قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والخمسون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والخمسون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني والخمسون

تقيد جسد آيوب وهو يحاول استكشاف تلك الأحاسيس التي لا تتدفق إليه الا بأحضان والده الشيخ مهران، ضمة ذراع مصطفى القوي، تمسيده على ظهره بكل حنان إمتلكه، بكائه الغريب، هل يحمل كل تلك العاطفة لاستقبال صديق ابنه؟!
أدمعت عين آدهم تأثرًا، فقد كان على وشك فصل عناقهما الطويل خشية من أن ينكشف أمر أبيه، ولكن فور رؤيته مستكين على كتف آيوب لم يشعر الا بدموعه تتدفق عنه بحزنٍ شديد.

تماسك كالمعتاد عنه، وتنحنح بحشرجةٍ خشنة، جعلت مصطفى يستعيد وعيه الهادر فور ضمة فلذة كبده المفقود إليه، نعم أخطئ وإرتكب ذنبًا فاضحًا صعب غفرانه، ولكنه أفاق من وساوس شيطانه ومضي أعوامًا يبحث عنه دون أي جدوى.
ابتعد عنها رويدًا رويدًا، وهو يزيح دموعه بتوترٍ اتبع نبرته الحزينة: متأخذنيش يابني أنا من كتر ما عمر بيحكيلي عنك حبيتك وكان نفسي أشوفك.

منحه ابتسامة رائعة، وبرفقٍ واحترامًا قال: بتعتذر عشان خدتني في حضنك! طيب لعلم حضرتك يا عمي أنا حسيت بحبك ليا من أول ما دخلت عليك حتى لما حضنتي حسيت إني شايف قدامي والدي الشيخ مهران.
ذُبح قلبه دون أي رأفة، فحارب لاحتفاظه بالابتسامة المرسومة على وجهه، وتباعد عن محله المتطرف من الفراش مشيرًا له بحب: واقف ليه يا حبيبي اقعد!

فعل ما أراده وجلس على الفراش كما أحب، خطف آيوب نظرة خاطفة لآدهم الصامت، والحرج والتوتر يسيطران عليه، وهو لا يعلم بماذا يبدأ حديثه؟
ازدرد ريقه الجاف وقال بعد صمت: أنا طبعًا كنت أتمنى إن أول زيارة لحضرتك تكون بصورة أفضل من كده ولكن دي إرادة ربنا سبحانه وتعالى، أنا مش عارف سبب الخلاف اللي بين حضرتك وبين آدهم بس اللي أنا واثق منه هو احترام آدهم الشديد لحضرتك.

واستطرد وفيروزته متعلقة بعين مصطفى التي تطالعه بحبٍ وتتمعن بملامحه، وكأنه لا يسمعه من الاساس: بقالي يومين شايفه متغير وحزين، وده يدل على إنه ندمان إنه زعل حضرتك، هو مالوش غيرك ولو غلط فهمه غلطه وهو أكيد هيفهمك.
ابتسم آدهم ومازال وجهه مندث أرضًا تغزوه دموعه، وخاصة حينما استطرد آيوب: ممكن تسامحه عشان خاطري!

انهمرت دمعة ساخنة من أعين مصطفى، فظن آيوب ان الخلاف بينهما كبيرًا لدرجة عدم تقبله لسماحه، فاستدار تجاه آدهم وأشار له بنظرة غاضبة لوقوفه هكذا: واقف كدليه يا آدهم! ما تقرب وتبوس دماغ والدك وتعتذرله.
وتابع برجاءٍ: هو مش هيكررها تاني، لإنه مش هيقدر يتعب حضرتك مرة تانية تأكد من ده.

أجاد آدهم تمثيل دوره حينما انحنى يقبل يد أبيه ورأسه، هاتفًا بنبرة صادقة تهدف عن رد فعله حينما استمع للحقيقة: أنا آسف يا بابا. من فضلك سامحني.
ربت على شعره الطويل بحنانٍ، ومال برأسه تجاه آيوب الذي يراقبهما بفرحةٍ وحماس: مستعد أسامحه بس على شرط.
تساءل آيوب بلهفةٍ: شرط أيه؟
أجابه مصطفى باهتمام لسماع رده: تقضي اليوم كله معانا. نفطر ونتغدى سوى ومنه نتعرف على بعض أكتر.

وزع نظراته بينه وبين آدهم باحراجٍ: شرف ليا إني أقعد مع حضرتك يوم كامل، بس أنا أخويا لسه راجع من سفر طويل ومش هقدر أكون طول اليوم بره.
أخوك!

قالها باندهاش لما استمع إليه، فأصابه الخوف بمقتلٍ أن يكون ليس هو نفسه الشيخ مهران الذي يقصده، فقرأ آدهم ما تلألأ بمقلتي أبيه فأسرع بقول: ابن عمه وبمثابة أخوه الكبير يا صاصا، وفعلًا آيوب مش هيقدر يفضل هنا طول اليوم لإزم يكون مع أخوه بس هيعوضها في يوم تاني مش كده ولا أيه يا آيوب.

أكد له بإيماءة من رأسه سريعة، وحينما لمح الحزن بأعين والد آدهم، قال بابتسامة بشوشة: بس أنا هفطر مع حضرتك وهقعد معاك شوية قبل ما أمشي.
أمسك يديه بلهفةٍ وسعادة: بجد؟
تعجب آيوب لفرط سعادة هذا الرجل ببقائه، فتأمل كفيه ببسمة حنونة، وتابعه وهو يشير لآدهم بفرحة: يلا يا عمر إنزل حالًا حضرلنا فطار ملوكي زي ما بتعمل، آيوب هيفطر معايا قبل ما يمشي هو اللي قال!

وكأنه لم يكن موجودًا لسماع ما قاله آيوب، اكتفى بهز رأسه وبداخله وجعًا لا يتقاسمه مع أحدٌ لشدته، فاتجه للخروج ولكنه خشى أن يترك آيوب مع والده فيخونه لسانه، والده ليس بحالته الطبيعية، رغمًا عنه تهاجمه عاطفة الأبوة ربما يضعف عن محاربتها ويستسلم لها، لذا أشار بخفة مازحة: بينا يا بشمهندس آيوب، ولا هتخلع من مساعدتي!

ضحك وهو ينهض عن الفراش ويتجه خلفه قائلًا: مقدرش يا حضرة الظابط، إنت طلباتك مجابة يا باشا.
توقفا حينما تساءل مصطفى بفضول مهتم: هو آيوب مهندس؟
التفت إليه آيوب وقال بنفس بسمته: أيوه أنا في أخر سنة هانت وأتخرج، دعواتك يا عمي.
بددت غيمة سعادته، وقال بغصة ألمت آدهم: قولي والدي زي ما قولتلي أول ما دخلت وشوفتني.

انزوى حاجبيه بذهولٍ من طلبه، كان ليصدق بأنه يفتقد شعوره أن يكون أبًا إن لم ينجب، فلماذا يعامله ويطالبه بقول ذلك وهو بالفعل يمتلك ابنًا!
تنحنح آدهم ونظراته المحذرة تحيط أبيه، فلف يده حول كتف آيوب يدفعه للخروج برفقٍ: بينا يا آيوب، خلينا نجهز الفطار.
وتابع بمرحٍ ليمرر قول أبيه: شكلك كده مش مستكفي بسحب قلوب كل اللي بيشوفك لا دخلت على طمع وعايز تأخد مكانتي في قلب مصطفى!

تحررت ضحكاته وأضاف بمزحٍ: أخدتها من اول ما هو شافني.
واستدار تجاه الفراش يتساءل ببسمة جذابة: مش كده ولا أيه يا والدي؟
منادته بما ود سماعه زرعت السعادة والفرحة بمقلتيه كالطفل الصغير، وردد بحبٍ: كده ونص يا حبيبي. أساسًا أنا اتبريت من الواد ده النهارده الصبح، فاضل بس كراكيبه اللي فوق ألمها وأطرده في الشارع.
برق آدهم بعينيه بصدمة: بقى كده! بتبيع ابنك يا صاصا!

واسترسل بشماتةٍ: طيب مش عامل فطار وهرن على مارينا تيجي تحضره بنفسها.
صاح بذعرٍ وكأنه سيتناول سموم قاتلة: لا بلاش مارينا، أنا بطني اتهرت من أكلها الصايص يالا!
واسترسل باتهامه الصريح: عايز تخلص من أبوك؟!
ضحك آيوب بصخبٍ، وجذب من عاد للمقعد يسترخي ببرود: متزعلش بابا منك بقى يا آدهم، مصدقنا رضي عنك!
استجاب ليده ونهض عن المقعد يهتف بضيق مصطنع: عشان خاطرك إنت بس يا آيوب!

وخرج به مغلقًا باب غرفة أبيه، ثم هبطوا معًا للمطبخ.
بللت دموعها وسادتها، وأحمرت عينيها تأثرًا بعدم نومها طيلة الليل، حبيبها ومعشوقها، وكل المشاعر المتجسدة داخل قلبها، يغفو بنفس المنزل الذي تسكنه، يعلوها بطابقٍ واحدًا.

تهاوت دموع خديجة حزنًا، وأسوء ما يعتريها نظرته تجاهها بعد ما أُضطرت لفعله، الساعة أوشكت على السابعة صباحًا ومازالت كما هي، تتمنى أن تستند على ذاتها وتقوي من عزيمتها لتواجهه، تقسم بأنها ستحتمل كل ما سيقوله ويفعله بها، ستحتمل حتى وإن مزق جسده بسكينٍ حاد، يكفيها أنها ستُمني عينيها برؤيته.

تود لو إرتمت على صدره، تشكو له قسوة ما مرت به، ترغب أن تلامس أصابعه الحنونة وجهها لتزيح دمعاتها كما إعتادت، ترغب سماع جملته المحببة لقلبها لمرة واحدة زينة البنات، حتى وإن كانت تعلم بأنها لم تعد تستحقها أبدًا.
كبتت بالوسادة صرخة كادت أن تنفلت منها فتوقظ صغيرها، وهمست بصوتٍ مبحوح: يُونس!

نفس حلمه المورق، امرأة عاجزة تستنجد به وتناديه باسمه بطريقة مؤلمة للغاية، يكاد يجزم بأنها كبيرة بالعمر من تقوس ظهرها المحني!
نهض من نومه يزيح حبات عرقه المتزايدة على جبينه، ولسانه يردد بهمسٍ ناهج: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!
استقام يونس بجلسته، وتفحص الفراش المقابل لفراشه باهتمامٍ، فوجد إيثان يغط بنومه، وتفاجئ بعدم وجود آيوب جواره.
سحب يونس قميصه وخرج ينادي بصوت هادئ: آيوب!

بحث عنه بالشقة بأكملها وحينما لم يجده ظنه هبط لشقة عمه، فولج للمرحاض يتوضأ وما أن انتهى حتى وقف على سجادته يصلي بجشوعٍ ودموعًا تصاحب ركعه.

كان بحاجة لأن يكون بمفرده، فاستغل غياب آيوب وغفوة إيثان وحرر عنه ما ثقل على صدره، يتذكر أسوء ليلة قضاها داخل حبسه، حينما نفذ خطة آدهم بمهارة وما أن رأى ذلك الشيطان المتخفي بزيه العسكري حتى سحبه بأحاديث استخرجت أسوء ما فيه، فعاقب يونس بكل قوته، حينما تهاوى على ظهره بطوق الحزام المعدني، فأحدث جروحًا بالغة بجسده، ومع ذلك لم يستكفى بفعلته، بل جذب أطراف جسده بحبالٍ غليظة وتركها عدة ساعات وما أن غادر حتى عاد إليه آدهم يحرره ويوعده بأنه سينتقم من ذلك الحقير.

أغلق عينيه ببكاء وألم يصعب عليه تحمله، يدعو الله من قلبه أن يُشفي جروح قلبه سريعًا، وإن ينتقم ممن ظلموه جميعًا ومن بين دعواته أتت هي على ذكراه، تلك المرأة المسنة التي تستنجد به، فقال: يارب أنا مش عارف مين اللي بشوفها في الرؤيا دي، فزي ما خلصتني من الجحيم اللي كنت فيه خلصها وفك كربها يا رحيم!

أنهى صلاته وجلس على سجادته، صامتًا، يتطلع أمامه بشرودٍ تام، عينيه تراقب كل أنش بمنزله الذي كان يومًا جنته، والآن بات أسوء كوابيسه، وكأنه يجسد الجحيم الذي قُلب حياته رأسًا على عقب!

عاون آيوب، آدهم بصنع أصناف طعامًا، فانتشل أصابع البطاطس من الطنجرة، ووضعها بالأطباق، بينما قطع آدهم العديد من الجبن بمختلف أنواعها، ووضع أطباق من العسل الشهي، ثم جذب عُلبة من التونة بتردد بوضعها، فوجد آيوب يردد بملامح منفرة: مبحبهاش خالص!
اتسعت ابتسامة آدهم واستدار إليه يخبره بصوتٍ عميق: ولا أنا!

ترك آيوب السكين ووضع الخضار المقطع بالطبق، قائلًا بمزحٍ: مبقتش أتفاجئ! البديهي بالنسبالي إن اللي هحبه هتحبه إنت عشان كده زودت في الكاتشب على البطاطس لآني بعشقها كده وأكيد أنت!
هز رأسه بابتسامة اختفت عنه حينما ردد آيوب بمزحٍ: لولا إني واثق إن الشيخ مهران ميعملهاش كنت شكيت إنك أخويا!

وضحك بصخب بينما ارتسم الحزن بعمقٍ على ملامح آدهم، فأشغل ذاته بوضع الزيتون المخلل بأحد الأطباق، فأتاه آيوب يلتصق به ويردد بصوتٍ منخفض متوتر: بقولك يا آدهم، أنا كنت عايز أشوف دكتور علي، تفتكر هيكون صاحي في الوقت ده ولا أيه؟
تجعد جبينه بدهشةٍ: عايز على ليه؟
تنهد بوجعٍ، وقال: عايز أكلمه عن يونس، يمكن يحاول يساعده.

وأضاف بحزنٍ وهو يدعي انشغاله باعادة الاغراض للبراد حتى يهرب من عين آدهم الصقرية: أنا حاسس إنه مكسور ومحتاج حد زي دكتور علي.
ثم اتجه يقف قبالته وبتردد قال: بس خايف إنه يتضايق من الحوار، إنت متعرفش يونس حساس إزاي!

ابتسم آدهم وردد بتفهمٍ: عندك حق في قرارك، يونس فعلًا هيحتاج لدكتور شاطر والمناسب ليه بلا شك هو دكتور علي، ولو مقلق من زعله منك عرفه عليه على إنه صديق وفهم على ده وسيبه هو يبدأ معاه بالطريقة اللي يشوفها مناسبة، هو ما شاء الله عليه ذكي وحكيم جدًا فهيقدر يسيطر على يونس.

هز رأسه واستطرد بتأكيد وفخر: دكتور على ده رائع، طيب إنت عارف أنا كل ما بتعامل معاه بندهش ومببقاش قادر أستوعب ولا أصدق إن شخص بالهدوء والرزانة والحكمة دي أخو عُمران! الاتنين عكس بعض تمامًا!
مال آدهم على الرخامة يضع بفمه قطعة من الخيار، مضغها بضيقٍ وكأنه يبتلع علقمًا، فضحك آيوب وهو يتابعه قائلًا بشكٍ: شكل عُمران قايم معاك بالواجب؟
واجبه وصلني لحد هنا وبزيادة.

قالها آدهم بنزقٍ، بينما ضحك آيوب بقوةٍ حتى أدمعت عينيه، فأضاف آدهم: أنا مش عارف أعمله أيه تاني عشان يرضى عني ويخرجني من دماغه، أنا بحبه جدًا بس طبعًا صعب أتعامل معاه في أي مشكلة هتحصل بيني أنا وشمس لإني متوقع نهايتها هتكون أيه، عشان كده بحمد ربنا إن ليها أخ عاقل وراقي زي دكتور علي.

واسترسل ببسمة جذابة: ما شاء الله عليه عقله يوزن بلد، متكلمتش معاه مرة الا واحترامي وحبي ليه يزيد، عنده انضباط في كل شيء حتى مواعيده، وفوق كل ده إنسان متفاهم. هو يمكن يكون بيحب يقعد كتير لوحده ومش بيحب الاختلاط بحد كتير بس ده عمره ما كان عيب يذكر، أنا كل يوم الصبح بخرج لشغلي بلاقيه في بلكونته بيقرأ في كتب علم النفس، فأكيد هو صاحي دلوقتي.

اتسعت ابتسامة آيوب، فاستند على الطاولة جواره، وجذب قطعة من الخيار يتناولها مثله، ومازحه ضاحكًا: كل ده اكتشفته من الكام يوم اللي قعدهم هنا، لا ده إنت طلعت محلل اجتماعي بقى وأنا مش عارف.
ضحك وقال: طبعًا، متنساش إني ظابط مخابرات، التفاصيل مينفعش تفوتني أبدًا!
وأشار للرخامة المكتظة بالطعام: طلع الاطباق على السفرة عما أطلع أناديه وأنزل.
حرك رأسه في طاعةٍ، بينما صعد آدهم للاعلى قاصدًا غرفة والده أولًا.

طرق باب الغرفة وولج يغلق الباب من خلفه، ثم اتجه لأبيه الماسد على مقعده المتحرك، وما أن رأه حتى تحرك إليه بتحكمه بطرفه الأيمن، ليهم إليه بوجهه الباكي: ده ابني يا عمر، أنا متأكد! متعملش التحاليل ده ابني والله ابني أنا حسيت بيه!
ربع ساعديه قبلة صدره القوي وهدر بانفعالٍ: ممكن تفهمني أيه اللي عملته ده؟ ده الاتفاق اللي اتفقنا عليه!

أخفض مصطفى رأسه للاسفل بخزي، فتابع آدهم بضيق: إنت شوية كمان وكنت هتقوله الحقيقة!
ردد ببكاء تحرر بصوتٍ: غصب عني يا عمر، أول ما شوفته مقدرتش أمسك نفسي. حقك عليا!
تحرك إليه وانحنى ليكون على نفس مستوى مقعده، يشير له بهدوءٍ: يا حبيبي أنا فاهم شعورك ومقدره كويس، بس الموضوع ده مش سهل، سبني أقدر أعالجه وأهييء آيوب للحقيقة، فلحد ما ده يحصل من فضلك متبوظش اللي بعمله.

أومأ له بلهفة: حاضر مش هعمل حاجة تاني، بس حاول تجيبه هنا على طول، هشوفه ومش هتكلم والله.
تمزق قلبه بين أضلعه، فضمه إليه وهو يمسد على ظهره بحنان، اختفى جسد مصطفى الهزيل بين ذراعي آدهم الضخمة، بكى على صدره كالصغير، فقال: خلاص بقى يا صاصا، امسح دموعك دي وانزل اقعد مع ابنك لحد ما أشوف دكتور على وإنزلكم.

وابتعد يشير له بطريقة أضحكت مصطفى: بس أوعى أنزل ألقيك متبت في الواد وحضنه بالشكل ده تاني، الولد هيشك فيك وش!
هز رأسه وقال: اطمن خلاص مش هغلط تاني، بس يلا وديني الاسانسير بسرعة، وحشني الشوية دول.
انتصب بوقفته ودفع مقعد أبيه وردد بابتسامة مشاكسة: شكلي كده هبتدي أغير، أوعى تنسى إني الكبير وأول فرحتك هااا؟
التفت برأسه إليه وبصدق قال: إنت نور عيني وعوضي في الدنيا يا عمر!

اتسعت ابتسامته ووضعه بالمصعد ثم استكمل طريقه للأعلى، بينما توقف المصعد بالطابق الأول، فلفت انتباه آيوب الذي يرص زجاجات المياة الباردة، فاتجه للمصعد يدفع المقعد للطاولة وهي يردد بود: نازل لواحدك ليه يا والدي؟
غزت كلمته قلبه، فابتسم بسعادة: أنا بنزل وبطلع لوحدي، متقلقش الاسانسير هنا أمان.

ضحك آيوب وجلس قبالته يتبادل معه الحديث، ولم يشعر بالضجر أبدًا من أسئلة مصطفى المتواصلة معه، عما متعلق به وبأهله حتى دراساته، وابن عمه، كان يود استغلال كل دقيقة بالحديث معه حتى وإن ظل يتحدث دهرًا كاملًا.
دقائق قليلة وهبط علي للأسفل برفقة آدهم، فابتسم فور رؤيته آيوب وصافحه قائلًا بمحبة: ازيك يا بشمهندس آيوب.
أجابه آيوب بود: أنا بخير الحمد لله يا دكتور.

أشار مصطفى لعلي: واقف ليه يا ابني، اقعد ده عمر وآيوب اللي عاملين الفطار بنفسهم، واللي يطمنك ويطمني إن أغلبه أكل معلب، فحاول تتفادى أي طبق مصنوع بالأيد لإني عارف إن عمر ابني معندوش نفس في الأكل لكن آيوب الله اعلم.
ضحكوا جميعًا، واعتلوا مقاعدهم، فهتف آدهم بسخرية: مش عارف هتفضل تنتقدني لحد أمته، أنا ابنك على فكرة!
متخضنيش وأنا بحاول استوعب!

نطقها مصطفى مازحًا، فعادت الضحكات تسيطر عليهم، فتناولوا طعامهم بصمتٍ، وما ان انتهوا حتى خرج على بآيوب لمدخل المنزل لشعوره بأن الأمر الذي يحتاجه به يوتره بالحديث أمام آدهم ووالده.
نزع على نظارة النظر التي تناسى نزعها فور انتهائه من القراءة، وقال: ما تتكلم يا آيوب أنا خرجت بيك بره عشان تأخد راحتك في الكلام بس من ساعتها وإنت مرتبك وساكت!

تنهد والحزن يتوغل إليه كالنيران حينما تشتعل بكومة من القش: أنا عايز من حضرتك مساعدة يا دكتور علي، الموضوع متعلق بابن عمي، هو اتظلم كتير واتحبس في معتقل لمدة خمس سنين، خارج مكسور والحياة انطفت في عينه، وانا واقف عاجز ومش عارف أساعده ازاي، بس كل اللي جيه في دماغي إنه ممكن يكون محتاج لدكتور نفساني، وأنا معرفش أفضل من حضرتك.

ابتسم على بتفهمٍ، وبعقلانية قال: أي شخص عنده مشاعر نبيلة زيك هيفكر نفس التفكير يا آيوب، أنا راجع لندن بكره بإذن الله بس قبل ما أسافر هعدي عليك بكره وهقعد معاه، ومتقلقش خالص هقنعه يتابع معايا وهكونله صديق مش دكتور.
غادر الحزن وجهه، واحتله سعادة عارمة، مرددًا بفرحة: بجد يا دكتور؟
ربت على كتفه بحنان: سيبها على ربنا ثم عليا.
تلاشت ابتسامته وقال بارتباك: بس يُونس حساس لو عرف انك دكتور نفسي هيآآ...

قاطعه بتفهمٍ شديد لا يخرج الا من شخصٍ راقي مثله: اطمن، أنا فاهمك، هتعرفني عليه على إني صديقك او هتقوله الحقيقة إني أخو عُمران صاحبك وبعد كده سيب الباقي عليا وخليك واثق فيا.
اندفع إليه آيوب يحتضنه بامتنانٍ: شكرًا يا دكتور علي.
مسد على ظهره مردفًا: العفو يا آيوب. أشوفك بكره بإذن الله.
وتركه وغادر للسيارة التي كانت بانتظاره لتقله لأخر مشفى سيزوره قبل سفره بالغد.

أما آيوب فولج للداخل، ظل برفقة آدهم وأبيه إلى أن أشرفت الساعة على الثانية ظهرًا، فانصدم من انسياقه بالحديث المحب معهما، ونهض يهتف بعدم تصديق: أنا نسيت نفسي لحد دلوقتي ازاي؟!
وعاتبهما بضيق مصطنع: الحق عليك يا آدهم من ساعة ما عرفتني على والدك السكر ده وأنا مش عايز أسيبه، بس كده الشيخ مهران هيتضايق مني!
ترك آدهم فنجان قهوته ونهض يخبره ببسمة هادئة: قوله كنت مع آدهم مش هيقولك ولا كلمة.

طوفه بنظرة ماكرة، ملأها الخبث، ففهمها آدهم وردد بسخريةٍ: بتفكر في أيه يا بشمهندس! نظراتك كلها شر، أيه هتقتلني!
لف ذراعه حول كتفه ودفعه للخارج: لا هأخدك معايا للشيخ مهران، منه ترد وعدك بأنك هتتغدى معانا ومنه تشيل عني غضبه المخيف.
دفعه ليقف وهو يصيح بدهشة: هتأخدني فين! سبني يا آيوب أنا هوصلك وهرجع.
ضحك مصطفى وقال: روح معاه واعمل اللي عايزه منك يا عمر.

وبنبرة عميقة، مؤلمة استأنف: شكله بيحب والده وبيحترمه جدًا، فروح معاه وقوله إنه كان هنا معاك.
هز آدهم رأسه وسحب جاكيته الأسود يرتديه على تيشرته الأبيض، وصَرَّحَ: إنت صديق متعب أنا عارف.
غمز له بمشاكسة واتجه لمقعد مصطفى يناوله يده ليودعه: مع السلامة يا عمي، اتشرفت بمعرفة حضرتك وقضيت وقت ممتع بالكلام معاك!

راقب يده الممدودة وتجاهلها، ليفاجئه حينما سحبه داخل أحضانه بقوةٍ، أجزم آيوب بأن انتفاضة جسد مصطفى بأنه يبكي، فشعر بوجعٍ يعتري صدره وحيرة من أمر ذلك الرجل الغامض، فمسد على ظهره بحنان ولم يتخلى عن حُضنه الا حينما ابتعد مصطفى أولًا، وقبل أن يستقيم آيوب بوقفته أمسك مصطفى يديه بين كفوفه المرتعشة وقال وعينيه تتعمق بفيروزته: أبقى تعالى زورني من وقت للتاني يابني، عمر أغلب وقته بيكون في شغله وأنا هنا لوحدي، صدقني هفرح بزيارتك أوي.

نمى الدمع بأعين آيوب بشكلٍ تعجب هو ذاته له، ووجد نفسه ينحني رغمًا عن ارادته يقبل كف يده ويرتفع ليضع قبلة على رأسه تمامًا مثلما يفعل آدهم، وقال باحتقان يحجب صوته القوي ويضعفه: أوعدك إني هجي أزورك باستمرار، لإني حبيتك أوي.

هز مصطفى رأسه بابتسامة واسعة وودعه وهو يجاهد الا يسقط باكيًا، فسبقه آدهم وهو يستدير عنهما يزيح دموعه، قلبه البائس لم يعد يتحمل، ما أصعب أن يرى أبيه يتألم وهو عاجزًا عن اتخاذ خطوة ليست منطقية بالوقت الحالي.
خرج آدهم وآيوب لسيارته، وقادها لحارة الشيخ مهران.

سيف!
انتفض عن مكتب غرفته فازعًا حينما تسلل له صراخ أخيه المتعصب، لدرجة جعلت جمال يترك غرفته ويركض صوب الصوت هو الأخر والذي لم يكن يأتي الا من المطبخ.
ولجوا معًا، فوجدوه يضع الطعام وأغراض البراد الذي أحضره أرضًا، وما أن رأى أخيه حتى سحبه من ياقة التيشرت الأسود الذي يرتديه، هادرًا بعنف: ده منظر مطبخ! دي منظر شقة بني آدم طبيعي زينا عايش فيها!

ابتلع ريقه بصعوبة لرؤيته حالة أخيه المخيفة، كان يرى الشقة متسخة أكثر من ذلك ولم يفعل ما يفعله الآن، فردد بصعوبة بالحديث: اهدى يا جو مش كده!
صرخ بشراسةٍ غاضبة: ما تقوليش اتزفت! أنا مش الخدامة الفلبنية اللي اتولدت عشان تخدمك إنت والهانم اللي في بيتي دي! أنا دكتور محترم ولازم تحترموني غصب عنكم انتوا الاتنين!

حاول التملص من بين يديه ولكنه لم يترك له فرصة المناص، فتدخل جمال بمللٍ، ودفعه للخلف: سيبه يا يوسف ما انت بقالك سنين بتخدمه وعمره ما عمل لنفسه حتى كوباية قهوة أيه اللي جد دلوقتي!
بعصبية لم تحتسب قال: لازم يبقى مسؤول يا جمال، على الأقل يراعي الظروف اللي بمر بيها.
وبجدية تامة قال: أنا بقيت بنضف أطباق وحلل قبل ما بنزل الشغل يا جمال تخيل!

كبت ضحكة ساخرة كادت أن تتحرر عنه، بينما سحب يوسف مقعد خاص بالرخامة العالية وجلس بانهاكٍ؛
كان نفسي في الحمل بس مش بالطريقة دي أنا حرفيًا متمرمط!
لم يستطيع السيطرة على ذاته أكثر من ذلك، فضحك مرددًا باستهزاء: وماله لازم تكون راجل متحضر وتستحمل هرومونات الحمل الطبيعة عند أي ست، مش ده كلامك يا دكتور!
احتدت نظراته بغضب دفنه خلف نبرة ثابتة: وإنت فكرني سلمت ولا أيه أبسلوتلي!

انتبه يوسف لكفٍ يمسد على كتفه وبشفقة قال: معلش يا يوسف إن شاء الله دكتورة ليلى تعقل وترفع عنك المسح والغسيل.
توارى هدوئه وجذب كف سيف يحطمه بين عقدته: إنت تخرص خالص، وحالًا القى المطبخ والشقة بيلمعوا والا أقسم بالله يا سيف لأكسر المقشة دي عليك!
ارتعب سيف وركض للاطباق يجليها باتقانٍ، بينما ضحك جمال وقال: شكل أعصابك تعبانه أتصلك بدكتور علي؟!

استقرت مُقلتيه المشتعلة عليه، وأشار له بالخروج: لا تيجي وتفضفضلي أنا يا بشمهندس، اتفضل معايا!
وضع الشيخ مهران أطباق الطعام الممتلئة بأنواع عديدة من الأسماك على الطاولة المستديرة، هاتفًا بترحابٍ وابتسامة بشوشة أضاءت وجهه: يادي النور يا حضرة الظابط، نورت البيت كله والله.
نهض آدهم عن الأريكة البعيدة عن السفرة، يلتقط منه الأطباق ورصها بذاته على الطاولة: ده نورك يا عم الشيخ.

واستطرد بحرجٍ وهو يتأمل كمية الأسماك وأنواعها الباهظة: مكنش له داعي التعب ده كُله.
خلع مئزره البني المحاط بجلبابه الأبيض، ووضع سبحته التي لا تفارقه على الطاولة المجاورة ليده: تعب أيه بس يابني، ده الموجود ومتعملش حاجة مخصوص.
واضاف بابتسامة مرحة: دي الحاجة رقية بتحتفل بخروج ابنها يونس ولما آيوب اتصل وقال إنك جاي معاه بقت الفرحة مش سيعاها، وإنت خارج هتشكرك بنفسها على اللي عملته مع آيوب ويُونس.

هتف باحترام وعينيه موضوعة أرضًا: العفو يا عم الشيخ معملتش غير الواجب.
قاطعهما ولوج آيوب يتجه ليلحق بمقعد مجاور لآدهم كالطفل الصغير الذي لا يود الافتراق عن أبيه، وقال: خلاص نازل هو وإيثان أهو.
ردد وهو يراقبه يقرب مقعده من آدهم، رافضًا تلك المسافة المتفرقة بين كل مقعد والأخر لضمان الاسترخاء بجلستهم: يابني متضايقش الضيف في قعدته، اتحرك بكرسيك شوية!

زم شفتيه بضيقٍ: أنا مرتاح كده! وبعدين انا نقلت كرسيي جنبه عشان هيتحرج يأكل فقربله أنا الأكل.
ضحك آدهم وتطلع للشيخ مهران: سيبه يا عم الشيخ مش مضايقني.
اتسعت ابتسامة آيوب وأبعد عنه السمك المغموس بالصلصة الحمراء، ثم وضع السمك السنغاري والجمبري الفخم من أمامهما، قائلًا بثقة: أكيد مش بتحب السمك اللي بالصلصة، ما انا خلاص حفظتك وجهة معاكسة.

هز رأسه وابتسامته الجذابة مازالت مرسومة على وجهه، فاستدار آيوب تجاه أبيه يخبره بحماسٍ: إنت عارف يا بابا آدهم شبهي في حاجات كتيرة اوي، حتى معظم الأكل اللي مش بحبه وبيجبلي حساسية هو نفس الموضوع.
واستطرد بحب ينبع داخله لصديقه الذي بات مقربًا إليه: والنهاردة لما اتعرفت على والده حبيته جدًا ومبقتش مستغرب آدهم طالع بالجدعنه دي لمين!

راقب الشيخ مهران تعلق صغيره بشخصٍ عظيمًا كآدهم بفرحةٍ، وخاصة بعد سماع حديثه عنه وعن والده فقال وهو يوزع نظراته بينهما: ربنا يديم الود والمحبة بينكم يابني، حضرة الظابط ابن حلال وباين عليه إنه متربي في بيت ناس ولاد أصول.
اختزل الحزن حدقتيه من علاقة آيوب بأب كالشيخ مهران، يصعب عليه تخيل معرفة الشيخ بالحقيقة ولكنه ممتن ويحمد الله عز وجل أن من قام بتربية أخيه هو الشيخ مهران.

انتبه آدهم لدخول يونس برفقة هذا الايثان الذي سبق أن رأه مرة، اتجه يونس إليه يصافحه يترحابٍ وسرور: أهلًا يا باشا.
صافحه آدهم وقال بضيق: باشا أيه يا يونس شايفني واقف قدامك بالميري!
واستطرد بابتسامة هادئة: أنا آدهم أو عمر بس، زي ما تحب نادي، مع إني واثق إنك هتنضم لشق آدهم ودي مصلحة ليا لإن ظباط المخابرات من الأفضل هويتهم واسمهم الحقيقي يتخفى.
رفع كفه الاخر يحيط بكفه المصافح: خلاص يبقى آدهم.

دفع إيثان يونس بعيدًا عن وجهه، ووقف يتطلع لآدهم نظرة فضولية جابت جسده، وبالأخص بأماكن العضلات التي يجيدها ككابتن متمارس، فكان يمتاز جسده ببناءٍ عضلي قوي، وبالأخص العضلات العضدية أعلى ذراعيه المفتولة، فردد باعجابٍ شديد ومازالت نظراته تتفحصه: يعني مطلعش عضلات ظباط المخابرات فيك وحوار فاكس!
ومرر إصبعيه على كتف آدهم مستهدفًا أماكن العضلات ببراعةٍ، فهدر منصدمًا: دي مش حقن دي حقيقية فعلًا!

صاح به يونس باحراج وهو يجذبه للخلف: بتهبب أيه يا إيثان!
وتطلع لآدهم باحراج: أنا آسف يا باشا، بس صاحبي دماغه مفوتة حبتين.
باشا تاني يا يونس! عمومًا مفيش حاجة.
قالها آدهم بانزعاج من يونس الذي مصر يضع الحدود بينهما، فتفاجئ بآيوب يطرق كتفه ويتفاخر بغرور: شوفت صحابي عاملين ازاي يا إيثو، امبارح عُمران والنهاردة آدهم عشان لو فكرت تقل بعقلك وتحطني فيه هجبلك اللي يروقوا عليك!

قهقه آدهم ضاحكًا، وتساءل بحدة مصطنعة: وإنت بتضايقه ليه يا أستاذ إيثان، ده آيوب شاب ملتزم وأخلاقه عالية مالوش في المشاكل!
زم إيثان شفتيه بضيق: عشان خاطرك بس يا باشا مش هضايقه تاني.
صاح الشيخ مهران من خلفهم: يلا يا ولاد الأكل برد!
اتجهوا إليه فسحب إيثان المقعد القريب منه والذي كان يجاور آدهم، فصرخ به آيوب؛
ده مكاني!

برق الشيخ لآيوب الذي يبدو اليوم كالطفل المشاكس، فصاح بتحذير: اقعد جنب ابن عمك وبطل تصغر عقلك يا آيوب.
هتف باصرار: لا مش هأكل اللي جنب آدهم!
ضحك إيثان وقال مازحًا: اقعدي يا حبيبتي ومتخافيش أنا مستحيل أتحرش بيكِ وسط أهلك ومعانا ظابط كمان!
لكزه آيوب بغضب، بينما وزع يونس نظراته بينهما باستغراب لما أصاب آيوب العاقل، فنهض عن مقعده وأشار لآدهم: تعالى إنت هنا يا آدهم مش عارف آيوب ماله النهاردة.

ابتسم آدهم وجلس جوار آيوب المبتسم بانتصارٍ، فبادله بابتسامة هادئة وشرع بتناول طعامه، فجذب آيوب الجمبري يزيح طبقته الخارجية ويضعها بطبق آدهم، والجميع يتابعهما بسعادة لفرحة آيوب البارزة من حدقتيه لوجود آدهم بينهما، وللحق لم يتوقع أحدٌ تعمق علاقتهما لهذا الحد، ظنوه مجرد صديق والآن يثبت بأنه أكثر من ذلك ربما لهذا غامر بمساعدة آيوب مرة ويونس مرة أخرى!

طرق الباب ومن ثم تحرر، وولج صغيرًا يحمل طبق وضع به الخبز الصغير، ومن الخارج تراقبه الحاجة رقية بارتباكٍ لما فعلته، ولكنها تريد أن يقابل يونس طفله بأسرع وقت، تريد رؤية رد فعله، وتتمنى أن يحبه.
انتشر الارتباك والتوتر على ملامح الشيخ مهران وآيوب بشكلٍ لاحظه آدهم، والاندهاش على وجه يونس الذي يتابع ذلك الصغير بنظرات فضولية.

التقط آيوب الطبق من الصغير، ومرر يده بحنان على شعره مشيرًا على المقعد المجاور لأبيه: اقعد يا فارس.
تحرر يونس عن صمته متسائلًا بدهشة: إنت اتجوزت ولا أيه يا آيوب؟!
ارتبك من سؤاله لتذكره بزواجه من آديرا، وقبل أن يجيبه أجابه الشيخ مهران بصوتٍ عميق: ده ابن ناس من اللي ساكنين في عمارتنا يابني، والدته مريضة وأهل والدته مسافرين، هو متعود علينا عشان كده قاعد عندنا الفترة دي لحد ما يرجعوا أهله بالسلامة.

انخفضت أعين يونس للصغير، انتقلت عينيه الفضولية لكل أنحاء جسده، فمنحه ابتسامة جذابة وقال: إسمك أيه يا حبيبي؟
ابتسم الصغير وقال بمشاكسة اضحكت الجميع: آيوب نادني بإسمي يا عمو!
ضحك يونس بصوت مسموع لمرته الاولى، وهتف بحنان: انا آسف يا عم فارس بس كنت بشد معاك حوار مش أكتر.
هز الصغير رأسه بخفة، وسأله: إنت بقى اسمك أيه؟
رد عليه بحب: اسمي يونس.
وأشار على من يجاوره: وده صاحبي إيثان.

قال ببراءةٍ: ماما بتحب اسم يونس أوي، ودايمًا بسألها ليه مش سمتني الأسم ده عشان بتحبه بس مش بترد عليا وبتقعد تعيط كتير.
اختنقت أنفاس يونس، لا يعلم ما الذي أصابه بالتحديد، فأسرع الشيخ مهران بفض الحديث: كل يا فارس، طبقك أهو يا حبيبي.
بدأ الصغير بتناول طعامه بينما توقف يونس عن ذلك وطوال جلسته عينيه لا تنحرفان عن فارس.

لا يعلم كم مضى هكذا الى ان انتبه لعمه يودع آدهم الذي أصر على الرحيل لعمله الهام، فصافحه وودعه وعاد لمقعده.
اتبعه الشيخ مهران ليوصله لباب الشقة بينما هبط آيوب يوصله لسيارته بالاسفل.
نهض إيثان واتجه للمرحاض ينظف يده ولم يبقى الا يونس الشارد بالصغير، وجده يحاول نزع لحم السمك عن الشوك، فتناولها منه وبادر مبتسمًا: خليني أساعدك.

انتقل يونس لمقعد الشيخ مهران وأخذ يضع اللحم بطبق الصغير، وفارس يراقب ما يفعله باهتمامٍ.
شرع فارس بتناول طعامه ويونس يتابعه بحبٍ، وجد يده تتجه لزجاجة المياه فجذب الكوب الفارغ وسكب له المياه ثم رفعها لفمه، فشرب حتى ارتوى وقال بابتسامته التي راقت يونس كثيرًا: شكرًا يا عمو يونس.
مرر يده بين خصلات شعره الطويل: العفو يا استاذ فارس ولا أقولك يا دكتور! إنت عايز تطلع أيه لما تكبر إن شاء الله؟

حزن الصغير وتوقف عن تناول طعامه، ثم قال بعزيمة مرعبة: عايز أبقى ظابط عشان أحبس بابا وأخليهم يضربوه كتير زي ما بيعمل مع ماما ويسبها طول الليل بتعيط.
وخز قلب يونس بلا رحمة، وتهاوت دموعه بعدم تصديق لما يخوضه هذا الصغير، فحمله لساقيه وضمه بكل حنان له وهو يهمس بعاطفة: يا حبيبي!
أحاط الصغير رقبته فشعر بأحاسيس رائعة، ليته يمتلك طفلًا مثله، ربما كان سيهون الأمر عليه قليلًا.

رفع يونس رأس فارس إليه وسأله بتوترٍ: طيب وهو بيضربك إنت كمان يا فارس؟
هز رأسه بحزن، وقال: أيوه بس ماما على طول بتدافع عني ومش بتخليه يضربني.
عاد يضمه لصدره بقوةٍ، وقد ازداد وجعه أضعافًا، عاد إيثان والشيخ مهران الذي تفاجئ بيونس يضم فارس دون أن يعلم بأنه ابنه! أدمعت عينيه تأثرًا وتنحنح قائلًا: فارس غلبك يا يونس؟

أجابه وهو يبعد دموعه عن خده بكبرياء: أبدًا يا عمي ده أحنا حتى بقينا أصحاب، مش كده ولا أيه يا فارس.
هز الصغير رأسه بفرحة، بينما ردد إيثان: بينا يا يونس أوريك المحلات قبل العصر لانهم بيقفلوا للاستراحة.
وضع يونس الصغير على مقعده ونهض ليغادر برفقة صديقه، ولكنه شعر بأنه يترك خلفه قلبه الذي ينهشه، ربما يشعر بالشفقة تجاه الصغير وما قصه إليه، ففتح كف يده العريض وقال بابتسامةٍ هادئة: تحب تيجي معانا يا فارس؟

تهلل وجه الصغير وركض يضع كفه بكف يونس الذي رفع وجهه لعمه المندهش وقال: هنأخده معانا بدل ما يغلبكم يا عمي. وهقابلك في المسجد وقت صلاة العصر إن شاء الله.
بصعوبة حرك رأسه: مآ، آآ. ماشي يابني.
هبط يونس ويده تحيط بالصغير وابتسامته لا تفارقه، فمال عليه ايثان يهمس بصوت خافت: جبته معانا ليه يا يُونس لا أنت ولا انا عندنا خلفية عن التعامل مع الاطفال! هنحتاس بيه كده!

قال ويده مازالت تعبث بخصلات الصغير، البنية التي تذكره بأخر شخص لا يود تذكره: أنا حاسس إنه طفل هادي مش مشاغب، ولو حصل فهرجع أنا بيه متقلقش.
هز رأسه بيأس وأوقف أحد وسائل المواصلات الشعبية المتاحة بالحارات، ذات الثلاث عجلات (توكتوك)، صعدوا به وتحركوا لمكان المحل الأول.

هبطوا معًا ويونس عينيه معلقة على اللافتة العريضة التي تحمل إسمه، وانخفضت عينيه تدريجيًا على مدخل المحل الكبير، تعجب لما تمكن إيثان من فعله وهو بمفرده، كان يملك محلًا صغيرًا، وبعد عمله فتح الأخر وكان صغيرًا، اما الآن قد تمكن من رؤية إسمًا سعى صديقه لانتشاره.

استدار باحثًا عنه وما ان وجده لجواره ضمه إليه وقال بتأثرٍ: مفيش شكر هيوفي حقك يا إيثان، أنا كان عندي ثقة فيك بس أنت ادهشتني من اللي عملته. بس أنا مقبلش خسارتك
ربت عليه وردد بصدق: مال الدنيا كله فداك. المهم انك خرجت من اللي كنت فيه.
وابتعد يشير له بحماس: تعالى ندخل، كرسيك مش وحشك؟

ابتسم له واومأ بمحبة عارمة لاحتفاظه بالمقعد المحبب إليه، حيث أنه ابقى عليه سابقًا لآنه كان عائد لأبيه، جذب يد الصغير واتبع إيثان للداخل، فتجمع من حوله العمال يرحبون به بحفاوةٍ ولدهشته بأن صديقه الحبيب مازال يحتفظ بعماله!
أوصل آدهم آيوب قبالة عمارة إيثان التي تقطن بها آديرا، وقبل أن يهبط فجأه آدهم حينما قال: الولد الصغير ده ابن يُونس صح!
لف رأسه إليه وردد بصدمة: أيه اللي خلاك تقول كده؟

أغلق محرك السيارة والتف إليه بجسده: نظرات الخوف اللي كانت جوه عيونك أنت والشيخ مهران، مراقبتكم لرد فعل يونس باهتمام ولهفة، واتقلبت لشفقة وحزن لما اتكلم معاه، غير الشبه الملحوظ بينهم، احتفاظ الشيخ مهران بطليقة ابن عمك لحد دلوقتي جوه بيته.
اتسعت عينيه بدهشة، وردد بصعوبةٍ: إنت بني آدم مخيف يا آدهم.
تعالت ضحكاته الرجولية ورفع كتفيه بغرورٍ: مش ظابط يابني!

تنهد بقلة حيلة وقال: أيوه يا آدهم ابنه، وبابا منتظر الوقت المناسب عشان يصارحه بالحقيقة، بس زي ما أنت شايف لسه خارج ومش جاهز.
تفهم آدهم ما يقول، فقال بتمني: إن شاء الله يكون متفاهم ويتقبل الولد.
رد عليه بابتسامة ممتنة: يارب يا آدهم يارب، يلا هنزل انا بقى عشان مأخركش.
أمسك يده يمنعه من الهبوط، وقال يشاكسه بغمزة مرحة: أيه اللي خليك تحن! مش كنت مفارق؟

لوى شفتيه بتهكمٍ: مجبور والله يا صاحبي، كل يوم بتبعتلي مع إيثان وده خلقه في صابع رجله الصغير.
ازداد ضحكًا وقال: ماشي يا أيوب روح سايس الدنيا بدل ما تتفضح والشيخ مهران يرميك في الشارع.
ودعه والضحك يعلو على وجهه، فتحرك آدهم على الفور، بينما وقف آيوب أسفل عمارة إيثان يتطلع للشرفة المرتفعة بترددٍ.

زفر بضيقٍ يعتلي ملامحه، لا يحبذ القدوم لمكانٍ رغمًا عنه، ولكنه مضطر لفعل ذلك، وما كاد بالدخول للعمارة حتى أوقفه احد المارة يتلقفه بأحضانه وما كان سوى عم صالح البقال، يعانقه قائلًا بفرحة: حمدلله على السلامة يا آيوب، ليك وحشة والله يابني.
منحه اجمل ابتسامة يمتلكها واجابه بحب: أنا الحمد لله في زحام من النعم، أخبارك إنت أيه يا راجل يا طيب؟

أجابه المسن بحبورٍ: في فضل ونعمة الحمد لله. وكنت رايح المسجد ألحق صلاة العصر ورا الشيخ مهران. حتى لو المسجد اللي بيصلي فيه بعيد عن الدكانة مستحيل افوت صلاة عليا، صوته بيطرب ويداوي القلب والاوجاع يابني.
ثنى ساعده وقال: طيب بينا نلحق الصف الأول.
ضيق حاجبيه باستغراب: بس إنت شكلك كنت طالع عند إيثان قبل ما أناديك!
قال وهو يخطو لجواره: مش مهم بعدين، المهم مفوتش الصلاة.

ردد الرجل بإيمان وهمة: توكلنا على الله، يلا يابني.
اتجه آيوب للمسجد، وجلس جوار يونس الذي أعاد فارس للمنزل برفقة إيثان وولج لصلاة العصر، وما هي الا ثوانٍ وأقام الشيخ مهران الصلاة.
زفر بعصبيةٍ بالغة: ما تتنيل يابني وتنطق، طلعت عين أمي معاك! مخليني سيبت حسام يحضر توقع العقود مع دانيال وعمي وجيت جري وفي الأخر قاعد قدام شبه تمثال الحرية!
تنهد جمال بقلة حيلة: مش أنا اللي كلمتك، يوسف اللي اتصل بيك.

دافع يوسف عن ذاته سريعًا: وأنا كنت هعمل أيه يعني، ما انا قاعد جنبه بقالي أربع ساعات مش عارف أطلع منه بحاجة مفيدة.
نغز عُمران ساق جمال المتمدد ببرود: قوم اترزع خلينا نعرف نأخد وندي في الكلام.
أنا مرتاح كده!
بس أنا مش مرتاح!
استقام بجلسته بضيقٍ شديد، وهتف بجمود يتحلى به: نعم!

كز على أسنانه بعصبية، وبصعوبة سيطر على سبابه اللازع الذي قد يفسد الاجواء، فجلس جواره وقال بهدوء مغتاظ: بص يا جمال، من حقك تكون كتوم على حياتك الخاصة، وأنا ويوسف مش عايزين نعرف اللي حصل بينك وبين مدام صبا، بس على الأقل ترجع بيتك، مينفعش كل مشكلة تحصل بينكم تيجي وتقعد هنا.
طرق الفراش واتجه للنافذة المفتوحة: لو مضايقكم قعادي انا ممكن احجز في أي اوتيل.

نهض خلفه يوسف يصيح بانفعال: وقعادك هنا هيضايقنا في أيه يا سي جمال، احنا خايفين عليك متنساش إن مراتك حامل كام يوم وهتدخل في الشهر السابع والزعل مش كويس عشانها، متسبش مجال لدخول الشيطان بينكم يا جمال.

ترك النافذة واتجه للشرفة، فتنحى يوسف جانبًا ولحق به عمران يردد ببرود مخادع: بلاش عشانها، عشان خاطر أشرقت. شوشووو يا جمال! لو رجعت البيت وشافت الحالة اللي انتوا فيها دي هتزعل والزعل وحش عشانها، ارجع وراضي دنيتك قبل معاد خروجها بكره.
يعلم بأنهما لن يستسلموا عن إلقاء محاضراتهم، لذا اتجه للفراش وهو يصيح: أنا مش متخانق معاها، أنا طلقتها.

جحظت أعين يوسف صدمة بينما انطلق لسان عُمران الوقح: إنت ضارب أيه يالا! إنت شكلك مش طبيعي!

كاد بأن يسترسل حديثه المنفعل إلى أن دق هاتفه برقم حسام السكرتير، فخرج من الغرفة ليجيبه، فوجده يستعلم عن مكان اوراق هامة، وما ان انتها مكالمته حتى عاد للغرفة، فتخشب محله حينما سمع جمال يهدر بانفعال شرس ليوسف الذي كان يحاول حثه على الحديث: آه يا يوسف طلقتها، مهو مش أنا الراجل اللي هيقف يسمع مراته وهي بتقارن بينه وبين راجل تاني بمنتهى البجاحة، ومش ندمان إني عملت ده فاهمني!

ابتلع حديثه بصدمة، وبصعوبة هدر: راجل أيه اللي هتقارنه بيك هي تعرف مين أصلا عشان تعمل كده، على حد علمي أنكم مالكوش علاقة ولا خلطة بحد غيرنا يبقى آآ...
توقف عن الحديث وازداد اتساع مُقلتيه، حينما عقد مقارنة سريعة بين من يمكن أن ينال اعجاب زوجة رفيقه في محيط الاقربون منهم، فاجبر لسانه الثقيل على سؤاله: عُمران!

صمت جمال وتعابيره الهادرة أكدت ظنون يوسف، فجذبه يقف قبالته وهو يصيح بغضب: انطق يا جمال إنت تقصد عُمران!
أزاح يديه من حول عنقه، فتابع يوسف باستنكار: جمال ده عُمران إنت فااااهم، يعني مش هسمحلكم تخسروا بعض عشان كلام أهبل طلع من مراتك!
أوقفه عند حده حينما قال: إنت بتخرف يا يوسف، أنا مش مغلط عُمران في شيء لانه ببساطة معملش حاجة، الغلط من عندها هي فمستحيل أشيله ليه هو ذنبه أيه أصلًا!

أغلق عُمران عينيه بحزن، وقبل أن يدخل طرق الباب وجاهد ليبدو طبيعيًا وهو يخبرهما بايجازٍ شديد: أنا لازم أنزل الشركة، حسام مقدرش يخلص معاهم.
وغادر دون أن يضيف كلمة واحدة، وحديثهما مازال يتردد إليه كالسوط، فما أبشع أن يكون سبب لهدم منزل لا يقبل بهدمه أبدًا، ولكن هو لم يفعل أي شيء!

إلتاع قلبها من فراقه، الأيام تمضي دونه كتسرب الموت لشخصٍ مقت الحياة وتمنى الرحيل، بداخلها ألمًا ينهشها كالوحش المفترس، عاجزة هي عن الصراخ حتى مقاومتها خسرتها بجدارةٍ.
لم يحتسب لها بتلك الأيام الا يقينها بأن آيوب لم يكن لها شخصًا عاديًا، لم يكن ذلك العدو الذي تجرأ على قتل أخيها وتركها تشتعل لوعة قتله.

الآن وبتلك اللحظة تتيقن بأنه قد غزى قلبها بجيوشه وأباد حركة مقاومتها ليصبح المسيطر الوحيد على ملكيتها، أجل أحبته بل عشقته لدرجةٍ جعلتها تندم لفعلتها بعدما تركها أيامًا معدودة دون سؤالًا عابرًا عنها، تتذكر كل مرة أتى إليها إيثان وحينما تتساءل عنه يجيبها بأكثر من حجة تجاهد لاقناعها بأنه منشغلًا وسيأتي قريبًا، باتت على يقينٍ بأنه لم يكن هدفه بقربها الا حمايتها فحسب، ترى اختلاف ديانتها وشكلها هو السبب لافتراقه عنها؟ ولكنها أعتنقت الدين الاسلامي بشهادة منه ومن صديقه عُمران، حتى حُلمها برؤية الشيخ مهران تحطم بوجودها هنا بمفردها.

أغلقت باب شرفتها بعدما فترة من شرودها، حاسمة أمرها بالرحيل، هي ليست بحاجة لشفقته فيتحمل أمر إطعامها وتوفير سكنًا لها، ففتحت باب الشقة وهبطت للحارة الشعبية تدقق بطريق العودة.

كانت تائهة، حائرة، تراقب الزحام والأعين التي تترابصها كأنها من كوكب غير البشر، فتفحصت ثيابها، تنورتها البيضاء التي تصل لركبتها، قميصها الوردي ذات الحبال القصيرة والمعقود عند منتصف بطنها في حين أن من حولها من النساء يرتدون جلباب أسود فضفاض.
اختنقت من نظراتهن، فأسرعت بخطواتها وغايتها الوحيدة الفرار، حتى توقفت بمنتصف احدى الشوارع، تتفحص الزحام والمارة بأعين تسلل لهل الرعب والتيهة.

مررت يدها بين خصلات شعرها الذهبي، ودموعها تهبط دون ارادة منها، وكأنها كانت مغيبة وإستفاقت هنا عند تلك النقطة، كيف تمكنت من اتخاذ قرارًا أحمقًا كذلك؟ هي هنا بمفردها حتى العملة المصرية لا تمتلكها، لا تمتلك حتى هاتف ولا أي شيء قد يساعدها وإن وجد بمن ستطلب العون!

تراجعت خطواتها للخلف بذعرٍ، حتى جلست على أحد (المصاطب) لأقرب منزل قابلها، تضم ذراعيها المكشوفة ببكاءٍ منهمر، مالت برأسها عليه وهمست بصوتٍ بُحت نبرته: آيوب أين أنت؟

وكأنه علق بين زمانه وزمانها، فهالتها رؤيته، انتفضت عن جلستها تدقق بعينيها الفاتنة من يقف على بعدٍ منها، شوقها إليه ولهفتها جعلتها كفيفة عن رؤية مجموعة الرجال المحاطة به، فاندفعت راكضة إليه بكل سرعتها التي لا تتناسب مع حذائها البوت الكلاسيكي ذو الكعب المرتفع، كل ما تراه هو فحسب!

وعلى مسافة منها فور انتهاء صلاة العصر، وقف آيوب برفقة والده الشيخ مهران و يونس يستقبلون التهاني والمباركات الحارة بعودة أبناء الشيخ مهران، مؤكدون ليونس بأن لا أحدًا منهم صدق تلك الاقاويل المتدنية بحقه، وللحق شُفيت جزء من أوجاعه لسماع مدحهم بأخلاقه التي ظنها تلوثت بعد دخوله المعتقل، وفجأة ومن بين الحديث المتبادل فيما بينهم اندفعت تلك الفتاة الأجنبية بملابسها الفاضحة لأحضان ابن شيخ حارتهم تحتضنه بقوةٍ، وصدمة تتسرب لجميع الواقفين من حُصل اللغة الانجليزية: أين ذهبت وتركتني؟ لقد أفتقدتك كثيرًا آيوب!

جحظت أعين الشيخ مهران بصدمة ولحق به يونس المتقن للغتها، بينما آيوب مازالت ذراعيه متشنجة والبرودة تتسلل لأعماقه رويدًا رويدًا، لا ترى فيروزته الا الجحيم المستعار بآعين أبيه، الشيخ مهران!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة