رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي والثلاثون
راقب علي أخيه وهو يلتهم الحلوى بنهمٍ واستمتاعًا غريب، بينما تتابعه مايسان بنظرة محتقنة جعلته يجذب أحد المحارم ويزيل ما بأصابعه وانحنى يجذب مقعدها إليه بطريقة أفزعتها.
أبقاها مقابل مقعده وردد بابتسامة واسعة: حبيب قلبه لسه شايل الهم ليه، يا قلبي إنتِ جوزك عمران الغرباوي قاصف الجبهات وبالذات جبهة نعمان الملزق، اطمني ومتخافيش لو قال لفريدة هانم حاجة أنا هدافع عنك لأخر نفس. ده لو عنده الجرأة إنه يقولها أساسًا.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ من جراءة حركته، فأبعدت ذراعيه عنها وتراجعت بالمقعد لمكانه الصائب أمام مقعد على الرئيسي.
هز على رأسه بمللٍ من تغير أخيه الوقح، ومال بجسده لحافة مكتبه الزجاجي يخبره بجدية تامة: هدي اللعب شوية يا عمران، إنت عارف إن فريدة هانم بتتضايق جدًا من الصراعات اللي بينك وبين خالك، بلاش تضايقها وبالأخص بالفترة اللي هي بتمر بيها، خلي الكام يوم اللي هيقعدهم معانا يمروا بسلام.
احتدت معالمه بشدةٍ، وانجرف بمقعده يقابل أخيه، هاتفًا باستنكارٍ: أنا اللي بخلق مشاكل بيني وبينه يا علي! خالك الملزق ده مش بيفوت فرصة واحدة غير وبيحاربني فيها. كل هدفه إنه يسيطر على شركة العيلة عشان يكون المساهم الأكبر فيها!
وتابع بغيظٍ يزيد من قتامة نبرته: واللي مضايقني بجد إننا كلنا كاشفين حقارته الا فريدة هانم الوحيدة اللي شايفاه ملاك بأجنحة!
لا يا عمران. فريدة هانم أكتر واحدة فاهمه خالك وفاهماه كويس أوي كمان.
حطم على ثقة أخيه بعدم معرفة والدته لأهداف ذاك اللعين، فابتسم ساخرًا وفاض: ولما هي عارفة قذارته دي ساكتة ليه. ماسك عليها شيء بجبرها إنها تتعامل معاه وتستقبله في بيتها كل اجازة ينزلها!
تغاضى عن سخريته لعلمه كم يكره أخيه ذاك الرجل الذي لم يترك أي فرصة الا وحاربه بكل قوته لإنه يعد الشوكة العالقة بحلق نعمان، على عكس على البعيد كل البعد عن مجال عمل عمران والذي نفسه مجال عمل نعمان الغرباوي وأحمد الغرباوي وباقي العائلة، لذا أجابه بعقلانية: مش ماسك حاجة عليها يا عمران، فريدة هانم بتحاول بكافة السبل تحافظ على علاقتها بنعمان لإنه أخوها الوحيد اللي اتبقالها من كل عيلتها، بعد وفاة خالتك وجدتك مبقاش ليها حد غيره، بتتجاهل كل تصرفاته لإنه أخوها الوحيد.
سكنت معالم وجه مايسان بحزن، وأجلت صوتها الخاضع لفترة صمته: بس يا على سكوتها خلاه يتمادى. إنت مشفتهوش وهو بيكلمني الصبح ازاي. مصمم إنه يخليني أبيعله نصيب مامي الله يرحمها وعنده ثقة غريبة إنه هيقنع خالتي تبيعله نصيبها.
طرق عمران المكتب بعصبية جعلته يهتز من أمامهما: ده على جثتي. عمري ما هنوله اللي في باله أبدًا.
وتابع وهو يحدق بوجه أخيه: هو مش مدرك إن اللي عايزه ده هيتسببله في خساير ملهاش أخر، طول ما أنا شريك ليه مش بيعرضه إنه يكون منافس ليا، يوم ما فريدة هانم تخضعله وتبيعله نصيبها هيكون نفس اليوم اللي هواجهه في السوق ونشوف بقى ساعتها هيقدر يصد ولا هيجيب ورا.
مسح على وجهه بعصبية بالغة، يحاول جاهدًا التشبث بطائفة من الصبر ولكنها تنفذ منه الآن، فقال بنزقٍ: عمران إعقل وبلاش مشاكل مع خالك، صدقني فريدة هانم حالتها متسمحش لكل اللي بيحصل ده.
تريث قليلًا بانفعالاته المقتضبة حينما تذكر حالتها وبكائها بين ذراعيه، لانت تعابير وجهه بطريقة مدت الأمل لعلي وقد تسنى له معرفة شيئًا يخفيه عنه عمران، حسنًا هو الآن على ثقة بأنه يعلم مقصده عن حالة والدته جيدًا.
اكتفى عمران بهزة بسيطة من رأسه توافق على حديث علي، وانتصب بوقفته بكل عنجهية مشيرًا لزوجته: يلا يا مايا.
نهضت تجذب حقيبتها، فجذب على مفاتيحه ولحق به قائلًا بفضول: على فين؟
اجابه وهو يحرر باب غرفته: هرجع البيت أغير هدومي علشان حفلة افتتاح عيادة دكتورة ليلى، أوعى تنسى يا علي، يوسف هيزعل لو مجتش.
أغلق الباب فور عبورهم للخارج، وقال: كويس انك فكرتني، هخلي فاطيما تلبس وهنحصلكم على طول.
هز رأسه بخفة، واستدار إليه يخبره بعدما تذكر أمر أيوب: أنا هغير وهنزل على طول وإنت ابقى هات معاك مايا لإن في مشوار مهم جدًا لازم أعمله الأول.
أجابه ببسمة جذابة: مفيش مشكلة، روح إنت مشوارك ومتقلقش.
منحه ابتسامة ممتنة قبل ان يحيط بخصر زوجته ويتجه للمغادرة للمنزل، ومن خلفه على بسيارته.
ما أن حرر السائق باب السيارة لفريدة وشمس حتى هرولت للمبنى راكضة وقلبها يتقافز كالطفلة الصغيرة، هبط أحمد يغلق زر جاكيته الأسود وإتجه بخطواتٍ متوازية مقدمًا يده لفريدة بحركةٍ لا يفعلها سوى الرجل الملقب بين فئة النساء (جنتل مان).
منحته ابتسامة رقيقة وهي تمد يدها الملتفة بملبس اليد الحريري الأسود الذي يصل لمنتصف ذراعيها، لتقف أمامه بتنورتها البيضاء وجاكيتها المماثل، وقبعتها التي أضافت لطالتها لمسة تعيد زمن انتهى بحرافية طالته وجمال لمساته.
خلعت فريدة عنها معصم اليد ووضعته بحقيبتها المعلقة على ذراعها، وخطت جوار أحمد برشاقة وانسيابية تاركة كعب حذائها المرتفع يطرق صداه على الأرضية، بينما نظرات ذاك العاشق تحيط بها ويده تشدد من ضم كف يدها الرقيق.
انسجما كثنائي متوافق، بالرغم من أنهم ليس كهؤلاء المراهقين ولكن انسجامهما معًا كان رائعًا، وكأنهما هربوا معًا من فيلمٍ قديمٍ بلونه الأسود والأبيض.
صعدوا الدرج قاصدين الطابق الثالث، فابتسم أحمد بسخرية وهو يراقب شمس التي تسبقهما بطابقٍ كامل، وصاح بمشاكسة: اطلعي بهدوء يا شمس، عارفين إنك واقعة في حب سيادة الرائد وبالشكل ده هتقعي في حضن المستشفى كام يوم، انتبهي لخطواتك.
توقفت عن الصعود بخجل من سماع صوت ضحكات والدتها وعمها، فادعت اتزانها الغير موجود، وحملت طرف فستانها بشكلٍ راقي اعتادته من والدتها ثم صعدت بخطواتٍ بطيئة نسبيًا، ورغمًا عنها عادت لنفس سرعتها السابقة حتى وصلت أمام باب الشقة تدق الجرس بفرحة عارمة وشوقًا يزين عينيها لرؤيته.
وصل أحمد وفريدة للطرقة المتصلة بالطابق العلوي، فبدت زواية الشقة وجسد شمس واضحًا لهما، فهمس لفريدة ببسمة ماكرة: في علاقة حب من الطراز الأول كانت بتم من ورا ضهرنا يا فريدة هانم.
تابعت فريدة لهفة ابنتها لرؤية ذاك الشاب ببسمة هادئة، فانتقلت بنظراتها لأحمد الواقف قبالتها يراقب شمس عن بعد، وقالت بألم استكشفه هو: يا رب ميجرحهاش يا أحمد ويكون يستاهلها.
أتاهما صوتًا رجوليًا يقتحم آذانهما فرفعوا أبصارهما تجاه باب الشقة، فوجدوه يقف قبالة شمس يردد بصدمة: شمس! أيه اللي جابك هنا؟!
وخرج لها يوارب باب الشقة ويهاتفها بانزعاجٍ وضح لفريدة وأحمد المتابعان للمشهد برمته: أنا مش نبهت عليكي يا شمس إنك متحاوليش تتصلي بيا تقومي تجيني هنا في شقة كلها شباب! عايزة تزعلي دكتور على مني وتكسري ثقته اللي حطاها فيا!
كانت مغيبة أمامه تستكشف بعينيها ملامح وجهه، وتنزلق لكتفيه العاري البادي من قميصه المفتوح، تتفحص جرحه الملتف بشاش أبيض بنظراتٍ حزينة، فدنى منها هو يخبرها برفقٍ حينما إلتمس حزنها وتأثرها برؤية اصابته ومازال أحمد يتابع ذلك الشاب بإعجابٍ تسرب له من رجولته الظاهرة لهما دون حتى أن يعي بوجودهما: حبيبتي أنا كويس والله، عشان خاطري تمشي من هنا مش حابب دكتور يوسف أو حد من الشباب يشوفك هنا معايا، كلها كام يوم وهجي أقابل فريدة هانم وهقنعها بجوازنا بس لحد ما ده يحصل حافظي على مسافة بينا لإني مش هتحمل مخلوق يجيب سيرتك بكلمة.
أتاه صوتًا أنوثي رقيق يجيبه: وفريدة هانم جتلك بنفسها لحد عندك يا سيادة الرائد.
انجرفت عينيه للدرج فتفاجئ آدهم بوجود فريدة وأحمد الغرباوي قبالته، ضم شفتيه بارتباكٍ لاندفاعه بالحديث مع شمس دون أن يستدير حتى جانبه، ففتح الباب الموصود من خلفه ونظف حلقه بتوترٍ: أهلًا وسهلًا فريدة هانم، أنا بعتذر منكم مخدتش بالي أنكم مع شمس، اتفضلوا.
استكمل أحمد وفريدة طريقها للأعلى، فمد يده يصافح كف آدهم قائلًا بلباقة لا تليق سوى به: مفيش داعي للاعتذار يا حضرة الظابط، اللي عملته من شوية ده هيسهل علينا بموضوعنا اللي جينلك عشانه.
فهم مغزى حديثه بسهولةٍ، فتقوس فمه ببسمة هادئة، وأعاد الاشارة لهم: اتفضلوا.
ولجت شمس برفقة فريدة ومن خلفهما أحمد وآدهم الذي أغلق الباب واتبعهم للصالون بخطوات حذرة لا تزيد من تألم جرحه.
جلس قبالتهم ويده تغلق أزرار قميصه بحرجٍ من خروجه بتلك الهيئة، وازدادت ربكته من نظرات الحب القابعة داخل مقلتيها، وكأنها تحاربه بكل أسلحتها ليتجرد من رداء ثباته ويهرع ليضمها لصدره.
كان أحمد اول من قطع ذاك الصمت المربك، فقال بابتسامة جذابة ورماديته تحتضن شمس: كان عندها حق تنجذب ليك يا سيادة الرائد، والحق يُقال إختارت راجل. قادر يصونها ويحفظها في أي لقاء بيجمعهم.
تجلى له تخمين منظور الأمر الغائم حول جملته، هو ليس إنسانًا عاديًا، عمله حتم عليه ألا يكف عقله عن دراسة أي منظور، فأجلى آدهم صوته أخيرًا حينما قال: مكنش في لقاءات بتجمعنا يا أحمد باشا، علاقة شمس بيا سطحية جدًا، يمكن مهمتي هي اللي أرغمتنا نكون في مكان واحد.
ابتسمت فريدة بإعجاب، يدافع عن ابنتها وكأنهم يلقون عليها تهمة قد تعرضها لعقابٍ قاتلٍ، لم تنكر بأنها كانت فضولية لمقابلة ذاك الشرطي الذي فاز بقلب ابنتها، وها هي تحمد الله عز وجل بأن فتاتها اختارت مثل هذا الرجل الذي سيجعلها تضع يدهت بيده باطمئنان.
انطلق صوتها الانوثي ينغرس بأحاديث زوجها قائلة: شمس حكتلي كل حاجة يا سيادة الرائد، وده اللي دفعني أجيلك بنفسي النهاردة وأشكرك على انقاذك وحمايتك لشمس أكتر من مرة.
خطف آدهم نظرة سريعة لشمس المبتسمة، يلتمس بها إلى أي حد أخبرت والدتها وبناء عليه سيتم تحديد مجرى الحديث بينهم، هل سيتعامل برسمية شديدة أم سيخوض حديث من نوع أخر؟
ينجح دائمًا بقراءة ما تلقنه عينيها، فعاد بنظراته تجاه فريدة وقال بصوته الرخيم اللبق: فريدة هانم زيارة حضرتك أنتِ وأحمد باشا ده شرف عظيم ليا، إتعودت في شغلي ان الفرصة اللي تقربني من هدفي أستغلها صح لإنها مش بتتكرر تاني، فبما إن فرصتي جتني لحد عندي فتسمحيلي أطلب من حضرتك إيد شمس وطبعًا أنا كنت أتمنى إني أجي أطلبها بنفسي بس صدقيني مش عارف اذا كنت هتحمل لحد ما استعيد عافيتي ولا لأ، حاسس بقلق وتوتر من البعد بجربهم لأول مرة.
استدارت فريدة لأحمد ومنحته ابتسامة واشارة خفيفة جعلته ينوب بالحديث عنها مقدمًا تهنئته المسبقة: انت اختيار شمس يا حضرة الظابط يعني القرار اتاخد من عندها من قبل ما تطلب، فاسترد صحتك وأول ما تقف على رجليك مستنينك.
تهللت تعابير وجهه بفرحة، واتجهت نظراته لشمس المبتسمة بسعادة، طال بتأملها بعشق جعله يعي لذاته فتنحنح بحرجٍ من نظرات فريدة وأحمد له، ثم قال: أنا نازل مصر في نهاية الاسبوع ده عشان والدي محتاجني جنبه، فأنا كنت أكتب كتابي على شمس قبل سفري ونعمل الفرح بعد تخرجها.
ضحك أحمد وصاح مشاكسًا: حيلك حيلك يا سيادة الرائد، مالك داخل على طمع كده ليه، إحنا لسه بنتكلم على خطوبة تدخل على جواز وكتب كتاب!
ابتسم وكاد بأن يجيبه فقاطعته فريدة قائلة: وأنا موافقة. قبل سفرك بيوم هيكون كتب كتابك على بنتي، بعد اللي شوفته وسمعته على باب بيتك من شوية يخليني أسلملك بنتي وأنا مطمنة يا حضرة الظابط.
تركت شمس الأريكة وهرولت لفريدة تنحني على ذراع المقعد وتضمها إليه مرددة بسعادة: روح قلبي يا مامتي، أنا بحبك أد الكون كله.
ضحكت برقة وخاصة حينما ردد أحمد بخبث: بتحبيها بردو ولا واقعة في غرام سيادة الرائد وجاي على هواكِ فن استغلاله الفرص.
تلون وجهها خجلًا وخاصة حينما وجدته يبتسم لها، فقال آدهم بحب يتمرد بنبرته الدافئة: أنا بشكركم جدًت على تفهمكم وبوعدكم إني هحميها بروحي، وهقدملها السعادة والفرح وهكون ليها العوض عن كل شيء شافته مع راكان الكلب.
تحلى أحمد برزانته وهدوئه، منحه ابتسامة هادئة قائلًا: ربنا يخليكم لبعض وميفرقش بينكم، الفراق أصعب شيء ممكن يهدم أي قصة حب. واللي بينكم كبير يا آدهم عشان كده حافظ عليها.
واستدار بجسده للخلف ليؤكد على شمس: وانتي كمان يا شمس حافظي عليه.
ومن ثم أشار لفريدة التي تتمعن بمضمون كلماته: فريدة هانم مش يلا. كده هنتأخر ومش هنلحق نتفرج على البيت.
هزت رأسها إليه وهي تنهض لتنضم إليه، فودعهم آدهم بحبورٍ، واتجه برفقتهم للأسف غير مباليًا باعتراضات أحمد وفريدة واصرارهما على بقائه ليرتاح قليلًا ولكنه رفض بشدة.
وقف يراقبهم وهم يعتلون السيارة البيضاء، حتى غادروا من أمامه وأخر ما تسنى له رؤية كفها الرقيق يلوح له بوداعٍ مؤقت أرق قلبه وجعله يخفق دون رحمة، فمسد على صدره كأنه يطبطب على قلبه ليهدأ قليلًا عن عنف دقاته على وعد بأن اللقاء سيكون قريب بينهما حينما تصبح زوجة تحل له!
هائمة هي بغرفتها، يحاوط ساقيها جسدها، وتندفع إليها ذكرى جمعتها بمن ظنته الحبيب المقدر لها لنجدتها من تلك الوحدة القاتلة التي تخوضها بوجود شقيقها.
الآن تقضي أوقات سعيدة برفقته، يشملها باهتمامه وعاطفته وحنانه الدائم، تجده كاملًا لا عيبًا فيه يذكر، وها هي الآن تجلس برفقته تعود بعد يومًا ممتعًا قضته برفقته، فتأخرت لموعدها المسموح لها بالعودة به، وكالعادة اقتص منها أخيها بأن أذاقها الويل من ضرباته المؤلمة، فاتجهت لجامعتها في صباح اليوم التالي تخفي وجهها خلف نظارة سوداء قاتمة تخفى كدمة عينيها ولكنها لم تتمكن من اخفاء السيل النازف جوار شفتيها.
وحينما انتهت محاضراتها واتجهت للرحيل وجدته يقترب منها بسيارته الفاخرة، وهبط منها يدنو إليها بابتسامة جذابة ومشاكسة قوله: واخده في وشك وماشية من غير ما ترقبي الطريق وتتأكدي إذا كنت جتلك النهاردة ولا اتشغلت، قلبي لمحك وادالي إشارة انك خرجتي.
ارتبكت زينب للغاية، واستدارت بنصف جسدها إليه حرجًا من رؤيته لشفتيها المتورمة، وقالت متصنعة الابتسامة: يمان معلش أنا لازم أرجع البيت بدري النهارده، هشوفك بعدين.
وأسرعت بخطواتها فرارًا منه، فلحق بها يناديها باستغرابٍ: زينب!
لم تهدأ خطواتها السريعة، وبداخلها تدعو الا يتمكن من أن يلحق بها مع أنه صار خلفها بالتحديد، وحينما عجز عن ايقافها جذب ذراعها إليه وصاح بانفعال: في أيه؟ بتهربي مني ورافضة تقفي تتكلمي معايا ليه؟
أخفضت رأسها أرضًا عنه تنتحب بصوتٍ منخفض متألم دفعه لرفع ذقنها هاتفًا بحدة: بتداري نفسك مني ليه يا زينب؟!
برق بحدقتيه بصدمة حينما وجد شفتيها متورمة للغاية، نزع عنها نظارتها الشمسية ليتلقن صفعه أخرى حينما لمح تلك الكدمة الزرقاء تحيط بعينيها، فصاح بانفعال شرس: أخوكي اللي عمل فيكي كده صح؟
اكتفت بهز رأسها والحرج والخذلان ينعكسان عليها دون راجع، كاد يمان أن ينطق بما هاجمه من سباب لعين يطول شقيقها ولكنه تراجع وادعى ثباته الزائف، مشيرًا بيده لسيارته: طيب اركبي.
اعتراها الخوف وتقاذف إليها كل ما امتلكته من مشاهد متقطعة لضربات أخيها المؤلمة لها، فرددت بهلعٍ: لأ. لأ أنا هرجع البيت قبل ما يرجع وبعدين نتقابل.
اكتفى بهز رأسه والغموض المخيف يقمع داخل مقلتيه، عادت زينب لمنزلها هذا اليوم، وعلى غير العادة تأخر شقيقها بالعودة، وحينما عاد صُدمت من كثرة الكدمات والاصابات القاتلة المحدثة به، يدلف للمنزل مستندًا على يد اثنين من الجيران، وأحدهما أخبرها بأن هناك بلطجية سرقوا ماله وهاتفه وأبرحوه ضربًا، ربط عقلها ما حدث لشقيقها بحديثها بيمان بالصباح، جحظت عينيها صدمة من تفكيرها فهزت رأسها تنفي ما يعتريها ويبعد شكوكها عن أن يمان هو الفاعل!
استفاقت من شرودها على هزة يد فاطمة، انتفضت زينب بجلستها وكأن مسها جان، فأسرعت الاخرى باخبارها: انتي سرحانه في أيه يا زينب بقالي ساعة بناديكي!
وانحنت بجسدها إليها تخبرها: اقفلي ستوسة الفستان مش راضية تتقفل
ازاحت الغطاء عن جسدها، واعتدلت تغلق سحاب فستان أختها متسائلة باستغرابٍ وهي تراقب ملابسها: انتي خارجة؟
اتجهت للسراحه تستكمل ارتداء حجابها والتفت برأسها تجيبها: على كلمني وطلب مني أجهز علشان أروح معاه حفلة افتتاح عيادة دكتورة ليلى زوجة دكتور يوسف صديق عمران.
هزت رأسها بخفة، وعادت تتمدد على الفراش بحزن وتجهم يعتلي ملامحها دون راجع، انتبهت لها فاطمة فاتجهت لها تسألها بقلقٍ: مالك يا زينب؟
ابتلعت ريقها المرير ومالت برأسها على قدميها تضم ذاتها وصوتها الهزيل يخبرها: أنا كويسة يا فاطيما حاسة بس بشوية ارهاق.
جلست جوارها ومدت يدها تجذبها لحضنها وقلقها يزداد بالتدريج: طمنيني عليكي يا زينب حاسة إنك مش كويسة وبتحاولي تبينلي عكس كده، فيكِ أيه بتدفنيه جوه عينك وبتحاولي تداريه بكل طاقتك عني.
تمسكت بها وكأنها طاقة نور بعد ظلامها الدامس، وانفرطت بنوبة من البكاء لا تعلم سببه، ودت لو بقيت بأحضان شقيقتها لأخر عمرها، وبالرغم من أنها هي الهزيلة، الجريحة، المفتقدة إلى لمسة حنونة تضمها الا أنها الآن هي من تقوم بتقديم الدعم بكل ما فيها لشقيقتها، فربتت عليها وببكاءٍ قالت: مالك يا قلب أختك؟ احكيلي عن اللي مضايقك.
رفعت أصابعها تزيح دموعها عن مقلتيها، وزيفت ابتسامة شاخصة تخادعها: أنا كويسة يا فاطيما، أنا بس مفتقدة لبابا وماما ربنا يرحمهم ويغفرلهم.
اعتلى الحزن معالمها، مازالت تتعافى من عدة طعنات منهم فراقها عن والديها وأخرهم معرفتها بوفاة أبيها، تحرر صوتها القابع داخلها: ومين مبيفتقدش أبوه وأمه حتى وهما حواليه يا زينب، ادعيلهم بالرحمة والمغفرة يا حبيبتي، وبلاش تعيشي نفسك في حزن وقهر هيقضي عليكي وعلى نفسيتك. صدقيني مفيش وجع بالدنيا كلها زي وجع النفسية بتحسي روحك بتروح ونفسك بيضيق، بتوصلي لمرحلة إن كل اللي بيدور حوليكي بيكون مشفر ومش ملموس مجرد خطوط بيضة بتحاوطك بالرغم من إن نظرك سليم وقوي، عشان خاطري فوقي وبلاش تسمحي لأي شيء جواكي سواء وفاة بابا وماما أو شيء تاني يكسرك ويوصلك للحالة المخيفة دي أنا مرت بيها وعارفة أد أيه هي قاسية ومتمناش لحد يعيش فيها أبدًا.
أزاحت دموعها بقوة اكتسبتها من حديثها الذي صفعها بحقيقة الأوجاع الذي تحملها فاطمة، فهي ليست بحاجة لوجعٍ أضافي حتى تحتمل وجع زينب، فرسمت ابتسامة واسعة وهي تخبرها: لا خلاص مفيش عياط تاني، حتى شوفي!
ارتسمت ابتسامة رضا على ملامح وجهها وانحنت تطبع قبلة على خد أختها، مرددة باستحسانٍ: شطورة يا دكتورة زينب، ودلوقتي قومي يلا إلبسي علشان تيجي معانا الحفلة، على مصمم انك تيجي معانا بس لما دخلت ولقيتك نايمة قولت أسيبك ترتاحي لانك طول اليوم بالجامعة.
كادت بالاعتراض والتحجج بأي شيء أوقفتها باصرار وعناد: مش هسمع حاجة، هتقومي حالًا وهتلبسي فستان شيك من اللي ادتهملك.
وتابعت بارتباكٍ تمكنت زينب من الشعور به بحديثها: أنا محتاجالك جنبي يا زينب، أنا مش بحب الاختلاط بحد ودي يعتبر من المرات القليلة اللي هنخرج فيها فعايزاكِ جنبي.
احتوت وجنتيها بيدها، وبحنان ورقة قالت: أنا جنبك يا فاطيما وعمري ما هتخلى عنك. اديني نصاية وهكون جاهزة.
اومأت برأسها ونهضت تحمل طرف فستانها قائلة: هستناكِ تحت. متتأخريش.
وتركتها فاطمة وهبطت للأسفل تنتظر عودة علي، فجلست على الأريكة المقابلة لدرج المنزل الرئيسي، تحرك رأسها تلقائيًا تجاه صوت الحذاء المسموع لها، اعتلاها التعجب فهي تعلم بأن فريدة وأحمد وشمس بالخارج ولا يوجد غيرها هي وشقيقتها بالمنزل.
انتفضت عن مقعدها بذعرٍ حينما وجدت رجلًا غريبًا يهبط الدرج ويتجه إليها، يتفحصها بنظرة سلبت الروح عن جسدها الذي بات هزيلًا، بشرتها قد شحبت وانتهى الأمر، قلبها يخفق بضعف وكأنه سيتوقف بأي لحظة.
منحها نعمان نظرة متفحصة من رأسها لأخمص قدميها كأنه يقيمها بنظرة متعالية، ليرضي فضوله حول تلك التي ولجت لعائلتهم الآرستقراطية محيطة بكبير أبناء سالم الغرباوي، فردد بتهكمٍ ساخرٍ: انتي بقى مرات علي!
ارتجف جسدها من نظراته التي دفعت لها بأنها عارية لا ترتدي ثيابًا، اندفع نحوها بخطواتٍ متهدجة، هاتفًا بسخرية: أيه شوفتي عفريت!
تراجعت للخلف لا اراديًا، فاصطدمت بجسدٍ صلبًا من خلفها يعيق عن سقوطها ويردد بلسانٍ كسواط الحاد: الله وكيل إنت خلقتك تتوب الشياطين عن أشغالهم يا خال!
امتعضت معالم وجهه حينما وجد عُمران يقابله، ولجواره مايسان، وما لبث سوى ثوان حتى فرغ علي من صف سيارته بالخارج فانضم اليهم واستمع لنعمان يردد ساخرًا: أمال إنت متوبتش ليه اما شوفت خلقتي؟
لوى فمه بازدراء وكره مبين، مرددًا: أما أنا أتوب مين يلقنك دروس الردح وقصف الجبهات يا خال؟
تخطاه نعمان واتجه إليها يقدم يده لها، قائلًا بسخط: مش هتسلمي عليا ولا متعلمتيش الذوق في بلدكم.
اقتتمت ملامح علي الذي يراقب ما يحدث من دخلة باب المنزل، فكاد بالاندفاع للداخل ولكنه توقف حينما وجد عمران يقدم يده بيد خاله مرددًا بابتسامة ساخرة: متأخذناش يا نعمان. مرات أخويا لسه في حالة صدمة مراتي قدرت تتخطاها في كام دقيقة لانها متعودة على الخلقة العكرة دي لكن مرات على محتاجة فرصة تتقبلك.
سحب نعمان يده بعنفٍ اهتز جسد عمران لاجله، فتابع بخبث: قولتلك لما تظهر لحد متظهرش مرة واحدة، خدها مراحل وإن شاء الله المرحلة الاخيرة ينفجر مقياس القبول ليك عند الناس في وشك وتلاقيه بيقولك جيم أو?ر بالبنط العريض!
كبتت مايسان ضحكاتها بصعوبة بالغة، ومازالت تقف خلف ظهر عمران يضم جسدها من الخلف بذراعٍ والذراع الأخر يقترب من فاطمة المرتجفة من خلفه، وكأنه محاربًا شرسًا يقف بساحة القتال يحارب وحشًا مخيفًا ومن خلفه يضم أفراد عائلته.
احتقنت معالم وجه نعمان، وصاح بعصبية بالغة: أتأدب معايا في الكلام يا ولد والا هآآ...
قطع عبارته حينما تعالت ضحكات عمران وبمشاكسة صاح: هتآيه يا خال؟
واسترسل بصوتٍ منخفض كان مسموعًا بوضوحٍ متعمد: لولا البنات واقفين كنت قلعت القميص ووريتك أخر مهاراتي في الجيم وصلت جسمي لفين، وقتها هتشوف الفرق بين الطفل الصغير اللي كنت بتتشطر عليه وبين عمران الغرباوي اللي واقف قدامك وأوعدك بعدها هتخدها عوم لمصر.
انفلتت ضحكات مايسان عن مسار صمتها مما جعل الاخير يحتقن بغيظٍ فصاح بغضب: أيه كلامه جاي على هواكي يا بنت عثمان؟ بكره نشوف نهاية اللي بينكم أيه مش بعيد تلاقيه رجعالك بليل مع واحدة من اللي بيشقطهم.
اتسعت ابتسامة عمران مما زاد ضجر الأخير واستسلامه من أن يصيبه بأي هدف، وخاصة حينما ردد: مالك بيها يا نعمان كلامك معايا أنا. وبعدين ما أنا أكيد هرجع بليل بنسوان بس مش ليا، هختارلك على ذوقي وهوصيهم يدلعوك يا خال بس يا رب يجي بفايدة. على الأقل كسفتك وفضحتك تندفن هنا وسط الاجانب بدل ما المصريين يطلعوك المسرح ويسفوا عليك لحد ما يبانلك صاحب وساعتها الكل هيتبرى منك زي ما بيحصل دلوقتي كده.
تصببت الدماء من أوردته وانفجرت بوريده الغاضب: انت بتقول أيه يا ابن الآآ...
قاطعه بصرامة مقبضة: هتشتم وهتقل أدبك تطلع برة البيت ده، أنا مش ناسي قذارتك اللي كنت بتعملها معانا في غياب فريدة هانم، بس ده كان زمان يعني ماضي وانتهى وحاليًا الحاضر والمستقبل ليهم شكل تاني يا نعمان.
أسرع علي إليهما حينما وجد الامور تحتد عت مسارها، انزوى بينهما يدفع عمران للخلف بحركة سريعة، وقابل الاخير ببسمة يرسمها بالكد قائلًا: حمدلله على سلامتك يا خالي. نورت لندن.
منحه نظرة بغيضة مردفًا بسخطٍ: مهو باين من وقاحة أخوك. ربي أخوك يا دكتور.
كاد بأن يطعنه بكلمة تقصف جبهاته للمرة الربعمائة ولكن منعه على حينما صاح بحزمٍ: عمران. اطلع غير هدومك عشان تلحق مشوارك وأنا هجيب مايا وفاطيما وهحصلك.
سدد له نظرة أخيرة وهمس إليه بنزقٍ: تلاشاني عشان متعضش ايدك ندمًا يا خال!
وأشار لمن خلفه ببسمة كادت بأن تصيب نعمان بذبحة صدرية: حبيب قلب جوزه بعتذرلك على التلوث السمعي ده، ولو أمكن نتحرك على فوق بسرعة قبل ما التلوث يبقى بصري وكلي!
دثت يدها بين يده وصعدت برفقته للاعلى، أما على مازال يقف قبالة نعمان يتحكم بضحكاته بصعوبة جعلت وجهه محتقن بحمرة زادت من جاذبيته، فما أن عاد نعمان بنظراته إليه حتى بدد كل تعابيره لجدية تامة قائلًا بمكر: معلش يا خالو. إنت عارف عُمران لسانه طويل بس قلبه أبيض.
لوى شفتيه بتهكم: مين يشهد على العروسة ياخويا، هغور على اوضتي أريح شوية عما الهانم أختي وجوزها يرجعوا يشوفولي حل مع الوقح ده.
وتركهما وصعد للأعلى مجددًا، بينما استدار على ليقابل زوجته المرتبكة من وجود ذلك الرجل الغريب، فدنى منها يفرق ذراعيه مرددًا بهمسٍ خافت: متخافيش يا حبيبتي. خالي فيه العبر بس عينه مبتترفعش في ست.
وأضاف مازحًا وهو يضمها بقوة لتلامس أنفاسها عنقه سامحًا لذاته استنشاق أنفاسها: تأكدي طول ما أنتي بعيدة عن أي مسمى يجمعك بعمران أخويا فأنتي بمنطقة الأمان بالنسبة لنعمان الغرباوي لانه اتخلق يكره عمران وأي شيء يخص عمران واللي قاتله إن عمران أستاذه ومعلم عليه بالجامد أوي، فلو حسيتي بتوتر من الخال الملزق إلجئي لعمران هو الوحيد اللي بيعرف يعمله استوب لذا هو عمنا وعم عيلة الغرباوي لأخدان الحق بالردح وبفردة الصدر!
انفجرت ضاحكة بين أحضانه فشاركها بقهقة مرتفعة، فتجمد فجأة قبالتها حينما تسلل له صوت فريدة الغاضب: أيه اللي بتقوله لمراتك ده يا علي؟!