رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي والثمانون
غيابه القصير أجج شوقها إليه، ظنت بأن غياب اثنان وسبعون ساعة عنها لن يحيل بها، ربما ستنزعج دونه قليلًا ولكنها ستصمد، ولكن ما صدمها هو احتراق روحها منذ لحظة رحيله حتى سماع صوته بتلك اللحظة بالتحديد!
أضرم الحب النيران بوتيرة العشق وباتت عاشقة حد النخاع لذاك الإرهابي المتدين كما ظنته، فأقسمت أن شخص يحفظ الكرم بأصوله ليس سوى رجلًا نبيلًا، يملك من سمات دينه ما يجعله ملكًا، وبالرغم من أن قلبها مال له الا أنها لم تشاركه بالتتويج الملكي الا حينما اعتنقت دينه!
استدارت بلهفتها إليه وخصلاتها الصفراء تلامس وجنتها التي ألهبتها العاطفة بجمرتها، فباتت كحبات الكرز، ولسانها يسبق خفقاتها المسموعه: آيوب.
ارتخت تعابير وجهه القاسية فور أن تلاقت عينيه بخاصتها، سحرته بندائها الذي أدمى مشاعره فانتصر عليه ساحقًا انتصاره الزائف، تناسى كل شيء حتى السبب الذي دفع غضبه للظهور، اقترب منها فوجدها تبتسم إليه برقتها المعتادة، فاستكملت غزوها القاسٍ بقولها: وحشتيني كتير آيوب.
ابتسم رغمًا عنه وقال بهيامٍ: وانتِ كمان وحشتيني يا سدن، بس بردو ده مكنش موضوعنا.
واستطرد في محاولةٍ لاستدعاء جديته الصارمة: أيه اللي مطلعك من غير حجابك، افرضي إن إيثان أو يونس طلعوا بأي وقت!
اتسعت ضحكتها الماكرة وببراءة داهية تساءلت: بتغيري عليا؟
قهقه ضاحكًا ومازحها: الغيرة وبتغيري! الاتنين مع بعض مينسجموش، نفسي تتعلمي تفصلي بين المذكر والمؤنث بس للأسف شكله حلم بعيد وصعب المنال.
ووضع يديه بجيوب جاكيته هادرًا بسخرية: كويس إنك لقطتي العربي فالمفروض إني مطمعش في اكتر من كده، ولكن ده ميمنعش إني أتعشم تظبطي اللغة.
وزعت نظراتها بين يديه الموضوعة بجاكيته وعينيه بعدائية شديدة، تلفظتها باندفاعها المضحك: إنتي كمان محتاجة تتعلمي تتعامل مع زوجة ازاي، إنت مش بتحضن سدن بعد غياب زي الزوج الرومانسي!
عبث بحاجبيه بدهشة ما تفوهت به، وكأنه بدى أحمقًا فجأة، فرنا إليها يهتف ببلاهة: ليه دول كلهم تلات أيام!
لوت شفتيها بسخطٍ، فابتسم وهو يتساءل بمكر: إنتِ عايزة تتحضني يا سدن؟
ازدادت نظراتها غلظة، وكأنها ستصيبه بسهامٍ نافذة تستهدف منتصف صدره، وفجأة حملت طرف وشاحها ووضعته فوق رأسها، رافعة رأسها بكل كبرياء وغرور، تتقدم للخروج من البرج، وقبل أن تطيء قدمها الباب استدارت تواجهه بجراءةٍ: منذ تلك اللحظة لن أرتدي حجابي أمام إيثان ويونس فحسب، ستكون أنت ثالثهما أيها الأحمق.
غادرت من أمامه بينما تتعالى ضحكات آيوب دون توقف، فلحق بها بعدما اغلق باب البرج، وهو يتمتم بسخرية: هو أنا كان المفروض أحضن قبل دخلة المخبرين دي!
عاد يطرق على الباب لمرته الثامنة وهو يصيح بانفعال: يا يونس، إنت يا بني آدم، بقالي ساعتين بخبط على الباب أفتح بدل ما أكسره على دماغك.
وتابع بغيظ وهو يعيد الطرق: هموت وأعرف إنت بتهبب أيه من ساعة ما كلمتك! مش متفق معاك تلبس بدري عشان نلحق الافتتاح من أوله!
لم يصل إليه أي رد، فرفع إيثان يديه معًا يطرق بهما وصوته المنفعل يعلو: فارس لسه نازل ومأكدلي إنك جوه، افتح بدل ما أطربقها على نفوخك.
طرقات تتالى ونداء متتالي: يونس!
تحرر مقبض الباب واندفع من خلفه يونس، يسحب الاخير من تلباب قميصه، ومن ثم دفعه للحائط المقابل، صارخًا بعصبية: مش قادر تصبر عشر دقايق عما أستر نفسي يا حيوان، أيه القيامة قامت!
جحظت عينيه في صدمة حقيقية، فأخذ يتجول ببطءٍ على جسد يونس الملفوف بثلاثةٍ من المَنَاشِفُ، احدهما تحد جزءه السفلي، والاخرى موضوعه فوق كتفيه بينما تحتل واحدة منهم شعره الذي يقطر بالمياه، تحرر صوت إيثان أخيرًا وسأله ببلاهة: إنت إزاي تخرج كده؟
زم شفتيه ساخطًا: أصل الجو حار في الشقة فقولت أطلع أتمشى يمكن تطري بره!
ابتلع ريقه الهادر بصعوبة من شدة اختناق يدي يونس القويتيان حول عنقه، فهتف بحنقٍ: طيب ابعد ايدك وخش إلبس بسرعه، خلينا نشوف الخواجة ده ناويلها على أيه النهاردة.
وتابع بضيق: وهي حبكت يعني تستحمى الوقتي، ما انا مكلمك ومأكد عليك إني جاي.
مازال يونس يتابعه بصمت يستحضر فيه كافة الطرق المتاحة لقتل ذلك الأبله، بينما الاخير يجوبه بنظرة تقيمية ختمها بقوله: ابقى استحمى مرة كل عيد أهو هتكون نضفت مرتين في السنة.
منح رقبته لطمة جعلته يتمدد أرضًا وقوله اللازع يختتمه: فاكرني أجرب زيك يالا، اظبط كده واعقل عشان ما أقلبش عليك، وبعد كده تقف على باب بيتي باحترامك، كلها كام يوم وهتتحرم عليك دخولها في اللحظة اللي هتسكن فيها ست البنات.
برع في تمثيل دور المنصدم مما يُقال، فوضع يده على صدره وصاح بدرامية مضحكة: هتبيع صاحبك عشان الحتة الطرية يا يونس! اخص عليك! مكنتش العشرة والصحوبية والعيش والطعمية السخنه وصواني الجلاش بالمكسرات، مكنتش آآ.
إقفل باب أكلاتك المفضلة اللي طلقتها عليا دي، كلها شهر ورمضان داخل وربي لأكدرك فيه يا إيثان، لو لمحت في ايدك اكل ولا شرب يا ويلك مني!
قالها بعدما انحنى إليه فسقطت المنشفة العلوية فوق رأس إيثان المنصعق محله، فابتلع ريقه بصعوبة وهدر بقلق: لسه شهرين بس؟
ارتسمت ابتسامة شامته على وجه يونس، وأكد له: شهر واحد وهتصوم معانا يا حبيبي، مش أنت صاحب صاحبك وداعم الوحدة الوطنية بردو ولا أنا فقدت ذاكرتي ورا الحبس؟
اعتدل بجلسته يستند على درابزين الدرج حتى استقام بوقفته يجيبه: هو ده بالظبط، إنت شكلك فقدت الذاكرة أنا مسيحي يا حبيبي.
بابتسامة واسعة قال: هتصوم يعني هتصوم، ولو قليت بعقلك ورجعت لحوار الزينة والصواريخ وقت التراويح هيبقى صيام في رمضان والعيد.
اتسعت مقلتيه في هلع وراح يردد: العيد! والكحك والبيتفور والغريبة يا يونس!
أكد عليه مجددًا: ولا هتطول حتى حبة ترمس فتلم نفسك من أولها كده عشان قلبتي وحشة.
وتابع بحدة: وميل بقي من طريقي خليني أستر نفسي قبل ما يجيني برد بسبب رزالتك.
وقبل أن يتحرك من محله أتاه صوت صرخات تعلو الدرج المجاور لهما، فاتجهت الأعين إلى سدن التي تراقب يونس الذي يقف بالمنشفة وكأنه يطل على مياه المسبح الخاص به، كبت ايثان ضحكاته وانحنى يجذب المنشفة، يضعها على صدر يونس وهو يلكزه بتشفي: استري نفسك يا حلوة، قبل ما يطلبولنا بوليس الاداب، ووقتها لو هيتحكم عليا بالاعدام شنقًا مستحيل اتجوزك يا بايرة عشان بس نكون على نور من البداية.
أسرع آيوب للاسفل فور سماعه صوت صراخ سدن ومن خلفهما خديجة التي خرجت من شقتها بفزعٍ، حتى سكان بعض الطوابق العلوية، التف بالدرج عدد من الناس ويونس من شدة صدمته شعر وكأن قدمه التصقت بسطح الأرض.
اندفع إليه آيوب يحركه بعنف وهو يسأله: أيه اللي مخرجك بالشكل ده؟
كان بموقف لا يحسد عليه أحد، وخاصة بتجمع السكان من حوله، فردد بحرجٍ: آآ، أنا، إيثان كان آ...
اتجهت الاعين لايثان، وكأنهم يلقونه بتهمة مريبة، فقال بمبالغة: السخان ولع فاقتحمت الشقة وخرجته هنا بعيد عن النار بدل ما يتسلخ وعفريته يلبس حمامات عمارة الشيخ مهران كلها، وساعتها هيمنع السكان من استخدام حقوقهم البسيطة ويا عالم الحقوق دي هتترفع برمضان ولا الحظر للعيد الكبير!
مال إليه آيوب يهدر، من بين اصكاك أسنانه: أيه اللي بتقوله ده!
اجابه ايثان بصوت منخفض: هعملك أيه بحاول ألم الدنيا قبل ما تظيط ايدك معايا!
وجد أنه أمام خياران كلاهما يصبان بنفس المحل، لذا وبدون تفكير مال يساند يونس ويدفع المنشفة إليه قائلًا: جيت بسيطة الحمدلله، يلا يا جماعه ملهاش لزمة الواقفة دي.
انفض الجمع من حوله ولم يتبقى سوى سدن التي منحت يونس نظرة منفرة ورددت قبل هبوطها: عيب تخرجي كده يونس، في أنسات عايش معاكي هنا!
قالتها واتجهت للاسفل، بينما تطالع خديجة بعينين تدمعان من فرط الضحك وخاصة حينما ردد ايثان: طول عمرك جايبلنا الكلام!
زفر بضيق وهو يراقب أخيه الذي أنهى نصف الكتاب الذي بيده، ومازال يصر على استكمال المتبقي، فقال بضيق: وبعدين يا على هنقضي اليوم كله هنا!
أشار بيده إليه ومازال يجلس أرضًا جوار خزانة المسجد الصغيرة، حيث كان ينظم الكتب داخل أضرفها إلى أن قابله كتاب خصص لأحد علماء الأزهر عن تفسير بعض الآيات عن القرآن الكريم، فجلس يقرأ أول صفحاته وها هو يستحوذ، عليه حتى بات بالمنتصف.
التقط عُمران الكتاب منه وقال: خلاص اعتبره هدية مني وإبقى اقراه بالبيت.
انتزاعه على من يده وقال باعتراض: إنت جبته مع بقيت الحاجة للمسجد، فمش هيخرج من هنا.
كز على أسنانه بغيظٍ ونطق فور، أن منع أي لفظ قد يتحرر عنه: خلاص هجبلك تؤامه بس قوم خلينا نتحرك، الله يهديك يا حبيبي.
ترك الكتاب باحدى الأرفف، ونهض يقابله بسخط: ابن أختك انا!
ابتسم بسخرية: لا مش هتلحق تخلف، لاني هفشكلها من برة برة.
نصب عوده بعدما انتهى من وضع باقي الكتب، جذب جاكيت بذلته يرتديه ورماديته لا تحيل عن أخيه: عُمران خف شوية عن شمس وآدهم بدل ما أقلب عليك انا.
منحه نظرة مشككة انهاها بقوله: هتقلب عليا عشان حضرة الظابط يا علي!
انحنى يجذب جاكيت أخيه واتجه اليه يعاونه على ارتدائه وهو يهمهم بخبث: بالظبط، فاكسبني لصفك بدل ما تلاقيني اول واحد واقف في وشك!
ارتدى الجاكيت واتجه برفقته للخارج بصمت مريب، يطمس داخله خبثه اللامنتاهي، وما ان صعد على بسيارته حتى اشار، له من المرآة: خليك ورايا يا دكتور ورانا مشوار سريع.
وضعت جزء من الكريم على وجهها وأخذت تفرك برفق، ومن ثم وضعت القماش الاسود حول عينيها في استعداد للنوم والاسترخاء.
اغلق أحمد حاسوبه وسألها حينما وجدها تتمدد بالفراش: هتنامي يا فريدة؟
أجابته بعدما توسدت وسادتها: أيوه، من وقت ما رجعت من القصر وأنا مرهقة، بس كان لازم اروح عشان أشرف على التجهيزات بنفسي، أنت متعرفش انا متحمسة اد أيه أني هرجع وهعيش فيه من تاني.
ابتسم وقال: لو أعرف إنك هتكوني سعيدة بالشكل ده كنت خليتك نزلتي مصر من تاني يوم جوازنا على قصر الغرباوي فورًا.
كادت بأن تجيبه ولكن قطعها صوت طرقات باب الغرفة، وما أن سمح أحمد للطارق بالدخول حتى ظهرت شمس قبالتهما تردد على استحياء: هو أنا ممكن أقعد هنا النهاردة بس!
ازاحت فريدة عصبتها، وراقبتها باسترابة: إنتِ كويسة؟
اتجهت أليها مسرعة، ترافقها بالفراش، وقالت: لا، مش كويسة نهائي، أنا مرعوبة من لحظة رجوع عمران بعد اللي عملناه فيه، فالاحسن إني أكون هنا النهاردة ده لو أحمد باشا ممنعش وجودي.
اغلق حاسوبه وحمله بين يديه، قائلًا بعتاب: أيه اللي، بتقوليه ده يا شمس، الاوضه كلها تحت أمرك.
شكرته بحرج: ميرسي يا أنكل.
منحها ابتسامة جذابة، واتجه ليغادر الغرفة، فما ان فتح الباب حتى تفاجئ بمايا قبالته، تطالعه بارتباكٍ جعل احمد يقول ضاحكًا: مالك إنتِ التانية يا مايا، هربانه من عمران على هنا إنتي كمان ولا ده سوء ظن مني؟
هزت رأسها ترفض وتؤكد حديثه، وهي تردف: هربانة يا أحمد باشا وطالبة حمايتك!
أتاها صوت شمس من الداخل تشير لها: ضمي جنب أخواتك!
جلس على مقدمة سيارته يراقب ساعته باهتمام، يود أن يلتقي به ويتجه سريعًا ليجتمع مع الشباب بافتتاح الجيم الخاص بايثان، وإلى الآن يحمل من آيوب سبعة مكالمات ورسالة يستعلم منها عن سبب تأخيره.
وضع آدهم الهاتف بجيب جاكيته وأخذ يراقب جرف المياه المنهمر قبالته على بعد سفح الصخور العالية بحزن، وبينما ينغمس بشروده فإذا بصوت مقبض يحوم من حوله: مليت من قبل ما تستقبل تفاصيل مهمتك يا حضره الظابط؟
استدار، للخلف سريعًا فوجد الاسطورة يقف قبالته بكل كبرياء وعنجهية، أدى تحيته بكل احترام وقال: أنا جاهز لكل اللي تؤمر بيه يا باشا.
ابتسامة رضا شقت الطريق على وجه رحيم، واتبعها قوله الغامض: وده اللي أنا عايزه، شخص مطيع وجريء في نفس الوقت.
وأخرج من جيب معطفه البني فلاشة صغيرة قدمها إليه، وبابتسامته المخيفة قال: اجهز للي جاي يا آآ. يا عريس!
التقط منه الفلاشة وعينيه لا تفارقها، وكأن مصيره بأكمله ختم داخلها، بينما تنحل كافة الأربطة وتدفعه لبوح الحقيقة إلى أيوب قبل أن يسافر لتلقي ذاك المصير المقبض!