه على ملأ من جمع كبار رجال الأعمال، لينال نفس النصيب من المدح والتصفيقات، فاضطر أن ينهض جوار عُمران بعد أن أرغمه بذلك.
مضت نصف ساعه ومازال النقاشات قائمة، ولكن أغلب الآعين تراقب مكان عُمران بعد أن كُشف عن هويته بفضول لرؤية ذلك المهندس الذي صنع لذاته صيتًا باهرًا، مما بدد الخوف والرهبة داخل أعماق الجالسة لجواره، ومازالت تحاول المحاربة.
رفعت رأسها فوجدت احد الرجال الجالسون قبالتها يتمعن بها من رأسها لأخماص قدميها، وكأنها عارية، اختلجها الخوف فمالت على عُمران تناديه على استحياءٍ وما أن أجابها حتى قالت بتوترٍ: ممكن أخرج أستناك بره؟
كاد أن يتساءل عن سبب طلبها المفاجئ ولكن قطعه صوت نفس الرجل المحدق بها يردد بنظراته الجريئة: تعجبت من جلوسك هنا رغم أنك من أهم الحاضرون هنا وما أن جلست قبالتك حتى كشفت تلك الجوهرة الفاتنة تتخفى لجوارك!
وتابع وهو يلعق شفتيه بطريقة مقيتة لمن يفهم مغزاه: لحسن الحظ أن السيدة مايسان لم تحضر برفقتك والا لما حظيت برفقة تلك الحسناء!
لحسن حظها بأنها لا تجيد الايطالي مثلما يجيده عُمران وجمال، تصاعدت النيران من حدقتيه بشكلٍ مخيف، أخر ما يتوقعه الآن أن تطولها نظرات ذلك السفيه القذر، ومبالغته فيما يفعل لمجرد تأكيده بأنها ليست زوجته، انفجرت الدماء من أوردته، فمال برأسه يسارًا ويمينًا مصدرًا صوت طقطقة مخيفة، ارتعب جمال من رؤيته كذلك، فأمسك معصمه المتعصب هادرًا: اهدى يا عُمران هو ميقصآآآ...
طاحت باقي جملته حينما قلب الطاولة التي تفصله عنه، وفي لحظة كانت يده تلتف من حول رقبة غريمه، يجذبه بقوةٍ ليواجه ذاك الجحيم المتأجج داخل رماديته الداكنة، وبصوتٍ جهوري أرعب ذاك المعلق بين يديه: لانها ليست زوجتي هل يحل لك النظر لها بتلك الطريقة الوضيعة، حسنًا إليك مفاجآتي إنها شقيقتي وزوجة أخي أيها الوضيع!
أنهى كلماته وأسقطه أرضًا يطيحه بركلة قدمه بقوةٍ أمام أعين باقي الحضور المندهشون لما أصاب عُمران لمجرد كلمة وجهها لموظفته الخاصه، ارتعبت مما يحدث ودنت منه تتساءل بخوفٍ: عُمران في أيه؟
صرف عنه عفاريته ووقف إليها يمنحها مفتاح سيارته قائلًا بهدوء يحاول الالتزام به خشية من أن تصيبها أي نوبة: استنيني في العربية يا فاطمة. شوية وجاي.
هزت رأسها وغادرت على الفور لشعورها باضطراب يصيبها، رعشة يدها وجسدها أخافتها ان تهاجمها النوبة هنا وبرفقة شقيق زوجها، انهمرت دموعها تباعًا وحاولت فتح سيارته بيدٍ مرتعشة أسقطت المفتاح أرضًا وجعلتها تجلس على الرصيف باهمالٍ.
فتحت فاطمة حقيبتها سريعًا تبحث عن هاتفها لتطالب أكبر هالة تمنحها الأمان والسكون، حررت زر الاتصال به ورعشتها تزداد تدريجيًا.
علي الجانب الاخر كان يجلس برفقة شقيقته بأحد المطاعم، بعد ان قام باصطحبها لقصر عائلة الغرباوي بالقاهرة، فتعالت ضحكاته بعدم تصديق لما تخبره به وأنهت حديثها بضيقٍ: متضحكش يا علي. كنت هعمل أيه يعني لو عُمران عرف إنه شافني كده! مش بعيد كان ركب على أول طيارة ونزلي أنا وآدهم.
أطلق ضحكاته الرجولية بحريةٍ، وصاح ساخرًا: طيب وبتحكيلي ليه لو مقتنعة إنك عملتي شيء غلط!
أجابته بتلقائية: لانك عاقل وجنتل في نفسك كده، متأكدة إنك هتقعد وتسمعني ونتفاهم لكن الطاووس الوقح ده دراعه اللي بيتفاهم!
ضحك مجددًا فابتسمت وتابعت لتزيد ضحكاته التي تسعدها: بس شكلي كان مسخرة لدرجة إن والد آدهم اتبرى منه وطلع جري من الاوضة مفكرني شبح مراته!
سعل بقوةٍ وهو يرتشف عصيره من فرط الضحك، فقال بحزمٍ مصطنع: خلاص بقى هفطس منك كده يا شمس.
وأشار على طبقها الذي مازال كما هو بينما انتهى هو من طعامه: يلا خلصي أكلك عشان نتحرك. الوقت اتاخر ومينفعش ندخل بيوت الناس في مواعيد متأخرة.
هزت رأسها بتفهم وشرعت بتناول طعامها، بينما تلقى هو مكالمة زوجته، فنهض على الفور يردد: ثواني وراجع يا شمس. معايا مكالمة.
حركت رأسها بخفة فابتعد هو وفتح الهاتف يردد بحبٍ: حبيبتي كنت هكلمك أول ما أرجع على طول، ها طمنيني الاجتماع كان عامل ازاي؟
لم يستمع لصوتها، فقط صوت شهقات يتسلل لها، فردد بلهفة ممتلئة بالخوف: فطيمة! في أيه؟
لا رد يريح قلبه الثائر فعاد يتوسل لها: حبيبتي ردي عليا طمنيني إنتِ كويسة؟
ازدادت الشهقات مما دفعه لقول: ردي عليا يا فاطمة. طيب فين عُمران اديهوني أكلمه؟
أجابته برجفة صوتها المرتعش: جوه في الفندق.
التقط أنفاسه ببعض الراحة لسماع صوتها واستمر بأسئلته: طيب وانتي فين؟
قالت وهي تستند على السيارة: بره عند عربيته مش قادرة أفتح بالمفتاح وجسمي كله بيرتعش. آآ، أنا خايفة يا علي!
كبت وجعه بتلك اللحظة وردد: من أيه يا قلب علي. فهميني أيه اللي حصل وليه عُمران سايبك عند العربية لوحدك؟
وقبل أن تتحدث قال: خلينا الأول نسيطر على الحالة اللي عندك قبل ما تقلب لنوبة، اهدي يا حبيبتي ونظمي نفسك، شهيق وزفير على مراحل.
اتبعت تعليماته نصيًا، لعدم رغبتها بحدوث ما يجعلها بموقف حرج، خمسة دقائق استغرقتهم حتى هدأت تمامًا، اتاها صوته الدافئ يتسأل بنبرة تعشق سماعها: أحسن؟
الحمد لله
قادرة تقفي؟
أيوه.
قومي واقعدي جوه العربية وافتحي المكيف عشان تكوني مرتاحة في الكلام.
نفذت ما أملاه عليها، صوته الحنون ذاته قد ساهم بتهدئتها عوضًا عن تمارينه الطبية، وما أن شعر بهدوئها قال: احكيلي اللي مضايقك؟
استجمعت شجاعتها للحديث دون بكاء: مش عارفة أنا كنت كويسة، وعُمران بصراحة كان مطمني، تصرفاته من بداية دخولنا لحد ما اختار مكان ورا عشاني، بس فجأة المكان بقى زحمة فحسيت بالخوف، وكمان معرفش أيه اللي، حصل فجأة عُمران اتنرفز ومسك واحد من اللي جوه ضربه جامد.
ضربه ليه؟
معرفش أنا مش بعرف ايطالي يا علي.
طيب اهدي وكملي أنا سامعك ومعاكِ يا حبيبتي.
مفيش هو طلب مني أخد المفاتيح واستناه بره بس أنا لما خرجت معرفش ليه حسيت ان الدنيا بتلف بيا ومقدرتش أقف على رجلي فكلمتك على، طول.
ربط على الأمور وانتهت بشكٍ يراوده، فاحتجت أوردته باحتقانٍ غاضب، فمن المؤكد بأن أخيه لن يتطاول على أحدٍ بمجال عمله الا إذا تلصصت عينيه على نساء منزله، وقد طالت الآن فاطمة.
حافظ على هدوئه وقال بحب: كل ده طبيعي وعادي جدًا يا فطيمة، أما نرفزة عُمران فممكن تكون خلافات في شغله وهو مش من النوع اللي نفسه طويل.
واستطرد بحنان: أنا معاكي أهو ومش هسيبك الا لما يرجع وأطمن إنك رجعتي بخير.
قالت وهي تخفض نافذة السيارة المعتم لتتفحص القادم بوضوحٍ: عُمران جاي أهو. بس في واحد جاي ورا أعتقد ده اللي كان بيتكلم في الميك أغلب الاجتماع.
بقى علي على الهاتف، فاستمع لصوت فتح باب السيارة وعُمران يتحدث لها: هنتحرك على البيت على طول يا فاطيما، انتي كويسة؟
أجابته بارتباكٍ من أن يكون لاحظ حالتها: أيوه.
أوقفه من هرع إليه يصيح باللغة الايطالية المفهومة لعلي الذي يستمع لكل ما يدور بفضل اقتراب عُمران للسيارة، يكاد يكون ملتصق بها: سيد عُمران أعتذر لك نيابة عن جيرمان، وأمل أن تقبل اعتذاري وتعود لمتابعة امضاء العقود.
أجابه بحزمٍ وصرامة مخيفة: أي عقدًا هذا! تناسى أي عقود تربطك بشركاتي إن بقى هذا القذر شريكك دانيال.
ارتعب الرجل وكاد بأن تصيبه إغماء، تطلع للخلف فاتتبه لجمال الذي يدنو إليهما فناداه باستنحاد: سيد جمال أرجوك أن تجعله يصفح خطيئة هذا الأحمق بالنهاية لقد اعتذر لك عما فعله.
صرخ باشتعالٍ يمزقه إربًا: أي إعتذار هذا. لقد تجرأ ذلك الأرعن وتطلع لزوجة أخي بوجودي!
لم يكن يعلم بأنها زوجة أخيك!
حتى وإن كانت أحد موظفيني كان سينال العقاب نفسه.
أجلى جمال صوته الهادر يحدثه بالعربية: خلاص بقى يا عُمران ما انت بهدلت الراجل وكسرتله رجله لسه عايز تعمل أيه تاني!
جذب جمال تجاه سيارته القريبة من سيارة عُمران وقال: متتدخلش في الموضوع ده يا جمال، اركب عربيتك وروح لوالدتك اتاخرت عليها.
لم يكن دانيال يفهم ما يحدث بينهما، ولكن دفعة عُمران أكدت له طلبه بالرحيل، فأمسك يده يترجاه: من فضلك سيد جمال لا ترحل دون أن نصل لحل.
وتطلع لعُمران يخبره: أخبرني مستر عُمران ما الذي يُرضيك لفعله، أنا على استعداد لفعل أي شيء الا خسارتك!
حل الخبث بمُقلتيه، وارتكن على ظهر سيارته جوار نافذة فاطمة بالتحديد، يخبره بكبرياءٍ: إن أصبح ذلك الحقير خارج شركاء المشروع ربما حينها أقبل بأن يسري العقد بيننا.
بدى دانيال مشتتًا، لا يعلم كيف يتخذ القرار، من ناحية أحد الشركاء الخمسة بالمشروع والناحية الاخرى عُمران سالم الغرباوي الذي تفنن ليقبل بمشروعه رغم أنه مشروعًا هامًا يتمنى أي شخص أن يكون المحظوظ بتولي مهمة تنفيذه.
كسر قاعدة صمته وجمال يتابع ما يحدث بفضول لمعرفة ما يدور بعقله، حتى على يكاد ينفجر من الغيظ من تصرفات أخيه، فحينما استمع لجمال يخبره بأنه كسر قدمه وأوسعه ضربًا شُفي غليله وهدأت انفعالاته، بل بات فخورًا بأنه أمن أخيه على زوجته، ولكن لا يرضى أن يخسر عُمران مشروعًا هامًا وضخمًا مثل ذلك، فلقد ذاع صيته بأكثر، من بلدٍ أوروبية وباتت وجهة مشرفة لعمران.
كسر الصمت بينهم صوت دانيال يخبره بارتباك: لا أريد خسارة تعاملاتك سيد عُمران ولكن أنا الآن عاجز، فهو شريكًا بنسبة ثلاثون بالمئة مثلي، ونحن الآن في عجلة من أمرنا للبدء في تنفيذ المشروع فإن فعلت ذلك سنضطر للانتظار حتى نجد شريكًا أخر يحتمل تلك النسبة ويدفع نفس المبلغ المتفق عليه.
بسمة انتصار ارتسمت على ملامح عُمران الغامضة، فسأله بشيءٍ من اللامبالاة: كم تقدر؟
مئة مليون دولار أمريكي.
انتصب بوقفته وقال بخبثٍ جعل على وجمال يرفعون القبعة لذلك الماكر: حسنًا دانيال لا يرضيني خسارتك وتأخير مشروعك، ولكن كما تعلم أنا لا اتهاون مع من يسيء لي لذا سأعوض خسارتك تلك بعرضي التالي، سأجد لك شريكًا بديلًا لذلك الحقير، عليك فقط فسخ العقود معه وأحضر عقودًا جديدة لمكتبي بالغد، ستجد المبلغ والشريك الجديد حاضرًا.
ومن هو؟
ظنوا جميعًا بأنه سيكون هو، ولكنه فجأهم جميعًا حينما قال بغموضٍ: أحمد الغرباوي. مؤكدًا سمعت عنه.
تهللت أسارير الرجل لنيله شريكًا مثل ذلك، من قادة وأثرى الطبقة الآرستقراطية، فردد بحماسٍ: حسنًا سيدي، غدًا سأحضر أنا والثلاث شركاء الاخرون.
هز رأسه وأجابه بجمود: غدًا سنكون أنا وفريقي بالموقع. ولكن إن خالفت اتفاقك أخشى مصارحتك بما سأفعله بك ربما لن نجد أمك حاضرة لعلاجك!
ارتعبت ملامح الرجل وهز رأسه بتأكيد فما أن غادر حتى انفجر جمال ضاحكًا، هاتفًا بعدم تصديق: يخربيت دماغك السم دي يا وقح! أيه التخطيط السريع ده.
أجابه بصوتٍ مختنق: هو اللي بدأ يستحمل ابن ال. ولا بلاش عشان فاطمة متستحقرنيش لو شتمت.
ابتسمت وقالت بحرج: هو أنا مفهمتش أي حاجة من الحوار بس على فهم وعايز يكلمك.
قالتها وهي تقدم له الهاتف، انتفض بوقفته يعاتبها بارتباكٍ: مش تقولي إنه على الفون يا فاطيما، يعني سمع كل ده!
هزت رأسها موكدة له، فضحك جمال وودعه قائلًا: اشوفك في الموقع بكره. سلام يا طاووس.
وتركه وغادر، فاستقل عُمران مقعد القيادة ووضع الهاتف على أذنيه يردد: حبيبي يا دوك، كده تطول في الغياب والقلب حزنان!
سيبك من الاسطوانة اللي مبتأكلش عيش دي، وقولي إنت ازاي تكسر رجل الراجل وتضربه بالوحشية دي؟
يعني أنت لو مكاني كنت عملت أيه وهو بيآ...
متوضحش مش عايز فطيمة تفهم حاجة. أنا معاك في اللي عملته ولو كنت موجود كنت هعمل أكتر من كده بس إنت في مكان مهم وحوليك ناس مهمين فبالتالي هيتاخد عنك أفكار وحشة هتضرك في شغلك يا عُمران وبعدين أيه الفيلم اللي عملته على الراجل ده، أقنعتني من كلامك إنك عايز تكون انت الشريك وفجأة قولت على عمي!
عشان أنا مش فاضي لادارة مشروع ضخم زي ده بالرغم من إن أرباحه وهمية ومضمونة، وكمان عايز أرد جزء من جمايل عمك علينا يا علي.
ابتسم وهو يجيبه باحترامٍ: فخور بيك وبالرغم من إنك الصغير بس ساعات بتعمل حركات بتكبرك في عيني. بس مش في كل الاوقات لما الطاووس، الوقح بيحضر مبيحضرنيش أي احساس غير الغضب.
ضحك وهو يخبره: خلاص هطفشه ولا تزعل يا دكترة!
طيب اقفل يلا واتحرك عشان فاطمة ترتاح.
حاضر، سلام.
وأغلق هاتفه ثم ناوله لفاطمة وقاد عائدًا للمنزل بلهفة اللقاء بعمه وإجباره بالمشروع الذي سيعد له دجاجة تبيض ذهب.
بمنتصف الليل عاد آدهم لمنزله ظنًا من أن والده قد خلد للنوم، فلا يريد أن يواجهه الآن، يعلم بأنه سيتألم إن رأه حزينًا.
فما كاد بصعوده الدرج حتى اتاه صوت أبيه من خلفه: هتقاطع أبوك يا عمر! خلاص قلبك قسى عليا!
سحب نفسًا طويلًا قبل أن يستدير له، فهبط إليه واقترب لينحني مقبلًا يديه وهو يردد بحزنٍ: عمري ما أقدر أقسى عليك يا حبيبي. هو أنا ليا مين في الدنيا غيرك!
انهمرت دمعات مصطفى بتأثرٍ وقال ببكاء: حقك عليا يابني. أنا حتى مخترتش الوقت الصح اللي أقولك فيه الحقيقة، على الأقل كنت رعيت وجود مراتك وأخوها. هيقولوا أيه لما يلاقوك كده.
ابتسم رغم ارهاق ملامحه واحمرار عينيه: أنا كويس. مفيش فيا حاجة.
ضم وجنته بيده وقال بلهفة وخوف: سامحتني يا عمر؟
ضعف قبالته وغزت دمعته الغالية وجنته، فتحرر صوته المحتقن: مش مهم أنا. المهم هو يسامحك يا بابا.
احنى رأسه للأسفل وانفجر بالبكاء، وبكل يأس حمله جذب كف ابنه يقبله وهو يصيح بتذلل: أبوس ايدك يا عمر تجمعني بيه قبل ما أموت. عايزه يسامحني يابني حتى لو هتذلل وأبوس رجليه.
جذب كفه بصدمة من فعل أبيه وصاح بألمٍ: بتعمل أيه بس! حرام عليك تزيد في وجعي. أنا معاك وهساعدك عشان أنا كمان محتاجله ولو رفض يسامحك أنا اللي هتذلل ليه لكن إنت لأ يا بابا. إنت غالي ومكانتك بالنسبالي فوق أي حد حتى لو كنت غلطان.
احتضنه مصطفى بحبٍ وردد ببكاء: مخرجتش من الدنيا دي غير بيك إنت يا عمر. إنت كنزي وابني الصالح اللي متأكد إنك هتكون بار بيا بعد وفاتي.
قبل كف يده باحترامٍ وحب: بعد الشر عليك، ربنا يجعل يومي قبل يومك.
أزاح آدهم دموع أبيه وارتفع بجسده يطبع قبلة على رأسه، ثم دفع مقعده لغرفة المكتب لضمان عدم سماع أحدٌ حديثهما، وما أن ولج للداخل حتى سحب مقعدًا خشبيًا وجلس قبالته يسأله بكل ذرة اهتمام: قولي كل اللي تعرفه عنه. أي معلومة صغيرة هتفيدني، ومتخافش عليا أنا جاهز لسماع أي شيء، بس المهم تقولي الحقيقة عشان أقدر أساعدك، قولي أخويا فين؟!