رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس والعشرون
حمل عمران باقة الزهور الفخمة وإنحنى على ساقًا واحدة، ويده تمتد أمام وجهها بابتسامة جذابة، مشيرًا بيده الاخرى لجمال الذي يحاول التفنن بزواية التصوير: صور حلو يا جيمس عايزين الحج يغير ويقيد نار، وهو شايف مزته بتتخطف منه من أول يوم ليها في لندن.
ضحكت أشرقت والدة جمال بصوتها كله، ورددت بخجل: إخص عليك يا عمران يا ابني، ما خلاص راحت علينا.
شهق بطريقة أضحكت الجميع من حوله: فشر مين دي اللي راحت عليها، ده أنا لو مكنتش مرتبط كنت فكرت أنزل مصر اقتل الحاج وأرجع أتجوزك بالغصب والواد جمال يشهد على العقد.
ضحكت حتى أحمر وجهها، والتقطت منه باقة الزهور بنظرة ممتنة، ومن ثم قالت: تصدق يا جمال أني بقالي مع أبوك 42سنة وعمره ما دخل عليا بحزمة جرجير!
انفجر يوسف ضاحكًا، وحذرها بتريث: أوعي يا حاجة الواد عمران ده وقح وعايز يخرب عليكي، يرضيكي تفارقي الحاج بعد 45سنة جواز!
لكزه عمران بغضب، ليمنحه كلماته المعتادة: ريح إنت يا دكتور.
وعادت ابتسامته تتسع على وجهه واستكمل وصال مدحه: سيبك منه يا مزتي، وقوليلي الست الوالدة كانت بتقرى الفنجان؟
تساءلت بذهول: لأ يا ابني مفيش عندنا البدع دي، بس بتسأل ليه؟
أجابها بغمزة ساحرة من رماديته: أصلها مختارلك إسم على مسمى، شكلها كانت عارفة إن شمس جمالك هتشرق في قلبي وقلب الحج اللي قولتيلي إسمه أيه؟
انفجرت ضاحكة حتى أدمعت عينيها، وبصعوبة حتى خرج صوتها: والله ما في بجمال روحك وكلامك يا ابني.
ولكزت جمال ببطنه بغضب: اتعلم منه كلمتين تلفيني بيهم أنا ومراتك يالا.
ضحك الشباب بأكملهم، فصاح يوسف به: أنا بقول كفايا إن الحاجة بنفسها حطتلنا الأكل في الأوضة كفايا وجودها هنا يا جمال لإن الحقير ده هيقلبها عليك وهيلبسك في ليلة كبيرة أوي.
رد عليه ساخطًا: لبست ولا كان كان يا دكتور.
كشفت الحاجة أشرقت عن أصناف الطعام، قائلة بمحبة: مدوا إيدكم قبل ما الأكل يبرد، كل يا دكتور يوسف. كل يا عمران.
منحها ابتسامة واسعة وعينيه تنتقل على أصناف الطعام الشهي، فأشمر عن ساعديه هاتفًا: أيه ده كله، أنا شكلي كده هحتاج أحرق نص وزني بعد ما أنسف كل ده، إنتي جيتي تعوضيني عن الاكل اللي فريدة هانم بتنتقم مني فيه.
ضحكت وهي تراقبه قد بدأ بتناول طعامه بالفعل وقالت: ومامتك سايبك لفريدة هانم دي ليه يا ضنايا، ما تطبخلك هي أكل الطباخين مرع ومالوش طعم.
وزع عمران نظراته الضاحكة بين جمال ويوسف، ثم انفجر ضاحكًا وأخبرها بتريث: لا مهي فريدة هانم دي والدتي يا أمي، بس لو عينك لمحتها هتقولي إن أنا اللي أبوها، يعني شكلها يديكي احساس إنها في التلاتينات كده، فلقيت نفسي بتكسف أقولها يا ماما.
وجذب يدها التي تضع أمامه احدى قطع اللحم ليطبع قبلة محبة على كف يدها، قائلًا: بس أنا بقى عند أم جميلة ونفسها حلو بالأكل، وده أهم شيء.
ربتت على ظهره بسعادة عارمة، فمازحها بخفة: اتبري من جمال المعفن ده واتبنيني عندك هنا اسبوعين.
لكزه بضيقٍ: ما تتلم بقى يا عم الوقح نازل تهزيق فيا من ساعة ما دخلت.
احتلته نظرة ماكرة، ففرك ذراعه وهو يرسم الألم: شوفتي يا أمي الغيرة والحقد فاطين من عينه ازاي.
منحت أشرقت ابنها نظرة قاتلة، اتبعها قولًا صارمًا: اختشي على دمك يا جمال بدل ما أشيل الأكل من قدامك!
تعالت ضحكات يوسف، وانحنى يربت على كتف جمال الذي يكاد فمه يصل للأرض من فرط الصدمة، فأغلق يوسف فك جمال بأصبعه وانحنى يهمس له: متعزمش عمران في أي مكان فيه حد يخصك، لان بالكاريزما وكلامه الناعم بيغلب قلوب العذارى والسن المبكر والمتأخر، عمران خطر على صنف الحريم كله.
اتجهت نظرات جمال ليوسف وقهقه ضاحكًا، واتبعهما عمران الذي كاد ببصق الطعام من فرط ضحكاته، فابتسمت أشرقت ورددت وهي تراقبهم بحب: ربنا يسعدكم ويديم جمعتكم دايمًا، هطلع أنا أشوف البنات في الصالون.
وتركتهم ورحلت، بينما أشار عمران لهما: يوسف ناولني طاجن الكوارع دي بسرعة قبل ما يبرد.
دفعه يوسف تجاهه وبدى التقزز يحيط به، فدفع عمران ليسأله بذهول: مالك قالب منخيرك كده ليه يا جدع، أوعى تكون الطبقة الآرستقراطية الحقيرة دي طبعت عليك! ولا نسيت أيام ما كنا بنقضيها في المعز والسيدة زينب!
رد عليه بنفورٍ استحثه بالحديث: معتش ليا بالكلام ده، وبالأخص الطواجن.
رمش ساخرًا، ونهض عن مقعده يجذب طبقين من الأطباق الفارغة المجاورة تجاهه، فوضع قطعة ضخمة وقربها منه أمرًا بحدة: كل يا يوسف، رم عضمك ومتصعش عليا بالأتكيت المخادع ده.
دفع يوسف الطبق إليه مرة أخرى: يا عمران مش عايز أنا خايف وزني يزيد يا عم.
حدجه بنظرةٍ قاتمة اتبعها: تعدمني يالا لو مكلتوش، عايزني أموت يا جو!
انقبض قلب يوسف، وبدى مندهشًا من تشديده على تناوله للطبق، ظنه كان يمزح ولكن مجمل الكلمة أخذته حتى لو كان يشاكسه، فجذب يوسف الطبق من أمامه وبدأ يتناول ما به، فابتسم عمران بانتصارٍ، واتجهت عينيه لجمال الذي يراقبهما ببسمة جذابة، كالأب الذي يتناول صغاره يتناولون طعام صنع لهم بحبٍ.
وجده عمران لا يتناول شيئًا، فنهض ليضع قطعة بالطبق الأخر وقربها منه مرددًا باستهزاءٍ: جرى أيه إنت التاني، عايز عزومة في بيتك، انتوا جايبنا هنا نهزر ولا أيه يا جدعان، أقوم ألم الأكل ده وأخلع!
شرع جمال بتناول طبقه وهي يتابعهما بفرحٍ، ومن بين اندماجهم بالطعام كسر عمران الصمت بينهما قائلًا بوقاحة مازحة: شكل كده الحاجة أشرقت عاملة حسابها إننا عرسان جداد فخاصنا بأكل من اللي هو، بصريح العبارة كده الكوارع دي وراها سر باتع.
ترك جمال الملعقة بصدمة مما يتفوه به، بينما طعنه يوسف بنظرة ساخطة اتبعها نفوره: مش قولتلك الواد ده وقح يا جمال، أقسم بالله عايز أقوم أجيبه من رقبته بس للأسف مش فاضي طاجن الكوارع طلع يستاهل، هات حتة كمان يا وقح!
برق جمال بصدمة من انحلال يوسف خلف عمران بعدما كان يشكو منه منذ قليل، فاستند بيده على جبينه وأخذ يراقبهما بنظرة المغلوب على أمره!
انتهى من تجفيف جسده، وارتدى إحدى البيجامات الرجالية المريحة، ثم اتجه إليها يمرر يده بحنان على صدغها، وصوته الثابت يناديها بحنان: فريدة، حبيبتي اصحي يلا.
رمشت بانزعاجٍ وصل له من صوتها الناعس: سبني يا أحمد، عايزة أنام.
ملس على شعرها برفقٍ وكأنه يدلك فروتها، وعاد لهمسه الدافئ: احنا لسه بالنهار وانتي لجئتي للنوم بدري، قومي خلينيا نقعد مع بعض ونتغدى، مش كنتي بتقولي انك جعانه!
فتحت عينيها الزرقاء بانزعاجٍ منه، واستقامت بجلستها بعصبية: في أيه يا أحمد ما تسبني أنام وأصحى براحتي.
ضحك وهو يتأمل وجهها العابس، فجذب الطبق الموضوع على الكومود وقرب ملعقته منها بسرعة قبل أن تنفجر به: خلاص كلي اللي في ايدي وهسيبك تكملي نوم، مهو أنا مش هيجيلي قلب أسيبك نايمة من غير أكل.
ابتسمت لسماعها تلك الكلمات الحنونة، فاكتفت بهزة رأسها وتناولت كل ما قدمته لها يده، حتى فرغت من تناول الطبق، فجذب الغطاء يداثرها بحب، وقبلته العميقة تلثم جبينها، هامسًا: نامي وارتاحي يا حبيبتي، أنا هنا جنبك.
ابتسامتها كانت ردًا سريعًا لكلمته، وبالفعل سرعان ما عادت لنومها منذ جديد، بينما الاخر يراقبها بابتسامة حنونة ويده تضمها لصدره.
منحه نظرة ساخرة لتماديه بما يحمله من معلوماتٍ ظنها ستفيده، فتنفس من غليونه ببرودٍ اتبع نبرته: ما تحمله قديمًا يا فتى، أتيت لي بإسم الشرطي وأنا أسبقك بعشرة خطوات، تراه الآن يعاقب على كل جرائمه!
ابتلعت شمس ريقها بصدمة مما استمعت إليه، فتراجعت للخلف بحركة منفعلة شتت تركيزها عن رؤية أي شيء، فاختل توازنها مستندة على الطاولة، ورغمًا عنها دفعت يدها الطاووس الموضوع من فوقها، فألقت تحذير صارم بوجودها بالقرب من مكتب راكان.
فُتح باب المكتب وطل راكان منه ومن خلفه الحارس الجديد له، فوقف قبالتها بنظرة قاتمة وابتسامة شيطانية اختلجت قلبها، فرددت بتلعثم: أنا آسفة مقصدتش أوقعه، أنا بس اتخبطت في التربيزة وآ...
قاطعها بابتسامة مخيفة: فداكِ يا شمس، فداكِ كل شيء، كفايا إنك حنيتي عليا أخيرًا وجيتي لحد هنا علشان تقابليني، دي في حد ذاتها كبيرة عندي يا حبيبتي.
ودنى منها بخطواتٍ شبيهة لحركة السلحفاة، حتى بات قبالتها، نفث راكان غليونه بوجهها، فسعلت بقوة مطلقة يديها لتبعد الأدخنة عنها، ومازالت تنتظر ما سيخبرها به، فقال بخشونة: كنتِ جاية ليه يا شمس؟
لعقت شفتيها القاحلة برعبٍ سرى بجسدها: آآ، أنا، كنت، جاية آآ. عشان أشوفك. وشكلك مشغول، همشي وأجيلك وقت تاني.
قالتها وهي تهرول للاريكة تحمل حقيبة يدها، وإتجهت للخروج، ارتجف جسدها وكأن فصل الشتاء أصابها بثليج عاصف حينما وجدت رجال أشداء مفتولين العضلات يسدوا طريق خروجها، وكأنهم بانتظار الأمر لقتلها.
التفتت للخلف تجاه وقوف راكان وهاتفته بتوتر: في أيه يا راكان، من فضلك خليهم يبعدوا!
ضحك بصوته كله، وصاح باستهزاءٍ: هو دخول القفص سهل الخروج منه يا شمسي، العصفورة لما بتدخل قفص من حديد وبيتقفل عليها سجانها هو بس اللي يقدر يطلعها، وأنا معنديش النية إني أخرجك أصلًا.
ضمت حقيبة يدها وكأنها تستمد منها قوة مهدورة داخلها، وقالت: يعني أيه؟
أجابها بنظرة أزهقت ما تبقى داخلها، وصوته الرعدي يصمم آذنيها: يعني خلاص لعبتك إنتي والحقير اللي مشغلك انكشفت واتعريتي قدامي يا شمس هانم يا بنت الأكابر.
وانطلق ليقف أمامها يجءب راسخها بقوة وهو يتساءل بغضب: أنا اللي مش فاهمه هو جبرك بأيه علشان تساعديه مهو مستحيل يكون دافعلك فلوس أو هددك بشيء، قوليلي آدهم ولا عمر، الكلب ده أجبرك إزاي تلعبي عليا اللعبة دي، اتكلمي أفضل ليكي.
تسللت البرودة لجسدها تدريجيًا، وهمست بضعفٍ: معرفش إنت بتتكلم عن أيه، سبني أمشي.
احتدت معالمه وفجأها بصفعة جعلتها تنساق أرضًا أسفل قدم رجاله، ضمت شمس وجهها بوجعٍ وقبل أن تستوعب ما حدث لها وجدته ينحني ويجذبها من خصلات شعرها إليه: لما جيت أتجوز قولت أستنضف وأناسب عيلة الغرباوي، وكنت فاكر نفسي ذكي باختياري ليكي، تقومي إنتي اللي تديني القلم ده لا فوقي معاش ولا كان اللي يختم راكان منذر على قفاه يا بنت سالم، ده أنا أقتلك وادفنك هنا مطرحك ومبكيش عليكي ثانية واحدة.
وبسخرية استطرد: ولا كنتي فاكراني أهبل وبريالة وواقع في غرامك! أنا قلبي عمره ما حب ولا هيحب حد، هعيش وأموت وأنا اللي بهمني بس مصلحتي وشغلي.
هل ستتلقى الموت؟ حسنًا لا مفر منه، لذا عليها نزع رداء ضعفها المستتر وتحارب لاخر أنفاسها، رمقته بنظرة قوية جعلته يستغرب منها، وخاصة حينما قالت: شغلك القذر اللي زيك، إنت فعلًا صادق مفيش انسان على وجه الأرض عنده قلب يعمل اللي بتعمله، الأدوية المغشوشة اللي بتهربها جوه بلدك بالاتفاق مع الصه. اينة القذرين اللي زيك أكيد متخرجش الا من شيطان جاحد زيك، لا عمره فكر مين هيتأذى بيها طفل ولا شيخ ولا ست ولا راجل بيشقى عشان عياله، إنت عندك انتزاع روح البني آدمين سهل، عشان كده ربنا هيخلي نهايتك عبرة وعظة وعلى إيد الشخص اللي مستني لحظة تشفي غليله منك.
بالرغم من أن حديثها أثار غضبه وحنقه بشكل ضخم، لكنه التزم بهدوئه وافرج عن ابتسامة تعج بالشر والسخرية: لو تقصدي بالشخص ده آدهم أو عمر فأحب أقولك خابت أمانيكِ الرائعة، لإن الكلب ده خلاص زمانه دلوقتي بينطق الشهادة ده لو كان عمله حلو وقدر ينطقها ابن المحظوظة!
برقت بحدقتيها بصدمة، وراحت تهز رأسها باندفاع: لأ، لأ. مستحيل.
ضحك وهو يتابعها بشماتة، وفجأة احتلت الجدية الطاعنة ملامحه وهدر بصوت محموم: إنتي حبتيه ولا أيه؟ يعني الكلام اللي اتقالي صح وكنتي مقرطاسني معاه غراميات!
ألقى غيلونه أرضًا وكسره بقدميه وهو يصيح بشراسة: يعني أنا اللي كنت هلم زبالته وأخليها حرمي، حرم راكان المنذر!
بصقت على الأرض القريبة منه: مستنضفش أكون زوجة ليك يا حقير، والكلام اللي قولته ده مهزش فيا شعرة، لإني واثقة ومتأكدة إن آدهم مستحيل تنهيه بالسهولة دي.
تلاشى غيظه ومنحها ابتسامة أخافتها، فاقترب ينحني عليها قائلًا بفحيحه المخيف: تيجي نتراهن؟
تابعته بنظرة حائرة، فتابع: أنا كنت هقتلك دلوقتي، بس ميخلصنيش تموتي وآنتي فاكرة إن الصرصار اللي كنتي حاطة فيه أمالك هيعدي من الكمين اللي نصبهوله، فهتحداكي حالًا لو الصبح طلع عليكي وهو موجود مش هخلي حد من رجالتي يلمس شعرة منك، لو مجاش هتكوني حددتي مصيرك.
أسبلت بعينيها تخفي دموعها المنهمرة، بينما صاح الاخير بصوتٍ مقبض: خدوها لأي أوضة من اللي فوق، ومتنسوش تاخدوا الشنطة منها.
أومأ له رجاله وبالفعل جذبوها عنوة للاعلى بعدما جذبوا منها حقيبتها، فقيدوها على أحد كراسي الغرف العلوية، لتمضي باكية متأملة عودته!
المعروف عنه أنه لا يهين نفسه أبدًا بالوقوف بالمطبخ لاي سبب من الأسباب، يلجئ دائمًا لأخيه الأكبر الذي بدى له كأنه الأم البديلة له هنا لخدمته، فعلها مرات قليلة تعد على اليد وكُلهم كانت لأجل صديقه المقرب أيوب ابن الشيخ مهران، وها هو الآن ينتهي من صنع الدجاج سريع التحضير ويغمسه بالشطائر والجبن ويضعهما بالفرن الكهربائي، وما أن انتهى حتى خرج له، فوجده يتمدد على الأريكة وقد غفاه النوم من شدة ارهاقه.
ابتسم سيف وهو يتمعن بوجهه الطيب، صديقه يملك تلك المقولة المنسوبة إليه من آيات الله عز وجل سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.
ترك سيف الصينية على الطاولة المجاولة له، وانحنى ينزع عنه الحذاء الرياضي بخفة وبحذر، إن أيقظته حركته يعلم بأنه سيغادر، ولن يتمكن هو من ردع ذاك العنيد الشرس.
تسلل على أطراف أصابعه للداخل، فجذب غطاء سميك ووسادة مريحة، وعاد يضع رأسه عليها ويداثره بالغطاء، ثم اغلق ضوء الردهة ليستكين بنومته، وخطف ورقة يدون له ملحوظة تركها جوار الصينية والتقط مفاتيحه وخرج من الشفة.
تشنجت ملامح وجه أيوب الهادئة، حينما عاد لها ذكريات هذا اليوم البغيض، اليوم الذي هاتفته احدى الممرضات وبلغته بأن أحدهم أتى المشفى مصابًا للغاية ويطالب لقائه وبشدة، يتذكر كيف هرول إليه فتهاوت ساقيه حينما وجده مطروحًا على الفراش بجسدٍ محروق ووجههًا لا يملك به أي مكانًا فارغ من الاصابة، والاطباء من حوله عاجزون حتى عن معالجته من كم الاصابات والجروح التي غلبت هذا الجسد الضعيف الذي مازال يتمسك بالحياة لبضعة ساعات بعد تلك الجنحة القاتلة.
فتح عينيه المنقطع رموشها، ليشير باصبعها النازف للدماء لأيوب بأن يقترب، ففعل وهو يهرول إليه هاتفًا بصدمة: محمد، من فعل بك ذلك؟ أخبرني؟!
بالرغم من آلامه الغير محتملة ولكنه رسم ابتسامة واسعة، وهمس بصوتٍ خافت للغاية: أيوب، كنت أخشى أن يزورني الموت قبل أن أراك للمرة الأخيرة يا صديقي.
غارت عينيه بالدموع، واحتقن صوته المتحشرج: هيي أنت أراك تتمنى الموت لمجرد خدشًا صغيرًا يصيبك، دعك من ذاك ولتعلم بأن طريقنا مازال طويلًا، مازلت لم انتهي من إخبارك المزيد عن الدين الإسلامي ونبيك محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، أتتذكر كنت بالأمس تترجاني لنبقى ساعتين بعد صلاة الفجر أحدثك بهما عن وفاة رسول الله ولكنني كنت مرهق للغاية ووعدتك بأني سأقص لك اليوم!
احتدت أنفاسه المزلزلة داخل جهاز التنفس، ورافقته دمعات حارقة جعلت مسمع كلماته صعبة: كنت أود أن أتعلم كل شيء عن ديني، كنت أريد أن أمضي سنوات وأنا مسلمًا لأكفر عن ذنوبي وجهلي، ولكنها إرادة الله يا صديقي، الحمد لله الذي سيتوفاني مسلمًا، تائبًا، عاكفًا عن ذنبٍ كان ليرجمني بجنهمٍ حتى يوم الدين.
وتابع وقد تثاقلت أنفاسه واحتقن وجهه بصعوبة: أنا لست نادمًا على شيئًا، ما يؤلمني أنني كنت أظن أن الاسلام ما هو الا إرهاب، واليوم بعد ما تعرضت له على يد عمي أدركت أن اليهود هم عصبة الإرهاب وأساسها، أتعلم يا أيوب، لقد كان يتلذذ بتعذيبي ولم يعيره تواسلاتي، أتعلم بأنه من قام بترتبيتي! فعل كل ما بوسعه ليجعلني أكفر عن دين الله ونبيه محمدًا ولكنني صمدت وأن أتذكر حديثك عن الصحابة وما لقوه أيام الجاهلية.
سعل بقوة جعلت أيوب يهرع إليه متوسلًا ببكاء يراه محمدًا لأول مرة: أقسمت عليك بالله أن تكف عن الحديث، أنت مازالت مريضًا، فلتستريح الآن ونستكمل لاحقًا.
هز رأسه يرفض صمته بذاك الوقت الذي يشعر به أن الموت يرفرف بجناحاته فوق رأسه، فمال إليه يخبره ببسمة طعنت قلب أيوب: والله ما يحزنني الا فراقك يا أيوب، وليشهد الله إنك أحب الخلق لي، وأنك كنت ونعم الصديق والأخ. لذا سأترك أختي الوحيدة أمانة برقبتك ليومٍ قد ألقاك به على باب الجنة إن أراد الله لي بالمغفرة على ذنوبي.
وابتلع ريقه بصعوبة وهو يردد ببكاء كالطفل الصغير: ليتني ولدت مسلمًا، ليتني لم أهدر ثانية من حياتي وأنا على تلك الديانة.
وتعمق بنظرة دافئة له: ليتني قابلتك منذ سنوات أيوب.
بكى أيوب وهو عاجزًا حتى عن ضمه، أراد أن يمسك بيده ولكنه خشى أن يؤذيه فكانت تنزف من فرط الاحتراق القامع بجلد جسده المنصهر، فمال على وسادته يربت على خده السليم باكيًا: أقسمت عليك بالله الواحد الأحد أن تكف عن الحديث، لست قادرًا على تحمل ذلك الألم، أنا أعلم بأنك ستشفى من جروحك وستعود معي للسكن مجددًا.
ابتسم ودمعاته تقتنص خديه، ومال بوجهه ليكون قبالته، فقال بهمسٍ مرهقًا: على ذكرك للسكن فمازلت أتذكر كيف أخفى عليك الشباب بأنني يهودي، ولكنك بالرغم من ذلك كنت تنفر مني دون أن تعلم ديانتي.
وازدرد حلقه المرير من علقم الأدوية، وقال ببسمة مؤلمة: كنت أتسلل ليلًا لشرفتك لأسمع تلاوتك بالقراءة، كانت لي رغبة كبيرة بالبقاء جوارك وسماع حديثك، بات صوتك بالقرآن الكريم محببًا لي، فكنت أترقب الليل بصبرٍ يضيق بي تحمله، لاسمعك ترتل تلك الآيات وكنت أدونها من خلفك وأعود لغرفتي أبحث عنها على الانترنت وكلما تعمقت بمعاني القرآن أجد ما يلثم قلبي، كنت أحيانًا أشغل مقاطع من القرآن المسموع حينما ينقبض صدري وأنام هنيًا، إلى أن حلل عقلي لي بأنه الدين الحق، ذلك الدين الذي يعز المسلمين، إنما هو دينًا يدعو للحق وينهي عن المنكر والمحرمات، هذا الدين عظيمًا لدرجة جعلت اللين والمحبة ترافق قلوب المسلمين حينما يتقرب لربه بالصدقة، قضيت تسعة أشهر أحاول فيهم جمع كل شيءٍ متعلق بالدين وحينما أشعر بأني اقتربت أجد بأن لا نهاية لحلاوته، وإنما أنا ما علمته ما هو الا نقطة ببحرٍ يفيض بالكنوز...
وجدت الراحة والسكينة حينما أطيل بسجودي داعيًا لله أن يتقبلني مسلمًا، وجدت سكينتي وأنا أتلو القرآن الكريم ليلًا جوارك أيوب.
جاهد ذاك الألم بكل قوته، ورفع يده المحروقة يشدد على قبضة أيوب، يهاجم انضراع انفاسه المستقبلة للموت وردد له: لا تنساني بدعائك يا صديقي، وبلغ الشيخ مهران سلامي وأخبره إنني كنت أتمنى لقائه بنفسي لانحني على يده أقبلها امتنانًا على تربيته لشابٍ بأخلاقك يا أيوب.
بكى بصوتٍ مسموع، فابتسم محمد وقال باسترابة: لم أراك يومًا باكيًا، وإن رأيتك اليوم هكذا فأنا سعيدًا للغاية بأنني أملك بقلبك مكانة بادية على وجهك، وللحق كم أنا محظوظ بمحبتك يا أخي!
ارتعش جسده بصورةٍ مفاجئة، وتحشرجت أنفاسه، فقبض باصابعه على يد أيوب، ليردد بصوته المتقطع: إنها النهاية يا صديقي، فلتنصت لي جيدًا، أنا لا أملك شيئًا أخشاه بعد رحيلي سوى أختي الوحيدة، بعد ما رأيته بعيني من عمي فلا أراها آمنة بمنزله، أرجوك أن تعتني بها يا أيوب.
وبوجعٍ شديد ردد: آديرا أمانتك وأنا أعلم بإن لن ترد أمانة شقيقك المسلم.
وصرخ بوجعٍ قابض، وأنفاسه تهمس بخفوت: أشهد أن لا إله الا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله...
ارتخت يده بين قبضة أيوب، وتمدد جسده أخيرًا حاصلًا على خلاصه، رفرف أيوب بأهدابه بعدم استيعاب، فهزه برفق: هيي أنت لا تحاول أن تخدعني، هيا انهض.
وكأنه يحرك قماشة بالية، تنصاع لحركات يده، فردد أيوب بصرامة قاطعة: إن لم تنهض الآن لن أقص لك حرفًا واحدًا عن سيدنا محمدًا وأخر غزواته، وما فعله وهو على فراش الموت. أنا أحذرك.
تمزقت عينيه من البكاء، وراح يحركه متوسلًا: استحلفك بالله يا محمد أن تنهض، أنا لن أحتمل فراقك.
ابعده عنه الاطباء واجتمعوا من حوله، يحاولون أن يستعيدوه ولكن أمر الله قد نفذ، طرح أحدهم الغطاء على وجهه وعلامات الأسف يقدمها لأيوب الذي سقط جسده جالسًا أرضًا يردد ببكاء صوته يصدح بأنحاء الغرفة: اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثَّلج والبَرَد، ونَقِّه من الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة، وقِهِ فتنةَ القبر وعذابَ النار.
واستطرد بانكسارٍ: اللهم توفاه مسلمًا، اللهم تقبل توبته.
انهمر الدمع على وجهه الذي ينازع لرؤيته تلك الذكرى التي تحرق روحه، فانتفض أيوب بنومته، يلتقط أنفاسه المتسارعة بصعوبة.
بدأ بالاسترخاء حينما أفاق لواقعه، فرفع عينيه يبحث عن سيف من حوله، وحينما لم يجده ناداه: سيف!
فرك عينيه يبعد النوم عنهما، فرأى الصينية القريبة منه ولجوارها تلك الورقة، جذبها أيوب وقرأ محتوياتها.
«مساء الخير أو صباح على حسب ما تقوم، لو صباح هتكون عملت لصاحبك اعتبار وفضلت لتاني يوم احترامًا لكلمتي، أما لو مساء فأكيد يعني لسه رأسك حجر صوان وهتمشي اللي في دماغك وهتمشي من غير ما تعملي أي اعتبار، عمومًا أنا تحت بصور مستلزمات وشوية أوراق وراجع، وسواء قررت تمشي أو تطلع محترم وتستناني سواء ده أو ده هتأكل الأكل اللي عملتهولك، وخد بالك الدكتور سيفو عمره ما بيقف يعمل أكل حتى لنفسه فياريت تقدر ده يا بشمهندس.
صديقك المخلص دكتور سيف عتمان الآشقر»
ضحك وهو يلقي ورقته جانبًا، وجذب الصينية، ثم رفع الغطاء عن الطبق، فوجد ورقة أخرى مدونة بخط كبيرًا.
«كشفت الغطا وهتأكل؟ كنت عارف إنك بتحترمني وهتسمع كلامي وهتخليك معايا، كل الأكل كله أنا نادرًا لما بطبخ وهزعل لو سبت حاجة. ».
ألقاها جوار الورقة الأولى وقرب له أحد الشطائر، لكها ببطءٍ ومازال عقله يشرد بصديقه الراحل، لوهلة شعر بأنه فقد شهيته بتناول الطعام، ولكنها ضغط على ذاته ليستكملها حتى لا يحزن سيف.
انطلق رنين جرس الباب مرات متتالية، جعلته ينهض مسرعًا ليرى من هذا الطارق المزعج، ربما قد نسى سيف مفاتيحه أو قد يكون يوسف.
فتح أيوب الباب متمعنًا بالطارق، فانعقد حاجبيه وغامت فيروزته مرددًا بدهشةٍ: آديرا!
انتهت مايسان من تنظيف الأطباق، ومن خلفها ليلى كانت تقوم بتجفيفها من المياه، بينما تلتقط منهم صبا لتضعهم بأماكنهم، وسط أجواء متبادلة بالمرح والسعادة، انقضت ساعتهم سريعًا، وعاد كل ثنائي لمنزله، بعد أن أبلغت ليلى صبا أن تخبر جمال بموعد الجراحة المتفق عليه مسبقًا، فبالرغم من اجتماعهم بمنزله الا ان الشباب كانوا يحرصون على عدم الاختلاط بينهم وبين الزوجات، لذا كانوا ينعزلون عنهن بغرفة الضيافة.
وصلت سيارة عمران للمنزل، فصعدت مايسان للأعلى لتستريح قليلًا بينما صف هو السيارة وكان بطريق صعوده، ولكنه توقف حينما وجد أخيه يجلس بالخارج ويقرأ أحد الكتب.
جلس عمران جواره ليشاكسه بمرحٍ: مساء الجمال يا دكتور علي، بتقرأ أيه المرادي رعب ولا جريمة ولا اتهورت ودخلتلك على رواية رومانسية!
أغلق على الكتاب ووضعه على الطاولة، وتساءل بدهشة: إنت كنت فين من الصبح يا عمران.
رد عليه وهو ينحني ليجذب كوب قهوة علي، ليستكمل ارتشافها بتلذذ: كنت معزوم عند جمال، والدته لسه واصلة وأصرت تعزمني أنا ويوسف.
راقب ما بيده بنظرة ساخرة، لطالما اعتاد عمران أن يشاركه كل شيء حتى كوب قهوته!
انتهى منها وفرد ذراعيه بالهواء بتثاقل، وأخذ يراقب الوضع من حوله بنظرة مهتمة، مقدرًا المسافة بينه وبين ساق علي، فوجدها ستكون مريحة، وعلى الفور تمدد مستندًا برأسه على ساقيه وأغلق عينيه يستعد للنوم.
لكزه على بضيق: مش عايزني أطلعك الأوضة بالمرة!
همس مدعيًا النوم: مش هينفع مايا بقت معايا في الأوضة.
وتابع بمرحٍ: يعني طلوعك ودخولك بقى بحساب يا دكتور!
فسر على معاني الحديث ومن ثم تعالت ضحكاته الرجولية، مرددًا بمشاكسة: أخيرًا يا راجل!، أممم ما أنت استغليت فرحي عشان تأكل بعقلها حلاوة.
ضحك عمران على حديثه، واستقام بجلسته يغمز له: لو مستغلتش بطيبتك وقلبك الأبيض ده بذمتك هستغل مين!
ضحك برفقته وسرعان ما أمسك ضحكاته حينما استمع لصوت هاتف عمران.
بقصر راكان.
تمكنت من جذب هاتفها من جيب جاكيتها، وبصعوبة رفعت يدها المكبلة بالاحبال، وجدت أن الانسب بمهمتها هذا اللجوء لاخيها الشرس، من يتمكن جيدًا من مواكبة ما تمر به، رفعت شمس هاتفها تطالبه وتنتظر بصبرٍ أن يجيبها وما أن أتاها مجيبًا، حتى همست ببكاء وصوتًا مبحوح: عمران. الحقني يا عمران هيموتني!
انتفض بجلسته بصدمة وعدم استيعاب لما يستمع به، وردد بفزعٍ جعل على يراقبه باندهاش: شمس إنتي فين! مين اللي هيموتك! إنتي فين انطقي!
ردت عليه ببكاء: أنا في بيت راكان، وآ...
انقطعت باقي جملتها حينما شعرت بخطوات تقترب من باب الغرفة، أعادت الهاتف سريعًا لجيبها بعدما أغلقته نهائيًا حتى لا يصدر منه أي صوتًا يثير الاهتمام لها.
انتفض على قبالته يتساءل بخوف: مالها شمس يا عمران اتكلم!
أزاح بصره عن الهاتف قائلًا بدهشة: بتقول إنها في بيت راكان وإنه عايز يقتلها!
انقبض صدره، وزاغت عينيه وهو يحاول استيعاب تلك الكلمات القاتلة، فلم يدعي ما يشل تفكيره أكثر من ذلك، هرع على لسيارته وقبل أن يشغل محركها كان عمران يقفز لجواره، لتتجه السيارة بسرعتها القصوى تجاه قصر راكان!
خطة محكمة ستلقي بحتفه مؤكدًا، خاصة بأنه يحمل حقيبة مسلمة من راكان الذي منحه ورقة بالعنوان معللًا اختياره للذهاب بأنه أكثر رجاله ثقة، ويريده أن يسلمها للساكن بالعنوان المدون، وبالحقيقة كان ينتظره هناك إثنا عشر رجلًا، مسلحون بأسلحة تكاد تحرق الأخضر واليابس.
شعر بالارتياح واسترخى بتمدده بالمسبح، وحينما انتهى نهض يجفف جسده بالمنشفة العريضة، ويتجه لغرفته مدندنًا باستمتاعٍ.
وقف أمام السراحه بعبث بخصلاته المبلولة، ويراقب تنظيم حاجبيه، توسعت حدقتيه بصدمة وهو يرى انعكاس الصورة المقابلة بالمرآة، فاستدار للخلف بسرعة البرق ليتحقق بأنه لا يتوهم!
لعق شفتيه بصعوبة وهو يردد: عمر باشا!
منحه ذاك الصقر بسمة باردة، ووقفة تهتز لها الثقة من فرط ارتباكها، يبتسم بصمتٍ يبتر كل أجزاءه الحيوية، حتى حرر صوته الخشن: مكنتش متوقع أنك هتشوفني تاني ولا أيه يا فؤاد!
تراجع للخلف وهو يحارب ارتباكه: لا. ازاي بس يا باشا، أنا بس مش مستوعب إنك هنا.
هز رأسه بخفة وعينيه تراقبه بتمعنٍ، فاستدار يجذب أحد البرفيوم الموضوعة على السراحة ينثر على لائحة يده ويقربها لانفه، وفجأة ألقاها على المرآة بتقززٍ: ريحتها نتنه زيك بالظبط.
راقب فؤاد الزجاج المنكسر من أمامه بخوفٍ، وعاد يتأمله بهلعٍ حينما وجده يلف من حوله كالأسد الذي على وشك التهام فريسته، قائلًا بجمود: بقولك يا فؤاد متعرفش ليه راكان باعتني لصاحبه ده أسلمه الشنطة، وليه مصر أني أروح بنفسي!
رفع يده يفرك صدره وكأنه بهذة الحركة ستمده بالاكسجين، وبتلعثم قال: لا يا باشا معرفش.
اتسعت ابتسامته الماكرة: بس أنا عارف، وعارف كمان بمقابلتك اللي تمت من ساعتين لشمس.
برق بذعرٍ، والتفت ليركض من أمامه، فاحتضنه عمر من الخلف، يده تلف كتفيه ويده الاخرى تعيق حركته بحركة خبيرة يصعب على أحدٌ فعلها، ارتعب فؤاد فهو يعلم تلك الحركة المعتادة لعمر الرشيدي وباتت تشهره بين الجهاز كالدمغة، يعتصر جيد غنيمه كالأفعى التي تعتصر جسد فريستها، حتى تنكسر عظامها.
ردد الاخير متوسلًا برعب: أنا معملتش حاجة، راكان هو اللي أجبرني أعمل كده يا باشا.
انطلق فحيحه يهمس بأذنيه: إنت عملت كده عشان النص مليون دولار اللي اشتراك بيهم الكلب ده، عملتها وإنت عارف تمن الخيانة اللي بيدفعه أي حقير يفكر يبيع عمر الرشيدي، وإنت ارتكبت ذنب ميغتفرش مرة بخيانتك لبلدك ومرة بخيانتي!
اشتدت يديه من حوله تدريجيًا، فبدء وجهه بالاحمرار من احتباس مجرى تنفسه، فسارع بالحديث: إنت اللي خنت اتفاقنا من الأول يا باشا، خطتنا كانت واضحة من البداية إنك توقع شمس وتجندها لصالحنا وبكده كانت هتقدر تسحب الملف بسهولة من خزنة راكان، لكن إنت وقفت كل ده عشان حبيته، إنت كنت عارف إن وجودنا جوه بيته طول المدة دي فيها خطر علينا وأنسب حل كانت شمس، استبعادك ليها عرضك وعرض الفريق كله للخطر، مكنتش هستنى لحد ما ننكشف ويخلص علينا واحد واحد بسبب حبك الغبي ده.
زاد من اعتصار جسده بغضب جعل الأخير يصرخ ألمًا، بينما ردد عمر بعصبية بالغة: أنا ازاي مقدرتش أشوف حقارتك دي، إنت ظابط يعني مأمور بحماية الارواح، مستحيل أكون موافق أعرض حياة انسانه بريئة للموت مهما كانت صلة قرابتها بيا، أنا وافقتك بالبداية لاني كنت فاكر إن الموضوع بسيط بس بعد كده لما حسبت أبعاده لقيتني هعرضها للخطر لذا وقفت الخطة كلها وبلغتك بده.
تصلب جسده وهبطت معافرته بين جسد عمر القاسي، فهمس له قبل ان يغلق الاخير عينيه: كنت عامل نفسك ذكي وأنا سابقك بخطوة، وزي ما قدرت أكشف راكان ولعبته التافهة قدرت أكشفك يا كلب، وحظك بقى إن مبسبش حقي يبرد، فجيتلك على الحامي ووعد مني هبعتلك الكلب اللي اشتراك وراك بكام ساعة مش هيطول عليك متقلقش!
انتهت رحلة معافرة جسده أمامه، وحينما تأكد من سكونه ألقاه أرضًا بنفورٍ من ملامسته لذاك الخائن، واتجه ليحول حياة ذاك الشيطان لجحيم مستعار سيذقه الآن ما يجعله لا ينسى إسم عمر الرشيدي طوال حياته!
اندهش من وجودها أمامه، وخاصة حينما أشارت له على الدرج قائلة: رأيت صديقك يخرج من العمارة فصعدت لرؤيتك.
أسبل بعينيه بعدم استيعاب: هل كنتِ تراقبيني؟
اومأت برأسها بعدة تأكيدٍ، وكأنه يمنحها سؤالًا أحمقًا، أمهل أيوب ذاته بالصبر الذي تمرن عليه طوال حياته لينتسب لجملة صبر أيوب، بينما الاخيرة أتت لتحطمها حينما قالت بتوسلٍ صريح: فلنجرب فعلها الآن، هل أنت مستعد لذلك؟
حقًا هل بات القاتل يسأل قتيله إن كان مستعدًا للموت أم لأ؟
تنهد أيوب بإرهاقٍ، وقال: انتظريني هنا، سأعود بعد قليل.
ودفع الباب ليواربه، ففتحته آديرا متسائلة: ألا يمكنني الانتظار بالداخل؟
عاد ليدفع الباب مشيرًا لها بتحذير: لا يجوز لي الاختلاء بامرأة، انتظري بالخارج سأعود بعد خمسة دقائق.
زفرت بنزقٍ: ولماذا تحتاج للخمسة دقائق فلنفعلها الإن وهنا!
اقتحمت فيروزته هالة من الغضب ومع ذلك أبقى عينيه أرضًا متعمدًا عدم التطلع لها مثلما اعتاد أن يغض بصره: لا أريد أن أقحم صديقي بمشاكل من تحت رأسي، سأعود بعد خمسة دقائق، انتهينا.
وتركها ورحل فهمست بسخرية غاضبة: وكأنك تأمرني!
زفرت بنفاذ صبر، واتجهت للدرج الجانبي تجلس عليه بحزنٍ، فانهمر شعرها الأصفر من حولها كأنه يحاوط عينيها الباكية، فأزاحت دموعها وهي تهمس بحقد: سأقتل هذا الارهابي مهما كان الثمن، حينها ستنتهي معاناة أخي آران!
مضت الدقائق ومازالت تنتظره، فهزت ساقها بعصبية مفرطة، تفحصت ساعتها فوجدته قد أطال عن الخمسة عشر دقيقة، فنهضت واندفعت داخل الشقة تبحث عنه بغصب.
فتحت أديرا أحد الغرف فوجدته واقفًا على سجادة الصلاة يصلي من أمامها بسكينة غريبة، انحنى يردد بصوتٍ وصل لها
سبحان ربي العظيم وبحمده.
واستقام بوقفته ومن ثم سجد أرضًا وأطال بسجدته، مما دفع الاخيرة تتحدث من خلفه بصوت كان مسموع له: حسنًا أديرا تلك هي فرصتك، سأفعلها الآن.
وبالفعل نزعت حقيبة يدها وجذبت السلاح تسلطه على أيوب الذي لم يعبئ بها وكأنه لم يراها من الأساس، استكمل صلاته بخشوعٍ تامٍ متجاهلًا لوجودها من أمامه بالسلاح، بينما الاخيرة تراقبه بعينيها الخضراء بدهشةٍ، ذاك الرجل لم يطرف عينيه خوفًا حتى، تراه صامدًا أمامها في كل مرة تحاول فيها قتله، لا تعلم هل هذا هو الذي يدفع يدها للارتعاش من أمامه.
شرودها جعلها لم تنتبه له وهو ينتهي من صلاته ويطوي سجادته مرددًا بعضًا من التسبيحات، فوضع سجادته على الأريكة ومنحها نظرة صارمة تعج بغضبه: لم أتفاجئ بفعلتك، اليه. ود معروف عنهم أنهم أخِسَّةٌ جبناء. يعتدون الهجوم من الظهر لإنهم يعلمون جيدًا بأنهم ضعفاء.
احتدت معالمها وصاحت به: لن أقبل باهانتك هذه أيها الارهابي الحقير!
ابتسم بتهكمٍ لحق نبرته: من منا يحمل سلاحًا هنا؟ أعتقد بأن الارهاب متعلق بحمل الاسلحة إذًا إنتِ واحدة منهم.
واستطرد بنفور من تواجدها برفقته: على كُلٍ انتظريني بالخارج وسألحق بكِ، لم أهرب منكِ يومًا حتى أفعلها هنا.
أعادت سلاحها لحقيبتها وخرجت تنتظره أمام الشقة، وبالفعل ما هي الا دققيقتين وخرج لها أيوب، يؤمرها وهو يهبط الدرج بخفة: اتبعيني.
لحقت به وهي تكز على أسنانها بغيظٍ من أوامره، فوجدته يذهب لطريق الحديقة الهامة، واختار جانب غير مزدحم بها.
وقف أيوب قبالتها وقال بتعب: أنا جاهز، فلتفعليها ولينتهي هذا الأمر.
هزت رأسها بتأكيدٍ وأخرجت السلاح مجددًا، صوبته تجاهه وحاولت جاهدة الضغط عليه ولكنها كالعادة فشلت بفعل ذلك.
ارتجفت يدها من أمامه وكأنه محصنًا قبالتها، ألقت أديرا السلاح وارتمت أرضًا تبكي بانهيارٍ، وصوتها المحتقن يصل لمسمعه: يا ويلتي أترتجف يدي أمام قاتل أخي، تبًا لي!
تعالت شهقاتها وحلت عقدة ذراعيها وهي تسأله بانهيار: ما الذي سأخبر به عمي عند عودتي، سأخبره إنني فشلت بفعلها!
وصرخت بوجعٍ: ماذا أفعل؟
زفر الأخير بمللٍ، ودنى ليصبح على مسافة منها، أعاد تلك الخصلات المتمردة على عينيه ونظم أنفاسه، انحنى بقامته الطويلة وقال باستهزاء يختفي بثبات نبرته: لا عليكِ يا فتاة، يمكنك فعلها! هيا انهضي. ركزي على هدفك. حرري الزناد، وانتهى الأمر!
رفعت وجهها المحتفظ ببقايا دموعها إليه، وقالت بدهشة: أولست خائفًا من الموت يا هذا؟
أخفض فيروزته عنها وأجابها ساخرًا: وهل يخاف أحدًا من لقاء الله عز وجل، أنا انتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، وإن كنتِ ستجعلين مني شهيدًا أزف للجنة بعد مغفرة من الله فمرحبًا برصاصتك بين أضلعي مستقراها!
ابتسمت بفرحةٍ، وكأنها وجدت الخلاص لأمرها، فمدت له ما تحمله قائلة: إن كنت ترغب بلقاء ربك فلتفعلها أنت.
أبعد السلاح عنه وقال بحزمٍ: حاشة لله أن أموت عاصيا، ديني يمنعني من فعل ذلك.
تهجمت معالمها بسخطٍ: أيمنعك ربك من قتل نفسك ويستحل لك قتل الأخرون.
أجابها بنفس قوته الصارمة: بلى يحرم علينا قتل النفس. وعقابها عسير.
طعنته بنظرة قاتلة ولحقها صراخ متعصب: ولماذا قتلته إذًا؟! لماذا فعلته أيها الارهابي!
مزق شفتيه السفلية بأسنانه، وانتصب بوقفته متجاهلها، فلحقت به واندفعت تمسك ذراعه لتستوقفه: أين تذهب؟ أخبرني!
تراجع للخلف بعينين مشتعلتين زرعت الخوف داخلها منه، وخاصة حينما رفع اصبعه يحذرها بعنف: إياكِ أن تلمسيني مجددًا، إن كنتِ لا تريديني أن أقتلك بحق كوني بعيدة عني، أنا لن أحمل ذنبًا عظيمًا مثل ذلك لأجلك يا امرأة.
وبصراخٍ غاضب قال: والآن أما أن تقتليني أو ترحلين من هنا وتدعيني أعيش بسلامٍ
زمت شفتيها بحنقٍ: بأحلامك لن أدعك تعيش بسلامٍ أيها الأرهابي.
وأشارت له بقوة شرسة: انتظر هنا إلى أن أتمكن من فعلها، حتى لو وقفت عامًا بأكمله!
سحب أيوب نفسًا طويلًا يهدأ بها ذاته، وهمس بنزقٍ: فينك يا شيخ مهران تشوف اللي بيحصل لابنك، حبكت يعني تسميني أيوب! أهو ربنا ابتلاني باللي هيخليني محتاج لصبره.
واستطرد بغيظٍ: ما أسماء الانبياء كتيرة قدامك...
وعاد يفرك جبينه هامسًا: اللهم لا اعترض، اللهم صبرًا يشابه صبر أيوب في محنته!
راقبته بحاجب معقود، فوجدته يجلس أرضًا على الخضرة، ويجذب مصحفه الصغير يقرأ به، اشارة لها بأنه سينتظر مثلما أرادت.
تراجعت بظهرها للخلف لتعود للاريكة الخشبية، جلست تحاول تقنع ذاتها بفعلها، تتذكر كل لحظة قضتها مع أخيها لتتمكن من قتله.
مرت ساعة كاملة ومازالت تفكر، وفجأة هرولت لأيوب تخبره بسعادة غريبة: وجدتها، وجدتها أيوب!
صدق عن الآية التي يقرأها، وأغلق مصحفه يضمه له، متغاضيًا عن نطقها لاسمه بحروفٍ غير صحيحة بالمرة، وسألها: أهلكيني بذكائك الخارق تلك المرة، أمل أن يكون حلًا سريعًا ولائقًا بموتة كريمة لي!
ألقت سخريته جانبًا، وقالت: ما رأيك أن نستأجر مجرمًا شرسًا ونطالبه بقتلك؟
أراد منع ضحكته ولكنها انفلتت رغمًا عنه، فضحك حتى أحمر وجهه الأبيض المشع بنور إيمانه، وحينما لمح احتقان وجهها قال: آسف ولكن الأمر مضحك!
وتنحنح وهو يستعيد كافة رزانته ورخامة صوته: حسنًا فلتفعليها إذًا، إن كان الحل مناسبًا من وجهة نظرك.
زمت شفتيها بحزن: ولماذا سأفعلها؟ ألم تأتي معي للقاء المجرم؟
أسبل بأهدابه الطويلة بصدمة أخرى، وردد: عذرًا هل تريدي أن أقوم باختيار قاتلي بنفسي؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال ضاحكًا: لا أجده حلًا منطقيًا، فحينما سيستمع لنا القاتل اقسم بالله سيقتلنا معًا وحينها يا فتاة ستخسرين حياتك، ألا يكفيكِ خسارة أخرتك!
هزت رأسها باقتناع وعادت تشرد بالفكرة العظيمة التي بدأت تستحوذ على اعجابها، فأتتها احدى العقبات تعكر صفوها ودفعتها للبوح بها قائلة: هذا القاتل سيلزمه مبلغًا كبيرًا من المال.
كبت ابتسامته وهو يهز رأسه بعنجهيةٍ: بالتأكيد، لن يفعلها حبًا بي، أنا لست محظوظ ليحبني نصف اليهود ويرغب النصف الأخر بقتلي!
لم تكن تسمعه من الأساس، تفكر بخطتها بكل تركيز، لتأتي له بحديث أحمق: إن ذهبت لطلب المال من عمي سيقتلني إن علم بأنني لم أقتلك بنفسي، ولكن من أين سأحصل على المال؟
هز كتفيه وهو يحرك رأسه يسارًا ويمينًا مذعنًا شفقته وقلة حيلته ولكنه بالحقيقة يود السقوط بنوبة ضحك تهون عنه كبت ما يعتريه بتلك اللحظة التي يُجالس بها قتالته التي تطورت مهمته للتفكير في مستأجر يقوم بقتله وتفكر الإن بكيفية جمع المال؟
اعتدلت بجلستها بابتسامة واسعة دفعته ليردد بأملٍ: فتاة ذكية، تريدين فعلها بنفسك توفيرًا للمال أليس كذلك؟
تلاشت ابتسامتها وقالت بضيق: لأ. ولكني وجدت ذلك الشخص النبيل الذي سيقرضني المال.
بدى له الأمل يلوح من بعيدًا مهاجرًا إياه، وخاصة حينما قالت هي: أنت من ستفعل يا أيوب، ستعطيني المال لأقدمه للقاتل وحينها سينتهي الأمر.
رمش بعدم استيعاب، وردد: أنا لو عايز أتبرع بالفلوس هتبرع بيها أكيد لبناء مسجد، كفالة يتيم، أنما أتبرع بيها للشخص اللي هيقتلني عشان يصرفهم رحمة ونور على بدنه موردتش عليا دي بصراحة!
عبثت بعينيها باستغراب: ماذا تقول؟ لم أفهم حرفًا واحدًا!
أغلق عينيه بتعبٍ، ويده تدلك فروة شعره البني، اتخذ خمسة دقائق هدنة للاسترخاء، ثم قال ببسمة هادئة: حسنًا سأفعل، ولكن ليس الآن.
ونهض عن الارض ينفض ثيابه، فلحقت به تتساءل بدهشة: ولماذا ليس الآن؟
أجابها ببرود: لإن المال ليس بحوزتي الآن، أبي يقوم بإرسال المال ببداية الشهر الجديد، ونحن الآن باليوم التاسع عشر!
هزت رأسها بتفهمٍ، وطرقت بأظافرها على السلاح الذي تحمله بتفكيرٍ، لتجده يودعها وينصرف قائلًا: سأنتظرك بشقتي في اليوم الأول من الشهر القادم، وداعًا.
ركضت خلفه بلهاثٍ: انتظر!
استدار بمللٍ ونزقٍ: ماذا بعد؟!
ابتلعت ريقها بخوفٍ وارتباك: وأين سأذهب تلك المدة؟
وقبل أن يمطرها بسخريته قالت: إن عدت لعمي قبل أن أقتلك سيقتلني هو، لذا عليا الاختباء بأي مكان حينما أنتهي منك وحينها سأعود مرفوعة الرأس.
همس بسخط: مرفوعة الرأس ليه قتلتي نتنياهو، أهو لو هتعمليها هساعدك بمالي ودمي وحياتي وصحتي وكل ما أملك!
رددت بعدم فهم: . بماذا تثرثر أنت؟
تنهد بيأس من محاولاته للفرار منها، وقال بعد تفكيرًا اتخذه لتحقيق رؤياه: أستطيع أن أترك لكِ سكني الخاص، اتبعيني سنذهب لأجمع بعضًا من أغراضي، ستجلسين لبضعة أيام وسأذهب أنا للعيش برفقة صديقي.
حاولت أن تسرع لمحاذاة خطوات ساقيه الطويلة، قائلة وهي تلتقط أنفاسها: ولماذا ستذهب للعيش مع صديقك، ألا يتسع مسكنك لي ولك؟
توقف عن المشي واستدار يلقنها نظرة نارية جعلتها تزدرد ريقها بخوفٍ، ليندفع الاخر بشراسة حديثه: سبق وأخبرتك أني لا اختلي بالنساء بمكانٍ واحد، وأضطر أسفًا بالتعامل معكي اكرامًا لوعدي القاطع لصديقي محمدًا.
سحقًا لك، يدعى آران!
لفظتها بعناد يجابه خاصته، فكور يده بقوةٍ ليمنعها الأ يجرها من شعرها لاهانة تسحقه هكذة، ولكنه أن فعل ذلك سيثبت لها بأنه ارهابي مثلما تزعم تلك، لذا قال بهدوء: دعينا من هذا الأمر، فلنذهب.
أومأت برأسها وهي تطمس غضبها، ولحقت به بهدوءٍ تجتهد بالتحلي به.
وصل عمران وعلى للقصر، فولجوا للداخل بخطواتٍ أشبه للركض، وما أن ولجوا لغرفة مكتبه حتى نهض يستقبلهما بجراءة وكأنه لم يفعل شيئًا: أيه الزيارة السعيدة دي، دكتور على وعمران باشا، يا أهلًا وسهلًا.
وأشار لاحد رجاله المتوزعون من حوله استعدادًا لأي خطر: اتنين قهوة مظبوطه للبهوات بسرعة.
انطلق صوت على الحازم يعيق عنه تلك الألعيب: فين شمس يا راكان؟
ادعى دهشته من الأمر، وقال ببراءةٍ: شمس! أنا مشفتهاش من ساعة الحفلة، هو في حاجة ولا أيه؟
كاد عمران أن يسلط وقاحته على ذاك اللعين ولكنه تسمر محله حينما وجد على يجتاز رجاله ليلف يده حول رقبته بقوةٍ وشراسة: أختي فين، حالًا تؤمر حد من كلابك دول يجبوها لحد عندي والا قسمًا بالله العلي العظيم أكسرلك رقبتك وإنت عارف إني دكتور وأدرى باللي يأذيك.
وأشار على من يتسلل من جواره ظنًا من أنه سيخلص سيده: قبل ما يفكر يقرب خطوة هكون ناهيك في أرضك.
ابتلع راكان ريقه بتوتر جلي، وأشار بيده: ارجع مكانك، وإنت هات شمس.
أومأ الرجل إليه وانصرف يأتي بها من الأعلى، بينما ردد عمران بفرحة: الله عليك يا دكتارة، ياما في الجراب يا حاوي بصحيح.
منحه نظرة ساخرة من سخريته ومزحه بوقتٍ كهذا، ومع ذلك بقى ثابتًا أمامه، فالتقط أذنه صوتها الهزيل مرددة لمن يواجهها: عمران!
ركضت لاحضان أخيها تشدد من ضمه بجسدها المرتجف، فربت عليها بحنان: متخافيش يا حبيبتي مفيش حد فيهم هيأذيكِ.
التفت على يتفحصها بنظرة مهتمة، فاستغل راكان انشغاله وكاد بأن يسدد له لكمة، فجأه على حينما قبض على قبضته ورد له اللكمة بقوة جعلته يسقط على مقعده، لتبدأ معركة شرسة بينه وبين الحرس.
دفع عمران شمس خلف الاريكة، وانضم يدافع عن أخيه، وبالرغم من تضاعف الاعداد عليهما الا أنهما كانوا يجاهدون لمحاذاة القوة، ضعف أي منهما يعني قتل الأخر والاصعب تعرض شمس للخطر، صاح عمران براكان غاضبًا: مكنتش أعرف إنك وسخ وعرة كده يا، وربي لادفنك وإنت وكلابك اللي بتتحامى فيهم دول يا جبان.
ضحك وهو ينفث سيجاره بعناد: وماله خلص عليهم وأبقى تعالى نتكلم، بس عايزك تصمد يا وحش!
انحنى عمران يتفادى لكمة احداهم ومرر قدمه ليسقطه وانقض عليه يلكمه بقوة، بينما على يرفع قدميه يركل احداهم ويسد الطريق عن ذاك الذي يحاول ضرب رأس أخيه المنحني بمطرقعة حادة.
دارت معركة شرسة بينهم وشمس تختبئ، تغلق فمها بصعوبة بالغة وتبكي بمرارة لما وضعت به، ربما هي أتت لانقاذ حبيبها ولكنها فور سماع راكان يتحدث بمكتبه عقدت العزم بالرحيل وتحذير آدهم ولكنه كان يكشف أمرها من البداية وهو من دبر لها تلك المكيدة لتقع بشباكه.
فُتح أحد رجال راكان باب المكتب وهرول مذعورًا إليه يخبره: باشا الخزنة مفتوحة على وسعها والملف مش فيها!
نهض عن مقعده يجاهد الا يقع من طوله، وصرخ بثورته: إنت بتقول أيه يا حيوان!
تراجع عمران يحمي شمس التي خرجت من خلف الأريكة، بينما تراجع على يحمي شقيقه ومن خلفه شقيقته كالأب الذي يخشى على صغاره من نسمات البرد القارصة.
اتجهت نظرات راكان لشمس، وصاح بصوت كالرعد: الملف فين؟
رددت بخفوت وهي تتعلق بقميص عمران: مخدتش حاجة!
ملفك معايا، وعدواتك معايا، وموتك على ايدي!
كلمات واثقة قالها ذلك الذي يعتلي مقعد راكان بعدما تركه ولحق بشمس، فحرك المقعد المتحرك باستمتاعٍ وابتسامة انتشاء أشعلت الاخر، وخاصة حينما استطرد عمر وهو يتأمل الملف الذي يحمله بين يديه: اتعمدت أخده بالوقت ده بالذات علشان أعرفك أني اقدر أعمل اللي أنا عايزه في أي وقت، حتى لو كنت إنت ورجالتك جوه المكان.
وجذب القداحة المجاورة لغليون راكان من على المكتب ثم أشعل النيران بالملف، والجميع يتابعه بصدمة ودهشة عدا تلك التي تبتسم بفرحة وعشق لرؤيته على قيد الحياة.
اشتعلت النيران بالملف وراكان يكاد ينصهر معها، فألقى آدهم الملف إليه هاتفًا ببرود: المعلومات اللي فيه اتحفظت هنا، فمبقاش يلزمني.
وكان يشير على رأسه، وفرد ظهره للمقعد مستطردًا بنومٍ: معاك فرصة أخيرة تقتلني وبالتالي سرك يتدفن معايا.
واعتدل مستندًا على سطح المكتب ليهاتفه بجدية تامة جعلت على وعمران بصدمة وحيرة من قوة ذاك الشرطي الغامض: بس أنا خايف عليك يا راكان تحصل رجالتك اللي كنت مخليهم يستنوني في البيت إياه، ألا صحيح هما كانوا كام؟ أصل منظر الدم والاشلاء كان مثير للاشمئزاز بصراحة.
وضيق حدقتيه الماكرة: أممم، خليني أخمن، اتنين جنب الشباك وأربعة ورا الباب، وكان في خيالين عند الطرقة، وممكن اربعة تانين!
وانفجر ضاحكًا بشكلٍ جعل رجال راكان يرتعبون منه، سبق لهم معاشرته ورؤيته وهو يدافع عن راكان بشراسة والآن سيواجههم! المعادلة صعبة وغير متقنه.
استوقف ضحكه وقال بجمود: تؤ. تؤ، صعبان عليا يا راكي! وخليني أقولك نصيحة قالهالي مدربي في وقت من الأوقات.
وانتصب بوقفته ينزع عنه جاكيته وقميصه الأبيض حتى بات بملابسه العلوية السوداء، قائلًا وهو ينشغل بنزع القميص: قالي في رجالة تستاهل إنك تضيع من وقتك وتقف تحاربهم لأخر نفس خارج منك لإنهم رجالة اختاروا المواجهة وليهم الشرف إنهم يشوفوا الاقوى والاذكى منهم، وفي حريم تانية بتستخبى بالجحر بيستنوا لحظة غدر علشان يخدوك على خوانة ودول ديتهم قنبلة تبيدهم زي ما بدت حريمك!
تعالت ضحكات عمران وراق له ما يحدث من آدهم، بينما راقبه على ببسمة هادئة وبات يملك فضول لمعرفة ما سيفعله الإن، فوجده يدنو من راكان حتى بات قبالته، وقال: تعرف مين اللي قالي كده؟
تراجع الاخير برعبٍ قابض، بينما استطرد آدهم بقوة: مراد زيدان، الجوكر تسمع عنه؟