رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والسبعون
اتسعت زُرقته بصدمة من رؤيته يجاوره على متن الطائرة، بينما الآخير ينزع نظارته السوداء، ويمرر منديله الورقي يمسحها وابتسامته لا تفارق وجهه، بل أضاف لجملته: بقالنا كتير مطلعناش مهمة مع بعض، شامم ريحة افتقادك ليا من مكاني.
تخلى مراد عن صبره، نزع حزامه ونهض يلف يده حول رقبته بقوةٍ وإحكام أدهشت الآخير الذي ردد باختناقٍ: عيب، في حد يقابل أخوه بعد كل 8 ساعات فراق بالقسوة دي!
تحرر عن هدوئه وصرخ به: رحيم إتقي شري أحسنلك، أنا خلاص مش باقي على حاجة وشكلك كده هتتصفى هنا وقبل ما نتحرك لأي مكان.
حاول أن يخفف حدة يده عن رقبته، متمتمًا: إنت أد المسكة دي؟
منحه نظرة ساخرة، وهتف بتحدٍ واثق: فك نفسك لو عرفت!
ابتسم في سخطٍ، وهتف مغتاظًا: بتستغل إني معنديش خبرة في التعامل مع مسكاتك يعني؟
ضحك وانحنى يهمس له ساخرًا: مش مفتقد الخبرة يا اسطورة، مفتقد المصدقية، خليك صادق مع نفسك وللمرة الاولى اعترف إنك ضعيف ومبتقدرش تحرر نفسك من أي تثبيتة بثبتك فيها.
اعتلى الغضب زيتونة عينيه، ومع ذلك منحه بسمة هادئة، وببرود قال: على فكرة احنا مسافرين على طيارة 90 في المية منهم سياح راجعه بلدهم، بتختملهم الزيارة بصورة مش تمام عن مصر، يرضيك يا سيادة العقيد؟
رمش بعدم استيعاب، استدار من حوله، فوجد الجميع يتابعون ما يحدث بصدمة وذهول، كان مراد يثبت ركبتيه بمنتصف مقعد رحيم المجاور لنافذة الطائرة، بينما ذراعيه تلتف من حول رقبته بحركة خبيرة، فشل الاغلب باحكام عقدته أو حلها من الجهاز، جسده العلوي ينحني فوق رحيم، حتى أخفاه كليًا عن الأعين.
انتزع يديه من حوله، وانتصب بوقفته بشموخٍ يخفي من خلفه غضبه الساخط، عاد يعتلي مقعده المجاور له وقبضته تعتصر ذاتها بغيظٍ.
اعتدل رحيم بجلسته، وابتسامة الغموض تحفل على وجهه، استدار إليه مراد فوجده يتطلع لمقعد أحد المسافرين القابع على بعدٍ منهما، فسأله بريبة: في أيه؟
أرخى رأسه لخلف المقعد، وأغلق عينيه باسترخاء بينما يخبره بجمودٍ: نجحنا نلفت الانتباه لينا، مبروك نجاح أول جزء من خطتنا.
عبث بحاجبيه بدهشةٍ: خطة أيه؟ ونلفت انتباه مين؟
فتح نصف عين يطالعه بابتسامة زادت من قلق مراد حول ما يخطط له أخيه، وخاصة حينما أخبره: هو إحنا طالعنا رحلات استجمام قبل كده يا جوكر؟
وتابع وهو يغلق زيتونيته من جديد: فكرني أول ما نوصل نروح مكان كويس نعمل مساج وجاكوزي!
هرول الشرطي تجاه المقر السري، يقدم تحيته بكامل الوقار، يبلغه باحترامٍ: الطيارة جاهزة وفي انتظار معاليك يا باشا.
أشار له عدي واستدار يتفرس بمن يجاوره بصمتٍ، وشاحه الأسود مازال يخفي معالمه، لا يبدو منه سوى بندقية عينيه، تنحنح يجذب انتباهه، قائلًا: ده أنسب وقت نتحرك فيه، مراد ورحيم نجحوا يشتتوا العين عننا.
مازال الآخير يتطلع أمامه بصمتٍ، بدد غيظ الاخير، فقال بنزقٍ: ممكن نتحرك؟!
نهض عن المقعد يتحرك بخطواتٍ رزينة، للطائرة التي تقف على بعدٍ من المقر السري، سحب عدي نفسًا طويلًا ولفظه على مهلٍ، هاتفًا بضجرٍ: اختيارات مثالية يا أسطورة، مردودلك وفي وقتها.
رفع قبعة جاكيته الأسود على رأسه، واتبعه للخارج، وفور صعوده للطائرة نزعها عنه، وجلس بمقعده المخصص، لفت انتباه عدي عُقاب الذي يعتلي كتف ليل، حاول التحكم بصمته مطولًا ولكنه فشل، فتساءل بشيءٍ من السخرية: هو الاستاذ عُقاب طالع معانا المهمة دي بردو ولا أيه؟
انتقلت بندقيته إليه، يتطلع له ببرودٍ، شقه صوته النافذ: فريقي مكتمل بيه، أعتقد أنا أولى بتحديد مين المهم في فريقي ومين كمالة عدد ولا أيه يا باشا؟
كاد أن يهشم فكيه من فرط ضغطه على أسنانه، سدده بنظرةٍ قاتلة، لاحقها قوله المستهزأ: باشا أيه بقى!
وتابع بحدةٍ: هو مش المفروض إني أعلى رتبة منك وواجب عليك احترامي ولا أنا بقيت بنسى!
رفع ذراعه يلتقط عُقاب على معصمه، وبيده الاخرى يمررها على جسده ببطءٍ، وردد بعد فترة صمته: أنا مش جاي عشان نتنافس على مين رتبته أعلى من التانية، الغريب إنكم تلجئوا لشخص بالنسبالكم بقى خارج عن القانون، فده اجابة صريحة على سؤالك وتأكدلك إن الجهاز معترف باللي أقدر أعمله حتى وأنا براه.
ورفع عُقاب ليجوب الطائرة، بينما تتمركز بنية عينيه تجاه عدي، وهدر برزانة ماكرة: لما حد بيخرج من بينا بنصفيه عشان نضمن أن آسرارنا مدفونة تحت التراب، محدش قدر يعمل كده معايا، مش لإنهم ميقدروش علي، لآنهم عارفين إن هيجي وقت يحتاجوني فيه.
ابتسم يردد بتهكمٍ: عندك حق، هيجي الوقت يختاروا شخص خارج عن القانون!
لم يهتز ثبات ليل قبالته، بل صحح له باسلوبٍ إستفز عدي: وجي نفس الوقت اللي اضطروا فيه يلجئوا لحد خارج مجالنا، زيك كده يا باشا!
وأضاف ببسمة خبيثة: المستحيل لو هيخدم بلدنا وهيكون في الصميم بيتعمل بدون أي نقاش، زي جمعتنا كده يابن الجارحي!
زفر في سئمٍ، وتمتم: شكلك أبرد من رحيم زيدان!
ترك عُمران بالأسفل، وهرول للأعلى راكضًا فور أن أخبرته الخادمة بوصول آيوب، اقتحم الغرفة ملتقطًا أنفاسه بصعوبة، انفصل خناقهما، واستدروا تجاه آدهم الذي استطاع السيطرة حدة أنفاسه، وقال راسمًا بسمة هادئة: آيوب!
جملة مصطفى مازالت تشغل خاطره، استدار تجاهه مجددًا متغاضيًا عن وجود آدهم، وسأله بحيرةٍ: حضرتك تقصد أيه بكلامك ده؟
تعلقت آعين مصطفى بابنه، يتوسل له أن يتركه يخبره الحقيقة، ولكنه أعرض عن ذلك باشارة رأسه الحازمة، عادت مُقلتيه الحائرة تسكن بأعين آيوب المتلهف لسماع رد سؤاله، ابتلع ريقه الجاف وقال وهو يزيف ابتسامة: قصدي إني تقلت عليك، وجبتك على ملى وشك في وقت متأخر زي ده حقك عليا.
شعر وكأن هناك شيئًا غير الذي يخبره به، وكأنه يخفيه عمدًا لوجود آدهم بذلك الوقت، رنا إليهما آدهم يردد بتوترٍ: آيوب إنت هنا من أمته؟
نهض عن الفراش يقابله، وأجابه: لسه واصل من شوية.
واستطرد يوضح له سبب وجوده بوقتٍ متأخرًا كذلك: قلقت لما سمعت صوت والدك، فجيت أطمن عليه.
ربت آدهم على كتفه بحنان وقال: تسلم يا آيوب.
شعر آيوب بتوتر الاجواء بين آدهم ووالده من نظراتهما المتبادلة، فتنحنح بحرجٍ: هنزل أشوف عُمران عايزه في حوار كده.
أومأ برأسه له، فهبط للأسفل تاركهما بمفردهما، أسرع آدهم إلى الدرج يتأكد من هبوطه، ثم عاد يعاتب والده بغضب: هو أنا مش قولت لحضرتك إننا هنأجل الموضوع ده لبعد امتحانات آيوب، ليه مصر ترجعنا لنقطة الصفر!
تدفق الدمع من عينيه، كيف يخبره بكل ما احتبس بداخله، ردد بصعوبة بحديثه: حاضر يابني هصبر ومش هعمل حاجة، بس عشان خاطري متخليهوش يبعد عني تاني يا عمر.
شحب صدى صوته الهادر: أنا موافق على أي حاجة، مش مهم يعرف، المهم إني أشوفه قدامي، أخده في حضني وأشم ريحته.
شعوره بالعجز يكاد يقتله، لم يعد بامكانه التحمل أكثر من ذلك، يشعر بأنه ضعيفًا لدرجة أفقدته توازنه، جلس على حافة الفراش، وانحنى يستند بيده على ساقيه، يترك العنان لدموعه، عساها تهون عنه ما يمر به ويجعله بهذا العجز، تألم مصطفى حينما رأه بتلك الحالة التي وضعه بها اجباريا، زحف إليه، أحاطه من الخلف ومال على كتفه، يردد ببكاء: حقك عليا والله ما هتصرف بأنانية تاني، متزعلش مني يا عمر، متزعلش مني يا بني!
استدار إليه يضمه إليه وقال بحزنٍ: بابا كفايا تزود احساسي بالعجز، كفايا عشان خاطري، والله بعمل اللي بقدر عليه عشان اجمعك بيه، بس بلاش دلوقتي، على الاقل لما يمتحن.
مسح على ظهره وقال: ولو معرفش خالص مش مهم، المهم إنك جانبي يا عمر، أوعى تكون الدين اللي هدفعه، وتتخلى عني زي ما اتخليت عن آيوب زمان
وببكاء ردد له: كنت مجبور والله، كنت ضعيف ومش أد المواجهة، لكن إنت غيري ومش شبهي يا عمر، أوعى تتخلى عني.
انحنى يقبل كف يده وجبينه بحب، وردد بانكسارٍ: كفايا توجع قلبك وقلبي عشان خاطري.
مال على كتفه تاركًا عبراته تتطهر ذنوبه وما ارتكبه من ذنبٍ، بحق أقرب أناسًا لقلبه، سدد فاتورته طوال تلك الأيام ومازال يسدد ثمنها إلى الآن، لم يهنئ يومًا على فراشه، حتى مذاق الطعام كان كالعلقم بفمه، كان يخشى أن تمتليء معدته بالطعام بينما صغيره لا يعلم هل تناول طعامه أم بقي جائعًا!
قربها إليه، يرويها من حنان ضمته، بينما ابتسامته لا تفارقه، مضت الدقائق ومازالت ترتكن على صدره، بينما يده تنغمس بخصلاتها، يميل مقبل أعلى جبينها بكل حبٍ، وهو يهمس لها بعشقٍ: اللي قولتليه من شوية ده شفى أوجاعي كلها يا فطيمة.
مالت للخلف تقابل عينيه، فضم وجهها بكلتا يديه وقال بابتسامته الجذابة: زي مانتِ كلك تخصيني أنا كمان أخصك إنتِ بس، ومستحيل أكون لواحدة غيرك حتى لو كان بارادتك.
تدفقت عبراتها على وجنتها بانهيار، وبوجع لمسه بنبرتها قالت: أنا آسفة إني خبيت عليك حاجة مهمة زي دي يا علي، بس غصب عني أنا مش هقدر أجيبلك أولاد، مش هقدر صدقني.
واختبأت بين لائحتها تبكي بانهيارٍ، أبعد على خصلاتها للخلف وأعادها لمواجهته مجددًا، وبصوته الهادئ قال: ليه يا فطيمة؟ مش حابة يكون عندك أولاد مني!
أجابته بصوتها المبحوح عما يكمن داخلها: أنا مستعدة أتنازل عن قراري وأرمي الأدوية دي كلها، بس تكون ضامن ليا.
قوس حاجبيه بعدم فهم، وتساءل بفضول لمعرفة ما يكمن داخل رأسها: ضامن لأيه يا فطيمة؟
تمعنت برماديته بآنينها الصامت، وهمست له بانكسار: إضمنلي لو ربنا كرمنا ببنت إنك هتحميها ومش هتخليها تتعرض للمصير اللي أنا اتعرضت ليه، ولو كرمنا بولد اضمنلي إنه ميكنش زي الديابة اللي نهشت لحمي، أضمنلي ده يا على وأوعدك أنك لما تقنعني أنا بنفسي هرمي الأدوية كلها حالًا.
شق السكين صدره وانتزع عنه قلبه دون رأفة، ثمة خناجر تستهدف أطرافه دون رأفة، ومع ذلك رسم بسمة باهتة، وازدرد صوته الهادر: مش صامن بس عندي ثقة كبيرة في ربنا عز وجل، عندي ثقة إني هقدر أربي ابني كويس، عندي ثقة اني هقدر أقدم الحماية الكافية لبنتي، عندي كل الثقة إني هكون أب مثالي وإنك هتكوني أحلى مامي بالدنيا كلها، لإن مفيس في نقاء قلبك وطيبتك يا فطيمة.
وتابع وهو يعيدها لصدرها بكل حب: وبعدين مين قالك إني عايز أولاد دلوقتي، أنا عايز أشغل وقتك كله وميكنش معايا شريك، مش مستعد في الوقت الراهن لكن بعد كده الله أعلم الكلام هيبقى على أيه!
أحاط الأمر ببراعة، بعد سماعه لسبب تخبئتها عنه الأمر، كطبيب يعلم أن حملها الأن ليس القرار الصائب، لذا دعمها دون أن يتطرف لتحليل حالتها، تعلقت فاطمة به ومالت تسترخي، استعدادًا للنوم، بينما تهمس له براحة غمرتها بعد مشقة: أنا بحبك أوي يا علي.
غمسها داخل رقبته بحنان وهمس بحب: ربنا ما يحرمني من حبك وقربك يا روح قلب على من جوه!
الراحة النفسية التي شعر بها عُمران بمنزل آيوب لا تقدر بثمن، بل كانت السبب الأساسي في اقتناعه بالحاح آيوب عليه بأن ينتقل معه إلى شقة يونس، فشل آدهم بإبقائه برفقته، وحتى لا يحزنه عمران، حمل حقيبة صغيرة من ملابسه وترك أغراضه كاملة بمنزله.
استقرت سيارة آدهم أمام حارة الشيخ مهران، هبط منها آيوب وعمران الذي قال بابتسامة جذابة، ونبرة مرحة: تُشكر يا ذوق.
انفجر آدهم ضاحكًا، وقال بتعجب: دول كام ساعة لحقت تقلب؟!
ابتسم عمران وشاكسه: بمزاجي، كله بيحصل بمزاجي يا حضرة الظابط.
وتابع مشيرًا له: يلا ارجع إنت الوقت اتاخر ومينفعش تسيب والدك لوحده وهو تعبان كده.
هز رأسه بتفهمٍ وعاد لسيارته، بينما صعد عُمران برفقة يونس الذي كان بطريقه للصعود لمنزله بعد عودته من العمل متأخرًا اليوم، كاد أدهم يتحرك بسيارته، ولكنه تفاجئ ب آيوب ينحني لنافذة سيارته ويقول بلهفة: إبقى طمني عليه يا آدهم.
احتبست اوجاعه داخل مُقلتيه، وقال يجيبه: حاضر يا آيوب.
واضاف راسمًا بسمة صغيرة: يلا اطلع الوقت اتاخر جدًا.
أومأ إليه وصعد للأعلى، بينما غادر آدهم على الفور، كان آيوب بطريقه للصعود، بعد أن مر من أمام شقة والده، وبمنتصف مسافته من الدرج، وجد الباب يُفتح وطل من أمامه الشيخ مهران الذي صاح غاضبًا: ما بدري يا بشمهندس!
عبث بمقلتيه بدهشةٍ، ما بال والده يحدثه وكأنه فتاة تأخرت بالعودة لمنزلها، والمقلق أنه يعلم أين كان؟
هبط الدرج وإتجه يقابل محل وقوفه، قائلًا باحترام: حقك عليا يا حاج، أنا كنت بستنى آدهم لحد ما يرجع، مهو ميصحش أسيب والده لوحده وهو تعبان كده.
خرج عن رزانة اعتاد التعامل بها، ولكنه بشريًا بنهابة الأمر، فقال بعصبية مبالغ بها: وتاعب نفسك في الرجوع ليه، خليك جنبه يومين تلاته لحد ما تطمن عليه براحتك.
زوى آيوب حاجبيه بدهشةٍ، لوهلةٍ شعر وكأنه تخبط بالرجوع لمنزل أخر غير منزله، فهمس بذهولٍ: بابا!
غلبته مشاعره وخوفه من القادم، كان يعد الساعات لعودته، لا يتقبل أنه ذات يومٍ قد يفارقه، سحب أكثر، من نفسًا يهدئ به البركان القابع داخله، ثم قال بهدوء: متتاخرش في الرجوع تاني يا آيوب، وأوعى مهما حصل تبات بره بيتك، ده بيتك يا ابني فاهم؟
مال كل الاشخاص من حوله غامضون اليوم لتلك الدرجة، دنى إليه متلهفًا: حضرتك كويس؟!
أخفى ارتباكه وقال بابتسامة زرعها بالكد: أنا بخير يا حبيبي قلقت عليك بس مش أكتر.
وأضاف قبل أن يطرح سؤالا أخر: يلا اطلع ريح ساعتين قبل صلاة الفجر.
هز رأسه بطاعةٍ رغم حيرته، صعد للأعلى ومازالت نظرات الشيخ مهران تلاحقه، لا يعلم كيف تغلب على السيطرة على أعصابه، طوال تلك الساعات كان يراقب الشارع من شرفته، يخشى ألا يعود آيوب إليه! يعلم أن كشف الحقيقة اقترب وما باقترابه الا وجعًا يتوسط صدره، وخوفًا يبتلعه بجوفه حتى تلك اللحظة الغير محببة!
اختلى عُمران بالغرفة التي منحها يونس له، جلس على سجادته يقيم الليل كما اعتاد، ودعى من قلبه أن يجمد نيران قلب صديقه، كلما استلم رسالة منه على هاتفه يزداد شعور حزنه عليه، اتجه عمران للفراش تمدد من فوفه بارهاق، ولم يعلم كيف غرق بالنوم، حتى شعر، بيد آيوب تحركه وهو يناديه: عُمران! اصحى يلا.
فتح عينيه بانزعاجٍ، وبصوت الناعس قال: خير يا آيوب، لسه ساعة عن الفجر بتصحيني ليه!
ابتسم بسعادة وهو يخبره ما يخطط له: أنا أخدت مفتاح المسجد من بابا وهنأخد يُونس ونروح نفتح المسجد ونستنى لحد ما بابا يجي يرفع الآذان.
مال على الوسادة بتعبٍ: ماشي روحوا وأنا قبل الفجر بدقايق هحصلكم بإذن الله.
جذب الغطاء عن جسده وجذبه بحماسٍ: لا ما أنت لازم تكون موجود.
رفع رأسه إليه من فوق كتفه متسائلًا بحيرةٍ: ليه يابن الشيخ مهران؟ ناوي على أيه بالظبط!
حرك كتفيه ببراءة وحزن خبيث: ده بيت ربنا هكون ناوي على أيه يعني!
واسترسل بابتسامة واسعة أقلقت عُمران: نويت والنية لله أسمع الناس صوتك اللي يسحر ده.
اعتدل بنومته بصدمةٍ، وبات متخبطًا باختيار ما سيقول، فردد بذهول: عايزيني أرجع للغنى تاني وفي المسجد يابن الشيخ مهران! هي لسعت منك على الفجر ولا أيه؟
أجابه وهو يتجه لخزانة الغرفة، يبحث عن ملابس مناسبة لعُمران: مش بالظبط. متقلقش!
أزاح الغطاء كاملًا ونهض إليه يتساءل بشكٍ: أمال أيه؟
واستطرد وهو يجذبه بعيدًا عن الخزانة بغضب: وبعدين مالك بهدومي أنا مبحبش حد يلعب في أغراضي الشخصية!
شمل خزانته بنظرة ساخرة، وبفتور قال: دي مفهاش أي جلبية بيضة تليق على الطقم اللي هنضربه، يلا مش مهم هجبلك واحدة من عندي ومتقلقش مكوية ونضيفة ومتعطرة وزي الفل.
فقد السيطرة على هدوئه، فأحاط عنقه برفقٍ وهو يهدده: هتنطق وتقول بتخطط لأيه تاني ولا أكمل اللي بعمله وتتكل من الدنيا خالص! أنا ما صدقت أريح دماغ أمي ساعتين كل دقيقة تنطلي!
وزع نظراته المندهشة بينه، وبين الكف المحاط لرقبته وبحزنٍ قال: الجلبية يا عُمران، الحاجة رقية بقالها ساعة بتكوي فيها، الله يسامحك يا أخي!
زفر بمللٍ، واتجه لفراشه يريح قدميه بقلة حيلة من مجابهة آيوب بعد نسخته المعدلة الاخيرة التي باتت تقربه لحدٍ صادمًا.
انفتح الباب وولج يونس بابتسامته البشوية يتساءل: ها جاهزين يا شباب؟
طالعه عُمران فوجده يرتدي نفس الجلباب الأبيض الذي يرتديه آيوب، وما جعله مذهولًا حينما انضم لهما إيثان يرتدي جلباب أبيض ويهتف بحماس: حضرتلك على الفون الابتهال اللي طلبته يا آيوب!
رمش عُمران بحيرةٍ، وهتف باستنكارٍ: ابتهال أيه! والواد ده مش مسيحي لابس كدليه!
أجابه ايثان بضحكة مستفزة: أه إنت تقصد الجلبية يعني، شحتها من يونس عشان أجي بنفسي وأتفرج عليك وأسجلك صوت وصورة وإنت بتغني.
أغني أيه! أنا مش فاهم أي حاجة؟
لف آيوب يده من حول كتفه الذي يفوقه طولًا وقال: ما أنا قولتلك هخلي الناس تسمع صوتك العذب ده، إيثان حضرلك كلمات الابتهال ويونس هيظبطلك الميكرفون بتاع المسجد وكله هيبقى تمام متقلقش.
برق بذهولٍ: مقلقش! إنت أكيد اتجننت أنا مقدرش أعمل كده أبدًا، مستحيل!
بعد عشر دقائق بالتحديد، انطلق صوت عُمران يردد الابتهال وعينيه متعلقة بهاتف إيثان لدرجة قشعرت بدنه. فأعاد لسانه قول.
«مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي.
مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟
أقُوم بالليّل و الأسّحار سَاهيةٌ
أدّعُو و هَمّسُ دعائي. بالدموع نَدى
بنُور وجهك إني عائد و جل.
ومن يعد بك لَن يَشّقى إلى الأبد.
مَهما لقيت من الدُنيا و عَارضها.
فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي.
تَحّلو مرارة عيش رضاك.
و مَا أطيق سخطاَ على عيش من الرغد.
من لي سواك.؟ و من سواك يرى قلبي؟
و يسمَعُه كُل الخلائق ظل في الصَمد.
أدّعوك يَاربّ فأغّفر ذلّتي كَرماً.
و أجّعَل شفيع دعائي حُسن مُتَقدّي
و أنّظُر لحالي. في خَوّف و في طَمع.
هَلّ يرحم العَبّد بعد الله من أحد؟
مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي.
مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟ »
وما أن انتهى حتى سقط أرضًا، فاقدًا كل قوته، مهما بدى قويًا، صلبًا، حتمًا ستأتي لحظة ضعف تضربه في مقتلٍ!
نهضت باكرًا ترتب المنزل، وتعد الطعام كعادتها كل صباحٍ قبل ذهابها للمركز، انتهت ليلى من صنع الطعام وولجت لغرفة نومها لتبدل ثيابها، كانت تود الذهاب برفقة زوجها كعادتها كل يومٍ، ولكنه اضطر أن يتجه للمركز منذ ساعتين لحالة ولادة طارئة.
ارتدت فستانها البنفسج، ووقفت تبحث عن شالها الصوف فور أن شعرت بالبرودة، رفعت رأسها للخزانة العلوية وهي تردد بحيرة: أنا كنت شايلاه فين؟ ممكن أكون حطيته هنا ونسيته بالزهايمر اللي عندي ده.
جذبت المقعد الخشبي، قربته بمسافة معقولة من الخزانة، صعدت ليلى فوقه تحاول الوصول لحقيبة السفر التي تحوي على بعض من ملابس الشتاء الثقيلة، سحبتها بكل قوتها للخلف، فاختل مقعدها سقطت أرضًا والحقيبة من فوقها، اجتاحها الألم بشكلٍ جعلها تصرخ بجنونٍ.
أبعدت الحقيبة عن نصفها السفلي، وهي تبكي بوجعٍ اجتاح ساقيها وبطنها، أحاطت موضع جنينها وهي تردد بانهيار: ابني! لأااا.
أصابها ذعرًا من أن يكون مسه ضرًا، بكت بوجعٍ وهي تحاول النهوض على ساقيها لتبحث عن هاتفها، ولكنها فور أن احتملت عليها سقطت أرضًا من جديد.
زحفت أرضًا حتى وصلت لحقيبتها، أخرجت هاتفها واتصلت بيوسف على الفور، ولخيبة أمالها هاتفه خارج نطاق التغطية.
تركت الهاتف عنها وبكائها يزداد، كلما ازداد الألم بحدته، لم تجد ملجئ سوى شقيق زوجها، زحفت ليلى وبصعوبة فتحت باب شقتها، واصلت الزحف حتى وصلت أمام شقة سيف المجاورة لها، ضمت موضع جنينها بألمٍ، فسكبت النيران من فوقها فور أن لمحت بقعة الدماء تحتل فستانها بوضوحٍ، ازداد نحيبها ومع طرقات استغاثتها على باب شقة سيف.
تململ بمنامته على صوت طرق باب شقته، انتفضت زينب عن فراشها تتساءل بقلق: مين اللي بيخبط بالشكل ده؟
هز كتفيه بحيرةٍ، نهض يرتدي ملابسه وهو يجيب: هشوف مين وراجع.
انقبض قلب زينب، فأسرعت إليه تمنعه من الخروج: متفتحش يا سيف مين اللي هيجيلنا الساعه 6 الصبح ومرنش الجرس ليه، أنا خايفة!
مرر يدها على طول ذراعها بحنان: حبيبتي مفيش حاجه تستدعي القلق ده، يمكن حد من سكان العمارة ابنه تعبان ولا حاجة، أنتِ ناسية اني اتعينت رسمي خلاص.
وابعدها عنه قائلًا بتحذير: خليكِ هنا هخرج اشوف مين وراجعالك.
هزت رأسها إليه، وفور خروجه اختبأت خلف باب الغرفة تراقب ما يحدث باهتمام، فتح سيف الباب ليرى من الطارق؟ فصعق حينما وجد زوجة أخيه تجلس أرضًا، تضم بطنها بشكلٍ أثار ريبته.
رفعت ليلى رأسها إليه ببطءٍ، وبصعوبة رددت وهي تحارب الدوار الذي انتابها: الحقني يا سيف، ابني!
انحنى إليها يتساءل بلهفةٍ: أيه اللي حصل؟
اجابته بينما عينيه تتغلق استسلامًا للغشاوة: وقعت، ابني أرجوك!
هرولت زينب للخارج فور أن رأت ما يحدث، مالت إليها تساندها وهي تناديها بذعرٍ: ليلى!
ركض سيف للداخل يجذب هاتفه، يحاول الوصوب لاخيه أكثر من مرة، زفر بغضب حينما وجده خارج نطاق التغطية، سحب مفاتيح سيارته واسدال الصلاة الخاص بزوجته، وخرج يركض إليهما.
منحها ما بيده وقال: البسي بسرعة يا زينب لازم ننقلها المركز.
أومات له ونهضت ترتديه فوق بيجامتها الحرير، بينما انحنى سيف يتفحص نبض ليلى بقلق، لطم وجنتها وهو يناديها بخوف: ليلى سامعاني! ليلى فووقي.
جحظت عينيه صدمة فور أن رأى فستانها المبلل بالدماء، على الفور حملها وصرخ بزينب من خلفه: حصليني يا زينب، أنا مش هعرف امشي وأسيبك هنا لوحدك.
بالرغم من أن حديثه يبرهن علمه بما يحدث لها، ويوضح خوفه الصريح من تركها بمفردها لهذا الشيطان، الا ان الحالة المربكة جعلتها لا تعي ما يقول، سحبت زينب باب شقتها وهرولت للجهة الاخرى تسحب باب شقة ليلى، واتجهت للاسفل من خلفه.
وجدته يضعها بالمقعد الخلفي للسيارة، فصعدت جوارها، تحرك بهما سيف وتطلع لها بالمرآة يخبرها بحزمٍ: خلي رأسها تحت وحاولي ترفعي رجليها عشان نقلل النزيف.
علي الفور نفذت ما طلبه منها، بينما اسرع سيف تجاه إحدى الصيداليات، تركهما بالسيارة وهبط للداخل، وعاد اليهما بعد دقيقتين، فتح الباب الخلفي وانحنى تجاه زوجة أخيه.
وجدته زينب يملأ أكثر من إبرة، ويجمعهما بواحدة ضخمة، فسألته بقلق: سيف إنت بتعمل ايه؟ إحنا لازم نتحرك للمركز حالا النزيف مش راضي يقف.
اجابها وهو يجذب ذراع ليلى باحثًا عن وريدها: مش هستنى لحد ما نوصل ليوسف، هحاول أوقف النزيف، على الأقل لحد ما نوصل المركز، والا هتكون للأسف اجهضت.
هزت رأسها بتفهمٍ بينما دموعها تتساقط عن مقلتيها وهي تتطلع إلى ليلى بشفقةٍ، نجح سيف بحقنها بالوريد، كأنها خضعت لجرعة كاملًا بتأثير ما فعله، تركها وعاد لمقعده يسرع من القيادة للطريق الرئيسي، حتى يصل للمركز الخاص ب علي الغرباوي، وبينما هو يقود عاد يسأل زينب: النزيف وقف؟
تفحصتها جيدًا، وأجابته ببكاءٍ: لا لسه بتنزف، سوق بسرعة يا سيف!
زاد من سرعته القصوى، وهو يسارع للوصول للمركز البعيد عن منزلهما ما يقارب الخمسة وأربعون دقيقة، وبينما هو يسابق الزمان لنجاة زوجة أخيه إذ يعترض طريقه سيارتين تحاوطان سيارة سيف بشكلٍ ملحوظ.
اتقبض قلب زينب المتنبأ بتلك الاحداث كل يومٍ تقريبًا، ابتلعت ريقها مرارًا وهي تجاهد لخروج صوتها المرتعش: هو فيه أيه يا سيف؟
لم يجيبها بل لكم الدريكسيون وهو يصيح بعصبية بالغة: مش وقتك يا حيوان.
سحب هاتفه وأرسل برسالة نصية، قبل أن يخبئه داخل قميصه، بينما يتابع قيادته لنجاة زوجة أخيه وابنه، فاذا بسيارة ثالثة تشق الطريق فجأة، على ما يبدو بأنها كانت تنتظره هنا، تاركة زمام الامور للسيارتين التي اجبرته على اتباع طريقهما.
صرخت زينب بجنون وهي ترى ما يحدث: سيف في أيه!
تلاشى صوتها عن حنجرتها فور أن انفتح باب السيارة الثالثة وخرج منها أسوء شيطان مقتته بحياتها، لم يكن مجرمًا عاديًا أبدًا، بل مجرمًا نجح بالفرار من حكم الاعدام الذي تلاقاه بمصر، وبالفرار من أكثر من دولة نال بها أحكام دولية، لم يكن شخصًا يسهل التغلب عليه بالمرة، وها هو الآن بمواجهة سيف.
تحرر لجمة لسانها الثقيل هاتفًا بحروف مرتجفة كحال جسدها: يمان!