قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي والتسعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي والتسعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي والتسعون

وجود الشيخ مهران جوار مصطفى بتلك اللحظة كان بمثابة ضمادة طبية، شُفيت جروحه، بل كان راضيًا، شاكرًا لله أن ابنه الوحيد مازال على قيد الحياة.

وها هو يعود برفقته للمنزل من جديد، بعد أن مر الطبيب عليه بحضور الشباب بأكملهم، فأعاد الكشف على جرحه، وحينما اطمئن على وضعه الصحي، قبل بطلب آدهم بعودته للمنزل، وبالفعل عاونه الشباب حتى عاد لمنزله من جديد، وبعد ان قضوا برفقته القليل من الوقت، غادر الجميع لأعمالهم ولم يتبقي برفقته سوى زوجته وأخيه الذي أصر أن يبقيه، مستغلًا حالته لإبقائه جوار أبيه قدر ما تمكن.

وانتهى الأمر ب آيوب وهو ينتقي من بين ملابس أخيه المناسب له، فجذب ترنج رياضي باللون الأسود، واتجه للفراش حيث يجلس آدهم بانتظاره ليرتدي ما جلبه إليه.
انحنى آيوب يعاونه على ارتداء بنطاله، ثم جذب التيشرت يضعه فوق رأسه، وبعناية فائقة حرك يده مع مراعاة عدم المساس بجرحه، بينما تموج من عينيه دمعة خانته لرؤية اصابة أخيه عن قرب، وبوضوحٍ تام.

ابتسم آدهم وانصاع لذراعه الذي يدفعه برفقٍ للوسادة، وهتف بامتنانٍ: شكرًا يا بشمهندس.
أزاح دمعاته وعاون نفسه على إلتقاط أنفاسه بهدوءٍ، لا يود أن يكشف آدهم أمره، جاور جلسته وقال مبتسمًا: أنا تحت أمر معاليك يا حضرة الرائد، ولا تحب أقولك يا سيادة المقدم؟

لاحت هالة من الحزن على وجهه، ومع ذلك حافظ على ابتسامته وجعلها مزحه لما سيقول: معتقدش إنهم ممكن يرقوني أو يقبلوني في الجهاز طول ما أنا أعمى، فنمشيها رائد لحد ما نشوف الحكاية هتنتهي على أيه!
انتقل الحزن منه لأخيه، الذي اعترض على ما قال: مستحيل يستغنوا عن ظابط شجاع ومخلص زيك، ثم إن الدكتور مأكد إنها اصابة مؤقتة، يعني هتترقى وهيتعملك أحلى حفلة ترقية يا سيادة المقدم.

اتسعت ابتسامته بشكلٍ جعله أكثر جاذبية، وبنبرة صدق قال: ولا يعنيلي أي شيء غير وجودك جنبي في اللحظة دي يا آيوب.
ورفع يده يمررها جواره، في محاولة لإيجاده جواره، فرفع آيوب يده يمسك كف أخيه، شدد آدهم عليه: أوعى تكون لسه زعلان مني، أو تكون متضايق إني أصريت تقعد معايا، أنا متعودتش إن حد يساعدني قبل كده، عارف إن الكل حواليا ونفسهم يساعدوني وأولهم على وعمران بس أنا مش قابل ده ولا قابل غيرك.

وأضاف وهو يتنهد بوجعٍ: بحاول أحارب أي إحساس بالعجز ممكن يهاجمني، وأنا عارف إنه مش سهل، خصوصًا إني اتعودت أعمل كل حاجه بنفسي، وطول ما انا هنا بالبيت مكنتش بسمح للشغالة تدخل أوضتي حتى وتنضفها.
ورسم بسمة باهتة وهو يخبره: حتى أبويا، الممرض ميجرأش يقربله طول ما أنا هنا، بكون مسؤول عنه مسؤولية كاملة.

وضغط على كف آيوب وهو يهتف بآنينٍ مكبوت: بقيت أنا كمان عاجز زيه، ومحتاج للي يساعدني!
سقطت دموعه بعدما فشل بالسيطرة عليها، واتبعها صوته المتحشرج تأثرًا ببكائه: هقطع لسانك لو نطق كلمة عاجز دي تاني، ولا هيهمني إنك ظابط ولا حتى إنك أخويا الكبير اللي المفروض أهابه وأخاف منه!

طالعه بغرابةٍ وانفجر ضاحكًا، وهو يردد بصعوبةٍ بالحديث: بقيت نسخة من عُمران إنت كمان!
شاركه الضحك وهو وهو يميل تجاهه: بصراحة عُمران ده برنس ومدرسة يُدرس فيها فنون الرد وقصف الجبهات.

وأضاف وقد أصبح يميل على كتف آدهم الضاحك: بس مهما تتعلم منه وتقف قصاده جبهتك هتطير هتطير مفيش مهرب من ده.

ضحك آدهم وقال ساخرًا: إنت هتكلمني عنه! مهما تقول مش هتتخيله وهو راسم عليا دور الحما العقربة، كنت فاكر إن الحظ لاعب معايا وباعتلي فريدة هانم، وهي بصراحة قمة الذوق والرقي، ودكتور على حقيقي إنسان رائع ومفيش زيه، استغربت لوهلة إن مفيش حروب هتحصل معايا زي اللي بسمع عنها، لحد ما جيه عمران وأخد حق كل العقارب اللي المفروض تكون موجودة بعيلة العروسة.

تعالت ضحكاتهما معًا دون توقف، حتى استمعوا لصوت دقات رقيقة على باب الغرفة، اعتدل آيوب وعينيه الغاضبة تحيط الباب ظنًا من أن مصطفى هو الطارق، ولمس آدهم ذلك حينما وجده يتوقف عن الضحك، فقال بنبرة لفحها عشقًا مهما بدت عادية: دي شمس، متقلقش.
يعرفها من رقة طرقاتها وكأن كل شيءٍ تفعله رقيق مثلها، فرفع صوته يحثها على الولوج قائلًا: تعالي يا شمس، إدخلي.

انساقت لأمره بالدخول، ففتحت باب الغرفة، وولجت تحمل صينيه دائرية، تحمل من فوقه طبق كبير من الحساء، حملته واتجهت إليه، تجلس قبالته بالجانب الاخر من الفراش، وقربت منه الملعقة بالحساء، قائلة: عملتلك شوربة خضار عشان تأخد بقية أدويتك زي ما الدكتور قال.
غادرته الابتسامة بشكلٍ أضحك آيوب بشدةٍ، بينما يعتدل آدهم بجلسته وهو يبتلع ريقه بتقززٍ، بينما يجاهد لثبات نبرته: شوربة أيه؟!

تابعت شمس آيوب الضاحك باستغرابٍ، واجابت سؤاله الغريب: خضار يا آدهم، مالك؟
رد عليها وهو يلكز آيوب ليتوقف عما يفعله: مالي يا حياتي، أنا زي الفل أهو.

لكزه من أسفل الغطاء مجددًا، فسارع آيوب بقوله: بقول أيه يا شمس، ما تجيبيله عصير فريش كده قبل ما ياكل لأن في دوا المفروض يتأخد قبل الأكل.
هزت رأسها بخفةٍ، وتركت ما تحمله على الكومود قائلة بلطفٍ أذاب قلب الآدهم العاشق: حاضر، هعمله حالًا وهرجع على طول.

أنصت جيدًا لباب الغرفة الذي أغلقته من خلفها، وعلى الفور أحاط رقبة آيوب بحركة فاجآته، بل وصدمته سرعة إحكام آدهم وتحديد محله، بينما جذبه إليه يهدر بوعيدٍ: عارف لو سبت بسلية واحدة بس في الطبق هعمل فيك أيه؟

احتنق آيوب وهو يحاول تحرير رقبته من بين قبضة آدهم القوية، هادرًا باختناقٍ: سبني طيب عشان أعرف أنقذك!

دفعه تجاه الكومود الحامل للطعام بعنف: اتنيل أنقذني بسرعة قبل ما ترجع.

سقط آيوب بنوبة من الضحك، وخاصة وهو يراقب النفور البادي على ملامح أخيه، فأحاط رقبته بألمٍ وصاح بسخطٍ: مش قادر تنسى إنك ظابط أبدًا، حتى وإنت في الحالة دي!

وجلس جوار الكومود يحمل الطبق على ساقيه، وينتشل بالملعقة حبات البازلاء الخضراء، ونفس الملامح المنفرة ترسم على ملامحه هو الآخر، بينما تلوح له ذكرى أول لقاء جمعه بأخيه بشقة سيف، فاستدار تجاه آدهم وقال بابتسامة شملت الحزن والمزح معًا: هو أنا كان المفروض أفهم أنك أخويا في اليوم ده؟

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتي آدهم، وقال بنغزة احتلت صدره: مش عارف، بس اللي انا واثق منه إنك من اللحظة اللي شوفتك فيها وبقى يهمني أمرك بشكل مكنش متوقع ليا.

انتشل كمية لا بأس بها من البازلاء، وأردف ضاحكًا: طيب ما كنت تقولها أنك بتكره البسلة أسهل من كل ده!

لوى شفتيه بنزقٍ: نعم! إنت متخيل إني هكسر بخاطرها بالشكل ده! يكفيني فخرًا إن شمس هانم دخلت المطبخ ولأول مرة عشان تعملي حاجة من إيدها!

وأضاف ساخرًا وهو يعود لنوبة الضحك من جديد: هو اختيارها كان صدمة ليا بس وماله تعدي وأبلع عشانها الزلط.

حدجه آيوب بنظرة ساخطة، وقرب منه الطبق: طيب بألف هنا يا عم الحبيب.

أبعد الطبق عنه وهو يصيح بضيق: بطل غلاسه وشيلها بسرعة قبل ما ترجع!

انتشل أخر حبة ووضعها بكفه مع باقي حبات البازلاء، ثم أعاد الطبق للكومود فور أن استمع لدقات باب الغرفة وهو يتساءل بحيرة: طيب انا هعمل ايه بالبسلة دي دلوقتي؟

لاح له ذكرى يوم المشفى حينما كان يحتجز بها سيف في لندن، وقال بتسلية: اتصرف يا بشمهندس!

ولجت شمس للداخل، تقدم له العصير بابتسامة يتمنى لو يبصرها الآن بعينيه، دفعت حبتين من الدواء إليه، فتناوله آدهم وهو يشكرها، بينما لم يجد آيوب مهرب الا تناول ما بيده، فامتقعت ملامحه فور أن ابتلعها، وسعل بقوةٍ وعنف حتى شعر بأن معدته لا تقبل ما تناوله للتو، فانتزع كوب العصير من يد أخيه يتجرعه جرعة واحدة، يهدأ بها سعاله، بينما يكاد آدهم أن يسقط من الضحك وهو يعود بذكرياته لليوم الذي التهم فيه البازلاء بدلًا منه، فيشعر الآن بما يشعر به.

قلقت شمس وهو تراقب وضع آيوب الغامض، وتساءلت: مالك يا آيوب إنت كويس؟

استقام بوقفته وبعد يده عن بطنه، يجيبها: أنا كويس الحمد لله.

ورفع الكوب الفارغ بحرجٍ منها: آسف.

أجابته بلطفها: إنتوا الاتنين واحد.
وتابعت وهي تشير على الزجاجة: هات أجبلك كمان انا عاملة كتير.

دنى إليها يلتقط الزجاجة، سكب منها وقدم لاخيه قائلًا باحترام: تسلم إيدك طعمه جميل، بس انا خلاص مش قادر.

واستطرد ومازال بصره موضع أرضًا عنها، مثلما رباه الشيخ مهران: هستأذن أنا بقى، وبكره الصبح هعدي عليك بإذن الله.

أحاط آدهم كف آيوب المحاط بالكوب، وقال وزعله بادي عليه: هتسبني بردو يا آيوب!

ربت على كفه بيده الاخرى وقال: أول ما هصحى هجيلك على طول بإذن الله.

ومال يهمس له كأنه يودعه: لو اتاخرت إعرف إني بعمل غسيل معدة وراجع تاني، فمتقلقش عليا.

ضحك آدهم وشاركه آيوب، بينما تتابعهما شمس بابتسامة رقيقة، وكأن علاقة أشقائها تتجسد من أمامها الآن، غادر آيوب وفور إنغلاق الباب، وجدته شمس يسحبها لأحضانه، حرمانه من رؤيتها يزيد من ألم قلبه، يود لو أن يشعر برائحتها بأنه يراها.

جسده العضلي ألمها بقوةٍ، ومع ذلك لم تريد أن تبعده عنها، يترجم لها اشتياقه لها بطريقة كانت ملموسة إليها، فمالت على كتفه تهمس له بدهشة: من شوية كنت حزين إن آيوب هيمشي ويسيبك، لدرجة إني حسيتك مش عايزني جنبك، ودلوقتي بتحضني وكأنك كنت موجوع من بعدي عنك الشوية دول!

حررها عن حصاره القوي، وضم وجهها بتمكنٍ وعشقه يحوم بنبرته الحنونة: أنتِ وحشاني حتى في اللحظة اللي بتكلميني فيها دلوقتي، إنتِ نور الشمس اللي نور حياتي يا شمسي.

وتابع يوضح لها بحزنٍ: أنا عارف إني اللي هقولهولك ده غلط وغلط كبير جدًا كمان بس غصب عني، لازم أقرب آيوب من بابا، فعشان كده بحاول على قد أقدر أخليه جنبي، لكن ده مش معناه إني أستغنى عنك يا شمس.

انصاعت ليده التي تقرب رأسها لرقبته، يضمها مجددًا وتلك المرة تمددت جواره، وهدرت في محاولةٍ للاعتراض: الشوربة هتبرد يا آدهم.

وتابعت بشكٍ: هي مش عجباك؟

انتفض يجلس باستقامة وهو يشير لها: بالعكس، دي أطعم شوربة أكلتها في حياتي.

وأضاف مبتسمًا، وهو يطبع قبلة على باطن يدها: كفايا إنها من صنع إيد شمس هانم الغرباوي!

هبط آيوب للأسفل، بطريق الردهة الواسعة للخروج من المنزل، فاعترض طريقه مصطفى الذي خرج للتو من غرفة مكتبه، يحرك مقعده تجاهه وهو يناديه بلهفةٍ: آيوب!

توقف محله وهو يكور قبضة يده، يجاهد للتحلى بالصبر والحكمة بالتعامل، ولكنه فور رؤيته يتناسى كل شيء تعلمه على يد أبيه الوقور، فأغلق عينيه وصوت أنفاسه المتعصبة تفور كالموج الثائر، بينما يتطلع له مصطفى بحب لمس نبرته المتعجبة من رحيله المفاجئ: إنت نازل ليه؟ مش كنت هتبات مع آدهم النهاردة؟

ود لو تجاهله وتخاطاه ليغادر، ولكن نصايح أبيه وتشديداته بأن يكون لطيفًا، رحيمًا به، وخاصة بعد أن رأى طريقته بالتعامل معه بالصباح، فقال وهو يتخطاه ليغادر: هرجع تاني الصبح.

أدار مقعده بالتحكم الالكتروني، وصاح: ليه يا حبيبي ما تخليك هنا النهاردة، ده بيتك بردو!

إلى هنا وكفى، استدار يقابله بنظرة غاضبة، وعاد يقف أمامه يخبره بصوتٍ على الرغم من أنه منخفض الا أنه كان شرسًا متحديًا: بيتي هو بيت الشيخ مهران، وراحتي جوه بيته مش هنا، فأوعى عقلك يخيلك إنك ممكن تستغل فترة وجودي هنا، أنا مرغم أشوف وشك ده بالفترة الجاية كتير، فخليني أنبهك من البداية إني موجود هنا عشان آدهم وبس، فمن فضلك خليك بعيد عني وإرحمني من عذاب الضمير اللي بكون فيه من طريقة تعاملي معاك.

وأضاف بفخرٍ واعتزاز: الشيخ مهران رباني أحترم الصغير قبل الكبير، فمتحاولش بالحاحك ده تجبرني أتعامل معاك بشكل متعودتش أتعامل بيه مع حد، واضطر أواجه زعل أبويا مني بعد كده.

انسكبت دمعة من عيني مصطفى، ابنه لا يفوت فرصة الا ويستغلها ليؤكد له أن الشيخ مهران وحده من يملك السلطة الكاملة به، يفقده الأمل بالصفح عنه او السماح له بالتقرب منه تدريجيًا، وكأنه يقيده بعجزٍ يفوق عجزه.

أزاح مصطفى دمعته وتابعه وهو يحرر مقبض الباب العتيق ويغادر للحديقة، فلحق به لاطراف الدرج الحارجي، يخبره: طيب على الاقل خلي السواق يوصلك مكان ما تحب.

زفر بضجرٍ من أنه مازال يلاحقه، واستدار يصعد الدرج الضخم حتى بات قبالته، وانحنى إليه يخبره بكلماتٍ محذرة: قولتلك حاول تتجاهل وجودي، أنا لا عايز أكون في بيتك ولا عايز أركب حاجة تخصك، ولا عايز أشوفك من الاساس.

وأضاف بعدائية شديدة: ولو فاكر إن فرق المعيشة اللي بينك وبين الشيخ مهران هيخليني أفضل أعيش في الرفاهية دي فخليني أكدلك إن لو هعيش على حصير في بيت الشيخ مهران أهون ألف مرة من جنتك.

قالها وغادر بمنتهى البساطة، تاركه يبكي من خلفه بصوتٍ مسموع إليه، فأطلق العنان لساقيه، وهو يتمنى لو تقصر المسافة بينه وبين البوابة الخارجية لمنزل آدهم، وحينما وصل لها وقف يراجع ذاته وعينيه تلتمع بالدموع، استدار خلفه فوجد مصطفى مازال محله يبكي وهو يضم وجهه بين يديه.

رطم الأرض بعنف وهو يتمتم بضيق: لسه عايز مني أيه، حرام عليك!

خرج عن البوابة واتجه للطريق الرئيسي، ودموعه تنهمر دون توقف، وجل ما ينطق داخل عقله جملة أبيه الشيخ مهران
«أوعى تقسى عليه يا آيوب، متنساش يا ابني إنه أبوك، حتى لو مش معترف بيه، بص على حقيقة تانية إنه راجل كبير وعاجز، ولو مرأفتش بيه هتبقى كده بتضيع تربيتي وكل اللي زرعته فيك! ».

أزاح آيوب دموعه واستدار عائدًا لمنزل آدهم، صعد الدرج ووقف قبالته بحزن جعله يبدو أكبر من سنه الصغير، راقبه وهو مازال يبكي ويخفي وجهه خلف يديه، أجبر ذاته على النطق بأمرٍ قاطع: بطل عياط وكأني أنا اللي ظلمك!

تفاجئ مصطفى بعودته إليه، فأبعد كفيه وتطلع له باندهاش وعدم تصديق، بينما ينسحب آيوب من لقاء عينيه بخزي لا يعلم لما يشعر به، بل قام بسحب مقعده للخلف، ودفعه للداخل حتى المصعد، ومنه لغرفة مصطفى الذي يطالعه بتعجبٍ.

قرب المقعد من فراشه وحمله إليه بصمتٍ، ثم جذب الغطاء يضعه من فوقه، واستدار يغادر بكل هدوءٍ، بينما يبتسم مصطفى والأمل يعود إليه، تلوح له فرصته بحصوله على العفو منه، وأغرب شيء فعله هو شكره لله أن الشيخ مهران هو الذي أشرف على تربية ابنه، وكأنه الآن يحمل وسام شرف.

صعد للطابق العلوي من الجيم الرياضي مهرولًا، يبحث عنه بين العدد القليل المتبقي من الشباب لتأخر الوقت من الليل، وجده يركض على جهاز الماشية المنعزل عن الجميع، وعلى أذنيه سماعته.

هرول إليه إيثان حتى توقف قبالته، يهتف من بين أنفاسه اللاهثة: كويس إني لحقتك يا خواجة!

أزاح عُمران سماعته عن أذنيه، ثم أبطئ من حركة الجهاز وسارع خطاه وأبطئها بحركة مدروسة ومعتادة، حتى هبط عنه، واتجه لجهاز أخر، يرفع ساقيه بحملٍ ثقيل، وينهض بجسده للأمام، هادرًا بانزعاجٍ حينما لحقه إيثان: Ethan I m not in a good mood right now، please leave me alone!
(إيثان أنا لست في مود جيدًا الآن، من فضلك دعني وشأني! ).

عقد حاجبيه ساخرًا منه: عارفين إنك متربي في بلاد بره وفي مدارس لغات، كلمنا عربي احنا كنا في مدارس حكومي.

ترك الجهاز واستقام بجلسته يسحب زجاجة المياه الباردة، يرتشف منها قدرًا كبيرًا، ثم نزع قفازاته السوداء وجذب المنشفة يجفف صدره العاري، متسائلًا بضجرٍ: عايز أيه يا إيثان؟

جذب الحقيبة من خلف ظهره وقدمها إليه، فعاد عُمران يتساءل: ده أيه؟

فتح سحابها ليبرز مبلغ من المال، فرفع رماديته إليه وقال بثباتٍ حاد: خير؟!

احتقنت نظرات إيثان المغتاظة، وقال: فلوسك، إنت عملت معجزة عشان الجيم ده يقف على رجله، بصراحه فكرة الشهر المجاني اللي عملتها دي مكنتش واكلة معايا، بس عجبت يُونس وقالي هيجي منها، وفعلًا الشباب جربوا الاجهزة اسبوع ودفعوا اشتراك الشهر اللي بعده مقدم، ده غير انهم عاملين احلى دعايا للجيم بكلامهم عنه وعن المدرب اللي انت اختارته، فعشان كده ده نصيبك لانك شريك معايا.

ابتسم عُمران على نقاء قلب إيثان، لطالما كان محقًا في معاونته لاشخاص هو على ثقة بأنهم يستحقون دعمه، لذا ربت على معصمه، وقال: ده رزقك يا إيثان، ربنا يباركلك فيه.

وتركه واتجه لغرفة تبديل الثياب، تاركًا الاخير من خلفه حائرًا، وحينما استفاق لحق به مهرولًا، فوجده يخرج ملابسه من احدى الخزانات الخشبية الفخمة الموضوعة بالمكان والتي أشرف على اختيار نوعيتها بنفسه، مثلما اختار كل شيئًا هنا، اختار، كل ما يريحه لأنه أراد مكانًا دائمًا له مثلما يرغب التواجد به.

دنى منه إيثان وهو يغلق أزرار قميصه الاسود، وقال بحيرة: ممكن تفهمني أنت رافض الفلوس ليه؟ يعني اشتريت الاجهزة وساعدتني في البوتيك وكل ده من غير مقابل، من فضلك متسخفش بعقلي أكتر، من كده؟

مجرد ان استمع لحديثه استدار إليه، يواجهه بنظرةٍ دافئة، ثم جلس على الرخام الخشبي الفاصل بين كل حوض والآخر، وقال يجيبه: إيثان أنا معملتش معاك حاجة تذكر، ثم إنك لو بتسألني عملت معاك كده ليه فهنا هعتبر إنك مش بتعاملني كصديق، ويا ويلك لو شايفني غير كده، هرجعالك استفزازي وأطلق عليك الشخص الوقح اللي بدفنه جوايا، وخد بالك معاه كلاب سعرانه مبترحمش!

جلس على فاصل الحوضين المجاوران له: مفيش حد بيساعد صاحبه بالمبالغ الكبيرة دي.

نافسه بنظرة غامضة، وشكك بحديثه: ازاي وإنت خدمت يونس بمالك ومجهودك ونفسك قبلهم!

يعلم أنه أمام شخصًا ذكيًا، لن يغلبه أبدًا، ولكنه جاراه قائلًا: يُونس صاحب عمري، صديق الطفولة وأخويا اللي مجبتهوش أمي!

ابتسم وقال: وإنت صديق ليا، مش مهم أرقملك خانة أو عدد بقايمة أصدقائي المقربين، بس اللي يلزمك عشان تعرفه إني كده مع كل أصحابي مش معاك بس، ولعلمك الايام مش مضمونة، الله أعلم أمته هحتاجلك تردلي اللي عملته، هيا ماشية كده النهاردة عليك بكره معاك.

وقفز بجسده الرياضي، يفتح حقيبته، مستخرجًا مشطه الصغير وبرفانه الخاص، يهندم شعره ويرتب ملابسه بالرغم من أنه سيعود ليأخذ دُوش سريع، وفور أن انتهى حمل أغراضه وقال يشير له: الوقت إتاخر، يدوب أرجع البيت قبل ما على يفتح معايا تحقيق.

تركه إيثان يهبط للاسفل، ولحق به يوقفه قبل صعوده لسيارته، فتنهد عُمران بملل: وبعدين معاك بقى!

رد عليه بعندٍ: مش هقبل كل ده بدون مقابل، حتى لو بسيط والا مش هقبل بأي حاجة من دي.

مال عُمران على سيارته يطالعه بنظرة ضيق، وهو يعلم بأنه عنيد للغاية، تعلقت عينيه بعمارته وبالاخص بشرفة الطابق الاول، ثم تطلع له وقال بهدوء وصدق: بص أنا من ساعة ما نزلت حارة الشيخ مهران وانا بفكر أشتري هنا شقة بس تكون قريبة من مسجد الشيخ مهران عشان مش برتاح غير بالصلاة وراه، فلو هطلب منك شقة بطلبها بدون ما تفكر إني بأخدها مقابل للي عملته، عايزها بعقد وبخصم حلو، وياريت تكون بالدور الاول، لان منظر الشارع من تحت ساحرني.

لوى شفتيه بتهكمٍ مضحك: هي بحقها بدون خصم متسدش ربع الفلوس اللي دفعتها في البوتيك والجيم أصلًا.

ربع يديه أمام صدره وتطلع للاسفل بتفكيرٍ، ثم تطلع له هادرًا بسخرية: أصلًا!

هز إيثان رأسه بتأكيد، فنصب عمران عوده وقال: بالنسبالك كده، بالنسبالي أنا كأنك بتقدملي سرايا، المكان هنا بيريحني جدًا.

ابتسم وقال بمحبة صادقة: اعتبرها ملكك من دلوقتي، بكره هجيلك بالعقد ومش هأخد جنيه منك عشان خاطر آيوب.

ضحك عمران بصوته الرجولي، وردد بعدم تصديق: آيوب! أمال الرزالة بتاعتك دي هتطلقها على مين لو عملتله خاطر!

وضع يديه بجيوب بنطاله القماشي، وقال يجيبه: عليه بردو، آيوب مهما كبر، هيفضل العيل الصغير اللي كنت بوديه أنا ويونس الحضانه كل يوم، ومهما عملت مش هتقدر تغير نظرتي ليه يا خواجة.

حرك رأسه بخفةٍ وسأله باستغراب: هو يونس فين مش من عادتك تحله يعني؟

أجابه والضيق يزحف على وجهه: بيحضر شقته هيتجوز بعد بكره.

انفجر عُمران ضاحكًا، وقال يشاكسه بوقاحته: ومالك الغيرة واكلة قلبك كدليه يا مزة، مهو مصيره يرد مراته ويعيش حياته زي ما المفروض تعيشيها إنتي كمان مع ابن الحلال اللي يسترك.

يتحدث وكأنه أحد أفراد الحارة الشعبية، بعدما كان يتفوه بالانجليزية المحترفة منذ قليل، احتدت معالم إيثان وهدر بانزعاج: تصدق إني غلطان اني جريت وراك، اركب وروح بيتك أحسن.

وأردف بسخرية: وياريت تشوفلك حرس يمشوا معاك زي رجال الاعمال دول، اعمل لنفسك هيبة كده أو على الاقل اضمن لنفسك السلامة من لسانك الطويل ده.

أجابه عُمران باستفزاز: حد قالك إني اتشليت وعاجز عن حماية نفسي! ثم مين اللي أمه دعية عليه في ساعة صفى ويجرأ يطلع في وشي!

وأضاف وهو يتجه لمقعد القيادة: روح نام في حضن أمك يا إيثوو، بلاش تجرجرني للرزيلة وأنا لسه نازل من الفرن وعضلاتي سخنة.

انخفض نافذة سيارته ومال يخبره بمزحٍ: كل ما لسانك يتسحب منك، هديه وفكره إن اللي هتنافسه غير قابل للهزيمة، تصبح على خير يا حيلتها!

أزاحت الكتب التي تحتل مكتبه، ووضعت ملفاتها وحاسوبها، ثم جلست تعدل حجابها، واستعدت لبدء الاجتماع الالكتروني.

فتحت كاميرا الحاسوب وبدأت تعليماتها في حضور خمسة عشر موظفًا، وخمسة من الموظفات، لم يعد يعنيها أي كائن ذكوري، فلقد ألهمها علي القوة الكامنة لمواجهة جيشًا ذكوري بمفردها، فاذا به يدخل للغرفة ويستمع لها تردد في ثقة وثبات: بشمهندس مدحت، استاذ حسام بلغك بملحوظاتي على الميزانية اللي حضرتك خصصتها لمشروع زايد، ومع ذلك حضرتك تجاهلت كل التعليقات الموجهة ليك، عشان كده أنا حولت ملف المشروع لمستر عُمران فتواصلك يكون معاه.

وأنهت نقاش السريع باتخاذ القرار الحازم، وتابعت: أنا كده خلصت كل النقاط اللي كنت حابة أتكلم عنها، تقدروا تتابعوا مع استاذ حسام بأي سؤال، تصبحوا على خير.

قالتها واغلقت الحاسوب، تحرر حجابها بارهاق، بينما على يتابعها بفخر وسعادة، اعادت فطيمة رأسها للخلف تفرك جبينها بتعبٍ، فاذا بأصابع تتسلل لرأسها، تتحرك برفقٍ من فوقها، ابتسمت واسترخت بجلستها وهي تهمس بارتياح: علي!

مال يقلد همسها الخافت: على فخور بيكِ وباللي وصلتيله يا قلب علي.

ابتسمت ولفت مقعده إليه تخبره بابتسامة مشاكسة: فكرتك هتتضايق عشان استوليت على مكتبك.

تابع ما تشير إليه وانحنى يفرك يديها بابهاميه: ولا يهمك يا روحي، أنا أساسًا طلبت من عُمران يخصصلك مكتب كبير في الجناح بتاعنا بقصر الغرباوي، خلاص كلها يومين وهننقل هناك.

رمشت بعدم استيعاب: مكتب ليا أنا!

هز رأسه يؤكد لها: ليكِ طبعًا، إنتِ بقيتي محتاجة مكان مريح تتابعي فيه شغلك.

احتلتها الحيرة والارتباك، فنقلتها له هادرة: يعني إنت موافق اني اشتغل على طول!

أغلق عينيه بشكلٍ مغري وقال وهو يدعي انشغاله بالتفكير: موافق بس عندي شرط، إنك تسيبي الوقح ده بقى وتيجي تشتغلي معايا في المركز، إنتِ عارفة إن فريدة هانم رفضت تستلم مكتبها وشغلها الا بعد الولادة وأنا يعتبر اللي ماسك الدنيا انا ويوسف، فأكيد اني محتاج مديرة حسابات شاطرة زيك، ها أيه رأيك؟

قلدته وهي تغلق نصف عين، ورددت: أممم. العرض مغري جداا، بس للاسف أنا مش هقدر أخون ثقة عمران فيا، متنساش إنه أول من دعمني عشان اشتغل والفضل لربنا سبحانه وتعالى ثم له وليك في اللي وصلت ليه، لذا انا مش هينفع أسيبه للاسف.

نصب عوده يطالعها بنظرة غاضبة، وتركها واستدار عنها مبتسمًا، واتجه للفراش، ركضت فاطمة خلفه تراقبه بحزن، وتناديه: علي، إنت زعلت مني؟

هز رأسه مؤكدًا، فعبثت بحاجبيها بحزن، وقالت: خلاص أول ما يرجع هبلغه وهاجي أشتغل معاك، أهم حاجة متكنش زعلان مني.

استدار لها يمنحها ابتسامة مهلكة لقلبها العاشق، بينما يقربها منه، يلثم جبينها، ويخبرها: عمري ما أزعل منك أبدًا يا روح قلبي، سبق وقولتلك المكان اللي يريحك وتلاقي فيه كيانك هكون أول من يدعمك، وعلى فكرة أنا مرتاح جدًا لشغلك مع عُمران، لانه قادر يحميكِ و يحافظ عليكِ.

ابتسمت وهي تخبره: أنا بحبك أوي على فكرة.

قرص وجنتها بخفة وقال يقلدها: وأنا بموت فيكِ على فكرة.

وأشار لها على الملابس الخاصة بها الموجودة على فراشه: يلا ادخلي خدي شاور وغيري هدومك.

نهضت تزيح جاكيتها الاسود الخاص ببذلتها النسائية، وحملت قميصها المنزلي، اتجهت لتدلف للحمام وعادت تخبره بمشاغبة: على فكرة يا على أنا مش قابلة أشتغل معاك لمصلحتك.

استدار تجاهها وقال بعدم فهم: اازاي؟!

أجابته بضحكة سلبت تركيزه: عشان هسود عيشتك كل ما هلمحك قاعد تسمع لحد من المرضى بتوعك يا حبيبي، انا مش قادرة اتخيلك قاعد قدام واحدة نايمة على الشازلونج وعماله تحكيلك وانت بتسمعها! أنا مش متخيلة أصلًا إنك بتسمع لواحدة غيري! وخصوصًا اني برتاح جدا في الكلام معاك، فأكيد كل البنات بترتاح ليك والمصيبة لو عملوا زيي ووقعوا في حبك!

تخلى قلبه عنه من فرط دقاته الصاخبة، نهض عن الفراش يسرع لها، يحاصرها، وهو يردد بنبرة مغرية: ده حبيبي طلع هيموت من الغيرة عليا وأنا مش حاسس باللي جواه.

وبابتسامةٍ واسعة سألها: معقول بتغيري عليا يا فطيمة؟

منحته نظرة شرسة وقالت بسخرية: ليه مش ست ومن حقي أغير عليك!

رفع كفها يقبله وهو يهمس لها بعشق: ست الستات طبعًا.

وأضاف وهو يطالعها برماديته: بالرغم من إن كلامك أسعدني الا إني لازم أكدلك إني ملكك، وعنيا كفيفة عن ستات الدنيا كلها يا فاطمة، أنا قلبي مدقش لحد غيرك!

تاهت في سحر كلماته، وسلمت رأيتها مع أول قطفة لحديقة ريحانها، فتركت ما بيدها ومالت معه لفراشها يجذبها لعالمهما الخاص.

عاد يطرق على الباب بعدما فشل بفتحه بمفتاحه الخاص، وصاح بصوتٍ منخفض مغتاظ: زينب افتحي وبطلي شغل العيال ده، بقالك أربع ساعات رمياني قدام باب الشقة، افتحي!

أجابته من خلف الباب وهي تربع يديها أمام صدرها بغضب: ارجع مكان ما كنت يا دكتور يا محترم.

لكم الباب بعصبية بالغة: زينب افتحي أحسنلك، وبطلي ترمي كلامك المستفز ده، أنا لو سبت البيت فسيبته بسبب طريقتك معايا.

فتحت نافذة الباب الزجاجية وحدجته بنظرة شرسة، بينما تهتف بحدة: مالها طريقتي! أنت اللي ما صدقت وعايز تروح تقضيلك يومين عند صاحبك ويا حرام مكنتش لاقيالك حاجة تقفش بيها معايا، ودلوقتي لما عرفت إني قلبتها جد وهخلعك جيت تجري جري بشنطة هدومك، مش كده ولا أيه؟

انتظرت سماع أي كلمة منه، ردًا على حديثها، ولكنها وجدته يطالعها بعينين متوسعتين، تحتلهما الدهشة والاعجاب الشديد بما ترتديه أمامه، خطفت زينب نظرة لقميصها الأسود القصير، فجحظت عينيها صدمة من رؤيته لها بما ترتديه، فأسرعت بغلق النافذة، فطرق وهو يردف بمكرٍ: عندك حق يا روح قلبي أنا غلطان والغلط راكبني من ساسي لراسي، افتحي وأنا هصالحك، ولو حابة أقطع علاقتي بالواد آيوب اعتبريني بلكته، إفتحي إنتِ بس.

وهمس بصوتٍ ظنه غير مسموع: يخربيت جمال أمك، إنتِ قاصدة تندميني وأنا ندمت، افتحي بسرعه.

ردت بدلال من خلف النافذة، كأنها تحقق انتقامها منه: بعينك، مش هتدخل يعني مش هتدخل.

عاتبها من بين اصطكاك أسنانه: ليه بس يا زوزو، ده أنا جوزك حبيبك! وبعدين انتِ من أمته بتلبسي كده عمرك ما عملتيها وأنا هنا تعمليها وأنا بره.

كبتت ضحكاتها بصعوبةٍ، وقالت تستفزه: بما إنك مش هنا أكيد هأخد راحتي في شقتي، وعلى فكرة أنت عاملي ازعاج وانا ورايا شغل الصبح، فروح نام عند صاحبك أو عند يوسف وبطل تعمل دوشة على السلم.

طرق على الباب بيده هادرًا بانفعال: يوسف أيه اللي أخبط عليه في وقت زي ده، ومراته لسه واصله من السفر، بطلي هبل وافتحي يا زينب.

ردت عليه ببرود: شقة يوسف وراك، وبيت صاحبك قريب اختار براحتك، تصبح على خير يا سيفو.

صاح بغضب: مش هتنقل من هنا وحالا هتفتحي والا هكسر الباب وساعتها متلوميش الا نفسك يا زينب.

تراقصت من خلف الباب وهدرت بانتصار تحققه عليه: وماله يا حبيبي، اكسره ووريني جمال عضلاتك.

عبث بمُقلتيه بدهشة: أنا مش هركيلز عشان أكسر باب مصفح زي ده، افتحي!

تركته يغلي غضبًا واتجهت لغرفتها، ثم جذبت هاتفها وأرسلت رسالة ليوسف حينما وجدت منشور له
«بقولك يا يوسف، أخوك بره الشقة بقاله فترة، وعندي احساس إن الجيران هيقدموا فيه بلاغ بالازعاج اللي عامله، فياريت تلحق تتصرف. ».

خرج يوسف يهرول للطرقة الفاصلة بين شقته وشقة أخيه، فاندهش حينما وجده يجلس على الدرج بحقيبته، خرج إليه يسأله بذهولٍ: أيه اللي مقعدك هنا؟!

رفع عينيه المحمرة إليه، وبسخرية اجابه: بحصل الايجار!

وألقى جاكيته الجلد على الحقيبة وهو يخبره بغيظ: الهانم قافلة الباب عليها ومش راضية تفتحلي، رمياني على السلم بقالي أربع ساعات.

زوى حاجبيه بتعجب: ومرنتش عليا ليه!

لوى شفتيه بتهكمٍ: هرن عليك أقولك أيه يعني وأنا عارف إن مراتك لسه واصلة!

كبت يوسف ضحكاته، وجلس جواره على الدرج يتمتم بسخرية: دكتورها الغبي عامل حظر تجوال فوجودك من عدمه مش فارق.

استدار تجاهه يردد بذهول: دكتورها مين! مش إنت اللي بتابع حالتها!

هز رأسه قائلًا بهدوء: مهو أنا الدكتور الغبي.

وربت على ساقه وهو ينهض جاذبًا الحقيبة: يلا قوم معايا بدل ما نتفضح في العمارة كلها.

جذب سيف جاكيته واتبعه وهو يتساءل باستغرابٍ: هو آنت عرفت ازاي إني برة؟

استدار، يخبره بابتسامة واسعة: زينب بعتتلي وقالتلي الحق أخوك قبل ما الجيران يعملوله محضر ازعاج.

احتشد الغضب بمُقلتيه، وتوقف عن اتباعه وهو يتمتم بحنقٍ: بقى كده! ماشي يا زينب حسابك تقل أوي، هنروح من بعض فين يعني؟!

صف سيارته وتوجه للأعلى، وفور أن خطى للدرج توقف حينما تسلل إليه رائحة الطعام، عبث برماديته وهو يتفحص الوقت، وبدون أي تفكير علم من بالداخل، فاتجه للمطبخ واستند على بابه يراقبها وهي تصنع المعكرونة بالصوص المعتاد لها.

ابتسم وهو يراقب حجابها المحاط لرقبتها، وخصلاتها المنهمرة من حولها كالمعتاد لها، انحنت تسكب المعكرونة بالطاجن الزجاجي، وقبل أن تضع شرائح الدجاج أعادت خصلاتها للخلف بانزعاج، فاذا ببديه تجمع خصلاتها الناعمة، وتعقدهما برابطة عنقه التي ما أن تلامستها حتى ابتسمت ورددت دون أن تستدير: عُمران!

مال على أذنيها ومازالت يديه تعقد خصلاتها: حبيب قلبه وعمره إنتِ يا مايا.

اتسعت بسمتها لجملته المعتادة، ورفعت رأسها تقابله بنظرة عاشقة له حد النخاع، أنهى ما يفعله، ومال يهتف بضجر: مش هتبطلي تدخلي المطبخ من غير ما تلمي شعرك، ولا طمعك في الكرفات بتاعي بيزيد لحد ما خلاص مبقتش لاقي أي كرفتة ألبسها!

استدارت تخبره ببراءةٍ مخادعه: أنت ظلمني على فكرة.

وارتفع صوت ضحكة منها وهي تؤكد له: طبعًا طمعانة فيك وفي حنية قلبك عليا، بس متقلقش أنا عارفة إن هدومك وساعاتك وكل اللي يخصك غاليين عليك، عشان كده مخصصة صندوق شيك وبحط فيك كل الكرفات بتاعك.

شملها بنظرة مرت ببطءٍ عليها، ليفاجئها حينما جذبها لذراعيه وهو يخبرها بعاطفة: وأنتِ كمان تخصيني إنتِ والباشا اللي قرفني من يوم ما شرف جوه.

ضحكت رغمًا عنه وهو يمرر يده على بطنها المنتفخ، ويردد بحزمٍ مضحك: أتمنى تكون مطيع النهاردة ومتتعبش مامي، بدل ما أعملها معاك وأسحب منك صينية المكرونة اللي مقومها نص الليل تعملهالك دي.

كادت أن تسقط من الضحك، فشاركها وهو يخبرها بخبث: أنا عارف إن دي كانت عادة عندك إنتِ وشمس، بس عشان نفسيتك لبستها للواد وأتهمته إنه بيرغمك تأكلي بكميات وأوقات غلط، شوفتي أد أيه أنا حنين وجنتل مان يا بيبي!

هزت رأسها ومازالت تستند بظهرها إليه بينما يحاوطها هو من خلفها ويراقب ما تفعله بطاجن المعكرونة، بينما تهمس له بصوتٍ أنوثي رقيق: أنا عارفة إن إنت بتضحي، ده كفايا تسترك عليا قدام فريدة هانم.

ورفعت رأسها إليه فقبل جبينها ومال على كتفها يسمع لهمسها المنخفض: إنت عارف إن فريدة هانم بتحافظ على أكلها موت لحد النهاردة، وأنا اللي مش قادرة أسيطر على نفسي نهائي، حاسة إني على طول جعانة ومش قادرة أشبع!

وتابعت له بأحد أسرارها: فاطمة بتسربلي أطباق أكل في الخباثة لإن فريدة هانم متابعاني وعينها عليا بسبب وزني الزايد، بس على مين أنا اللي براقبها أول ما بتخرج للتمرين بقتحم المطبخ أخد أشيائي وأطلع الاوضة قبل ما ترجع ولما بتنام بنزل المطبخ وأعمل جرايم زي الجريمة دي.

ومالت إليه تتساءل بقلق: عُمران تفتكر إن في أمل أخس بعد الولادة؟

ضم شفتيه يحتبس ضحكاته على طريقة حديثها، ورفع رأسه للاعلى ثم أخفضها فتعثرت بعض خصلاته الطويلة من حول عينيه ومال يخبرها بمشاكسة: متقلقيش يا روحي أنا عامل حسابي ومخصص ليا دور كامل في القصر للجيم، وأكيد بعد الولادة مش هسيبك الا لما تخسري كل الدهون اللي خزنتيها دي.

وابتعد عنها قائلًا بابتسامة جذابة: يلا أنا هأخد شاور سريع عشان لسه راجع من الجيم، وإنتِ خلصي جريمتك دي بسرعة وحصليني.

أمسكت معصمه توقفه عن الصعود، وقالت: ما تيجي تشاركني في الجريمة دي، وأهو تكون شريك في التضيحة اللي بعملها عشان خاطر ابننا.

راقب يدها المتشبثة بكفه، وأدارها بحركة سريعة على ذراعه كأنه يراقصها برومانسية جعلتها تنصهر خجلًا أمامه، بينما يستند لجبينها وهو يهمس لها: حبيبي أنا أضحى بحياتي كلها عشانك إنتِ لكن المشاغب اللي لسه مشرفش دنيا ده مينفعش أقدمله ساعات تعبي في الجيم عشان أبقى بضحي!، مهو مش هربي عضل في سنين ويتحول لدهون في تسع شهور عشان روح أمه!

دفعته بعيدًا عنها والغضب قد جعلها تواجهه بنظراتها العدائية، مشيرة له: أنت ازاي تتكلم عن ابني بالشكل ده! أنت مش عايز تضحي عشانه بس أنا هضحي!

تعالت ضحكاته الرجولية حتى أدمعت رماديتاه، وأردف بتسلية: هو إنتِ ليه محسساني إنهم بيضربوا عليه نار وأنا ناولتلهم سلاح يخلصوا بيه عليه، حبيبي الموضوع كله طاجن مكرونة بالوايت صوص!

ربعت يديها أمام صدرها بشراسة: أنت مش مستعد تضحي عشانه بس أنا مستعدة وبالفعل ضحيت برشاقتي وزني المثالي عشانه.

ضحك وهو يصفق كف بالاخر، هادرًا: ده طبيعي يا بيبي لانك أمه، لكن أنا المفروض أعمل أيه أحمل بدالك أنا!

وتابع بسخط: أهو ده اللي ناقص!

تجاهلته واتجهت للرخامه تستكمل ما تفعل وقد نهت النقاش بأخر جملة لها: اطلع خد الشاور بتاعك ونام متستنينيش.

حك ذقنه النابتة بنفاذ صبر، وهدر بانفعال: آه ده لوي دراع بقى!

طرقت بالملعقة على الصينية ببرود: سميه زي ما تحب، لما تحترم ابني وإنت بتتكلم عنه نبقى وقتها نتكلم.

احتبس ضيقه من نبرتها، وعاد يضمها باحتواءٍ وهو يخبرها بابتسامةٍ لم تصل لعينيه المتعصبة: وليه كل ده يا بيبي، حالًا هأخد شاور وأنزلك نقتحم الصينية دي أنا وانتي.

ومال يلثم خدها، وقبل أن يغادر قال: اعمليلي ريزوتو بالمشروم والكريمة، هي كده كده خربانه.

قالها وانصرف بينما ضحكتها ترفرف فرحًا بما نجحت به، ولج عُمران غرفته وابتسامته المشاكسة تعلو ثغره، نزع جاكيته واتجه للخزانة يجذب إحدى ملابس نومه المريحة، وهو يردد بنزق: كان لازم تعارض يعني، ما أنت عارف أنك هتضعف قدامها وهتنزل تأكل اللي عملته!

وتابع بضيقٍ وهو يمضي لحمامه الخاص: مكنش له لزمة أنزل الجيم النهاردة بقى!

ولج لحمام الغرفة، بينما يعلو رنين هاتفها بالخارج، مضت الدقائق به وخرج يرتدي ملابسه، فعاد الرنين مجددًا للمرة التاسعة منذ ولوجه لحمام الغرفة.

انحنى يجذب هاتفها فوجده أبيها، امتقعت معالمه غضبًا ونفورًا حينما داعبته كلماتها وبكائها في ذلك اليوم الذي اشتكت له عما يفعله أبيها، فلم يجد ذاته الا أنه يحرر زر الاجابة وجُل ما يتردد له «أتيت لصاحب نصيبك»، أجابه بهدوء خطير: عثمان باشا. إزيك.

اتاه صوته المتعجب: عُمران!
وتلاشى ذهوله بسؤاله الروتيني: أخبارك أيه، وأخبار مايسان؟ أنا بقالي فترة برن عليه ومش بترد قلقتني عنها.

جلس على طرف الفراش يجيبه بسخرية خبيثة: سلامتك من الخضة يا حبيبي.

بالرغم من أن نبرته شبه ساخرة ولكنه لم ينحاز الا لجديته، فقال: الله يسلمك، لو هي جنبك اديها الموبيل أكلمك.

ببرود قال: لا مش جانبي، ولو موجودة مكنتش سمحتلي أرد عليك.

=ليه؟ انا عايز أعرف في أيه بالظبط يخليها تتجاهل مكالماتي بالشكل ده؟

رد عليه عُمران وهو يجاهد لاقماع غضبه: راجع طريقة تعاملك معاها، بنتك مش محتاجة لفلوسك اللي بتبعتهالها كل أول شهر يا باشا، أساسًا باللي بتعمله ده اهانة ليا أنا شخصيًا، حرم عُمران الغرباوي مش محتاجة لحد حتى لو كان الحد ده إنت!

ارتفعت نبرته غضبًا: إنت بتكلمني كده ازاي!

نهض عن الفراش يجيبه بضجر: بكلمك باحترام راجع لسبب واحد إنك أبو مايا، يعني عشان خاطرها هي وبس، لكن لو عليا نفسي أوريلك وشي التاني اللي هيندمك ندم عمرك كله على اللي إنسببت فيه لمراتي.

وأيه اللي أنا عملته فيها! عُمران دي بنتي يعني مستحيل أكون أذيتها أو أتسببتلها في أذى! شكل في سوء تفاهم من فضلك فهمني بنتي مالها؟!

ضحك ساخرًا وقال: هو إنت متخيل إني هسيبك توصلها للأذى الجسدي! إذيتك مشاعرها باللي عملته وبتعمله كفيل يخليني أحرقك حي ومن غير ما يرأفلي جفن يا عثمان باشا!

ردد بصدمة وحيرة: أنا مش فاهم إنت مالك أنت أول مرة تكلمني بالاسلوب الوقح ده، شكلي كنت غلطان لما وافقت على جوازك من بنتي، حتى بعد فرحكم الامور بينكم مكنتش مستقرة حتى لو هي كانت بتخبي عليا ده.

صاح عُمران بحدة: صوت أم حضرتك عالي ليه!

=لا إنت مش طبيعي، شكلك شارب حاجة، إنت الظاهر نسيت انا مين وأقدر أعمل أيه، ممكن ببساطة أطلق بنتي منك وحالًا بعد كلامك المهين ده، ليا كلام تاني مع فريدة هانم ودكتور علي.

اتاه صوته الصارم يخبره بغضب جحيمي: سيبك من الاسطوانة اللي بتشغلها للعاهرات اللي ماشي معاها دي وإسمع المفيد، إنت عارف أن مفيش حد في عيلة الغرباوي كلها يملك سلطة عليا، بنحني لأمي وأخويا بس مش في الصح.

وتابع والاخر يستمع له: بنتك اللي بتقول إنك كنت حاسس انها مش مبسوطة معايا في أول جوازي وبتهددني دلوقتي إنك تبعدني عنها فأحب أكدلك أنها أول واحده هتقف ضدك لو فكرت بس مجرد تفكير بانفصالنا لانك عارف ومتأكد إنها بتحبني زي ما بردو عارف إني دايب فيها، يعني ببساطة المعادلة بتاعتك مفكوكة وتهديدك ولا يهز شعرة فيا، فخليك عاقل كده واسمع اللي هقولهولك كويس ده لو عايزني أتقبلك جد لابني وأب لزوجتي اللي مش طايقاك ولا طايقة تكلمك.

ارتاب لكلماته الواثقة، بينما يضيف عُمران بثقة: أنا بمكانتي دي ميشرفنيش أنك تكون جد لاولادي، تفتكر هيكون مستقبلهم أيه والجرايد مش مبطلة تكتب عنك وعن أخبارك القذرة مع العاهرات اللي ماشي معاهم، وكل يوم والتاني بتغير من واحدة للتانية، لا ويا ريتك بتستنضف اختياراتك كلها حقيرة لبنات من دور بنتك!

وأضاف: لما تحترم نفسك وتبطل العهر ده وقتها هفتحلك بيتي وهرحب بيك غير كده منتنظرش مني غير المعاملة اللي إنت متفاجئ بيها دي، وخد بالك إني لا يمكن أسمحلك تكون سبب في أذية أقرب الناس لقلبي، وقتها هنسى إن في علاقة تربطني بيك.

وأضاف بحنق قبل أن يغلق هاتفه: يا شيخ إتقي الله وإعمل لاخرتك، ده انت رجل أمك على بعد خطوة من القبر.

قالها وأغلق الهاتف، ثم جذب ملابسه يرتديها، ويمشط شعره واضعًا البرفيوم الخاص به، ثم هبط ينضم لزوجته بمجلسهما الهادئ بعيدًا عن صراعه الذي خاضه بالاعلى لأجلها.

مر الليل وأشرقت شمس الصباح، الزحام كان يعج حارة الشيخ مهران، وخاصة أمام محلات يونس، حيث اصطفت مجموعة من التريلات، حاملة لشتى أنواع الاجهزة الكهربائية، حيث كان العمال يحملونها للمحلات والمخازن، بينما يراقبهم إيثان وهو يرتشف قهوته.

هبط يونس حاملًا فارس بين يديه، وانضم لايثان وهو يحيه: صباح الخير يا إيثو.

رفع بصره له بانزلاق، ولكنه ابتسم ما ان رأه يحمل فارس، فحمله منه يمطره بوابل من القبلات هاتفًا: صباحو فل على أبو الفوارس.

وسأله وهو يتفحص حقبيته الصغيرة: على فين كده؟

شاكسه يونس الذي لاحظ انزعاجه البادي: هوديه الحضانه وراجعلك تاني.

منعه من انتشاله من بين يديه، وقال: لا خليك مع الرجالة وأنا هوديه أنا، وهجيبله حلويات كتيرة جدًا.

تعلق به فارس وقال بحبٍ: أنا عايز عمو إيثان اللي يوصلني يا بابا.

ادعى يونس انزعاجه، وهدر: اشبع بيه يا نن عين أبوك.

لكزه إيثان بغضب جعله يترنح للخلف على عماله: طيب ميل بقى من طريقي عشان ما أشبعكش ضرب على الصبح.

ضحك بصوته كله، وابتعد عن ذراعي عماله يشير لهما بامتنان: ألف شكر يا رجالة.

وصاح بالاخر يثير غيظه: عارف أنا الغضب المتدكن ده، شوفته قبل فرحي من سنين ورجعلك دلوقتي قبل الفرح.

شيعه بنظرة قاتلة وغادر وهو يحمل الصغير، حتى أوصله للروضة المتطرفة على نهاية شارع الشيخ مهران.

اتجه إيثان ليعود للمحل، ولكنه توقف فور أن لمح خطيبته تصعد لأحد الباصات العامة، والغريب له أنه لم يكن متجهًا لمكان جامعتها، على الفور وبدون أي تردد ولج من الباب الخلفي للباص المزدحم، وبقى بالخلف يراقبها وهو يشعر بداخله أن هناك أمرًا ما بها.

كانت تستند بجسدها على الحامل الزجاجي جوار مجموعة من البنات، عينيه متورمة من البكاء ومازالت تنهمر الدموع من عينيها، وتزيحها بسرعة كبيرة، بينما يدها تتمسك بحقيبة يدها بشكل يثير الريبة والشكوك، كل تصرف ناتج عنها يؤكد له بأن هناك أمرًا ما عليه كشفه.

توقف الباص حينما طالبته كربستين بأن يصف جانبًا، هبطت تتطلع قبالتها دون أن يرمش لها جفن، بينما يتبعها إيثان وهو يحرص ألا تلاحظ وجوده.

وجدها تتجه لاحدى العمارات السكنية، فألقى بغضبه عرض الحائط وهرول خلفها، لقد تأكدت ظنونه بأكملها، وبرز وبوضوح الشمس أنها تعاني من خطب ما وبكل تأكيد.

انتهى بها الأمر أمام إحدى الطوابق، أمام الشقة الحادية عشر بالتحديد، مالت على الدرابزين تبكي ويدها تحجب صوت شهقاتها بصعوبة بالغة، بينما تتخذ خطوة جريئة بكل شجاعة، فتضع يدها بحقيبتها تتفحص ما أحضرته واتجهت لتقرع جرس الباب، وقبل أن تطرقه جذبها إيثان إليه بعاصفة كادت بقتلها بأرضها، وسؤاله الوحيد يُطرح بخشونة مقبضة: بتعملي أيه هنا يا محترمة؟

ارتعبت قبالته وكأنها تتحول لشبح موتى، صمتها ورعشتها قبالته جعله يهزها بعنف: ساكتة ليه انطقي!

سقطت حقيبتها منها ولجوارها سقط السكين الذي تحمله، توسعت عيني ايثان بصدمة، وانحنى يحمل السكين لها، متسائلًا بدهشة: ده أيه؟! إتكلمي وفهميني أيه اللي بيحصل معاكِ وجاية الشقة الغريبة دي ليه! انطقي.

بكت بصوتٍ مسموع ورددت بصعوبة حديثها: إيثان آآ، أنا. آآ.

إلى هنا وكفى، دفعها عن يده واتجه لباب الشقة هادرًا: انا هعرف بنفسي.

سقطت فوق يديه تحيطه وهي تترجاه وتتوسل: لا يا إيثان أبوس إيدك لأ، تعالى معايا وأنا هحكيلك على كل حاجة.

فشلت في تحريك جسده القوي من محله سنتمتر، فازداد بكائها ومالت على صدره تتمسح به: عشان خاطري إنزل معايا، وأنا هحكيلك.

فك يديها من حول رقبته، ودفعها للمصعد وهو يصيح بوعيد: اتفضلي قدامي، بس لو مقتنعتش بكلامك هقومها حريقة على دماغك يا بنت إيفون!

خرجت فريدة من غرفتها تتآلق بتنورتها البيضاء الطويلة، وقميصها الابيض ومن فوقه جاكيتها الجلد الفخم، وفوق رأسها تخفي خصلاتها بحجاب أبيض معقود من أسفل رقبتها ويعلوه القبعة وساقيها يحيطه الحذاء ذو الرقبة، بينما نظارتها لا تفارق وجهها، وكأنها شابة بالعشرينات من عمرها.

خرجت تشير لأحمد وهي تحمل حقيبتها على معصمها بحركة مدروسة: أنا جاهزة يا أحمد، يلا شمس في انتظارنا.

ترك جريدته وكوب قهوته ونهض يشير لها بابتسامته الجذابة: وأنا كمان جاهز يا حبيبتي يلا بينا.

والتفت لعلي الذي يتناول طعامه المشبع بالخضروات الصحية يخبره: على إحنا رايحين نطمن على آدهم، هتيجي معانا ولا هتحصلنا؟

اجابه وهو ينحني مقبلًا يد ورأس والدته: لا انا ورايا شغل كتير بالمركز النهاردة، بليل هاخد عمران ونعدي عليه باذن الله.

هز رأسه بخفة واتجه للسيارة، بينما مال على لوالدته يشدد عليها برفق: فريدة هانم مش هوصي حضرتك آدهم في حالة مينفعش فيها عتاب على اللي حصل.

نزعت نظارتها عن زرُقة عينيها، وقالت برقتها المتناهية: متقلقش حبيبي أنا مش هعمل شيء يزعله عشان خاطر شمس، مش حابة إني أكون سبب في زعلها.

وابتسمت وهي تميل عليه هامسة: ولإني واثقة ان عمران أكيد لمح له، الولد ده مش بيقدر يسيطر على تصرفاته، أنا مش بحب أتكلم معاه وانا بوضعي المتعصب ده حاليًا لكن بعدين هيكون لي كلام كتير مع أخوك الوقح، يلا تشاوو.

وضع يديه بجيوب بنطاله وارتكن يراقب رحيلهما بالسيارة، وأغلق عينيه ينتعش بالهواء البارد المحيط للكمبوند، فاتاه ما يفصله عن لحظاته الاستثنائية، حينما وجد اخيه يهرول خلف زوجته وهو يهتف بانزعاج: فاطيما اقفي وكلميني، مينفعش ترميلي الكلمتين دول وتمشي من غير ما نتكلم.

استدارت من منتصف الدرج ترمقه بنظرة منزعجة، وصاحت بشراسة يكشفها على لأول مرة: اللي عندي قولته، أنا هقبل بعرض على وهنزل معاه المركز.

وقف قبالتها يكبت غيظه من طريقتها، فأدمى شفتيه السفلي وهو يسحب الهواء إليه قائلًا بهدوء مخادع: كل ده ليه يعني عشان رديت على الكلاب دول؟

صححت مفهومه لغضبها: طريقتك بالكلام استفزتهم لدرجة أنهم هددوك بالقتل ولو فضلت ترد بعدم مبالاة وتستفز فيهم هينفذوا اللي بيقوله عشان يكسروا كبريائك ده، الافضل أنك تتكلم بعقل لحد ما تقدر تكشفهم أو لحد ما مراد يقدر يوصل لحاجة، أنا كل ما بفتح ايميلك بتصدم من ردودك العنيفة، قولت لعلي امبارح وتوقعت انه هيتصرف معاك اصحى ألقيك كتبلهم آ...

وتخلت عن الكلمات بعصبية بالغة، فمنع ابتسامته وقال ببراءة مضحكة: مقولتش حاجه أكتر من مبتهددش بروح أمك! مالها دي؟

ركلت بقدميها قبل ان تستكمل الدرج: أنت عمرك ما هتعترف انك غلطان.

أسرع من خلفها يخبرها: طيب استني طيب، مش هرد عليهم خالص بس متسبيش الشغل يا فاطيما.

ضحك على وهو يتابع أخيه المتغطرس يكاد أن يتوسل لزوجته ألا تترك العمل، وما يضحكه أنه يجد خدعة زوجته تمر على الطاووس الوقح مرور الكرام، تابعهما وهما يجلسان على، طاولة الطعام كأنه طيف غير مرئي، بينما يهتف عمران بلباقة: فاطمة أنتي قولتي لعلي وكبرتي الموضوع وهو ميستاهلش وهو من امبارح قلقان عليا وكل ساعة يتصل بيا بالتليفون وكأني عيل صغير، وعدتها ومزعلتش لاني عارف أنك عملتي كده من خوفك عليا، فمن فضلك بلاش تكبري الموضوع وتخلي مايا أو فريدة هانم يحسوا بحاجة.

تناولت ما بشوكتها وتمتمت: وأنا مش غبية عشان أقولهم.

استند على معصمه هادرًا بخبث: ولما تسيبي الشركة وتروحي تشتغلي مع على مش هيشكوا في حاجة!

حركت كتفها بخفة: هشتغل مع جوزي وده طبيعي إني هعمله بالنهاية.

ضيق رماديته بغضب: طيب وأخوكي؟ هتتخلي عنه يا فاطمة؟

خطفت نظرة سريعه لعلي المبتسم، ثم جذبت منديل ورقي تزيح بقايا الطعام عن فمها وهي تخبره بجدية: هنزل معاك الشركة دلوقتي في حالة إنك تبطل ترد عليهم وتستفزهم، وتوعدني إنك هتسيب الموضوع لمراد وعلى ومتتدخلش فيه.

كز على أسنانه بغضب، ولكنه رضخ لها وقال: أوعدك. كده مرضية؟

هزت رأسها بتأكيد، فأشار لها بغيظ: طيب يلا عشان جمال اتاخر ولازم حد فينا يبدأ الmeeting.

جذبت حقيبتها ولحقت به، فاتجه لاخيه الجالس على المقعد البعيد عنهما، يدعي انشغاله بجريدة أحمد، ومال يهمس له بضيق: ملعوبة بتزق عليا فاطيما عشان تثبتني، ماشي يا على مصيرك تقع وهتلاقيني بحدفك من زنقة للتانية لحد ما تتوب عن ذنبك الفاضح ده.

أبعد الجريدة عنه ومال يطالعه بنظرة ماكرة: متتأخرش بره البيت كتير، بابا على بيقلق عليك يا حبيبي.

ودفعه للخلف ثم نهض يلحق بزوجته بينما يتبعه عمران ضاحكًا، ودمدم بسخط: حاضر يا بابا هسمع الكلام!

بالمركز الطبي الخاص بدكتور علي الغرباوي.

بالطابق المخصص للكشف عن الاطفال، وبالاخص أمام غرفة الكشف الخاصة ب زينب، جذب يوسف زوجته وهو يترجاها: ليلى بلاش عشان خاطري، سيف لو عرف إنك عارفة عقدته هيقتلني.

جذبت ذراعها وقالت بعزم: يا يوسف الجوازة واقفة على الطلاق بسبب تافه، هقولها ونحل الامور بدل ما يتطلقوا فعلا، زينب عنيدة وتعملها.

اعترض على حديثها قائلًا: لا زينب عاقلة جدًا، هي بس بتستفزه عشان تعرف اللي هي عايزاه، خلينا بعيد احنا احسن.

أصرت على ما برأسها، واستدارت تبحث من حوله متسائلة باستغراب: قولي بس سيف فين دلوقتي؟

أجابها وهو يتمنى أن تعود عما برأسها: لسه نايم، عملتله الفطار قبل ما أنزل وسيبته جنبه معرفش بقى صحى ولا لسه!

صفقت بيدها بحماس: بس كده اتحلت، طالما اتاخر كده يبقى مش هيجي النهاردة، يبقى سبني ألحق أقولها الكلمتين وألطف الدنيا.

منعها قبل الولوج وهو يشير لها برفق: بلاش يا ليلى عشان خاطري، سيف هيقيم الحد عليا ومش بعيد يشيل شنطته ويمشي تاني.

ضحكت وردت عليه: هخلي زينب متقولهوش حاجه.

وأضافت وهي تشير له على النافذة الضخمة الزجاجية: دكتور على جيه أهو، انزل قابله وشوف شغلكم ومالكش دعوة بحوارات الحريم دي.

دفعته عنها وقبل أن يعترض تلك المرة كانت تغلق الباب من خلفها.

تركت زينب حاسوبها ونهضت تضمها بفرحةٍ، هاتفة بعدم تصديق: معقول يا لولي نزلتي الشغل على طول كده، أنا فكرتك هتأخدي أجازة يومين تلاتة تتدلعي فيهم قبل ما تنزلي المركز.

أشارت لها تساندها للمقعدين المتقابلين، فجلست تمسد على بطنها المنتفخ وقالت: لا ما انا فعلا هأخد اجازة لحد ما أولد انا مبقتش أقدر أقف في عمليات وأنا بوضعي ده، وخاصة وأنا ماشية بكيس البقسماط.

قالتها وهي تخرج من حقيبة يدها وتتناولها بنهمٍ، ثم تابعت: وعلى عارف كده ومسامح من قلبه، بصراحه شغلي معاه مفرحني، انسان محترم وبيقدر جدًا.

ردت عليها زينب بمزح: مش جوزك شريك بالمركز هنا لازم يقدر طبعًا.

هزت رأسها نافية: دكتور على طول عمره كده وبعدين إنتي هتوهي عن جوز أختك ولا ضاربة معاها خناقة فقالبة عليه وعليها مع سيف كمان!

رفرفت باهدابها بحرج: هو موضوعي انا وسيفو بقى مفضوح أوي كده!

أشارت على ذاتها بمرح: مش أنا عرفت يبقى الموضوع انتشر وعشان كده جيت عشان ألمه.

سمعت للطارق بالدخول، فدخل العامل بكوب قهوتها، وضعته على الطاولة ونهضت تخبرها: على فكرة أنا اللي بغلس عليه عشان شايفاه بيحن لصاحبه آيوب ده، بيتلكك سيادته عشان يروح يبات معاه، فقولت أربيه ولما جالي يجري كملت عليه من حيث لا يحتسب، عشان يحرم بسلامته.

لفت مقعدها اليها وتساءلت: يعني الموضوع مالوش علاقة بعقدة سيف من الحقن!

تركت الاستمارة من يدها وهرولت للمقعد من جديد تسألها بلهفة: ليلى إنتي عارفة سيف متعقد من الحقن ليه؟

هزت رأسها بكل تأكيد، فحركت زينب مقعدها اليها وقالت: قووووليلي وحالًا.

منعت ضحكاتها من الظهور وقالت: بس متجبيش سيرة ليه.

هزت رأسها بكل تأكيد، وقالت: مش هقول صدقيني وواضح كده ان دكتور يوسف جوزك بيبع كوسة، مرضاش يقولي وبيقول سر وبتاع وهو زايعلك من زمان، بس ما علينا قووولي.

حاربت كل موجات الضحك التي هاجمتها وقالت: الموضوع وما فيه آن سيفو كان شقي وهو صغير حبتين، فكان بيتابع قنوات على اليوتيوب، بتعرض تطريز ألعاب وأشكال مرسومة بأشكال من الزراير، او مجسمات صغيرة بيدوروا بيها حولين الرسمة، الموضوع عجبه، فجاب لوحه ورسم عليها مكعب، وللاسف دماغه مكنتش ذكية كفايا.

تساءلت زينب بفضول: حصل أيه انجزي يا ليلى!

رددت والضحك يلاحقها: اشترى محاقن من الصيدلية واخد السن بتاعهم وعمل بيهم المجسم من الآبر.

وبعدين؟!

ضحكت وهي تجيبها: في يوم يوسف كان داخل عليه أوضته، فخاف يشوف المجسم، فجري وخباه تحت سجادة كانت محطوطة على كرسي أوضته، بص عليه وطلع تاني، ولما طلع سيف من خضته قعد يريح على أقرب كرسي، وللاسف الكرسي اللي قعد عليه كان هو نفس الكرسي اللي مداري فيه عملته!

جحظت عين زينب صدمة، وانهارت من الضحك وهي تردد: يا نهار أبيض! معقول!

انهارت ضحكات ليلى هي الاخرى وهي تخبرها: دي لوحدها عقدة غير عقدة المستشفى، اتحجز فيها عشرين يوم بياخد كل يوم تلات حقن في الوريد عشان يتعالج من اللي حصل له، فكره الطب على الآبر على اليوم اللي دخل فيه يوسف الاوضة ليه!

سقطت زينب ارضًا من الضحك بينما مازالت ليلى تستكمل: إه لو كنتي تشوفيه لما بيتعب بنعالجه ازاي، انا ويوسف بنجاهد في سبيل الله عشان يرضى يتعالج ومتسألنيش دخل طب ليه بعد كل ده!

ردت عليها زينب وهي تضربها كف: عشان عنده إرادة.

=دي أكيد ارادة من حديد اللي صعب تعرفي عنها حاجه ياما.

قالها سيف وهو يلقي باقة الزهور بوجهها، واستطرد بوعيد لزوجة أخيه: مش هيصعب عليا في الموضوع ده الا ابن أخويا اللي في بطنك لانه مالوش ذنب في اللي هعمله.

مسدت على بطنها المنتفخ وهي تستند على زينب برعب: ليه هو إنت ناوي تعمل أيه يا سي?و!

جذب مفتاح الغرفة وخرج يغلق الباب عليهما وابتسامة الشر والوعيد تحتل مُقلتيه!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة