قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والعشرون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والعشرون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والعشرون

قلبها التعيس غمرته فرحة ضمتها لتدوي جميع أحزانها، وكأن اليوم هو الموعود لتضميد تلك الندوب التي تركها السواط بعلاماته المؤلمة على جسدها، مرة حينما رزقها الله بزوجٍ حنون مثل زوجها، ومرة أخرى حينما رد لها شقيقتها الغائبة عنها منذ أعوامٍ وبالكد كان يصل لها خبر أنها على ما يرام، فقد بث لها مراد أنها بخيرٍ، وتتابع تعليمها على أكمل وجه وبتقديرات ممتازة، والآن يجمعها بها بعد فراق ولوعة.

لا تعلم كم قضت من الوقت تضمها بين أضلعها ودمعاتها تهوى على خديها دون توقف، لتهمس الأخرى بصوتٍ متألم: فاطيمة حبيبة ديالي، انا ما ممصدقاش راسي فاش قالي مراد بانني غنحضر عرسك.
(فاطمة حبيبتي، مصدقتش نفسي لما مراد قالي إنه هيخليني أحضر فرحك النهاردة. ).

فقدت القدرة على الحديث، فبقت تربت بيدها بحنانٍ على ظهر شقيقتها، فاسترسلت زينب بسعادة تغمر عينيها: خباراتك كلها تتوصلني اول باول، و فرحتلك بزاف بزاف احبيبة ديالي، الله يفرحك و يسعدك.
(أنا اخبارك كلها كانت بتوصلني، وفرحتلك أوي يا حبيبتي، ربنا يفرحك ويسعدك. )
أبعدتها عنها وسألتها بلهفة وعينيها تراقب المكان المحاوط بهما: فين بابا يا زينب؟

لمع الحزن بحدقتيها، بعدما دعستها بذكرى طفيفة دون علمًا بما تخوضه هي، فقالت وهي تحاول السيطرة على حزنها: بابا مات افطيمة، مقدرش يستحمل الموت د ماما، كان كيتعدب ف اخر ايام حياته و ماكنش كيفارق بيته و لا سريره حتى دا مول الامانة امانته
(بابا مات يا فاطمة، مقدرش يستحمل وفاة ماما، كان بيتعذب في أخر أيامه ومكنش بيفارق البيت ولا سريره لحد ما ربنا استرد أمانته! ).

برقت بعينيها بصدمة، وانتقلت الدموع لتغزو عينيها، فتابعت زينب بانكسار: انا المدة اللي دازت كنت بوحدي من بعد الموت د بابا، فكرت ف مراد يعاوني و يكون بجنبي حيت انا عارفة انه اهل ثقة و واثقة بانه ماغيخلينيش بوحدي
(أنا طول الفترة اللي فاتت كنت لوحدي بعد وفاة بابا وملقتش غير مراد ألجئ ليه لاني عارفة أنه أهل ثقة، وكان عندي ثقة إنه مش هيسيبني لوحدي. ).

واستطردت وهي تلتقط نفسًا مطولًا يكون عونًا لها: كانت فترة صعيبة بزاف ف حياتي، كون ما مراد من بعد الله سبحانه و تعالى كون اتكرفست و اتبهدلت، حتى انه نقل اوراقي للجامعة هنا باش نكون معاك و مانبعدش عليك احبيبة ديالي.
(كانت فترة صعبة في حياتي أوي ولولا مراد بعد ربنا سبحانه وتعالى كان زماني اتبهدلت، ده كمان نقل ورقي لجامعة هنا عشان أكون معاكي ومفارقكيش تاني يا حبيبتي! ).

ضمتها إليها بقوةٍ، وكأنها تود أن تنفرد بها بعيدًا عن ذلك الزحام، لتبقى برفقتها تستمع بالتفاصيل عما حدث إليها طوال تلك المدة، فتمهلت أن ينتهي هذا الحفل ويدها لا تفارق جسد شقيقتها الصغرى.

وقف قبالتها وعينيه مازالت تراقب الطريق، وبالرغم من أن شوقه لها يكاد أن يدفعه لاحتضانها الا أنه فضل عدم التطلع لها، بخشى أن يزيد بذنوبه بتأملها، ويود أن يتمعن بها فور انتهائه من قطع تلك المسافة بينهما ويكون بينهما رابطًا شريفًا، فقال: خير يا شمس؟
اندهشت من طريقته الغريبة بالتعامل معها، وقالت بدهشة: في أيه إنت ليه مش بتبصلي؟

مرر لسانه على شفتيه السفلية بتريثٍ، وقال: زي ما أنتي شايفة براقب الطريق، لإن وجودنا هنا مع بعض غلط، ومش عايز حد يشوفنا ويتفتح في حوار مالوش أي لازمة.
واستطرد بجدية تامة: قوليلي في أيه يخليكي تعرضي نفسك لموقف سخيف زي ده؟
عبثت بعينيها متسائلة: موقفي سخيف من نحية أيه يا كابتن؟

بقى كما هو لا يستدير لمقابلتها، مما دفعها لتخطيه فكانت الآن تقف نصب عينيه وجهًا لوجه، وبعصبية بالغة قالت: إنت ليه بتعاملني كده يا آدهم؟ بقالك كام يوم بعيد والنهاردة بتكلمني كده، هو أنا بفرض نفسي عليك؟
تعلقت عينيه بعينيها وليته لم يفعل، قفز قلبه بداخله منصاعًا لتلك الضربات الصاخبة، فقال بهدوء نبرته: حبك اللي فارض نفسه عليا ومخليني أسير لعيونك يا شمس.

وتابع ببسمة صغيرة ينجح برسمها بالكد: أنا بحافظ عليكي يا هبلة، تخيلي حفلة زي دي فيها أكابر عائلات الطبقة الآرستقراطية، لو حد فيهم شافك واقفة معايا بمكان بعيد زي ده هيكون شكلك أيه.
وتابع ومازال يتابعها بحبٍ دافئ: وأنا وعدت دكتور على إني أحافظ على حدودي لحد ما أنجز مهمتي وأجي أطالبك منه بشكل رسمي.
رفرفت بعينيها بعدم استيعاب، وتساءلت: إنت شوفت على أخويا فين؟

تهدلت شفتيه ببسمةٍ هادئة: مش مهم، المهم ترجعي الحفلة وتخليكي زي ما إنتي بعيدة عن راكان قدر المستطاع، زي ما شوفتك كده بنفسي بتزحليقه كل ما يقف قدامك وبصراحه عجبني الوضع ومكيفني أوي.
ضحكت برقةٍ، وأخبرته بدلالٍ: بعمل كده عشان مبقدرش أشوف نظرات الغيرة اللي بشوفها جوه عيونك لما راكان بيقربلي.

اتسعت ابتسامته وتناغمت مع صوته الجذاب: مش بس هتعملي كده مع راكان، مع كل الرجالة يا شمس، أنا غيرتي قاتلة خدي بالك عشان متقوليش إني محذرتكيش!
وتابع بنظرة عميقة لها: لما كل ده يخلص هيكون عندنا الوقت أنك تستكشفي طباعي وشخصيتي الحقيقية، وأولها إسمي الحقيقي اللي هموت وأسمعه منك بدل آدهم اللي فلقتيني بيه قدام الناس وحتى وإحنا لوحدينا!

حذرته بأصبعها الممدود قبالة حدقتيه حتى كاد بأن يصفي عينيه: كله الا كده أنا حاباك بإسم آدهم ومش هناديلك غير بيه فمتعشمش نفسك يا باشا.
توالت ضحكاته المسموعة بشكلٍ جعلها تراقبه بابتسامة، وضع يديه بجيوب جاكيته وردد بيأسٍ: خدي راحتك لحد ما دوري في الفيلم ده يخلص وقتها هتطبعي على طباع عمر الرشيدي غصب عنك يا شمسي.

وتركها وخطى بطريقه للعودة، فأسرعت خلفه تناديه: أنا لسه مقولتلكش على اللي جبتك هنا علشانه يا آدهم.
توقف عن المشي واستدار لها باستغراب، فملامحها كانت تتسم بالجدية الطاغية، سألها برزانته المعتادة: قولي يا شمس، قلقتيني!

ضمت شفتيها معًا، وكأنها تحاول إيجاد المناسب لقوله وخاصة بمعرفتها بأنها ستفتح الطريق لاختبار عصبيته لأول مرة، فقالت: أنا أقدر أساعدك بالملف اللي مش قادر توصله لحد النهاردة ده، يعني أقدر أدخل لقصر راكان بمنتهى السهولة وآ...

كممت باقي كلماتها داخل جوفها فور رؤيتها لاحتقان معالم وجهه الأبيض، ليصبح كسواد الليل المحاط بها، تقنص منها خطوتان خطرة مثل نظراته الحالكة، وصاح بخشونة جافة: أوعي تندميني إني كشفتلك هويتي واللي موجود عشانه، أقسم بالله لو حصل يا شمس هتخسريني.

شفق على حالة الذعر المجتازة داخل نظراتها تجاهه، فهدأ من انفعالاته وأخذ يزفر تدريجيًا حتى هدأ بالفعل، فقال: إنتي متعرفيش راكان ده واصل بالحقارة لأي درجة، لو عملتيها مش هتلحقي تخرجي من قصره على رجليكِ، أنا عارف ألعبه إزاي وأخليه يلف حولين نفسه، وعارف أمته هأخد الملف، ده شغلي ودي حربي أنا.

هزت رأسها بخفة ومازال الخوف يعتليها، فقال بحنان: شمس أنا خسرت مرة والدتي ومعنديش استعداد أخسر حد غالي على قلبي مرة تانية، عشان خاطري خليكِ بعيدة عن كل ده، أنا كافيل بيه وباللي وراه، أوعدك كل ده هينتهي وهنكون بعدها مع بعض على طول، المهم هنا هتستنيني؟
نجح بزرع الابتسامة على وجهها وهزت رأسها تؤكد له: هستناك العمر كله يا آدهم.

هز رأسه في يأس، وقال: عيدي الجملة اللي رشقت في قلبي دي تاني بس بإسمي الحقيقي لو لمرة واحدة.
اعترصت باشارتها النفية، فتوسل لها ببسمة تسلية: عشان خاطري طيب. أنا ماليش خاطر عندك!
احتلت الحمرة وجهها، ففركت أصابعها وتراجعت وبسرعة كبيرة رددت وهي تحمل طرف فستانها الطويل وتهرول من أمامه: هستناك يا عمر!

تابعها وهي تركض بخفة والابتسامة تزيد من ابتسامته الجذابة، وحينما اختفت من أمامه همس لذاته بحبٍ: مش هطول عليكِ بالغياب يا روح قلب عمر!

من قال أن المخابرات تتبع اسلوب أفلام الممزوجة بالأبيض والأسود الآن، ربما كان يتخفون جيدًا لايصال ما يردون من معلوماتٍ سرية، والآن على حسب تحديثات الجوكر والاسطورة والوحش وغيرهم من الظباط المتروك وسامهم فوق رؤوس الجميع باتت هناك قوانين جديدة، يتقابل بها القائد وتلميذه في خضم النهار وأمام أعين الجميع، كلاهما يعلمان بهوايتهم والجميع لا يدرون ما بهما، هكذا تم فور لحظة اصطدام آدهم بالجوكر حين عودته للحفل، فرفع يده يعتذر بلباقة: أعتذر منك سيدي.

منحه مراد نظرة عميقة، بينما يشعر بيده التي تمتد لجيب بنطاله لتدث له شيئًا كان جزءًا من قدومه إلى هنا، بينما الاخير يحيه بايماءة صغيرة من رأسه تقديرًا لقائده، والأخر يعلم تفسير الاشارة حتى وإن بدى منتصبًا بوقفته قبالته، فحرر صوته القاتم باستياءٍ: تطلع أمامك وأنت تسير يا فتى، إن كانت عينيك لا ترى العوائق أمامك جيدًا فلتنسحب من الحفل حتى لا تأذي نفسك ومن حولك هنا.

علم مغزى اشارته جيدًا، فهز رأسه ببسمة هادئة: أعتذر لك مرة أخرى.

وتركه واتجه ليكون قريب من راكان، وعقله شارد باشارة مراد الصارمة له بالا يعرض نفسه وفريقه للخطر لاجل الحصول على الملف، أمرًا صربحًا له بالانسحاب على الفور بينما تسعى القوات للقبض على راكان والتحفظ عليه لاستدراجه بالتحقيقات للاعتراف بمن ورائه، ولكنه مازال مصممًا على عدم الانسحاب دون هذا الملف، الرغبة بالانتقام كانت شخصية لخسارته والدته بسبب تلك الادوية المغشوشة وللعجب يعلم مراد بهذا ولكنه يخشى خسارة أحد تلاميذه المحترفين، فصوب له أمرًا مباشرًا بالانسحاب وهو يعلم بأن عمر الرشيدي ليس من ذاك النوع الذي يتقهقهر تاركًا ساحة القتال!

إتجه جمال للطاولة التي تحوي صبا بعد أن غادرت ليلى لطاولة يوسف القريبة منها، جذب مقعدًا وجلس قبالتها فوجدها تتطلع تجاه يوسف وزوجته بابتسامة رقيقة، وما أن انتبهت له حتى قالت: دكتورة ليلى دي سكر أوي، وواضح كده إنها هي وجوزها بيحبوا بعض جدًا.
أكد لها بابتسامة هادئة: دي حقيقة، يوسف وليلى بينهم قصة حب كبيرة من أيام الجامعة.

اعتدلت له بجلستها بحماسٍ لحق أسئلتها الكثيرة: بجد، يعني قصص الحب اللي بنسمع عنها في الروايات والمسلسلات دي حقيقية يا جمال؟
ضيق عينيه باستغراب لحالتها، وكأنه لا يكن لها حبًا مقدسًا شبيهًا لذاك، فقال: ومالك مستغربة ليه، هو احنا مفيش بينا الحب اللي يخليكي تصدقي ده يا صبا؟

تلاشت ابتسامتها تدريجيًا، وكأنه لمس وترًا مقطوعًا داخلها، فجذبت كوب العصير من أمامها تتجرعه قائلة وهي تزيح ذاك الموضوع من أمامهما: أنا قلقانه على ماما، مكنتش حابة أسيبها لوحدها خصوصًا إنها لسه واصلة النهاردة، بس هي اللي صممت أجي معاك!
تغاضى عما قالت، وسألها مباشرة: قصدتي أيه بكلامك ده يا صبا؟
منحته ابتسامة مصطنعة، وقالت بلطف: مقصدتش حاجة يا جمال، أنا بكلمك عادي يعني.

اتسعت ابتسامة سخريته ولحقت بنبرته: صبا من أسابيع علاقتنا كانت على وشك إنها تنتهي بسبب سكوتك، النقاش هو اللي بيحل أي عقبات بين أي زوجين، أنا مصدقت إنك ابتديتي تتكلمي قدامي بدون خوف أو خزي، أيه اللي حصل تاني؟
رفعت عينيها إليه وجاهدت لسؤاله باستحياء: أصلك بتقول إنك بتحبني، وإنت ناردًا لما بتقولي الكلمة دي، أعتقد قولتلهالي مرتين أو تلاته من يوم ما اتجوزنا!

ضحك باستمتاعٍ وهو يراها تكاد تنقلب لحبات الكريز الأحمر من فرط خجلها، فتنحنح قائلًا: أنا من النوع اللي نادرًا لما أعبر عن مشاعري، وده مش أنا بس يا صبا أغلب الرجالة كده، مشاعرهم مدفونة جواهم، معرفش يمكن احراج أو توتر، لكن بديهي أي زوج لو مبيحبش زوجته محدش هيجبره يعني انه يعيش معاها العمر ده!

واجهته بقوة وجراءة غريبة: وده اللي بيخلي قلوب الستات دايما مكسورة، كلمة واحدة وبسيطة قادرة إنها تسعد الست، لو فاكر أن قلة الكلام الحلو بين الزوج وزوجته بيقربهم العشرة فده غلط، الست بتكون محتاجو لكلمة حلوة تسمعها من جوزها مش من حد تاني يا جمال، هو أيه اللي ممكن يقل من الراجل أو ينتقص من رجولته لو قال لمراته بحبك!، شكلك حلو، تسلم إيدك لو الأكل عجبه، لو دخل لقى بيته مترتب كالعادة ومدحها بكلام جميل ده هيقل منه!

بدى حائرًا أمامها، وردد بفتور: إنتِ عايزة توصلي لأيه يا صبا؟
أجابته وعينيها تتعمق بالتطلع إليه: مش عايزة أشحت الكلام الحلو منك، لو بينا قصة حب زي ما بتقول ليه مش بتعبرلي؟!
منع ذاته من الضحك حتى لا تظن أنه يسخر منها، فعاتبها وهو يقرب جسده من الطاولة ليصبح قريبًا منها: هو مش أنا ساعة المشكلة اللي حصلت بينا قولتلك بحبك وسمعتك كلام من على وش القفص، ولا إنتي زي القطط بتأكلي وتنكري إنتي وابنك!

لوت شفتيها بتهكمٍ: مهي دي يعتبر المرة الوحيدة اللي اتلحلحت واتكلمت فيها من وقتها رجعت لسكوتك وطبيعتك.
حك جبهته باحراجٍ: مهو أنا بتكسف يا صبا.
جحظت عينيها بدهشة من ذاك التصريح الصادم وكأنها هي الجريئة هنا!، نظف حلقه متنحنحًا: وبعدين عايز أقولك الكلام الكتير ده بالفاضي المهم الفعل، ونهايته إننا مع بعض واني بحبك.

واستطرد بغمزة مشاكسة: ولو الكلام الحلو هيبدد هرمونات الحمل اللي ناوية تخرب علينا دي عيوني هكترلك من المكسرات واللوز رشوة تأكدلك إني بحبك.
وبمزحٍ لحق صوته الرجولي الضاحك: فكك من الكلام اللي مبيأكلش عيش واطلعيلك بمصالحة، متخليش أجواء الطبقة المتريشة دي تأكل بعقلك إحنا اتربينا في البيوت البسيطة اللي أهلها أغلب الموجودين بالمجتمع.
منحته نظرة مغتاظة وعادت ترتشف عصيرها من جديدٍ.

رحلة عناء الأعوام المرهقة انتهت بتوقيعهما على ورقة الزواج، معشوقة طفولته ومراهقته وكل مراحله العمرية باتت زوجة له أخيرًا، تلك التي اعتكف لأجلها عن نساء الأرض بأكملهن أصبحت تخصه، يود أن يعوضها عن تلك الفترة القاحلة التي تعرض لها حبهما، يود أن يختطفها الآن ليحظى بالبقاء برفقتها لأطول فترة تمكنه من تعويض كل تلك الآلآم التي قضاها بالبعد عنها.

مال أحمد برأسه عليها وخدمه قربها منه على الأريكة ليهمس بعشقٍ: وأخيرًا انتهت قصتنا بنهاية سعيدة يا فريدة، ألف مبروك يا حبيبتي.
إستدارت إليه تقابله بابتسامةٍ رقيقة، هادئة، وبصوتها الناعم قالت: الله يبارك فيك يا أحمد، أنا كمان مش مصدقة إننا أخيرًا بقينا مع بعض.
أكد لها بوعده الصارم: لأخر العمر هنكون مع بعض، مفيش أي شيء تاني هيفرقنا يا أغلى من حياتي.

وانحنى بخفة يستغل انشغال الجميع من حوله، ليجذب يدها وإتجه بها للمصعد ومن ثم لجناحها القريب منهما، فما أن ولجوا معًا للجناح حتى طبع قبلة عميقة على باطن يدها وهمسه المغري يصل لها فيسري رعشتها بطريقة فجأتها: بحبك، وعمر قلبي ما اعتكف يوم عن حبك ولو لثانية واحدة، ثقتي في ربنا وفي الحب اللي بينا كانت بتقويني وبتديني الأمل أن في يوم هيكون في دوا لجروحي ولقاء يجمعنا.

واستكمل بحنين صوته الرخيم: الأيام كانت بتعدي عليا من غيرك قاسية زي الخريف اللي بينزع ورق الشجر ومبيتبقاش غير الغصن هو اللي صامد، ومتحمل فقدان كل ذكرى بتنزل مع الورقة اللي شايلها، كنت فاكر إني هنساكِ وهكمل بس الأيام يا حبببتي كانت بتعدي عليا ولا جرحي بيتداوى ولا أنا قادر أنسى!، أنا مبعدتش عن الستات ولا إرتبط بسبب وعدي ليكي لأ مش دي الحقيقة، الحقيقة إن قلبي مقدرش يحس بحد غيرك يا فريدة، والنهاردة المعاناة دي انتهت ومش هترجع تاني.

انهمرت دمعاتها دون توقف وهي تستمع إلى صوته المهزوز من تحمله لكمية تلك الآلآم العاصفة لجوارحه، فلعقت شفتيها الجافة ورددت بخفوتٍ: مين كان السبب في المعاناة دي يا أحمد، مش إنت؟
أغلق عينيه بقوةٍ رافضًا العودة للحديث بالماضٍ، فقال ورماديته لا تتحرك عينيها الفاتنة: بلاش نتكلم في اللي فات على الأقل النهاردة.

وكسر جفاء تلك السنواتٍ القاحلة بمطرة من مشاعره تعوضه عن امتناعه عنها حتى حينما كان مراهقًا، كم تمنى أن يحظى بها منذ ذاك الحين ولكنه كان يحفظها من نفسه ولم يعلم بأنه سيفقدها بزواجها هذا ومن بعده فترة البعد الاجباري، وها هو الآن يقتبس أول قطفة من عشقهما، فتمادى برفقتها وللعجب أنه شعر بأن استجابتها الفطرية انقلبت لاعتراض جعلها متيبسة بين ذراعيه، فهمست له وهي تعافر اقحام أنفاسها المتسارعة: أحمد آآ. أنا مش هقدر!

هالة حبه الغريبة جعلته كالأصم لا يستمع لحديثها، وكأنها تتحدث بشفرةٍ غريبة، فقال بتريثٍ: مش فاهمك!
أبعدت يديه المحاطة لجسدها، وصاحت بارتباكٍ: مش هقدر أعمل كده.
تجعد جبينه وتلامس حاجبيه من فرط انقباضهما: تقصدي أيه؟
تخلت عن مواجهته وولاته ظهرها، وهي تستطرد بصوتٍ محتقن بالبكاء: مش هقدر أخونه وأحس الاحساس البشع ده من تاني، من فضلك إخرج!

رمش بعدم استيعاب، وكأنه لا يرى الا مجموعة من الألغاز يحاول جاهدًا فكها ليصل له مضمون ما تود قوله له من خلال كلماتها المستترة، فردد بوجومٍ شديد: تخوني مين؟ سالم خلاص مات من سنين يا فريدة ومبقاش في غيري جوزك وحبيبك وهكون أب لأولادك زي ما إنتِ عايزة!

انتفض جسدها من شدة البكاء، فراقبها بدهشةٍ لم تكن سوى تزيد من ألمه أضعافًا، فابتلع ريقه المرير وهو يجاهد جملته التي تذبح فؤاده قبل أن تخرج لها: إنتي آآ، آنتي حبيتيه يا فريدة؟
لم تحتمل إلقائه لتلك التهمة القاتلة لها، فالتفتت إليه بعينينٍ شاخصتين، تهز رأسها نافية بتعصبٍ، وصرخت بوجهه: محبتش في حياتي راجل غيرك إنت.

تماسك بأعصابه التي تندفع بانفعالٍ داخل جسده المتشنج، وصاح مستنكرًا: أمال أسمي ده أيه؟ رافضاني ومش قابلاني أقربلك ليه!
أخفضت عينيها أرضًا غير قابلة لمواجهة رماديته، وهمست بانكسارٍ: في حاجات إنت متعرفهاش يا أحمد.
ربع يديه أمام صدره وبقوةٍ وصلابة قال: جاهز أسمع، اتكلمي.
ولاته ظهرها من جديد، قائلة: مش جاهزة أتكلم دلوقتي، من فضلك إديني فرصة.

تنهد بوجعٍ خنق أضلعه ومزق قلبه المتهاري دون شفقة، فالتفت ليغادر غرفتها ولكنه توقف وأسرع يجذب ذراعها لتقف قبالته، اقترب إليها واسند جبينه لجبينها يلتقط أنفاسه المتصاعدة تاركها تلفح وجهها، لتتنفس من ذفيره الخارج عنه بعنفٍ: أحمد حبيبك تعب أوي عشان يوصل للحظة دي، فبلاش تقسي عليه أكتر من كده يا فريدة، عاقبيني على التخلي والبعد بأي شيء تاني غير بعدك عني، أنا موجوع ومش حمل وجع جديد أقسملك إني جاهز لأي عقاب وهتقبله منك بس الا ده يا حبيبتي مش هقدر ليه!

انهارت بالبكاء، وبتوسلٍ شديد وضعف يجده عليها لأول مرة: أنا محتاجة بس شوية وقت، مش عايزاك تبعد عني والله بس أنا حاسة دلوقتي احساس مش هقدر أوصلهولك، سبني يا أحمد بالله عليك سبني.
تراجع خطوتان للخلف وعينيه لا تفارقها بعتابٍ ولوم، واستدار كليًا ليغادرها وأخر ما تلتقفه حدقتيه صور أخيه القريبة من مجال خروجه، وكأنه يعلن له انتصاره في جولته الثانية!

أحاطه غضبًا حارقًا، فعاد لغرفته مهمومًا حزينًا، وأخر ما يشغل باله ما الذي تخفيه عنه فريدة؟
أحاط عمران كتف يوسف وقرب منه طبق الطعام الفخم الذي وضعه الخادم مشددًا عليه: مش هتنتقل غير لما تخلص طبقك يا دكتور، إحنا أهل كرم.
إلتفت إليه باسمًا، ثم قال: مش محتاجين عزومة في بيت أخويا.
جذب عمران المقعد المجاور إليه ليجيبه باحترام تلثم به لوجود ليلى: بيت أخوك منور بيك إنت وجمال يا دكتور، بس فين سيف مجاش ليه؟

ردت عليه ليلى: سيف واخد دور برد ورافض يأخد المحلول، الادوية مش جايبة نتيجة مع حالته دي، بس أنا قررت بعد الحفلة هنروحله أنا ويوسف وهنعلقله غصب عنه.
قهقه يوسف ضاحكًا، وحذرها: سيف بيكره الحقن والمحاليل يا ليلى وكده ممكن يأخد منك موقف أنا نبهتك أهو.
ضحك عمران وردد باستهزاءٍ: ولما الدكاترة تخاف من الحقن الإنسان العادي يعمل أيه؟!
أجابه جمال الذي ترك طاولة زوجته ولحق بهم: ياخد دوا شرب.

لف عمران ذراعه الأخر تلقائيًا ليضم من اقترب إليهما، فسأله باهتمام: أكلت ولا جاي عامل دايت هنا إنت كمان؟
نفى ببسمة واسعة: نسفت طبقي يا باشا من غير أي عزومة، وكنت في طريقي للمرواح بس جبت أكد عليكم إن الحاجة مستنياكم بكره محدش يتأخر.
أجابه يوسف بحماس: من الفجر هنكون عندك أنا وليلى.

عاد بنظراته لعمران ليعلم بها اجابته، فقال ساخرًا: أنا بايت عندك من دلوقتي، دي الحاجة عليها شوية محشي هما السبب في نزولي مصر طول السنين اللي فاتت.
واستطرد بمرحٍ: صحيح أنا محروج منها لإنها كانت بتبعتلي مع جمال حلة محشي كل ما بينزل فالمرادي جايبها وجاية أكيد مفكرة إني طفس بس ولا يهمني.
تعالت ضحكاتهم جميعًا، فصاح يوسف بمكرٍ: وأيه الجديد ما انت طول عمرك طفس يالا!

وزع جمال نظراته بين صبا وليلى، وصاح بحزمٍ: متعصبش عمران يا يوسف، البنات واقفة!
أشار له بعنجهية: شوفت الناس اللي بتفهم!
انضم لهم على ببسمته البشوشة: ها يا شباب ناقصكم حاجة؟
أجابه يوسف بلباقة: ناقصنا وجودك معانا يا دكتور.
أضافت ليلى: ألف مبروك يا دكتور علي.
منحها ابتسامة هادئة: الله يبارك فيكِ يا دكتورة، وعقبال كده ما نفرح بدكتور سيف قريب.

تخلى عمران عن رزانته التي ينجح بتلبسها أينما شاء: أكيد سيف هيقع في دكتورة بردو، ما العيلة دي تحسها قالبة على ادارة مستشفى عام حتى والد يوسف دكتور ووالدته دكتورة جامعية!
مازحه جمال هو الآخر: هاتله واحدة من كلية محاسبة تدير المواعيد وكشوفات المرضى!
انفجر الجميع ضاحكًا، فقال عمران لاخيه وعينيه لا تفارق زوجته المنزوية بين فاطمة وشقيقتها: مش هنقفل الليلة ولا أيه يا علي، ما خلاص على، كده!

رفع ساعة يده يتفحص الوقت، وقال: عندك حق الوقت إتاخر.
صاح يوسف بحماس: عمران قفلنا إنت الليلة دي، بأغنية رومانسية ندندن عليها أنا والدكتورة ليلى.
كاد بالاعتراض فلحق به جمال مؤكدًا: صوتك جميل ودافي يا عمران، عندي فضول أشوفك بتغني أغنية هادية. ولا أيه يا دكتور علي؟

خشى عمران أن يعود على لتعصبه من جديد، سابقًا منعه من الغناء حينما كان يهتم بمسرح الجامعة لابراز موهبته، والآن استغل موهبته ليعبر عن مشاعره لزوجته، ولكنه وجده يمنحه ابتسامة هادئة وأشار له للمنصة، انخفقت الاضوء وبات الجميع على استعداد لمشاركة الازواج بالرقص الهادئ.
صعد يوسف مع زوجته على المنصة وحاوط خصرها بينما تعتلي هي كتفيه، وبدأت الموسيقى الهادئة تجتاز المكان من حولهم.

تفاجآت صبا بجمال يدعوها للرقص، ولأول مرة تشعر بأنه رغم أنه شخصًا عاديًا لا يحب المبالغة بالامور الا أنه يحاول بشتى الطرق لاسعادها، فصعدت برفقته وتمايلت ببطء بين يده.
أما على فاكتفى بالوقوف جوار فطيمة وعينيه لا تفارقها كأنها هي من تراقصها الآن.

قدم عمران يده لمايسان، فمنحته اياها على استحياء، سحبها للمنصة وتمايل برفقته بعدما ثبت سماعة الرأس حول أذنيه وشفتيه استعدادًا لاغنيته التالية، فطال صمته مما دفع يوسف لإن ينجرف برقصه برفقة زوجته حتى بات يقف جواره متسائلًا بدهشة: هنقضيها على الموسيقى كده، ما تغني يا ابني!

منحه نظرة مغتاظة وقال بسخط: قولتلكم ادوني وقتي بختار في دماغي المناسب ليا وللحالة الشاعرية اللي بعيشها مع مراتي، مش زرار هو هدوس عليه وأنطلق، ارجع مكانك بقى خليني أركز.

ضحكت ليلى وغمزت لمايسان الذي تلون وجهها بحمرة الخجل، وكأنه يصر على أن يجعل الجميع يعلمون بقصة حبهما الخفية، فرفعت عينيها له لتحدثه بغيظٍ مما يحاول فعله، فوجدته هائم بحدقتيها كالذي يبحث عن غايته بينهما، وفجأة انطلقت شفتيه تردد بعشقٍ: «أيوه بسببك قادر أكمل
وقت ما بتعب ليكي بروح
لما ببان الدنيا تقفل
حضنك آخر باب مفتوح
ياللي عيونك وقت ما بغرق
بالنسبالي دي مركب نوح! ».

ورفع يدها المنخفضة باستسلامٍ عنه ليضعها على صدره متعمدًا أن يحاوط بها موضع قلبه بالتحديد، ورماديته تتحداها بجراءة الا تحيل عينيها عن خاصته لتتمكن من فهم مغزى كلمات الأغنية، وكأنه يناشدها بكل حرف: «إنتي الحته الحلوة في قلبي
ببقى ف قربك مش قلقان
إنتي حبيبتي وأمي وبنتي
وماليش بعدك تاني مكان
حببتيني ف أيام عمري
رجعتيني لنفسي زمان. ».

طفولتهما المتشاركة تندمج بتلك المقطوعة، مازال يتذكر صداقتهم القوية، وكيف غاب عنها خلال ثلاث سنوات التي احتلتهما ألكس، فاستكمل بعشقٍ:
«إحساسي بيكي
لو قلت ليكي مابيتحكيش
جيتي وبقيتي
أهلي وبيتي
لو يوم مشيتي
إزاي هعيش! ».

أتى لخلده ما فعله بها بعد زواجهما وتحملها العتي لاهاناته رغم إنه أكثر شخصًا يعلم كم أنها عزيزة غالية تأبى الخضوع لأي شخص، ولكنها كانت تنساق خلف قلبها العاشق له، انتابه ذكريات كانت هي لجواره على الدوام كلما احتاج لها، وبالأخص اليوم الذي تخلت عن خطة هروبها وهرولت إليه حينما أخبرها بأنه يعجز عن القيادة، مساندتها له وقت تناوله للسم حتى تلك اللحظة الذي بدى لها عاجزًا، لم تتخلى عنه، أدمعت عينيه وإحتقن صوته وهو يغني بباقي الكلمات التي لامستها فنقلت الدمع لعينيها هي الاخرى:.

«عمرك لحظه ما نزلتيني
لأ بالعكس أنا بيكي عليت
ولا بعتيني ولا خذلتيني
وبتديني أكتر ما إديت
قبل ما بندهلك بتجيني
ضهري وسندي لو إتهزيت!
نصي التاني إللي بيفهمني
قبلك عمري ماهوش محسوب
حبك هو إللي مكملني
من نقصي ومن أي عيوب
وسط حياه مليانه حروب! »
رفع إبهامه يزيح دمعتها المنسدلة على خدها، وبيده الاخرى ضمها لصدره ومال برأسه فوق رأسها مسترسلًا بحزنٍ:
«وأنا بين إيديكي
إحساسي بيكي.

لو قلت ليكي آه مابينتهيش
جيتي وبقيتي أهلي وبيتي
لو يوم مشيتي إزاي هعيش! »
تعالت الصفقات الحارة بين الجميع، وكان حسن ختام الحفل، فاستغل على هدوء الاجواء وأصر على مراد البقاء بضيافتهم للصباح وحينها يتمكن من المغادرة للمطار مثلما أراد، فصعد برفقته للطابق الأول الخاص باستقبال الضيوف، وحينما تأكد بأنه لا ينقصه أي شيء غادر لغرفته.

نزع الجوكر جاكيته وأخرج من جيب بنطاله الفلاشة يتطلع لها بنظرة غامضة، انتشله صوت هاتفه الذي دق برقمها، فزوى حاحبيه باستغرابٍ لاستيقاظها لهذا الوقت، فأتاته ضربة أخرى أكثر حدة حينما أخبرته بأنها خارج القصر، فصاح بانفعالٍ: حنين، إنتِ ازاي تخرجي في وقت متأخر زي ده!

نطقها الجوكر بغضب حينما حرر زر مكالمة الفيديو، فرفعت كوب الحمص إليه وهي تبرر له ببراءةٍ خبيثة: نفسي راحتله وإنت عارف لما بحب أكل حاجة مش بيهمني وقت ولا قوانين!
احتقنت زرقة عينيه وبات أكثر خطرًا، فأزاح سماعته عن أذنه وصاح بها: اقفلي خليني أكلم حد من الحرس يجيلك، حسابك معايا تقل أوي يا حنين.
أشارت له سريعًا وهي تبتلع ما بجوفها: يا حبيبي إنت قلقان عشان فاكرني لوحدي؟

ضيق عينيه بعدم فهم لما تحاول صغيرته ذات اللسان السليط كما يسجل إسمها بهاتفه فعله، فرفعت هاتفها عن الحجر تراقب بعينيها نقطة معينة قبالتها، ثم همست له بصوتٍ منخفض: ده أنا معايا الحكومة كلها هنا، حتى شوف عشان تعرف إن مراتك مش أي حد وتقدر تعمل أي حاجة في أي وقت!

عبث بحدقتيه في محاولةٍ لفهم تلك الحمقاء، فوجدها تستدير بجانب الكاميرا، فاندهش بشدةٍ حينما وجد رحيم يجلس على بعد مسافة منها يتحدث بهاتفه ويبدو على وجهه الامتعاض الشديد وكأنه على وشك ارتكاب جريمة مرعبة وبالطبع ستكون بمقتل قصيرته المختلة، وعادت بالكاميرا إليها تخفض من صوتها بغرور: الاسطورة بنفسه جبته معايا، قفشنس على البوابة وأنا خارجة فجبته معايا آآ، أقصد لقيته راجع بعربيته وباين عليه إنه مهموم كده، باينه متأثر ببعدك زيي كده يا حبيبي، فقولتله بينا نأكل حمص فقالي وماله.

منحها نظرة ساحرة وكأنه يحاول ابتلاع حديثها الأحمق، فقال بخشونة: وبعدين معاكي يا حنين، خفي شوية رحيم معندوش صبر ولا طولة بال هتجيبي لنفسك الأذى!
أتاه صوت أخيه الساخر: الأذى دخل حياتي من وقت ما جمعتنا مهمة واحدة يا حضرة الجوكر المزعوم، وحاليًا بعاني من توابع الأذى ده وحقيقي زي ما قولت أنا معنديش طولة بال لجنانها، فعقل مراتك بدل ما ترجع تلاقيني حابسها في زنزانة!

توالت ضحكات مراد الرجولية وهو يتأمل وجه حنين المرتعب، وكأنها على وشك البكاء من فرط الهلع التي خلفته كلمات رحيم المتعصبة، فهمست بخفوت: مراد إرجع إبليس ده قلبه جاحد ويعملها!
دث هاتفه بجيب جاكيته الفحمي، وأشار بزيتونية عينيه لباب السيارة بحزمٍ، مما دفعها لاستكمال طلبها للنجدة: ده باينه هيوديني الحبس فعلًا يا مراد، إلحقني الله يكرمك ده أنا حتى أم بناتك!

قهقه ضاحكًا ولم يتمكن السيطرة على ضحكاته وكأن الأمر يروق له، فقال بصعوبة بالحديث: على وضعك يا اسطورة، إتعامل أنا مديك الأذن!
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، ورددت: مراد، بتتخلى عني يا مراد!

احتضن رحيم كفه جبينه يفركه بوجعٍ لحق نبرته: حنين أنا لو كنت بتعاقب على ذنب أسود في حياتي مكنش ربنا بعتك في طريقي، أنا كنت مستغرب إن في رأفة غريبة بيا لإني شخص لا يمت للضوضاء بصلة، والحمد لله شجن قدرت تندمج معايا في المحيط، أنتي بقى بتكفري ذنوب مين فيا! يعني أخويا مش متعاقب بيكِ لوحده أنا كمان واخداني في الرجلين معاه!

تلبست رداء الحزن بانعكاس ملامحها بشكلٍ جعل مراد يكتم ضحكاته، وأسرع بتحذير أخيه: وش البراءة بيترسم يا رحيم خد بالك!
سلط الكاميرا عليه ليمنحه بسمة مغتاظة: الوش ده بيأكل عليك إنت يا حبيبي، أنا محدش بيقدر يخدعني وإنت عارف.

وتابع بغيظٍ من بين اصطكاك أسنانه: إسمع أنا تعبان ومرهق وفيا اللي يخليني أعتزل المخابرات على الجواز على الحياة الآسرية اللعينة دي، فبهدوء كده يا مراد لو مكنتش في القصر الصبح قدامي متلومش الا نفسك.
واسترسل ببسمة خبيثة: وأبقى فكرني أبعتلك جثة الطيار اللي كل شوية يهج بيك ده في تابوت من توابيتي، عشان بعد كده متفجئش إنك غطست في أي مكان بدون إذني.

وهمس بسخط: مهو إنت متغطتسش وأنا ألبس في أم لسان طويل دي هنا!
منع ضحكاته من الانفلات، وقال ساخرًا: شكلي وحشتك ومش قادر على غيابي فعلًا، عمومًا أنا طيارتي الساعة 6 الصبح متقلقش.
وتابع بجدية: رحيم خلي بالك من حنين ومرين ومارال، أنا مبثقش في حد غيرك!
ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه، وبسخرية قال: بتوصيني على أختي وبناتي!
واسترسل قائلًا: ارتاح ولما توصل مطار القاهرة هكون بانتظارك.

بشقة سيف.
انتفض بفراشه حينما وجد ليلى تثبت المحلول جوار الفراش وتحاول استهداف ذراعه لدث الأبرة بوريده، فصاع بهلعٍ: يا ليلى أرجوكِ أنا بخاف من الأبر، أنا خلاص بقيت كويس والله.
واستدار برأسه لمن يقف جوار الفراش يراقبهما بسخطٍ، فصرخ مستنجدًا: الحقني يا يوسف، إنت واقف تتفرج عليا أنا بموت من الحقن عندي فوبيا أنا!

ضحكت ليلى بعدم تصديق، وكأنها ترى طفلًا صغيرًا أمامها، فرددت بسخرية: أنت ازاي دكتور يا سيف؟
صعد ليجلس فوق وسادة الرأس يراقب ما بيدها، وأجابها: دكتور أطفال، يعني أسهل تخصص يبعدني عن الحقن والجراحة وكل الحاجات المكلكعة دي، كل اللي هعمله كشف بريء وكتابة الادوية المناسبة وطبعًا هحاول مكتبش حقن نهائي للأطفال.

تعالت ضحكاتها وهي تراقب سقوطه الوشيك عن الفراش، فحاولت استخدام نفس الاسلوب المتبع للاطفال: طيب يا سيف متخافش أنا ايدي خفيفة موت وفي لحظة هطلع العرق.
تراجع حتى اصطدم بيوسف، يحركه بقوة: إنت واقف كدليه! خد مراتك وامشي يا يوسف أنا بقيت كويس
رفع يوسف يده تلقائيًا يتلامس جبينه فور أن لمسه سيف، وردد بقلق: سيف حرارتك ارتفعت، بلاش لعب عيال وإعقل.

صرخ بعنف: أعقل أيه، بقولك عندي فوييا من الحقن وإنت عارف الكلام ده
ضمه إليه يمسد على ظهره بسخرية لحقت نبرته: محدش بالبشرية بيحب الحقن أساسًا، إكبر كده وإعقل عشان أعملك الأومليت اللي بتحبه يا سيفو.
واستطرد متهكمًا: وأنا اللي ماشي أدورلك على عروسة!
وضعت ليلى طرف المحلول عن يدها وصاحت بعدم تصديق: هو انتوا بتهزروا صح؟ مش معقول كده!
فاض يوسف عن صبره، فانقض عليه يقيد جسده ويمد ذراعه لزوجته قائلًا بلهاث؛.

مش هيجي غير كده، يلا يا ليلى سمي الله.
حاول سيف ابعاد أخيه المتمدد على أنفاسه، هاتفًا بفزع: سمي الله أيه هي هتدبح! خد مراتك وامشي يا يوسف!
لف نصفه العلوي لاخيه يغمز له هامسًا: عيب يا سيف، الدكتورة هتقول عليك أيه! يرضيك تتفضح أنك عيل وإنت خلاص هتتخرج كمان كام شهر!
وضم رأسه لصدره قائلًا وهو يكبت ضحكته: احضني واشغل نفسك بأي حاجة تانية.

وأخيرًا نجحت ليلى بدث الآبرة بين يده، وثبتتها جيدًا ثم اتجهت للمقعد القريب منهما لتجلس بارهاق استنزفها له بعد رفضه القاطع، عبثت بهاتفها لنصف ساعة وخطفت بعدها نظرة للمحلول فوجدته انتهى، نهضت لتغلقه تمامًا واتجهت لتسحب الأبرة عن ذراعه فابتسمت وهي تراقب سيف الذي استجاب لتأثير أحضان أخيه، فغفل على صدره ومن فوق رأسه يغفو يوسف بارهاقٍ ومازال يرتدي بذلته.

حاولت ايقاظه وحينما لم يستجيب لها، جذبت الغطاء وداثرتهما معًا ثم اتجهت لاحد الغرف لتقضي ليلها بها حتى الصباح!

ما فعله اليوم جعلها تخشى أن ينفذ كل تلك الوعود بالحصول عليها، بحثت عنه مايسان بالأسفل وحينما لم تجده ظنت بأنه غادر برفقة جمال ويوسف، فهرعت لغرفتها سريعًا وكأنها تلوذ بالفرار من شبحًا شريرًا، فما أن ولجت للداخل حتى أغلقت الباب بالمفتاح، وبدأت أنفاسها تهدأ تدريجيًا وهي تتأمل الباب بنظرة رضا تلاشت وحل محلها الذعر حينما أتاها صوتًا ذكوريًا يتساءل: قفلتيه كويس؟

هزت رأسها بالبداية تجيب سؤاله، ومن ثم انتفضت وهي تستدير فبرقت بصدمة حينما وجدت عمران يتمدد على فراشها، ونهض يقترب منها مرددًا بخبث: كويس أنك عملتي كده عشان نأخد راحتنا أكتر.
وبمكرٍ يدعي البراءة تساءل: أيه يا بيبي اتخضيتي من وجودي! إيش حال مكنتش مأكد عليكي تحت بالاغنية وقدام كل الناس إن النهاردة ليلتك!

كلما تقدم منها خطوة، تراجعت هي خطوتين حتى سد الحائط محاولات فرارها الفاشلة، وتبقت ذراعيه تحجب عنها الهواء، لتجده يقرب وجهه منها هامسًا بحب: كنتِ زي القمر النهاردة يا مايا، مقدرتش أرفع عيني من عليكي من أول الحفلة لأخرها.
توترت كلماتها التي لم تخرج عن شفتيها، فأحاط خدها بيده وقربها إليه، فهمست باستحياءٍ: عمران أنا آآ...

أستكمل هو جملتها الغير مفهومة: إنتي إيه يا قلب عمران، إتكلمي وأنا عليا السمع والطاعة.
ورفع يده على حين غرة يزيح حجابها، ومن بعده رباطة الشعر، لينسدل على كتفيها، فانحنى يستنشق رائحته المخللة بزيت الياسمين.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ قاتل، ورددت بخفوت: إنت بتعمل أيه؟
خطف نظرة مطولة لها، ثم دنى ليصبح قريبًا، همسه يختطف أنفاسها اللاهثة: أنا سامع صوت قلبك من مكاني هنا.

ومال لأذنيها يستكمل: استسلمي لمشاعرك يا مايا!
وتابع بعشقه المتأجج: أنا بحبك وحابب نبدأ حياتنا مع بعض من تاني.
وأخبرها وعينيه لا تفارق خاصتها: وواثق أنك بتبادليني نفس الحب وأكتر، خلينا ننهي البعد والمسافات المتعبة دي يا مايا!
أغلقت عينيها بقوة تجاهد مشاعرها التي أضعفتها أمامه، فاستغل لحظتها القصيرة تلك ليستحوذها بحبه، وفجأة وجدت ذاتها تستمد قوة عجيبة لتدفعه بكل شراسة للخلف وهي تصرخ بغضب: عمران!

لم يكن جسده بالضعيف لينصاع خلف تلك الدفعة، انسياقه خلف رغبته أخفضت من محاولاته للوعي بما يحدث من حوله، اهتز بوقفته وعينيه تشخص بالفراغ لألم ما تعرض له، فعاد يتطلع لها بنظرة شملها الألم، ثم قال: بتعملي ليه كده معايا يا مايا، مش معقول بعد كل اللي بعمله عشان نقرب من بعض تكوني لسه موثقتيش فيا!

واسترسل بحزن جعله يفوق عمره تعاسة: ربنا سبحانه وتعالى بيغفر يا مايا إنتي مش هتغفريلي اللي عدى!، أنا مبطلتش ألجئ ليه من بعدها، مطلبتش غيرك في دعاء قيامي وإنه يغفرلي!
يظن بأنها تمتنع عنه لحزنها لخيانتها السابقة مع إنها تعلم بأنه تاب وابتعد عن المعاصي، عساه يعلم بأنها تخسى منحه الأمان ويعود لضعفه مع أحدهن حينها ستفقد روحها وكل ما امتلكته من قوة زائفة، ستخسر وخسارتها تلك ستكون القاضية!

تمزق قلبه وهو يرى صمتها، فأجلى صوته المنقطع قائلًا: أوعدك إن اللي حصل ده عمره ما هيتكرر أبدًا، عمري ما هفرض نفسي عليكي، تصبحي على خير.
وترك غرفتها وإتجه لغرفته بخطواته المتهدجة، حل جاكيت البذلة وألقاها على الفراش، ثم حاول نزع الجرفات عن عنقه، وعبث بأزرر قميصه يفرقه عنه بحزنٍ عقيم.

تسلل لمسمعه الآن صوت باب غرفته يفتح، فاستدار ليجدها تضع ححابها على رأسها باهمال وتتجه لتقف قبالته بنظرات كانت غامضة للغاية، فوجدها ترفع يدها الحاملة لكتاب الله عز وجل، وبقهرٍ اخترق قلبه دون رحمة أتت كلماتها لتوضح له عما تخوضه طوال تلك المدة الماضية، حينما قالت: لو عايزني أبدأ معاك حياتنا يبقى تحلفلي بكتاب الله إنك مستحيل هتخوني ولا هترجع للي كنت فيه في يوم من الأيام يا عمران!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة