رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي والستون
يستكين رأسها على سرير العمليات، عينيه تغدقان بالدموع المائلة على جانبيها، عاشت طوال عمرها بصورة مخادعة، مشوشة عن طباعها، فلم تكن تلك القوية الشامخة، بل كانت امرأة مقهورة، مجبورة على كل شيءٍ.
قتل قلبها وفي نفس اليوم أُجبرت على أن تُقحم قلبها شخصًا أخر، زرع نطفة داخلها بالأجبار، بل فعلها ثلاث مرات وبالرغم من قسوة فعلتها الا أنها رزقت بأجمل ثلاث أبناء.
علي ابنها الأكبر، ينبوع الحنان والاحتواء، صديقها الذي لم تمتلكه يومًا، وبالرغم من كونها تكبرها فوق العمر عمرًا الا أن عقله يفوقها، حبه الشديد للقراءة وتنظيم حياته المنمق وبالأخص العملية، قرارته التي تميل أغلبها لقلبه، ربما لا يشبهها ولكن أكثر ما تحبه به بأنه النسخة المصغرة عن معشوقها، وكأن أحمد تجسد فيه ليعوضها فراقهما!
عُمران الابن الثاني لها، طفلها المشاغب، لم يكن هادئًا بطفولته مثل علي، وبالرغم من أنه عنيدًا صعب المراس الا أنه كان يتفق معها بأغلب الاشياء، كطريقة ارتدائه للملابس الباهظة، حنكته ورقيه بالتعامل، اهتمامه بالرياضة كما تعشق هي، أحيانًا تشعر حينما يضمها بأنها ابنة أبيها المدللة، داخل حضنه تشعر بأنها طفلة صغيرة، وكثيرًا ما تخجل بأنه والدته، ولكنها على ثقة بأنه كان وسيظل دومًا لجوارها.
شمس طفلتها الثالثة، اشتق قدومها من اسمها فأشرقت حياتها المظلمة بها، طفلتها الجميلة، رقيقة القلب والمشاعر، شبيهتها المتطابقة لها، فلقد كان مناصفة غير عادلة حينما شبه علي أحمد، وورث عُمران ملامح والده، فأتت شمس نسخة عنها بأغلب ملامحها وبكل طباعها تقريبًا، لذا كانت تخشى عليها أن تلقى مصيرها، ربما اتخذت بحقها قرارات حاسمه ولكن بالنهاية فور أن خفق قلبها لشخصٍ دعمتها دون حتى أن تستعلم عنه شيء.
حياتها برمتها كانت مرهقة، شاقة، والآن قد تنعمت بين أحضان معشوقها، من حُرمت منه رُد لها، فهل ستقتل ثمرة حبهما بيدها!
وضعت فريدة يدها على بطنها، تهز رأسها بجنون وكأنها استشعرت الآن فضاحة ما ستفعله، كيف ستصبح قاتلة؟ كيف وهي لم تفعلها مع من كرهته فكيف ستفعلها مع من قُتلت عشقًا لأجله؟!
أزاحت الغطاء عنها ونهضت تخرج من جناح العمليات متجهة للخروج، فاذا بعلي يقف برفقة يوسف الذي وصل صوته لها: أنا كنت بحاول أكسب وقت لحد ما عُمران يوصل، بس بما إن حضرتك هنا فأرجوك تتصرف يا دكتور، فريدة هانم في أخر الشهر الثالث يعني عملية الاجهاض خطر عليها جدًا أخطر من خطورة الولادة في سنها ده، فمن فضلك يا دكتور على تحاول تفنعها لآنها مش مدياني فرصة، أنا حتى سايرتها بالكلام على قد ما أقدر وإنت عارف إني عمري ما عملت ولا هعمل العمليات دي.
أشار له بتفهمٍ، فتابع يوسف وهو يتجه للخروج: خد راحتك أنا مع عُمران بره.
تركه وخرج فاستدار على ليتجه لجناح العمليات، فاذا بها تقف أمام عينيه، همس بذهولٍ: فريدة هانم!
أخفضت عينيها أرضًا بحرجٍ، وعادت لغرفة العمليات لتحضر حقيبة يدها، ولج على خلفها، فوجدها تجذب حقببتها وتخرج منها مفاتيح سيارتها، وقبل ان تترك الغرفة أوقفها بقوله: ممكن نتكلم شوية؟ أنا مش هقدر اسيب حضرتك تخرجي من هنا وإنتِ بالحالة دي.
مالت برأسها من فوق كتفها قائلة دون أن تقابله عينيها: مش هخرج من هنا عند دكتور تاني، صرفت نظري عن الموضوع ده اطمن!
سبق خطاها ليقف في مواجهتها هادرًا بهدوءٍ: طيب وليه تاخدي قرار زي ده من البداية يا ماما! حضرتك عارفة لو عمي عرف اللي كنتِ عايزة تعمليه رد فعله هيكون أيه؟
رفعت عينيها الغائرة بالدموع إليه فتابع بحزنٍ: صدقيني ومن عشرتي ليه بأكدلك إنك كنتي هتخسريه خسارة أبدية.
أنكست رأسها أرضًا تخفي بكائها الخافت، فأحاط كتفها بكفه، يفرك بإبهامه عليه بحنان: مهما كانت أسبابك فصدقيني مش مضطرة لده.
خرجت عن صمتها قائلة ببكاء: انت وأخوك مبقتوش صغيرين يا علي، بالرغم من غرابة جوازي وأنا بالسن ده الا أنكم مكنش عندكم أي مشكلة، دلوقتي أزيدها عليكم بحملي ده! هكون أنانية يا علي!
رفع بإبهامه رأسها إليه، يسألها بدهشة ووجع مما تعانيه والدته من اكتئاب استطاع بكل براعة التعرف عليه، هالتها البادية أسفل عينيها، كل رد فعل صادر عنها يبرز له مدى معاناتها: ليه بتفكري بالشكل ده؟ تفتكري إن موضوع زي ده هيأثر علينا! حبيبتي إنتِ مأجرمتيش بجوازك من الانسان الوحيد اللي حبتيه! لازم تكوني فخورة بنفسك وباللي مريتي بيه، مفيش ست تقدر تستحمل ربع اللي استحملتيه، مستحيل تقدر تعيش مع شخص محبتهوش وتعامله بالطريقة اللي اتعاملتي معاه بيه، حتى بعد ما مات محاولتيش تدي فرصة لقلبك إنه يعيش من تاني، حرمتي نفسك من كل حاجة علشان اولادك وبعدتي عن الانسان اللي حبتيه، ودلوقتي بعد كل ده عايزة تدمري الحب اللي بينكم ليه وعشان أيه؟
ابتعدت عنه واتجهت للشرفة تجيبه باكية وبصوتٍ شبه مبحوح: لإن المفروض إن في الوقت اللي المفروض هكون فيه جدة مينفعش أكون فيه أم يا علي، تفتكر منظري هيكون أيه لما الحمل ده يتعرف، هبقى مهزءة وسخرية.
اتجه خلفها لمكان وقوفها، وتخلى عن هدوئه هادرًا بانفعالٍ: فريدة هانم إنتِ هنا في لندن مش في مصر، وحتى لو كنا عايشين في مصر فكنت فاكر إنك شخصية قوية وقادرة توجهي الدنيا كلها عشان ابنك، معقول ضعفك وصلك إنك تتخلي عن ابنك وتقتليه عشان كلام الناس!
هزتها كلماته لدرجة جعلتها تشير له برعبٍ وهي تهاجم معنى كلماته القاسية: أقتل ابني! لأ، لا يا علي!
وبعدم استيعاب لحجم ما ستفعله قالت: آآ، أنا وأحمد كنا متفقين إننا مش هنجيب أولاد، آآ، أنا سألته تاني من فترة وقالي إنه راضي ومبسوط ومش عايز غيري آآ، عشان كده قولت آآ...
ابتلعت كلماتها بألمٍ، لم تستطيع أن تسترسل حديثها بنيتها بالتخلص من الجنين وكأنها استوعبت الآن بمقولة «قتله»، أخفضت رأسها تبكي بصوتٍ قهر قلب علي، فدنى إليها يجذب رأسها ليضعها على صدره فانهارت باكية بتأثرٍ.
ربت على ظهرها بحنان وقال بعقلانية: عمي اتخلى عن رغبته إنه يكون أب علشانك إنتِ، وممكن يضحى بأي حاجة بس يا فريدة هانم حصل وحملتي منه فعمره ما كان هيقبل إنك تتخلي عن ابنه.
ابتعدت تقابل نظراته بحزنٍ جعل زرقتها غائمة، وعلى استحياء سألته: هتقوله يا علي؟
هز رأسه ينفي ما صيغه عقلها إليها: لا طبعًا مستحيل.
منحته ابتسامة ممتنة وقالت: أنا طول الفترة اللي فاتت دي كنت بحاول أقتله بس مقدرتش يا علي، أنا مش عايزة أخسر أحمد ولا عايزة أخسركم.
تفهم سبب خوفها، وسألها باسترابة: ازاي اقتنعتي انك باحتفاظ بيه هتخسرينا يا أمي؟ تفتكري مين فينا هيقبل يعرضك لخطر زي ده! تفتكري مين فينا هيقبل يشيلك ذنب كبير زي ده؟! إنتِ لو عملتيها مش هتقدري تعيشي غير بعذاب ضميرك، ده روح يا فريدة هانم وعقوبة قتلها عند ربنا عظيم!، ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يكونلك ابن من عمي فبأي حق عايزة تقتليه!
وتابع يعاتبها بلطف نبرته الهادئة: طيب عمي من وجهة نظرك ميستحقش إنه يكونله ابن منك؟، أحمد الغرباوي اللي عاش عمره كله وحيد من بعدك ورفض الارتباط علشانك وبالرغم كل ده اول ما جتله فرصة يكون زوج ليكي قبل بأصعب شرط فرضتيه عليه ميستهلش إنك تتنازلي عشانه يا فريدة هانم؟
أخفضت وجهها وببكاء قالت: خلاص يا على من فضلك كفايا!
منحها ابتسامة جذابة وهو يمحي دموعها قائلًا ببهجة: حوارنا اتقفل ومش هيتفتح تاني، هيتدفن بينا ومفيش مخلوق هيعرف بيه حتى عمي، يلا نرجع القصر نفرح عمي بالخبر ده.
اندهشت من سرعة تقبله للأمر، فوجدته ينحني جاذبًا حقيبتها ويشير لها للخروج، فقالت بحرج: هو ممكن يوسف يقوله؟
أكد لها بجدية تامة: لا طبعًا يوسف مستحيل يعمل كده.
هزت رأسها بخفة وقالت: هو مفيش غيرك الا عرف؟
حك انفه يخفي ضحكته وقال: للأسف عُمران اللي مبلغني.
برقت لوهلةٍ وقالت: أيه!
اتسعت ضحكته رغمًا عنه، وخاصة حينما قالت: هتكسف منه لو كلمني في الموضوع ده، خليه ميتكلمش معايا فيه يا على لو سمحت، أخوك وقح وهيقعد يتريق عليا وممكن بكلامه أرجع عن قراري وأتخلى عن البيبي!
تمردت ضحكاته وقال يسايرها كفتاته الصغيرة: حاضر مش هخليه يكلمك نهائي.
اتبعته للخارج باطمئنان، حتى صعدت لسيارته فاتجه بها للقصر ومازال يتردد لعقله سؤالًا هامًا
«أين الطاووس الوقح؟! ».
بسيارة عُمران المصفوفة على طرف الطريق، زفر يوسف بمللٍ وقال: يابني فهمني موضوع أيه اللي عايزني فيه ومخليني سايب شغلي وجاي مخصوص لعربيتك! هو مينفعش الكلام في مكان غير هنا؟
أكد له عُمران ومازال منحني يبحث عن شيءٍ مفقود باستماته: أيوه هو الحوار اللي عايزك فيه مينفعش الكلام عنه الا هنا، واخرس بقى خليني أركز!
تابعه بدهشة مما يفعله وتساءل: بتعمل أيه تحت الدواسة فهمني!
زفر بعصبية: ما قولتلك اتزفت اصبر مش شايفني مشغول!
تنهد بقلة حيلة وراقب ساعة يده قائلًا: تمام بس انجز ورايا حالة ولادة بعد نص ساعة، أنا أساسًا كنت هكلمك عشان كنت عايزك في حوار مهم كده.
منحه نظرة شرسة وهتاف حاد: هو لسه في مصايب غير اللي بلغتني بيها؟!
زم شفتيه ساخطًا: هو حمل فريدة هانم مصيبة!
أجابه بتلقائية مضحكة: طبعًا!
قال يوسف بجدية تامة: وأيه المصيبة بقى في حملها! ستات أكبر منها بكتير وبيحملوا وبيخلفوا عادي جدًا، وبعدين ما شاء الله فريدة هانم مهتمة بنفسها وبجسمها جدًا فحملها هيكون سلسل وآ...
ابتلع كلماته بصدمة مما وضع على رقبته، ابتلع يوسف ريقه بصعوبة وتساءل بهلعٍ: دي أيه دي يا عُمران؟
وكأن المشهد يعيد نفسه مستبدلًا شخصية جمال بالاخير، فإذا بابتسامته الخبيثة تبرز وفحيحه يلفح وجه يوسف: دي؟ دي مطوة يا دكتور!
لعق شفتيه برعب وعدل من نظارته الطبية قائلًا: أيوه ولزمتها أيه يا حبيبي!
شدد من قبضته على تلباب قميصه الأبيض هادرًا: اسمعني كويس يا يوسف، لو حد شم خبر بحمل أمي هقطع رقبتك الحلوة دي وهبعتها لدكتورة ليلى كادو!
رمش بعدم استيعاب وسأله بريبة: طب وليه الشر ده كله؟ ثم إنك ليه بتتكلم وكأن فريدة هانم عندها مرض معدي، دي حامل يا حبيبي وده شيء لا يمكن تخبيه ولو نفترض انك نجحت وخبيت الموضوع هتيجي بعد 9 شهور هتقول للناس مين البيبي ده؟
أجابه بملامح جادة للغاية: عادي هقول مايا جابت تؤام.
كبت يوسف ضحكته وصدمه بقوله: ازاي وفريدة هانم سابقة مايا بشهر تقريبًا! أيه نزل يمهد الطريق لاخوه ولا أيه بالظبط!
تهدل ذراعه عن رقبته وعاد لمقعده بملامح واجمة للغاية، ضحك يوسف وهو يراقب ملامحه بتسليةٍ، وتمتم باستنكارٍ: عُمران معقول فقدت عقلك! حبيبي إحنا في لندن مش في مصر عشان تخاف على شكلك! وبعدين فريدة هانم أساسًا اللي يشوفها ميصدقش إنها خلفت قبل كده.
فتح مدته (المطوة) مجددًا وسلطها على رقبته هاتفًا بغضب: إنت بتعاكس أمي قدامي يالا؟
رفع يديه يجيبه بخوف: أبدًا والله بحاول أخليك تستوعب بس، وبعدين فريدة هانم من خلال كلامي معاها حسيت إنها بتمر بحالة نفسية حادة فلو سمعت كلامك الأهبل ده حالتها هتسوء، عشان كده حاول تخليك بعيد عنها وتسيب حوارها لدكتور على هو شخص عاقل ومتفاهم وهيقدر يتعامل معاها.
زوى حاجبيه بغدافيةٍ شديدة: حد قالك إني غبي ومبفهمش! وبعدين هتخاف على أمي أكتر مني! جرى أيه يوسف إنت عقلك لسع منك ولا أيه؟
سقطت نظارته من فرط اهتزاز جسده تباعًا لحركة عُمران المتعصبة، فصاح منفعلًا: لا خايف ولا متزفت، سبني خليني أنزل أشوف شغلي!
عاد لمقعده يعيد سلاحه بتابلو السيارة، فاذا بيوسف يتساءل ساخرًا: لامؤاخذة في السؤال يا بشمهندس، هو إنت شايل مطوة معاك في العربية ليه؟
احتدت رماديته تجاهه، وبوقاحة قال: عشان اللي زيك وزي جمال الغبي بيضيقوا خلقي بعد عنك، فمينفعش معاهم غير المعاملة دي.
حك لحيته هادرًا بصدمة: يعني انت شاري المطوة للمقربين منك! يا راجل وأنا اللي افتكرتك عندك عدوات في الشغل وخايف تتثبت على الطريق!
لكز الدريكسيون بغضب: وده مين ده اللي يثبت عُمران سالم الغرباوي! مجابتوش أمه على وش الدنيا لسه اللي يعملها.
وتابع بتهديدٍ صريح: اظبط كلامك بدل ما أشرحك هنا عملي يا دكتور الحالات المتعسرة.
عدل من نظارته بغرور: هو أنت فاكر إني عندي مشكلة إنك تشرحني(أبسلوتلي. absolutely)، المشكلة عني إنك بتسخدم سكينة مش معقمة!
أغلق عينيه بقوة ولسانه يعد من واحد لعشرةٍ، توتر يوسف من صمته الغريب فأسرع يبدل حديثهما المتهور: سيبك بقى من هزارك التقيل ده وخليك معايا في اللي عايز أقولهولك.
فتح حدقتيه وبابتسامة مغتاظة قال: ياريت. بس لخص عشان مستعجل!
سحب نفسًا مطولًا ودفعه هادرًا بارتباكٍ: بص يا عُمران إنت عارف إني ماليش غير سيف، هو اللي طلعت بيه من الدنيا، أبويا وأمي من طول عمرهم وهما بعاد عننا، كل اللي في دماغهم الشغل وبس، انا اللي مسؤول عن سيف مسؤولية كاملة لحد ما بقيت بحس إنه ابني مش اخويا الصغير.
مال بجلسته إليه يسأله باهتمام: ليه بتقول الكلام ده يا يوسف؟
استند برأسه على ذراعه المائل بشرفة السيارة: لإني خايف أخسره يا عُمران، جوازه من زينب طول ما الكلب يمان ده لسه بيحوم حوليها هيخليني قلقان طول الوقت، الانسان ده شراني وأكيد أنا مش هقف وأتفرج عليه وهو بيأذي أخويا!
وتابع بنبرة اوضحت عجزه التام: وفي نفس الوقت مقدرش اقف في وشه وأمنعه جوازه من الانسانه اللي بيحبها خصوصًا إن أنا اللي كنت مصر عليه يرتبط!
رفع عمران زجاج شرفة مقعده، عسى أن يكف الهواء عن العبث بخصلاته، وتحلى بصمته ليجذب انتباه يوسف إليه وعن عدم رضاه بتفكيره المطلق، فازدرد حلقه قائلًا: أنا مش معاك يا يوسف، سيف حبها واختار إنه يكون معاها في الحرب دي، وده لو ثبتلك شيء قالمفروض يكون اثبات بحبه الكبير ليها، كون إنك خايف انه يأذيه لما يتجوزها فمين قالك إنه مكنش هيعملها وهو بعيد عنها! هو خلاص بقى عارف ومتأكد إنهم بيحبوا بعض سواء اتجوزها أو لأ!
واستطرد بصرامة واضحة: وبعدين لا آدهم ساكت ولا حراس عمي ساكتين، بيحاولوا يوصلوا ليه وهيحصل آن شاء الله، ولو فكرت فيها هتلاقي مش من الرجولة نسيب زينب لوحدها في الحرب دي، بالعكس لازم الكلب ده يشوفنا كلنا حوليها وأولنا سيف، الموقف اللي عمله يوم الجامعة ودفاعه عنها ده هيقلقه وهيخليه يتهز، ولو حصل وهاجمه هيكون على ثقة إن كفته مستحيل هتطب لإن قلب زينب اللي معرفش يكسبه بقى مع سيف وده هيخلي سيف ينتصر عليه بسهولة ده إن حصل وهاجمه لاننا مش هنسمح بده بإذن الله.
اقتنع بحديثه فتنهد بحزن وقال: إن شاء الله.
وفتح باب السيارة قائلًا: هنزل أشوف شغلي وإنت روح مشوارك ومتنساش بكره تكون عند سيف من النجمة، عريس بقى وعايزك تظبطه باليوم ده.
واستكمل بابتسامة هادئة: انا وليلى ظبطناله حفلة صغيرة كده في شقتنا.
منعه عُمران من الهبوط حينما ضمه إليه، وبكل محبة قال: ألف مبروك، ربنا يفرحك بيه وبأولاده يارب.
ربت على ظهره بقوة وابتسامته تتسع شيئًا فشيء: تسلم يا حبيبي.
وابتعد يسأله بتذكر: بقولك أيه ما تتصل بالست أشرقت تعزمها وأهي فرصة تيجي هي ومدام صبا الحفلة وأهو نجبر جمال يرجع معاها لانه مش هيسيب مامته تروح لوحدها يعني، حتى لو هتروح تجبهم قبل الحفلة.
تنحنح بخشونة وقال: فكرة كويسة، أنا هتصل بيها بس مش هقدر أعدي عليهم أجبهم، ممكن ابعتلهم سواق فريدة هانم يجبهم.
تعجب من رفضه الصريح بالذهاب لاحضارهما، وبدأت شكوكه تدفعه لسماع عُمران حوار جمال معه حينما أخبره سبب طلاقه، ولكنه لا يريد أن يحكم من موقفٍ هكذا عساه مشغولًا بالفعل، فازدرد قائلًا: خلاص تمام. المهم تأكد عليها تجبها وتيجي.
هز رأسه بتأكيدٍ، هبط يوسف من السيارة وغادر عُمران على الفور.
مضت فاطمة برفقة زينب بأحد المولات لشراء بعض الملابس لزفافها الذي تحدد بسرعة البرق، وقد حرصت فاطمة على شراء القفطان الأخضر لشقيقتها لترتديه بالغد.
كانت تشعر بالسعادة بأنها تعاونها من مالها الخاص، حيث كانت تودع المبالغ التي تتحصل عليها من عملها برفقة عُمران بحساب خاص بها قد قام عُمران بفتحه لها لرفضها استلام المال منه.
وفور أن انتهوا تركوا الحرس يحملون الأكياس للسيارة وجلسوا باحد الكافيهات يتناولون الغداء بمفردهما لأول مرة.
فقالت فاطمة وابتسامتها الرقيقة لا تفارقها: صافي كبرتي أ زينب و غادي تتزوجي، انا فرحانة ليك بزاف و لكن في نفس الوقت مقلقة انا مازال ما شبعتش منك.
(كبرتي خلاص يا زينب وهتتجوزي! أنا فرحانه علشانك اوي بس في نفس الوقت زعلانه أنا ملحقتش أشبع منك! ).
رسمت ابتسامة صغيرة على وجهها المجهد من قلة نومها قلقًا من ذلك المريض: و انا زعما فين غا نمشي ا فطيمة، هاا انا معاك و حداك.
(وأنا يعني هروح فين يا فاطمة أنا معاكي وجنبك أهو! ).
مالت على الطاولة البيضاوية تمسك يديه التي تفرق بها بتوترٍ: الخوف اللي ف الداخل ديالك ماتقدريش تخبيه عليا مهما حاولتي انك تبيني انك طبيعية،
اتكلمي معايا و متخافيش ماكينش ف هاد الكون اللي يقدر يفهمك قدي.
(الخوف اللي جواكي مش هتقدر تخبيه عني لو مهما حاولتي تبيني إنك طبيعية، اتكلمي معايا ومتخافيش محدش في الكون كله هيفهمك أدي. ).
تدفق الدمع من عينيها المحتقنة بالدموع، فسددت لها سؤالها المباشر: انتي خايفة من يمان ولا من سيف يا زينب؟
ضمت شفتيها بقوة تكبت شهقاتها الباكية، وبعجزٍ هتفت: ما عرفتش (مش عارفة! ).
سحبت فاطمة مناديلًا ورقيًا، وقدمته لها قائلة والوجع بعتصرها: بلا ما تبكي، واش كاينة شي عروسة كتبكي فخال هكا و عرسها غدا، لو الجواب على سؤالي صعيب فاعتبريني ما سولتش من الاساس.
(بلاش العياط ده، في عروسة فرحها بكره تعيط بالشكل ده! لو اجابة سؤالي صعبة يبقى اعتبريني مسألتش من الاساس. ).
اعترضت حديثها قائلة: ماشي صعيب و لا حاجة، انا الخوف اللي اتبنى داخلي من يمان و فعايله، خلا عندي هواجس مخيفة، أفطيمة.
(مش صعب ولا حاجة، بس أنا الخوف اللي اتبنى جوايا من يمان وأفعاله خلاني عندي هواجس مخيفة يا فاطمة. ).
واستطردت تشرح لها على استحياءٍ: ما غنقدرش نكون ليه مرا!
انا بمجرد ما كيقرب مني في بلاصته حدايا كنموت بالخوف من يمان!
(مش هقدر أكونله زوجة! أنا بمجرد ما بيقرب بمكان جلوسه مني بترعب من يمان! ).
أدمعت أعين فاطمة تأثرًا بها، فكيف لا تشعر بما تعانيه وقد ذاقت هي أضعاف ما يحيط شقيقتها، غمست أصابعها بين أصابع الاخرى، وقالت بقوة تحاول مدها لها رغم أنها ضعيفة، هاشة: كتبغيه أزينب؟ (بتحبيه يا زينب؟ ).
رمشت بارتباكٍ ملموس، فابتلعت ريقها الذي زارته رطوبة عجيبة فور سماعها لسؤال فاطمة: ماعرفتش، ولكن انا كنرتاح فاش كنشوفه، و كنحس انني ما بغياش يمشي او يبعد عليا،
كنفرح بزاف فاش كنشوفه في الجامعة، النهار اللي مكنشوفوش فيه كنحس انني مقلقة و مزيرة،
حتى كلامه و اصراره أنه يتزوجني بالرغم من أنه عارف انه غيعرض حياته للخطر كيخليني نحس بانه هادا هو الراجل اللي نقدر ننعس ف داره و انا مطمنة و مرتاحة.
(مش عارفة! بس انا برتاح لما بشوفه، وبحس إني مش عايزاه يمشي أو يبعد، بفرح أوي لما بشوفه بالجامعة، اليوم اللي مبشفهوش بحس إني مخنوقة ومتصايقة، حتى كلامه واصراره على إنه يتجوزني بالرغم من إنه عارف إنه بيعرض حياته للخطر بيخليني أحس إن ده الراجل اللي هقدر أنام في بيته وأنا مطمنة ومرتاحة. ).
اتسعت ابتسامة فاطمة، ورددت باستنكارٍ: ايلا ما كانش هدا هو الحب، ايوا شنو يكون الحب من وجهة نظرك أ الدكتورة؟!
(لو ده مش حب أمال أيه الحب من وجهة نظرك يا دكتورة؟! ).
أشرق وجهها بابتسامة تستحي من أن يراها أو يستمع لحديثهما أحدًا، ومن ثم ما تلاشت وبتوترٍ باحت: و لكن كلشي هادشي مسببلي خوف كبير أ فطيمة.
(بس كل ده مسببلي خوف كبير يا فاطمة. ).
سألتها باستغراب: خوف من أنك بغيتيه؟!
(خوف من إنك حبتيه؟! ).
رفرفت اهدابها المبتلة بدموعها وقالت: خوف أنه يتآذى، ماغنقدرش نستحمل توقع ليه شي حاجة بسبابي، آآ، انا كنبغيه!
(خوف من إنه يتأذي، مش هستحمل إنه يحصله حاجة بسببي، آآ، أنا بحبه! ).
زفرت الهواء الساخن من انفها، وكأنها تحرر عنها التوتر الذي يجتاحها على شقيقتها، وقالت بإيمانٍ: زينب أحبيبة ديالي كيفاش ايمانك بربي سبحانه و تعالى يوصلك لهاد النقطة،
ربي سبحانه و تعالى قال في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم
«قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» صدق الله العظيم.
يعني لو قدر الله. و ربي اراد انه يمسه بسوء فهادشي مقدر و مكتوب،
و اجي علاش انتي تحطي فراسك هاد الافكار الخايبة، حبيبة ديالي انتي عروسة فرحي و خلي كل هادشي على جنب، ماعرفتيش ربي خازن ليك الخير فين.
(حبيبتي زينب إزاي ايمانك بربنا سبحانه وتعالى يوصلك للنقطة دي، ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم
«قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» صدق الله العظيم.
يعني لو لقدر الله ربنا أراد أن يمسه بسوء فهو مقدر ومكتوب، ثم إنك ليه تحطي في رأسك الأفكار البشعة دي، حبيبتي انتي عروسة افرحي وسيبي كل ده على جنب، متعلميش ربنا شايلك الخير فين؟ ).
هزت رأسها وابتسامتها اتسعت بحبورٍ شديد: ونعم بالله.
إتجه جمال لشركته بعد أن مر على الموقع، يتأكد بنفسه أن كل الامور تجرى على ما يرام، وخاصة أن عُمران متغيب منذ الصباح.
احتل مقعد مكتبه الصغير يراجع ما وُضعه السكرتير من أمامه، فإذا بباب مكتبه يُفتح بهمجيةٍ شديدة ويدلف ذلك المستفز بكل عنجهيةٍ، كأنه يقتحم مكانًا يخصه.
استقام بوقفته يرمقه بنظراتٍ ملئها الضيق والتذمر لطريقته البربرية، ولكنه استثنى غضبه لأجل عُمران، فاجلى صوته الخشن: نعمان باشا نورت.
وأشار على المقعد وللسكرتير الذي لحق به بالمغادرة: اتفضل.
اتجه إليه بخطواتٍ متهدجة، مغرورة، يقف قبالته برأسٍ مرفوع بعنجهية مريضة، وبحقدٍ فاحت رائحته قال: أنا مش جاي عشان أقعد، أنا جاي أقولك كلمتين لو ذكي هتعمل بيهم وتنفد من غضبي، ولو كنت غبي وخبيث زي ما انا متوقعك هتكمل في مشوارك بس ساعتها مش هتشوف غير اللي ميعجبكش وهتعتبرها أسوء خاتمة ليك هنا في لندن قبل ما تترحل على مصر.
قبض قبضته بعنفٍ، وبحدة صاح بوجهه: أنت جايلي لحد مكتبي عشان تهددني!
رفع اصبعه أمام وجهه يصمته ويهدر بتحذيرٍ: اسمع يالا انا مش أهبل ولا بريالة زي ابن فريدة، أنا فاهمك وفاهمك كويس أوي، وعارف إنك بتلف وبتدور حوليه عشان توصل للي إنت عايزه وبتخطط ليه من البداية.
وتابع بكرهٍ شديد: وأنا عشان جدع هسيبك تأكل معلقتين بس تهف الطبق كله هخليك تطرشه.
ربع يديه أمام صدره وقال بجمود تام: إنت مقدرتش على عُمران فقولت تجرب معايا ولا أيه؟ أيه قلة الحيلة دي!
وقبل أن يتحدث نعمان اوقفه صوت جمال الجهوري: اسمعني إنت بقى، مفيش قوة على وجه الارض هتقدر تفرق بيني انا وعُمران، ولو فاكر إن الكلمتين دول بما فيهم تهديدك الوضيع هزوا شعرة واحدة فيا تبقى فعلًا أهبل وبريالة زي ما قولت.
واستطرد بشموخٍ وكبرياء: انا مش هقف وأدافع عن نفسي ولا عن علاقتي بعمران لإني واثق ومتأكد إنك عارف إن كل اللي بتقوله ده افترى وكدب أو زي ما عقلك مصورلك.
وعاد لمقعده وهو يقول بثبات: تقدر تمشي لإن كلامك مالوش لزمة. ولو في حاجة في دماغك عايز تعملها اعملها بدون رغي هعمل وهسوي لإن اللي بيقول مبيعملش يا نعمان يا غرباوي!
احترق بلهيبه من فرط الادخنة الصاعدة من داخله، فركل الباب وغادر من مكتبه غاضبًا.
وقبل أن ينعطف خارج شركته وقف أمام مكتب السكرتير الخاص به، يخرج دفتر شيكاته ويتكئ على سطحه يدونه بمبلغ 500ألف دولار أمريكي، وضعه بين لائحة الشاب الذي يوزع نظراته الجاحظة بينه وبين الشيك بصدمة، بينما يردد نعمان بشرٍ أعج بداية مخططه الوضيع: ستفعل ما سأطلبه منك مقابل هذا المبلغ، ما رأيك؟
ركضت بسعادة فور أن رأته يدخل من باب الشقة، قائلة بحماسٍ: شيخ مهران، سدن حفظ ثلاثة صفحة.
ابتسم الشيخ مبديًا فخره، وردد بسعادة: ما شاء الله تبارك الله عليكِ يا بنتي.
وسألها بحب: مين اللي حفظك؟
قالت وهي تنتظر سماع الترجمة عبر سماعتها: خديجا وحاج ركيا قول لسدن تروح لآيوب يسمعني وأنا قول اللي حفظه.
ضحك بصوتٍ اطرب قلب الحاجة رقية التي تعد السفرة بالطعام الشهي، فتركت ما بيدها ووقفت تراقبه بابتسامة واسعة، بينما قال هو: طيب يا بنتي، يونس نزل المحلات وآيوب فوق اطلعي خليه يسمعلك اللي حفظتيه وانزلي على طول.
واشار بيده المحاطة بسبحته البيضاء: واوعي تتأخري يا سدن.
هزت رأسها بسعادة، تختبر لاول مرة حنان أبًا مثله، وحب الأم المتمثل بالحاجة رقية، حتى خديجة رغم مرضها الشديد الا انها لم تتركها ومضت ليلها تحفظها آيات السور القصيرة بكل محبة.
صعدت سدن للأعلى، تطرق باب شقة يونس، فإذا بآيوب يفتح الباب وما أن رآها حتى ردد بابتسامة جذابة: سدن!
أخفضت عينيها باستحياء غريب يحيطها، وكأنها اكتسبت صفات لم تكن تتحلى بها يومًا!
رفعت المصحف الشريف إليه وقالت: أنا حفظ تلاتة صفحة، وعاوز إنت تسمعني وأنا قولهم.
اتسعت ابتسامته فخرًا وسعادة بها، وأشار لها بمحبة كبيرة: أكيد طبعًا، تعالي.
إتبعته للدخل حتى توجه بها بركنٍ خصصه يونس للصلاة، يوجد به ثلاث سجادات للصلاة، ومكتبه بها المصاحف والكتب الدينية.
تربع آيوب أرضًا ومن أمامه سدن بإسدالها الأبيض الملائكي، قدمت له المصحف، فحمله واغلقه ووضعه جانبًا.
زوت حاجبيها بدهشةٍ وتساءلت: قفلتي القرآن ليه؟ مش عاوز اسمع سدن وهو قول الايات؟
احمر وجهه من فرط منعه للضحك، وتنحنح قائلًا: طبعًا عايز أسمع سدن وجمال صوت سدن في القرآن العمر كله، متقلقيش أنا حافظ القرآن كله فمش محتاج أبص فيه عشان تسمعي الآيات القصيرة دي.
وأشار له بحنان: يلا إبدأي.
هزت رأسها في طاعة ومضت ترتل القرآن بصوتٍ عذب، لمس قلبه كإيقاع تأثير صوت العفاسي مفضله عليه، واوقفها فور نطقها لكلمة بنطق غير صحيح، فضم كفه يردد بقراءته الصحيحة للأية التي نطقتها بطريقة خاطئة: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
صدق الله العظيم.
مالت مبتسمة على كفها تهتف بإعجاب شديد: صوتك جميلة أوي آيوب.
ضحك رغمًا عنه وقال: جميلة! يا ستي إنتِ اللي زي القمر بس بلاش التاء المؤنثة دي عشان خاطر جمال صوتي لو حباه!
رددت بعدم فهم: تاء تأثية!
توالت ضحكاته تباعًا، وقال بصعوبة لتنسيق جملته الانجليزية: لا عليكِ، مع الوقت ستكتسبين مهارة الحديث بالعربية. دعك من هذا كله، أنا فخورًا بكِ سدن، رغبتك بتعلم الدين وحفظ القرآن الكريم بهذة السرعة لهو شيئًا يدعو للفخر.
منحته ابتسامة عذباء وقالت: رلما لإنني وبعد زمنًا طويلًا وجدت نفسي التائهة، كنت غير راضية على ما كنت عليه، والآن يتسع صدري واجدني شغوفة لسماع كل شيء عن ديني.
الآن نسبته دينها، لم تقل دينه وهذا ما أسعده بحق، فتعمق بالتطلع إليها وهي تستكمل: أتعلم أنا لا أطيق انتظار الشيخ مهران لحين عودته من الخارج، أذهب لخديجة تحدثني عن قصص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وتحادثني الحاجة ركيا عن فرائضي وعن الصيام فناويت أن اصوم معها غدًا يوم الاثنين فلقد اخبرتني أن اعقد النية للصيام، وأحيانًا استدرج فارس بالحديث ليخبرني عن قصص الصحابة وما تعلمه، وها أنت تساعدني بحفظ القرآن بتلاوته الصحيحة، فماذا أريد بعد!
وأخبرته بحماسٍ بينما هو شاردًا بها: هل أخبرتك أن الشيخ مهران علمني أن أدعو لأخي بكل صلاة لي، وكم أنا مسرورة أن دعواتي تصل له، عساه يعلم بأنني قد تركت تلك الديانة وأصبحت مسلمة، عفيفة الآن.
رفع كفه يضم جانب وجهها برقةٍ متناهية، وقال: وهل أخبرتك أنا بأنني لطالما دعوت الله أن يرزقني فتاة صالحة، أئتمنها زوجة لي وأمًا لأولادي، واستبعدت أن أكون وجدتها حتى تلك اللحظة التي تجمعنا الآن!
ودنى إليها يطبع قبلة أعلى حجابها هاتفًا بحبٍ وعاطفة تسللت لمسمعها: فاللهم إجعلني لكِ زوجًا صالحًا كما كان سيدنا محمد (صل الله عليه وسلم) زوجًا صالحًا لزوجته خديجة رضى الله عنها.
سرت بجسدها قشعريرة لذيذة، فخشيت أن تكسر تعليمات شيخها الفاضل إليها، فاذا بها تبتعد عنه، وجذبت مصحفها الوردي ونهضت تردد دون ان تطلع إليه خلفها: لقد أخبرني شيخي ألا أتأخر، أراك لاحقًا.
وهرولت من أمامه راكضة للأسفل، تاركة الابتسامة والعشق يتلألأ داخل مُقلتي ابن الشيخ مهران!
كان بغرفة مكتبه حينما ولجت هي إليه، حمرة بشرتها، عينيها المتورمة، أنفها الأحمر، كل ملامحها شكت له بكاء وحزن مرير.
نهض عن مقعده متجهًا إليها، يلتقط يدها المستندة على ذراع علي، متسائلًا بقلقٍ: في أيه؟ مالها؟!
منحه على ابتسامة صغيرة: اطمن معندهاش حاجة تخض.
يعاونها الآن على الجلوس ومن ثم انتصب قبالة على يردد بضيق من اسلوب حديثه: يعني أيه حاجة تخض! هي عندها أيه أصلًا؟!
ضمه على والاخر مازال ذراعيه مفرود لا يبادله ضمته، يراه مريبًا وقلقه يتضاعف مع صمتهما بينما الاخر يضمه!
ابتعد عنه على وقال بابتسامة واسعة: مبسوط عشانك. عن إذنكم.
قالها ورحل بكل بساطة تاركًا أحمد يستشيط منه غضبًا، فاستدار واتجه لاريكة فريدة، جلس جوارها يسألها بلهفة وخوف: في أيه يا فريدة؟ انتِ تعبانه؟ وليه على بيتكلم بالبرود ده!
تقابلت عينيها الزرقاء مع رماديته بنظرة ضمت بها المُقل بعضها البعض، فأمسكت يدها تشدد عليها مما ضاعف قلقه وجعله يبتلع بتوترٍ، وبصعوبة ردد: فريدة سكوتك قلقني، اتكلمي فيه أيه؟
بوضوحٍ غريب قالت: أنا حامل يا أحمد.
استمر في البحلقة إليها، وكأنه ينتظر سماع ما بها، فقال بما برمج عقله به: متقلقيش هتبقي كويسة، هنروح لدكتور كويس وآآ...
توقف عما يقول وعاد يتطلع له متسائلًا بدهشة: هو إنتِ قولتي ايه؟
ضحكت وأزاحت دموعها المعاكسة لسعادتها بتأثيره بما قالت، ورددت بصوتٍ مرتعش: أنا حامل!
رفرف باهدابه القصيرة وقال بتخمينٍ: إنتِ بتهزري صح!
أحجمت ابتسامتها وقالت بحزمٍ: أمتى فريدة هانم الغرباوي هزرت مع حد عشان تهزر معاك يا بشمهندس!
أخفض عينيه لبطنها وكأنه يمتلك ميكروسكوب سحري سيخترق لحمها ليلقي نظرة يتأكد بها مما تخبره به.
ضحكت بصوتٍ مسموع وقالت: مهو مش معقول هيطلعلي بطن في التالت يا أحمد!
امسك كفيها وترجاها بصوتٍ مهزوز: انتِ بتتكلمي بجد يا فريدة، يعني أنا هيكونلي ابن منك! معقول بعد كل ده هشيل حتة مني ومنك، بالله عليكِ اتكلمي، اوعي تكوني بتهزري يا فريدة.
وتابع بحزن احتل قسمات وجهه الوسيم: أنا آه محطتش في أحلامي إني أكون أب في يوم من الايام لإني كنت عارف إنه شيء مستحيل فأرجوكِ بلاش تعشميني بالامنية دي!
انهمرت دموعها حزنًا عليه وقالت ببكاءٍ: يمكن انا كنت أنانية لما شرطت عليك الشرط ده، بس الحمد لله ربنا حققلك اللي بتتمناه.
خطفها بين ذراعه وقال باكيًا: ألف حمد وشكر ليك يا رب، أنا مش مصدق اللي بسمعه ده.
وفجأة ابعدها عنه يطالعها بتوترٍ وخوف، فابتلعت ريقها بقلقٍ من جموده الغريب هذا، فوجدته يقول بأنفاسٍ مسلوبة: إنتِ من البداية مكنتيش عايزة ده يحصل، وأنا ممنعتكيش لما قولتي مش هينفع يكون بينا أولاد بس أهو حصل وربنا أراد أنك تخلفي مني فأرجوكِ حافظي عليه يا فريدة، أرجوكي أنا عايزه ومحتاجله أوي.
غُص قلبها، ماذا إن علم بما كانت ستفعله، ما لها يغادرها الهواء ويتحجر ريقها، ازدردته وقالت: أيه اللي بتقوله ده يا أحمد، اوعدك إني مش هكون أنانية مرة تانية، اطمن يا أحمد هحافظ على البيبي ده وإن شاء الله يتولد وتشيله وتفرح بيه.
أضيء وجهه من فرط سعادته، فعاد يضمها وهو يهمس بفرحة: أنا بحبك اوي يا فريدة، بتمنى ربنا يكرمنا ببنوتة تورث منك جمال عيونك وملامحك.
ضحكت وقالت بدلال: ولما تورث جمالي هنعيش في سلام ازاي يا بشمهندس! أنا كده مش هبطل أتقاتل معاها عليك!
شدد من ضمها وقال بعشق: هتتقاتلي عليا وأنا ملكك يا فيري!
تشبثت بظهرها بقوة وبداخلها امتنان أن الطبيب الذي اختارت للذهاب إليه كان يوسف، الذي امهلها الوقت الكافي للتفكير فعادت نادمة، ومن بعده على الذي استكمل باقي الطريق.
وقف بسيارته قريبًا من المبنى، يراقب ساعته ببسمة انتشاء، صوت صراخها واستنجدها يزيده فرحة، خمسة عشر دقيقة وجدها حد كافي لتهذيبها، ففتح نافذة سيارته وأشار لاحد رجاله، فهز رأسه ومال للسيارة التي تعج بالحرس يشير لهم نفس الاشارة الصامتة، فاندفع الرجال للاعلى.
عشرة دقائق أخرى حتى تمكنوا من فض الاشتباك العالق بالطابق العاشر من المبنى، وإذا به يرى خمسة من النساء يغادرن برفقة حراسه بعدما تمكنوا من ارغماهن على الهبوط من المبنى وترك تلك الحقيرة التي تلقت درسًا على ايدهن لن ينسى.
هبط عُمران من سيارته، واتجه للأعلى بخطواته الواثقة، توجه للشقة التي تقطن بها، فوجدها ملقاة أرضًا تنزف بغزارة وقد استحقت ما حدث لها.
تمكنت برؤيتها المشوشة من رؤية وجهه، فهمست بشحوبٍ: عُمران! ساعدني، هاتف الاسعاف عُمران.
مال إليها وقدمه يستند على المقعد: ولماذا سأفعلها؟ لقد استحقيتِ ذلك آلكس.
جحظت عينيها النازفة بصدمة، وتساءلت: أنت من فعلت ذلك؟
انزوى حاجبيه راسمًا الجزن، وبسخرية قال: آوه عزيزتي، لا أعلم أنهن متوحشات لتلك الدرجة.
وبضحكة خبيثة قال: ظننت بأنني سأجدك ميتة فور صعودي، ولكن هؤلاء الحمقاوات فشلوا بفعلها.
وأخرج سلاحًا من جيب بنطاله ووضعه نصب عينيها قائلًا بابتسامته المخيفة: ولكن لا تقلقي سأفعلها أنا.
ارتعبت وازداد رعبها أضعافًا مضاعفة، فزحفت للخلف وهي تردد بذعرٍ: ماذا تفعل؟!
قال وهو يلهو بسلاحه: كما ترين سأقتلكِ عزيزتي، أحاول أن أشفق على تلك الأرض المسكينة التي تتلوث من قذارة قدميكِ.
واصلت زحفها وتوسلت له: لا تفعل عُمران، أرجوك إتركني.
وتابعت بتلعثم ورعب: أعدك أنني لن أضايقك مجددًا.
انحصرت بالحائط من خلفها، فسحب مقعدًا خشبيًا وجلس قبالتها، واضعًا ساقًا فوق الاخرى: مجبرة على فعلها عزيزتي لإنكِ ستتركين هذا العالم وللابد.
ومال يستند على قدميه، يقابلها بنظرة ارعبتها: ماذا كنتِ تنتظرين مني فعله وأنت تقفين بمتتصف منزلي تهدديني! والابشع من ذلك لسانك القذر الذي تردد بالسوء عن زوجتي!
وتابع باستحقار: ولأخبرك بأنني حينما طلبت من أحد رجالي البحث عنكِ تبين لي أنني كنت أحمقًا لأقع بشباك امرأة ساقطة مثلك، قامت باغواء الرجال وكسب أموالهم ثم هربت من ولاية لاخرى بعد أن أطاحت بحياتهم!
ولكن حظك العسير أسقطك مع رجلًا لفظكِ أسفل قدميه، حتى بات رؤيتك مقززًا كرؤية المسلم للحم الخنزير!
سحب الزناد وهو يصرخ بها: وبعد ان انتقمت النساء منكِ حان دوري الآن.
زحفت إليه تتعلق بقدمه وهي تردد ببكاء: ارحمني عُمران، اصفح عني أعدك بأنك لن ترى وجههي مجددًا، أرجوك لا تفعل.
ركلها بعيدًا عنه وبصق أرضًا هاتفًا: لقد انتزع وضوئي أيتها اللعينة.
رفع يده لاحد رجاله يناوله السلاح وهو يقول بتشديدٍ: حسنًا سامنحكِ فرصة إن لم تستغليها أعدك بإن لا أحدًا سيملك الحق ليمنحك الفرص لجثتك.
اعتدلت بجلستها ارضًا تتابعه بلهفة، فإذا به يخطو ذهابًا وإيابًا متعمدًا اللعب على أعصابها، حتى قال: منحتيني يومًا واحدًا للتفكير واستغليته أنا لتدميرك، والآن سأمنحكِ ساعة واحدة لترك لندن وانجلترا بأكملها، وإن لم تفعلي فلكِ مني ما لا يحمد.
وباصبعه أشار بوعيد أرهبها: وإن تجرأتي وفعلتي شيئًا حقيرًا يمس زوجتي حتى وإن كان نسمة هواء ساخنة لامست طرف قدميها، أقسم بالله بأنكِ وإن اختبأتي في أخر بقاع الأرض سأجدك وحينها لن يمنعني أحدٌ عن نحر عنقك.
وأشار لمن يقف خلفه: احرص أن تغادر أمام عينيك.
قالها وارتدى نظارته القاتمة، ثم غادر من أمامها بعد أن ألقنها درسًا لن تنساه وإن عاشت فوق عمرها عمرًا.
اصابتها شديدة وجعلتها طريحة الفراش، ولكنها فور سماعها بما قيل حتى ردت الروح فيها، وتجهزت مستندة على الحاجة رقية لتهبط برفقتها لسيارة آدهم حيث كان يونس بانتظارهما.
ركض فارس إليه فالتقطه بين ذراعيه يقبله بفرحةٍ، بينما عينيه متعلقة بها ويلاحظ فرحتها رغم تعابير الألم المجتازة لملامحها المتألمة لفرط حركتها.
أخبرها يونس ان تظل بالفراش حتى تتماثل الشفاء وبإمكانه الحديث مع آدهم بأن تذهب بوقتٍ لاحق، ولكنها اعترضت وأرادت الخلاص من عصمة ذلك المخنث القذر.
وصلت السيارة للسجون في سرية تامة، وبامتياز مكانة عمر الرشيدي، آدهم تمت الأمور بكل سلاسة، وها هو آدهم يوفي بوعده ليونس مرتين، مرة حينما آرسل له مقطعًا على الواتساب كهدية حدثه عنها ففتحه ليجده مقطع تعذيبي لمعتز، والآن حينما تمكن من ادخاله برفقة خديجة رغم عدم السماح للحاجة رقية وللصغير بالدخول، أراد أن يريه في موضع ذل كان قد تسبب له بوضعه به سابقًا.
رسالة حملت دائرتها بأن ما زرعته يومًا ستحصده يومًا أخر، وها هو يجلس منكس الرأس، ذليلًا بوجود يونس عدوه، الذي يشاهده يتنازل عن خديجة حقه هو.
يقسم بأنه لم يشمت به، بل حزن لأجله ولكن ما بيده؟ هو من أضرم النيران وقد اشتعلت وابتلعته بجوفها!، كل ما أسعده بتلك اللحظة سماعه لكلمته التي أثلجت صدره وشُفيت جروحها أنتِ طالق، كانت كالبلسم الشافي لكل الندوب والنتوءات داخله.
تهللت أسارير خديجة وهي توقع على الأوراق، فاستدارت بعينيها ليونس تنظر له بنظرة سعادة، تخبره بأنها تحررت وباتت امرأة حرة، سبحان من جعلها سابقًا تتمنى أن لا تنتهي فترة عدتها وفترة وضعها لطفلها حتى لا تزج بسجن معتز اللعين، والآن تتمنى أن تنقضي الثلاثة أشهر بسرعة الريح لتستكين بين ذراعي محبوبها!
وها قد منحه آدهم فرصة ثالثة يعجز عن شكره بها، حينما أرغم أسفًا أن يساندها للخارج، حيث مكان رقية، فلم يكن سواه جوارها والا لن يسمح لاحد العساكر ولا لادهم ان يساعد من كانت وستصبح زوجته!
هنعمل أيه يا ماما أشرقت، هنروح؟
تساءلت صبا بحيرة بعدما استمعت لمكالمة حماتها مع عُمران، فتنهدت الاخيرة قائلة: والله يا بنتي ما أنا عارفة! بس مدام عُمران اللي عزمنا مقدرش أكسفه، هو قال إنه هيبعتلنا سواق بكره فنتوكل على الله ونروح مدام جمال لا بيرد على تليفونه ولا عاملي اي اعتبار.
أخفضت وجهها تخفي دموعها، فربتت الاخيرة على ظهرها بحنان: معلشي يا حبيبتي، بكره يعقل ويعرف غلطه، ومؤكد هيرجع معانا بكره على الشقة باذن الله لإني هسافر الفجر اكيد مش هيسبني كده.
هزت رأسها وهي تردد ببحة صوتها الخافت: آن شاء الله.
رددت بحبور وابتسامة واسعة: آن شاء الله يا حبيبتي.
وتطلعت لبطنها المنتفخ بعدما باتت على مشارف الشهر الاخير من الحمل: ربنا يقومك بالسلامة ويجعله ابن بار بيكي يا رررب.
ربتت على بطنها بحنان وابتسامة ملأتها العاطفة: اللهم آمين يا رب.
«السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله».
انطلق صوت الشيخ مهران بالميكرفون القريب منه ينهي صلاة المغرب، ومن خلفه المصلين.
خرج الرجال من المسجد وبقى الشيخ محله، يسبح على مسبحته ويتكئ للأمام بخشوعٍ تام، وإذا به يهم بالنهوض للعودة لمنزله، فوجد يدًا قوية تسانده حتى وقف.
رفع عينيه يشكر من قدم له المساعدة: جزاك الله خيرًا.
اتسعت ابتسامته فرحة وقال: آدهم! إزيك يابني عامل أيه؟
ارتسمت ابتسامة بشوشة على وجهه وهو يجيبه: أنا بخير الحمد لله يا شيخنا.
وبتوتر قُرأ بوضوح قال: أنا كنت جاي لحضرتك عايزك في موضوع مهم وحرج، لما اتقفلت في وشي ملقتش غير حضرتك أجيله!
انتبه له الشيخ باهتمامٍ، وسحبه للاريكة الموضوعه بالخلف لمن لا يقوى على الصلاة واقفًا، متسائلًا بتركيزٍ تام: خير يابني؟