رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن والعشرون
توقفت سيارة على أمام الجامعة الخاصة بطب الأطفال بلندن، فاتجهت بعينيها تجاه زوج شقيقتها تشكره بابتسامة جذابة: مش عارفة أشكرك ازاي يا علي، مكنتش عايزة أتعبك معايا من البداية كده، كفايا إنك صممت إني أكون معاكم في نفس البيت ورفضت قعدتي في الأوتيل، وصممت إني أكون جنب فطيمة ودي في حد ذاتها كبيرة أوي ليا.
انجرف بجسده تجاه مقعدها المستكين جوار مقعد قيادته، ليمنحها نظرة مندهشة انهاها بقوله المستنكر: وبعدين معاكي يا زينب. هو أنا مش نبهت عليكي وقولتلك إنك زي شمس بالظبط. وأعتقد إنك معملتيش بكلامي لإن مفيش أخت بتفضل تشكر أخوها كل شوية بالشكل ده.
اختصرت بسمة متهكمة على شفتيها وإن كانت مؤلمة بعض الشيء: يمكن لإني مجربتش الاهتمام ده من اخواتي فمش متعودة عليه بس.
ينجح دائمًا بلمس أوتار الآلآم النفسية العميقة لاعتياده لمسها بمهنته، يعلم بأن البشر بأكملهم بحاجة إلى طبيب نفسي حتى وإن كان متكاملًا فمن منا لا يحمل ألمًا يدفعه لخوض مرحلة مؤلمة من جراعات لا يود ارتشافها!
تنهد على مطلقًا صوت أنفاس مسموعه، وقال وعينيه تحيدان عن التطلع بها، بالنهاية هي تجوز له ويتوجب غض بصره عنها: بصي يا زينب أنا مبحاولش أمارس مهنتي عليكي، بس خليكي متأكدة إني موجود وجاهز أسمعك في أي وقت من الأوقات. وبقولك كده لإني حاسس إن في جواكي جرح كبير بتحاولي تداريه. يمكن ذكريات مش لطيفة جواكِ أو مثلًا تكوني مريتي بتجربة صعبة. فصدقيني لو احتاجتي مساعدتي في أي وقت هتلاقيني جنبك. ممكن تعتمدي عليا.
فور ذكره لتجربة سابقة احتل وجدنها صورته أمام عينيها، فانقبض قلبها وكأنه على وشك التخلي عنها ليلوذ بالفرار، ابتلعت زينب ريقها ببطءٍ وهي تحاول تنظيم أنفاسها المضطربة لمجرد أن تذكرته، هو بالنسبة لها أبشع ذكرى، أبشع تجربة، أبشع كابوس، الأبشع في كل مقارنة ستخوضها طوال حياتها.
استعادت اتزانها وهي تحاول رسم ابتسامة تخدع بها من تظن بأنه اقتنع وانخدع بها: أكيد يا علي، بشكرك مرة تانية.
حررت باب السيارة وخطت بخطوات سريعة كأنها تفر من وحش يمد بساطه ليسحبها لقوقعة الماضي المؤلم، وفجأة تبلدت قدميها حينما هبط من خلفها يناديها: دكتورة زينب استني.
استدارت إليه ونسبه للقلب الطبيبة لاح لها بابتسامة صغيرة، فعادت له ببسمة رقيقة: خير يا دكتور علي!
ابتسم لها وهو يقترب، فأخرج من جيبه مبلغًا من المال وبترددٍ رفعه قبالتها وكأنه يجابه الحرج: زينب لو رفضتي مني الفلوس دي همشي وأنا زعلان منك. أكيد إنتي معاكي عملة مختلفة ويمكن تحتاجي أي شيء. فخليهم معاكي.
رفعت حقيبتها وكتبها إليها بخجلٍ، ودت لو انشقت الأرض وابتلعتها قبل أن تُوضع بموقف هكذا، فدنى منها على أكثر بعدما لاح له فكرة ستعاونه برفع الحرج عن كلاهما: بالمناسبة ده مقدم من مرتبك عشان تعرفي إني كريم معاكي. مفيش مدير بيدي موظفينه فلوس قبل ما يستلم الشغل.
رفعت عينيها إليه متسائلة بدهشة: شغل أيه؟
سعد بمبادلتها سؤالها: أنا بفتتح مركز ضخم وأكيد هحتاج لدكاترة أطفال وإنتي أول واحدة في التيم طب الاطفال ولا ناوية تتخلي عني!
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وقالت: ما شاء الله. بجد خطوة ممتازة يا على ألف مبروك مسبقًا.
وبتوترٍ استطردت: بس أنا لسه قدامي سنين في الجامعة مينفعش أشتغل من دلوقتي!
بدد ارتباكها وقلقها حينما قال: دكتورة تحت التمرين يا دكتور، كده كده هيكون دكتور سيفو اتخرج لان دي أخر سنة ليه فهتكوني تحت ايده لحد ما تاخدي الشهادة.
تساءلت باستغراب: دكتور سيفو مين ده؟
ضحك بمرحٍ وهو يوضح لها: صديق لينا أنا وعمران هينضم لينا.
هزت رأسها بفرحةٍ وقالت بحماس طغى على نبرتها: أكيد هفرح لو كنت معاك يا علي.
ابتسم لها بوداعةٍ وحرك رماديته للمال الذي يحمله قائلًا بعبثٍ: طيب أيه هفضل رافع ايدي بالفلوس كده كتير ولا أيه يا دكتور؟
تنحنحت وهي ترفع يدها بارتباكٍ لتجذب منه المبلغ قائلة باستحياءٍ: شكرًا يا علي.
منحها نظرة غاضبة واستعاد وقفته للسيارة مرددًا: نفس الكلمة اللي هتخضعني لدكتور نفسي على الصبح، ماشي يا زينب هشوفك على الساعة 5 عشان أرجعك البيت.
وفتح باب السيارة وهو يتابع لها: معاكي رقمي لو احتاجتي أي حاجة كلميني. أوكي؟
منحته ابتسامة وإيماءة صغيرة من رأسها، والامتنان لوجود زوج أخت مثله بحياتها فجأة يزداد مع كل معروف يقدمه لها، فعادت للداخل بعد مغادرته تستكشف مقرها الدراسي الجديد بارتباكٍ وخوف تغلب عليها حينما وجدت أمام عينيها المحرمات تندرج بكل زواية.
وكأن هؤلاء يستبحن المحرمات بكل مكان حتى مكان مقدس كالدراسة، هنا يتمدد اثنين يمارسان القذارة أمام أعين الجميع وكأنهما حيوانات مجردة من الحياء، وعلى الطرف الاخر مجموعة من الشباب والفتيات يلهون بصيحاتٍ مقززة وكلمات بذيئة.
لوهلة شعرت وكأنها ستتقييء ولكنها تماسكت وابتعدت عن كل ذلك، فدخلت للمبنى الجامعي تتأمل رؤية فتاة واحدة عربية.
لاح لها الأمل بعد رؤية عدد بسيط من الفتيات المحجبات وتمنت أن تتعرف على احداهن، وان تكون منهن من ستشاركها فصلها، فاتجهت للفصل الصغير التابع إليها حتى وإن كان مازال على محاضرتها نصف ساعة ولكنها على الأقل ستكون على ما يرام بعيدًا عن كل تلك القذارة.
فتحت زينب باب الفصل واستعدت للدخول فجحظت عينيها صدمة وتبلد جسدها وكأنها سُكب عليها ماء مثلج للتو حينما وجدت فتاة وشابًا في وضعٍ مخل جعلها تتراجع للخلف وهي تبرق بصدمة خاصة حينما انتبهت لها الفتاة ونهضت تقترب منها وهي تصيح بجراءة: هيي أنتِ لماذا تقتحمين المكان هكذا؟
بينما رفع الشاب نفسه وهو يغمز لها بوقاحة: دعيها إيجا. ربما تود أن تشاركنا. ما رأيك يا فتاة فلتنضمي إلينا!
تبلد حركتها وكأنها كانت اشارة صريحة إليه بموافقتها، ولطالما ينتابهم هوس جنوني تجاه الفتاة العربية التي تخبئ جسدها خلف تلك الثياب المحتشمة.
جذب بنطاله يرتديه واقترب إليها ببطء، والاخيرة تحاول التراجع للخلف ولكن قدميها كانت ملتصقة بالأرض تأبى التزحزح وكأن مشهد من ماضيها اللعين يساق لها من جديدٍ.
##
يمان، إنت فين؟ من فضلك الوقت اتاخر وأخويا هيزعقلي إنت روحت فين؟
نادته وهي تبحث عنه بين طوابق المنزل المتسع الشبيه بال?يلا، لا تعلم كيف تمكن من كسب قلبها ومن بعده ثقتها ولم يمر على تعرفها به شهرين، كل ما تعلمه بأنها أحبته وأحبت اهتمامه الزائد بكل تفاصيلها.
تعشقه حينما يسألها بمنتهى الحنان هل يصيبها مكروه أو هل هي على مايرام؟
أسئلة فشلت يومًا بالحصول عليها من أخواتها وكأنها لقيطة يعطفون عليها بنفقة الطعام فقط، ومنذ أن تعرفت به كان يغدقها بالثياب والمجوهرات الثمينة وحينما كانت ترفض ذلك كان يغضب وبشدة وهذا ما كانت تخشاه. غضبه!
كانت أحيانًا تشعر وكأنه يمتلك شخصًا أخرًا داخله، شخصًا يتلبس، جسده وقتما تستميل غضبه، ولكن قلبها اللعين مازال يكرر عشقه لشخصه وفتنة شخصيته المختلفة عن كل الرجال، فعشقته ويا ليتها ما فعلت!
تراه الآن أمامها، يخطو بكل ثقته بعدما تخلى عن قميصه وبقى ببنطاله فقط، يستعرض قامة جسده وتكوينه القاس من أمام عينيها، حتى بات يقف نصبها يقدم لها كأسًا من العصير ويمنحها بسمة متلاعبة: كنت بحضرلك حاجة تشربيها، ميصحش تدخلي بيتي لأول مرة ومضيفكيش بالشكل المناسب يا حبيبتي.
ابتلعت ريقها بتوترٍ، ورفضت تتناول منه الكوب، تراجعت للخلف وتمرد عنها الذعر المختبئ ليشدو بين مقلتيها، وبصعوبة أجبرت لسانها على النطق: يمان أنت ليه قلعت قميصك؟
واستدارت راكضة للأريكة تحمل حقيبتها وهي تردد برجفة: آإ. أنا عايزة أمشي، من فضلك روحني.
نظراته تجاهها كانت غامضة مثل شخصيته الغريبة، وجدته ينحني ليضع العصير على الطاولة والحزن يتردد إليه، متابعًا: معندكيش ثقة فيا يا زينب! يعني كنتِ بتصحكي عليا طول الأيام اللي فاتت لما قولتيلي أنك بقيتي بتثقي فيا!
حركت رأسها والتوتر يصل إليها زحفًا مع كل خطوة يقترب فيها منها، فرددت بتلعثم: بثق فيك يا يمان، بس أأا، أنا اتاخرت وإنت عارف أخويا ما بيصدق أرتكب أي غلطة عشان يآآ، آآ.
انتزعت كلماتها حينما بقيت محاصرة أمامه والحائط من خلفها، فرفع يده يطرق على الحائط بغضب وصل من صوته القاتم: اخوكي ده لو عاد يمد ايده الو دي عليكي هقتله!
رفعت عينيها لعينيه بهلعٍ انتباها حينما تلاشى لون حدقتيه المميز وبات محمرًا كجمرات النيران المشتعلة، فانسابت دموعها وهمست إليه بتوسلٍ: يمان أرجوك عايزة أمشي.
منحها ابتسامة غريبة، معاكسة لاحمرار عينيه وتراجع عنها وهو يشير: اشربي العصير وهنتحرك فورًا.
تعلقت نظراتها بالكوب بارتباك، تخشى من سماع القصص المستهلكة بأن يكون وضع لها أي شيء، قلبها تألم من مجرد رؤيتها مشهد كذلك، هو الوحيد الذي وثقت به وسيقتلها إن كان ينتمي لتلك الفصيلة الوضيعة.
اغتصبت ابتسامة تخادعه بها، وهي تدنو من الطاولة، تلتقط الكوب باصابع مرتشعة وتقربه لفمها، فتعمدت أن تسقطه أرضًا.
تراجعت للخلف مدعية احراجها، وانحنت تجمع الكوب المنكسر مرددة: أنا أسفة مقصدتش، هلم حالًا الازاز وهنضف المكان.
وضع ساقًا فوق الاخرى وهو يراقبها بابتسامة ساخطة، فأشار بيده: قومي وابعدي عن الازاز يا زينب.
ونهض فجأة إليها يقترب حتى جذب معصمها ودفعها خلفه فانخفض ضغط دمائها، ويدها الاخرى تستميت بتحرير معصمها: يمان إنت واخدني على فين؟ سيب ايدي من فضلك أنا عايزة أروح!
دفعها بقوة تجاه تلك الطاولة المستديرة، فاستقامت بوقفتها خاطفة نظرة للمكان من حولها، فوجدت أنها بالمطبخ ووجدته يتجه للبراد فجذب دورق من نفس العصير يرتشف منه أمامها وألقاه بقوة أسفل قدمه، فتراجعت بخوف من رؤية الزجاج ونظراتها العاجزة عن فهم ما يحاول فهمه تتجه إليه فوجدته يصيح غاضبًا: أكيد مش هأذي نفسي لو كنت حطتلك حاجة في العصير زي ما أنتِ شاكة فيا.
وتابع وهو يغادر المطبخ بعصبية: هغير هدومي وهنزل أوصلك. لو عايزة تمشي لوحدك مش همنعك انتي عارفة طريق الباب.
غادر للطابق العلوي تاركها تفرك أصابعها بضيقٍ مما فعلته، بينما يتشح هو بابتسامة خبيثة ليتها تراها، فخرجت للردهة تنتظر هبوطه.
استغرق خمسة عشرة دقائق وهبط إليها بملابسه السوداء المعتاد بارتدائها وكأن اللون الاسود لا يخص الا هو، فمنحها بسمة ساخرة: غريبة انك لسه هنا! مخوفتيش أحاول أكرر اللي كنت بعمله أحطلك تاني مخدر وأعتدي عليكي مثلًا!
لعقت شفتيها في محاولة لابعاد الجفاف عنها يكفيها مرارة حلقها: يمان أنا أسفة، أنا والله بحبك وبثق فيك بس اللي عاشته فطيمة أختي واللي أنا عشته مع اخواتي خلاني فقدت الثقة في كل اللي حوليا حتى نفسي!
أبدى تعاطفه معها فدنى منها يفرق ذراعيه قائلًا بمكرٍ: أنا مش عايز غير حضنك يا زينب، وأنا واثق إني العوض ليكي عن كل المعاناة اللي عيشتها.
وضعت رأسها أرضًا وضمت حقيبتها مجددًا وهي تجاهد خروج الكلمات التي حتمًا ستغضبه: مش هقدر أقربلك غير لما يكون في بينا رابط رسمي يا يمان، أنا جيت هنا معاك عشان متزعلش مني وتشيل كل أوهام عدم الثقة دي من راسك لكن غير كده سامحني مش هقدر.
أخفض ذراعيه وأطبق أظافره بلحم يديه معًا بقوةٍ وغضبٍ يعاكسه تلك الابتسامة الجامدة ونبرته: ولا يهمك، أنا مقدر كل ده ومستني لما اليوم ده يجي وتبقي مراتي يا زينب.
واتجه للباب يكرر لها: يالا عشان متتأخريش.
استعادت وعيها في تلك اللحظة التي رفع بها يده ليجردها من حجابها، وكأنه بلمسته ألقى عليها لعنة، فدفعته بكل قوتها للخلف وركضت للخارج كمن لقت شبحًا يود افتراس لحمها.
والأبشع لها بأنه هرول من خلفها بغيظٍ على ما فعلته، اتجهت زينب للدرج الضخم تهبط للاسفل وعينيه المرتعبة تتفحص ذاك الذي يهبط من خلفها.
التوى كاحلها وكادت بالسقوط، فاستندت ذراعيها على من يقابلها في لحظة صعوده للطوابق العلوية حيث يختص الطابق الاخير من المبنى تاركًا الطوابق الاولى للسنوات المبدئية للطلاب الاصغر سنًا ليتفاجئ بتلك التي تندفع بجسدها نحوه ووجهها مسلط للأعلى!
شعرت بأن جسدها يستند على جسدًا قاس، يحيل عن سقوطها أرضًا، فاستدارت برأسها للأمام لترى ماذا يحدث معها؟
وجدته يصوب عينيه لها بنظرة مهتمة لمعرفة ما يصيب تلك الفتاة المحجبة، فضيق عينيه بتيهةٍ وهو يحاول تذكر أين تمكن من رؤية تلك الملامح المألوفة إليه؟
بينما كانت هي تجد الغوث قبالتها وإن كان بأي شخصًا سيظهر لها بذلك الوقت، فاعتدلت بوقفتها تترجاه ببكاء: ساعدني من فضلك، هذا الشاب يلحق بي ويريد الاعتداء علي!
تحركت حدقتيه المشتعلة بغضب تجاه ذاك الشاب العاري من خلفها، والذي أشار له بكل فظاظة: تراجع عنها والا سأحطم عنقك. دعها لي وأعدك بأنها ستستمتع برفقتي كثيرًا.
احتل الغضب كل خلية بجسد سيف، فجذب معصمها ليرغمها على هبوط الدرج لتلك الطرقة، وقدم لها كتبه والبلطو الخاص به، ثم نزع عنه ساعته الباهظة ليضعها فوق الكتب ومازالت زينب تراقب ما يفعله باستغرابٍ، وقبل أن تتمكن من تحليل ما يفعل وجدته يصعد الدرج بخطوات بطيئة بدت خطرة للغاية، وقد صدق حدسها حينما انهال على ذاك اللعين بلكمة قوية جعلته يسقط عن الدرج ليستقر أسفل قدميها.
هبط إليه سيف ودفعه ليجثو من فوقه، ويديه تقدم لها ما تلاقنه تلك السنوات من تعليم قابض بالملاكمة، فجعل وجهه كالخريطة العابرة، لا يعلم ذاك الوقح بأنه لم يكن ذلك الشاب الذي يقمع قوته لأبشع درجة ونادرًا ما يسوقه أحدٌ ليدافع عن نفسه، وللعجب أنه يفعلها للمرة الاولى ولأجل تلك الفتاة!
أربعة سنوات قضاها بتلك الجامعة ولم يجرأ يومًا على رفع يده على أحدٌ من قبل، كان يستقيم ويمضي بمفرده دون صحبة، لإنه وببساطة هو الشاب الهادئ الذي يفضل البقاء بمفرده منعزلًا، حتى بتجمعات أخيه واصدقائه كان يختلي بنفسه بغرفته للمذاكرة فقط، لم يعرف صديقًا قط فكان يوسف هو الأخ والصديق والأب وكل شيء يمتلك، حتى زاره أول صديق أيوب بن الشيخ مهران.
ارتعبت زينب وهي تراقب ما يحدث أمامها، وقد تسنى لعقلها تذكر ملامحه، ويا لحظها هو نفس الشاب اللطيف الذي قابلته بالمطعم ذاك اليوم وقدم لها المثلجات واعتذر أكثر من مرة بلباقة عن وقاحة صديقه، لا تعلم لما ابتسمت وهي تتابعه بنظرات ساكنة.
جذب سيف رأسه إليه وصاح بحدة: استمع لي أيها المعتوه، إن لحقت الفتاة مجددًا أعدك بأنني من سيقتلع عنقك الوضيع هذا، هل سمعت؟
أومأ برأسه عدة مرات والذعر يفترسه من ذاك العتي، فدفعه بركبته وهو يأمره بصرامة: والآن اغرب عن وجهي.
فور سماعه لتلك الكلمة رحل راكضًا، فكان يخطو الدرج وكأنه سيحلق من فوق كل ثلاثة درجة، حتى سقط مرتين وهو يلوذ بالنجاة، بينما انتصب سيف بوقفته بثقةٍ وهو يعود ليسترد كتبه والبلطو الخاص به وأخيرًا ساعته، متسائلًا باهتمام: انتِ كويسة؟
هزت رأسها ويدها تحاول ازاحة دموعها عنها، ورددت بصوتٍ منتحب: لولاك مش عارفة كنت هكون كويسة ولا لأ.
وتابعت بارتباك وهي تتجه للدرج، فجلست عليه تجاهد ارتجاف جسدها: ده أول يوم ليا هنا ومكنتش أعرف إني هشوف كل المناظر المقززة دي وأخرهم في الClass، أنا مش عارفة إزاي مسموح بالقرف ده جوه الجامعة.
ابتسم ساخرًا على جملتها، واتجه نهاية الدرج مجلس مناسب له، ليجيبها: هنا بيتسمى تحرر وحرية شخصية وممكن لو حد سمع اعتراضك هيسموه بالجهل.
تهاوت دموعها بانكسار وسألته وهي تستدير بجلستها إليه: يعني أيه؟ أنا هكمل وسط القرف ده السنتين اللي فاضلين ليا؟
وتابعت بانهيار تام: أنا مستحيل أقدر أندمج مع القذارة دي. أنا كده مستقبلي هيضيع!
شفق عليها حقًا، فإن كان هو رجلًا يجيد صعوبة بالتعامل مع ذلك الوضع الذي سبق لاخيه الخوض به لذا يصمم عليه بجنون أن يزوجه سريعًا فكيف لفتاة تحمل رؤية كل تلك المشاهد المقززة.
أجلى سيف صوته المحتبس وقال: مضطرة تتحملي الوضع ده مؤقتًا يا آ...
رفعت عسليتها إليه وعلى استحياءٍ قالت: زينب.
ابتسم لها وهو يستطرد: أنا عذرك وفاهمك. علشان كده هنصحك باللي قدرت أتخطاه هنا طول السنين دي.
سألته وعينيها تتابع كتبه بفضول لمعرفة بأي صف هو: هو إنت في سنة كام؟
لمح نظراتها الفضولية التي تود استكشاف كتبه، وقال بصوته الرجولي: أنا في أخر سنة، وكان عندي حلم عبيط أكون دكتور جامعي بس لما جيت هنا وقررت الاستقرار غيرت رأيي لأني مش هقدر أتكيف على الوضع ده فالأفضل اني اتخرج بسرعة واستلم شغل بعيد عن هنا بسرعة.
وجاء دوره ليتساءل: دي أول سنة ليكي؟
هزت رأسها نافية وأجابته: التانية.
بنفس ابتسامته قال برزانة وتعقل: طيب بصي يا زينب، عشان تعدي اللي فضالك هنا لازم تكوني واعية ومدركة للي هتخوضيه هنا، أولًا متدخليش فصلك الا في معاد المحاضرة بالدقيقة ويُفضل تكوني أخر واحدة تدخلي الفصل وأول واحدة تطلعي منه، أول ما المحاضرة تنتهي مش بس تسيبي الفصل وتنزلي لا الجامعة كلها...
هزت رأسها بلطف وهي تستمع له باهتمام وكأنه يلقنها نصائح للخلاص، فتابع هو: وأوعي تكوني صداقات مع أي حد، لإن للأسف مش هتقدر تفهمي عقليتهم ولو حصل ممكن تجيبي لنفسك مشاكل انتي في غنى عنها، لو حظك كان حلو واتعرفتي على بنت متدينة زيك تمام محصلش خليكي في نفسك وبس، أي شخص حاول يضايقك انسحبي من المكان فورًا ومتفكريش إنك بلجوئك لادارة الجامعة هتقدري تاخدي حقك، لإن القوانين هنا شوية مش منصفة لينا.
عادت بتحريك رأسها إليه، فسألها مجددًا: انتي قاعدة في سكن للطالبات؟
نفت باشارة جديدة من رأسها وكادت بأن تجيبه فأوقفها رنين هاتفها، أخرجته بارتباك من حقيبتها وهو يتابعها باهتمام انقلب لقلق حينما رددت: ألو، أيوه سمعاك. لأ أنا آ...
رفعت الهاتف إليها فانصدمت حينما وجدته مغلق بعد انتهاء بطاريته، فهمست بضيق: ده وقته هيقلق عليا!
لا يعلم لما انتابه ضيقًا وغيرة غريبة وكأنه وقع في عشق فتاة منذ أعوامٍ! عنف ذاته الغريبة ونظف حلقه قائلًا: لو حافظة الرقم ممكن تطلبيه من على موبيلي!
وكأنه اليوم أتى بنجدة كوارثها، منحته زينب نظرة ممتنة ورددت بحرجٍ: لو مش هتقل عليك يعني.
ابتسم وهو بستقيم بوقفته ليخرج هاتفه: لا أبدًا، تحت أمرك.
قدم لها الهاتف ولكنها فضلت بأن تملي عليه الأرقام، فعبث باللائحة يضع الأرقام من خلفها، وحرر زر الاتصال فضيق عينيه هاتفًا باستغرابٍ: ده رقم علي!
رفرفت باهدابها بدهشة: إنت تعرفه؟
أكد لها وهو يتابع انطلاق رنين المكالمة: طبعًا دكتور على صديقنا هو وعمران أخوه.
زوت حاجبيها بذهول وابتسمت وهي تردد بتخمينٍ مرح: يكونش إنت الدكتور سيفو اللي كان بيتكلم عنك من شوية!
وما كاد باجابتها حتى أتاه صوت على يجيب: دكتور سيفو بيتصل بنفسه، ده أيه اليوم المميز ده أكيد البطل فكر في عرضي وقرر يبلغني موفقته صح؟
ضحك سيف وأجابه بمزحٍ: حبببي يا دكتور أنا مستغناش عنك وإنت عارف بس مش أنا اللي كنت عايز أكلمك هي صدفة باحتة بس لذيذة.
وقدم الهاتف لزينب التي تتابعه بعدم استيعاب، فقالت بخجل: علي!
صمت قليلًا وراح يتساءل بدهشة: زينب! إنتي اتعرفتي على سيف؟
ارتبكت قليلًا وهي لا تعلم أن كانت تخبره بما حدث لها بأول يوم دراسي أم لا، بينما يتابعها سيف بعقلٍ مشغول بالعلاقة التي تجمع على بتلك الفتاة؟
استخرجت صوتها أخيرًا وأجابته: أنا موبيلي فصل شحن وأنا بكلمك وخوفت تقلق فدكتور سيف عرض عليا يساعدني عشان أطمنك عليا، مكنتش أعرف انكم تعرفوا بعض.
رد بضحكة قوية: سيفو ده حبيبي وأخو حبيبي، حيث كده بقى أقدر أطمن عليكي أي حاجة تعوزيها سيف موجود، هتسد ولا مش قدها يا دكتور؟
ابتسم الاخير وأجابه بمجاملة: في الخدمة وتحت الأمر يا علي. وإنت عارف.
تبادلا المزح فيما بينهما وحديث قصير انتهى باغلاق المكالمة ومازال سيف لا يفهم العلاقة التي تجمعه بها، فسألها باستغراب: هو دكتور على يقربلك؟
نهضت عن الدرج تنفض ثيابها وهي تجيبه: يبقى جوز أختي.
أسبل عينيه في دهشة وإن كانت لطيفة، وهمس بصوتٍ منخفض: كده يوسف هيلكبشنا في بعض من بكره، والمرادي مش هعترض!
بتقول حاجة؟
افاق على صوتها المتساءل، فقال مشيرًا لها: لأ أبدًا. كنت بقولك اطلعي لمحاضرتك ومتقلقيش أنا هطلع معاكي وهوصي البروفيسور عليكي. أنا أعرف كل الدكاترة هنا.
ابتهجت معالمها ولحقت به للأعلى، فما أن ولجوا معًا حتى هم إليه البروفيسور ورحب به بمحبة غريبة عادت لمستواه الممتاز وترتيبه المذكور بجدارة، فامتنت للحظ الذي أسقطها بطريق هذا الشاب المكتظم بداخله رجلًا يحمل كل معاني الشهامة والرجولة، فاتجهت لمقعدها وتابعت رحيله بابتسامة حالمة، تبددت فجأة حينما تذكرت قصة حبها السابقة وجريمة ما تلقته على يد شخصًا نجح بالحصول على اهتمامها وحبها وبالنهاية وجدته شيطانًا متنكرًا يقدم لها درسًا بعدم الوثوق بأحدٍ قط!
وضعت حزام الأمان من حولها، وتابعت انجراف السيارة عن طريق المطعم الخاص باستقبال طلبيات شركات عمران الغرباوي، فاستدارت إليه تتساءل بدهشةٍ: إنت رايح فين ده مش طريق المطعم؟
لاح على وجهه بسمة مشاكسة، وصاح باستنكارٍ: هو إنتِ فاكرة إني هفكر في غدا ومعايا طبق حلويات بالمكسرات! طموحاتك ضايعة خالص يا مايا ولازم تفكيرك ينحرف عشان يتماشى مع تفكيري!
رفرفت بأهدابها بعدم استيعاب لما قال: إنت بتقول أيه؟ وواخدني على فين يا عمران؟
استدار برأسه إليها ويده تمسد على حجابها قائلًا بطريقة مضحكة وكأنه يجابه طفلته الصغيرة: حبيب قلبه خايف من جوزه يا ناس! متخافيش يا عسلية أنا مش بتحرش بالبيبهات الصغننة العسليات اللي زيك أنا عاقل!
ارتابت مايسان لأمره ومع ذلك طريقته بدلالها جعلها تنخرط بموجة من الضحك وما زاد صدمتها حينما خطف يده يدغدغ بطنها قائلًا: أيوه كده اضحك وفك يا عسلية.
أبعدت يده وقد احمر وجهه من فرط الضحك، وجسدها يتلوى بالمقعد، فحاولت بصعوبة التماس الجدية والحزم: عمران كفايا، هنزل من العربية بطريقتك المريبة دي صدقني أنا بحاول أفهمك بس كل يوم بكتشف فيك حاجات جديدة.
ضحك حتى ظهرت غمازاته، وصاح بفتورٍ مضحك: الله بجددلك معايا عشان ميحصلش ملل بينا يا بيبي، ده مزعل حبيب قلبه في أيه؟!
وجدت نفسها خاسرة أمام لسانه المعتاد على هزيمة من أمامه فتحلت بالصمت وعبثت بهاتفها لتشتت فكرها عنه، فأبعد يده عن الفرام وبحركة خاطفة سحب الهاتف من يدها محذرًا إياها: موبيل وأنا معاكي ممنوع يا بيبي.
حاولت سحب الهاتف منه وهي تصيح بانفعال: عمران بطل استفزاز اديني الموبيل فاطيما باعتالي وإنكل أحمد كمان باعتلي رسايل.
هز رأسه نافيًا، واستدار لها بهذا القرب يخبرها بخبث: ممكن اسمحلك بعشر دقايق لو طاوعتيني.
تجعد جبينها بعدم فهم: أطاوعك في أيه أكتر من نزولي معاك في وقت الشغل، لسه في كارثة تانية؟!
اقترب بوجهه منها وقدم خده إليها، فعلمت مقصده، تراجعت للمقعد وربعت يديها أمام صدرها بغيظٍ جعله يقهقه ضاحكًا، فلزمت الصمت وأحجمت غيظها بصعوبة، لتجده يسحب كف يدها وإبهامه يرق بلمساته فوق جلدها الناعم، وقربها إليه يطبع قبلة صغيرة وهو يهمس بصوتٍ هامسٍ: أنا عارف إني بنرفزك من الصبح حقك عليا يا روحي.
وقدم لها الهاتف قائلًا: كلمي اللي تحبيه. وياريت تكلمي فريدة هانم أنا نزلت وسبتها نايمة عايز أطمن عليها.
ابتسمت بفرحة وهي تستعيد هاتفها، ففتحت الرسائل وكان أول من أجابته أحمد، فاستدارت لعمران تخبره: أنكل أحمد باعتلي صور لبيت كبير وبيقول أقول رأيي أنا وانت لانه هيشتري البيت ده وهننقل فيه كلنا.
زوى حاجبيه باستغراب، وردد: معقول ماما تكون هي اللي طلبت كده، مستحيل يأخد قرار زي ده لوحده أكيد هي اللي طلبت بكده. ازاي والبيت ده كل حياتها!
ومرر يده بخصلاته المتمردة وهو يتابع بصوت منخفض لم تتمكن من سماعه: للدرجادي الموضوع فارقالها وعايزة تنساه!
انتبهت لهمساته الخافتة فسألته بشكٍ استنادًا عما حدث سابقًا: عمرات انت مخبي عني حاجة؟
انتبه لها فصف سيارته فور وصوله لوجهته، واستدار إليها يضم وجنتها بين دفء يده الخشنة، ليجيبها بحبٍ: حبيبتي انتي مش غريبة عشان أخبي عنك حاجة، إنتِ من العيلة وقريبة من ماما يمكن أكتر مني أنا شخصيًا، وعد هحكيلك كل حاجة بس أنا دلوقتي محتاج أفصل من كل حاجة فجبتك معايا هنا، مكاني الخاص!
التفتت للنافذة المجاورة لها تتفحص مقصده، فانفتر فاهها وهي تراقب ذاك الكوخ الخشبي القابع بجنة من حدائق الزهور وبركات المياه التي تحيطة من ثلاث جهات، وبالرغم من ضخامة المساحة المقام عليها الكوخ الا أنه كان مثيرًا يخطف الأنفاس.
هبطت مايسان لتنضم بوقفتها لعمران الذي يقدم يده لها، فضمت يدها يده واتبعته وهي تتساءل بانبهارٍ: ده أيه يا عمران؟
أزاح نظارته الشمسية السوداء عن عينيه وتأمل ما تتأمله عينيها، مجيبها: كان مخطط يكون مشروع من مشاريع الشركة، بس بعد ما اشتريته اتعلقت بيه ووقفت تتفيذ مشروع الأوتيل اللي كنت هنفذه، خليته ملكية خاصة بيا بس، كل ما بحس بنفسي مخنوق ومفيش مكان حابب أروحه بعيد عن يوسف وجمال باجي هنا.
رددت ومازالت عينيها تراقب كل أنشن صنع ليبرع جمال طلته: المكان يهبل بجد.
منحها ابتسامة جذابة وسحبها للدرج الخشبي: ولسه من جوه. تعالي.
اتبعته للداخل فحرر مفتاحه الباب الخشبي، ودفعه بقدمه فاتبعته للداخل، فوقفت تتأمل التنسيق الخرافي من داخله، كل شيئًا يحوم بلمسة الخشب الأحمر الرائع، المدفئة، الفراش الحوائط، الأثاث بأكمله، كل شيءٍ وضع بلمسة عتيقة وكأنه يعود لقرون مضت ورفض الانصياع لأي تجديد يقام هنا.
تسللت عينيها لذاك المقعد المألوف فأسرعت إليه وهي تشير لعمران الذي تابعها باهتمام ليعلم إن كانت ستكتشف الأمر أم لا، وقد أتته تؤكد ظنونه حينما قالت: عمران الكرسي!
هز رأسه بإيماءة خفيفة لها، وراقبها وهي تركض لتجلس عليه وتتحرك به بفرحةٍ اتبعت حديثها العفوي: كنت بتقعد عليه كل ما بتكلمني فيديو، ولما سافرت لندن كان نفسي أدخل أوضتك عشان أجرب الكرسي ده، ولما أخيرًا نجحت ودخلتها ملقتهوش حتى في الجناح الخاص بينا مكنش فيه، إزاي مجربتش أسالك عنه قبل كده!
دنى منها ثم قرب الطاولة ليعتليها قبالة وجهها: لإني كنت بحب أكلمك من المكان ده، عشان تعرفي إني من صغري وأنا رومانسي وعاطفي.
اعتلى الحزن معالمها، فتوقفت عن هز المقعد الهزاز وانحنت بجلستها لتكون قبالته نفس الشيء: وده اللي خلاني أحبك وأتوقع إنك تطلبني للجواز بأقرب وقت يا عمران، معرفش ليه فجأة هدمت كل اللي بينا وبقى في واحدة تانية في حياتك، أربع سنين بعدت فيهم عني وأنا معرفش عملت أيه خلاك تبطل تكلمني أو حتى ترد على مكالماتي!
خيم الحزن على رماديته، فنزع عنه جاكيته وانحنى قبالتها ليكون على نفس مستواه، حرر حجابها بلمسة خاطفة وضم وجهها بيديه وكعادته يترك إبهاميه يزيحان دمعاتها، وباقي أصابعه تسند رأسها لتبقى منصوب قبالته: حبيبتي كل ده فترة وعدت، أنا قولتلك إني كنت مخدوع ورا شيطاني ونزواتي الحقيرة، بس والله العظيم كل ده اتدفن والميت مستحيل هيرجع أبدًا، مايا أنا بحبك وعايز أكمل حياتي معاكي، عايز يكونلي أولاد منك!
خفق قلبها بشراسةٍ وعينيها لا تفارق خاصته، وجدها تبعد المقعد للخلف وتنحني قبالته، تختبئ داخل أحضانه خجلًا من نظراته وكلماته، فابتسم وهو يضمها إليه بصدرٍ يرحب بفرارها من مواجهته، وانحنى إليها يقبل خصلاتها بحبٍ وهمس أذابها بين ذراعيه: أنا عنيا وقلبي مبقاش فيهم غيرك يا مايا. بحبك ونفسي ترضي عني بس!
وتابع وهو ينحني برأسه لأذنيها: مشاعرك وحبك ليا أنا قادر ألمسهم، مش فاضل غير إنك ترمي أوجاعك كلها وتسلميلي!
ابتسمت بين ذراعيه ورفعت عينيها إليه تطالبه بأغرب شيء توقعه بتلك اللحظة العاطفية: غنيلي يا عمران.
تلاقى مقدمة حاجبيه بسخطٍ: ده وقته بذمتك! ده أنا خطفك من الشركة كام دقيقة يا حبيبتي!
تحرك كتفها بدلال: مزاجي كده.
منحها ابتسامة خبيثة، ولف ذراعه أسفل ساقيها، لينهض بها بنظراتٍ كانت خطيرة مفهومة وخاصة حينما قال: تعالي أقولك مزاجي أنا بقى جايبني لأيه يا بيبي!
خبيتي عني كل ده يا شمس؟ ليه هو أنا عايشة في دولة تانية مش معاكي في نفس البيت؟
كلمات مستنكرة نطقت بها فريدة وهي تحاول استيعاب ما تخبرها به ابنتها، مرورًا بمحاولة اختطفها نهاية برفع راكان السلاح عليها وتخليص آدهم لها في كل المواقف التي ذكرتها.
تعالت شهقات بكائها وهي عاجزة عن اجابة والدتها، فتخلت فريدة عن حدتها وفرقت ذراعيها قائلة بصوت حنون: تعالي.
ابتسمت وهي تركض لأحضان والدتها، ضمتها بقوة وهي تربت على ظهرها، انتابها خوفًا قاتل لمجرد تخيل أن السوء قد يمس ابنتها الوحيدة، وامتنت بالشكر لذاك الآدهم المجهول عنها، فأبعدتها عنها ورمقتها بنظرة مطولة من زرقة عينيها، قبل أن تسدد سؤالها الصريح: بتحبيه يا شمس؟
امتقع وجهها بحمرةٍ قاتمة، كيف ستخبر والدتها بهذا الأمر، فرغمًا عنها أومأت برأسها وهي تحاول سرقة نظرة عابرة لوجه والدتها فوجدتها تبتسم وهي تضمها إليها هامسة: مش بقولك فايتني كتير.
وتابعت بمكر وهي تربت على ظهرها: بكره هنروح أنا وأنكل أحمد بنفسنا نزوره ونشكره بنفسنا على اللي عمله معاكي مينفعش يكون اتصاب ومنعملش معاه الواجب.
رفعت عينيها الشغوفة إليها وتساءلت: بجد يا مامي هنروح نشوفه؟
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها، وقالت بخبث: انا وإنكل أحمد انتِ مينفعش تروحي يا قلب مامي علشان الدكتور على والبشمهندس عمران هينقلبوا ضدك لو جيتي.
تجهمت معالمها وبات الحزن والخذلان يقمعان عليها، فضحكت فريدة وهي تراقب ما يحدث لها وقالت مستنكرة: شكل الموضوع أكبر من إعجاب بينك وبينه يا شمس، أنا موافقة أخدك معانا بس أوعي على ولا عمران يعرفوا بده. عارفة إني غلط بس هعمل أيه سبق ووقعت في الحب قبل كده وحاسة بيكي!
برقت بدهشة وعدم استيعاب لما قالته، فلفت ذراعيها حول رقبتها وهمست بفرحة: أنا بحبك أوي يا مامي. بجد بحبك.
ابتسمت وهي تمسد على ظهرها بحنان، وابعدتها وهي تنهض قائلة: يلا قومي غيري هدومك وأنا هخليهم يحضرولنا الغدا على الpool تحت.
وقبل أن تتجه للخروج استدارت تخبرها بارتباك: هاتي فاطمة وإنتي نازلة تتغدى معانا. وأنا هشوف مايا.
وأغلقت الباب تاركة شمس في حالة من الصدمة مما يحدث مع والدتها اليوم بداية من تقبلها قصة حبها بآدهم ونهاية برغبتها في وجود فاطمة لجوارها!
وضع الخط بهاتفه بعد أشهر اتخذها بالاحتراس لاداء مهمته، فكان يحترس بالاتصال التابع لمصر إلى ممرضة أبيه ليطمئن على صحته من وقتٍ لأخر وكان يتحاشى الاتصال به شخصيًا لأنه يعلم بما سيفعله ككل مرةٍ يذهب بها لاحد المهمات، ولكن تلك المرة كان الأمر يتعلق بوالدته.
واليوم قرر الاتصال بأبيه ليطمئن على صحته فأتاه صوته متلهفًا حزينًا يعاتبه: أخيرًا افتكرت إن ليك أب يا عمر!
سحب عمر نفسًا ثقيلًا وقال: حقك عليا يا بابا، أنا عارف اني مقصر معاك بس غصب عني صدقني.
انت يا ابني مش شايف حاجة في حياتك غير الانتقام لموت أمك ونسيت ان أبوك راجل مريض على وش موت ولا أنا ماليش حق عليك زيها يا عمر! ناوي تتكرم وتحن على أبوك أمته لما يفارقك هو كمان!
انتفض ألمًا لسماعه تلك الكلمات القاتلة بالصميم وقال: ألف بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده، أنا ليا مين غيرك استند عليه!
اتاه صوت أبيه الباكي، ولأول مرة يستمع إلى بكائه لدرجة زادت من جرح اصابته في مقتل: 8شهور يا ابني لا بتسأل عليا ولا بسمع صوتك ولا عارف انت حي ولا ميت، من بعد وفاة امك وأنا خسرتك معاها يا عمر، كنت فاكرك هتعوضني عن فراقها طلعت انت مفارقني معاها، ليه يا ابني أنا مبقاش في عمري الكتير عشان استحمل غيابك وشغلك اللي مببتهيش.
وتنهد وهو يخرج تأويهات مؤلمة: أنا كبرت ومحتاجك جنبي، محتاج أحرر العبئ اللي شلته على قلبي من سنين، عمر أنا علشانك ضحيت بحتة مني يا عمر، وخايف يا ابني أقابل ربنا وأنا شايل ذنبي على كتافي. عايزك تشيله عني عشان أرتاح.
ضيق عينيه بعدم فهم، وسأله: أنا مش عارف أيه اللي وصل حضرتك للحالة الغريبة دي من فضلك اهدى وفهمني مالك؟ ذنب أيه اللي تقصده؟
زفر بقهرٍ وهو يخبره برجاء: ارجع مصر أنا محتاجك، ووقتها هصارحك بشيء خبيته عن أمك وعنك طول السنين دي كلها، أنا عارف إنك ممكن تنكسر بعد اللي هتعرفه بس واثق انك هتساعد أبوك ومش هتتخلى عنه يا عمر.
فرك جبينه بارهاق وعقله لا يتوقف عن فهم مضمون حديث أبيه، فقال: حاضر يا بابا. أوعدك اني هرجعلك بأقرب وقت بس اديني على الاقل كام يوم أرتب نفسي بس.
ولا يوم يا عمر. أنا معتش عندي صبر لفراقك سامعني!
صارحه بحقيقة الأمر وإن لم يكن بحبذ ذلك: بابا أنا انتقمت من اللي كان السبب في موت أمي، وخلاص مهتمي انتهت بس محتاج الوقت ده لإني آآ، لاني مصاب بس متقلقش أنا كويس والله والجرح سطحي، يومين تلاته بس أقدر أقف على رجليا وهرجعلك يا حبيبي. هرجع تحت رجليك أطلب عفوك عني أنا غصب عني فارقتك مكنتش هتحمل أعيش وأنا عارف إن أمي اتخدت غدر بسبب ولاد ال اللي دخلولها الموت بالدوا أنا دلوقتي مرتاح.
استمع لصوت بكائه من جديد، فتوسل له: عشان خاطري دموعك بتزيد وجعي، أنا راجع والله وهسمعك ومهما كان اللي مخبيه صعب أنا جاهز أتقبله. انت مش كان نفسك اني أتجوز وأملى البيت ليك أحفاد. ابسط يا عم لقيت بنت الحلال اللي دخلت قلبي ومزاجي.
توقف عن البكاء وسأله بلهفة: بجد يا عمر، مين؟
أجابه بابتسامة رسمت على وجهه: مش هتعرفها يا حبيبي لانها من هنا بس متقلقش مش خواجية. أهلها ناس محترمين ومقمين هنا من سنين، إنت يعني تايه عن نقاوة سيادة الرائد ولا أيه؟
ضحك الاخير وأخبره: متنزلش غير لما تشبكها.
شاركه الضحك وقال بمشاكسة: هكتب عليها قبل ما أرجعلك. انا معنديش خلق للخطوبة والكلام الأهبل ده وبصراحة أخاف تضيع مني لإنها يتطمع فيها بصراحة.
قهقه ضاحكًا وأزاح دموع عينيه قائلًا: وهي هتلاقي فين أحسن من عمر الرشيدي، يالا ده أنت طول بعرض بهيبة بجمال، طالع لابوك طول عمرك تقتل قلب النسوان بطرف عينك بس.
انفرط عمر بنوبة من الضحك ومازحه: عشان كده وفاء اتكلت بدرى وسابتك يا حاج.
رد عليه بعاطفة: وحشتني أوي. البيت من غيرها قبر يا عمر.
تألم قلبه وأدمعت عينيه، فأزاح دمعته وصاح بصرامة: بقولك أيه يا توفيق يا رشيدي فكك من جو الصعبنيات ده وقولي اللي عايز تقولهولي. شكلك كده عايز تلعب بديلك وتتجوز بعد وفاء صح؟
ردد ساخرًا: هو أنا فيا حيل أصلب طولي يا عبيط، أنا لولا الممرضات اللي معايا هنا في البيت كان زماني اتكلت من زمان.
بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده تاني، أنا محتاجك جنبي. عايزك جنب أولادي في وقت ممكن أكون فيه مش جنبهم وفي شغلي.
صمت قليلًا ثم قال: لو ربنا مد في عمري لحد اللحظة دي هيكون فضله كبير عليا أوي يا ابني، لكن أنا كل اللي بتمناه تحققلي طلبي الأخير قبل ما أموت.
طلب أيه؟
قولتلك ده سر هقولهولك لما ترجع وهتحتاج تكون فيه الرائد عمر الرشيدي مش ابني اللي ربيته، وظيفتك هتساعدك توصل للي أنا بدور عليه لحد النهاردة ومش قادر أوصله، أنت تقدر يا عمر تجمعني بيه.
بمين؟ أنا ليه حاسس انك مخبي حاجة كبيرة؟
هي كبيرة فعلًا يا ابني، ارجع أرجوك.
حاضر يا حبيبي، يومين تلاته وهرجع بإذن الله. خد بالك انت بس من صحتك وأنا أوعدك مش هتأخر عليك، في رعاية الله.
أغلق عمر الهاتف ووضعه جانبًا ومازال حديث أبيه المبهم يجتاز عقله، ترى ما الشيء الهام الذي يخفيه عنه وفجأة قرر البوح عنه؟
انقطع تفكيره فور سماع دقات باب غرفته، فنهض يتكأ على كتفه وفتح الباب ليتفاجئ بشابٍ من أمامه يبتسم له ويتساءل: أخبارك أيه النهاردة يا رب تكون بقيت أفضل؟
ضيق عينيه بتعجبٍ وراح يخمن: إنت جمال؟
هز رأسه بالنفي وقال وهو يقدم يده ليصافحه: أيوب صاحب سيف.
تذكر أمره المتناقش بالافطار فضحك وهو يصافحه قائلًا: أيوه إنت صديق دكتور سيف اللي عامل عليك كماشة.
ضحك بصوته الرجولي مؤكدًا له: بالظبط كده. أنا لسه مخلص شغل واستلمت مكالمة من دكتور يوسف بيأكد عليا أعملك الغدا وأكلك بنفسي وطبعًا طلباته أوامر. عشان كده جهزتلك شوربة خضار وفراخ. مردتش أزعجك من وقت ما رجعت لتكون نايم بس سمعت صوتك من شوي. فعرفت انك صاحي. تسمح بقى تخرج تتغدى.
تابع حديثه الطويل بتمعنٍ، وقال بابتسامة جذابة: مالوش داعي والله التعب ده كله، كفايا تعب يوسف وعمران وعلى معايا.
اسنده أيوب وخرج به للردهة قائلًا: تعب أيه بس، يلا بس عشان معاد الدوا لو يوسف رجع من العيادة ملقاش الدوا اتخد هينفخني.
شاركه الضحك حتى وصل به للأريكة فعاونه أيوب على الجلوس ومن ثم وضع الصينيه المستديرة أمامه، فحاول عمر رفع يده ليتناول الملعقة ولكن ألمه كتفه كثيرًا فاستسلم للخضوع جواره.
تفحصه أيوب بنظرة شاملة وهو يسكب كوب المياه ويضعه من أمامه، فجذب الطبق والملعقة وقربها إليه قائلًا بمرح: يا رب بس أكلي يعجبك أنت عارف طبيخ رجالة الغربة أشبه بطبيخ زنزانة السجن كده.
وتابع باستفهام: صحيح إنت ظابط ممكن تكون جربت أكل السجون قبل كده يعني سهل تتقبل أكلنا!
انفجر آدهم ضاحكًا وتابعه أيوب بقوةٍ، فهمس له بصعوبة بالحديث: متقلقش أنا كظابط متعود التأقلم على أي شيء. ناولني المعلقة وأنت على يقين انها هتكون أطعم من السم اللي بنضطر تشربه بالتدربيات.
ضحك وهو يقدمه إليه فأوقفه آدهم قائلًا: استنى، شيل البسلة من الشوربة مش بحبها.
ابتسم أيوب وأزاحها بالملعقة وهو يخبره: وأنا كده مع إنها أساس شوربة الخضار بس بكرهها.
ابتلع آدهم الملعقة من يد أيوب وحينما ابتلعها تحركت يده تلقائيًا لكوب المياه في نفس لحظة نطق أيوب: ولما بتجبر أشربها بشرب بوق مية بعد كل معلقة!
أخفض آدهم الكوب عن فمه بعدما ارتشف رشفة واحدة منها ليقابله بنظرة مندهشة والمياه داخل فمه بينما الاخير يبتسم مرددًا بعفوية: شكلنا منسجمين في كره البسلة وشرب المية!
ابتلع وهو يبتسم له بمحبة كبيرة لا يعرف سببها، وراح يسأله: إنت بتشتغل هنا ولا بتدرس ولا حكايتك أيه؟
أفشى حبات البسلة عن الملعقة وناولها لآدهم وهو يجيبه: حكايتي بقت أشهر من فيلم سينما لسه امبارح حكيها لعمران والنهاردة هحكيها ليك. بس تمام هقولك نفس الكلمات المختصرة ابن الابن الوحيد للشيخ مهران بعد عشرين سنة حرمان من الخلفة وجيت هنا ادرس رغمًا عن أنفه لانك عارف بقى فراق الولد الوحيد والقصة اللي يمكن تكون غريب. عليك.
قاطعه بنزق: لا مش غريبة عليا لاني وحيد أبويا وأمي بردو.
ضحك وهو يشاكسه: إنت شبهي حتى في الوحدة أيه ده اوعى تكون كمان زميلي!
تعالت ضحكاته وهو ينفي ذلك قائلًا: أنا أكبر منك بسبع سنين يا بشمهندس.
ابتسم وابتسامته لا تفارقه أمام هذا الرجل الغريب الذي احبه أكثر من باقي الشباب وارتاح لمجلسه، فتابع الاحاديث فيما بينهما حتى نهض ليحضر له الادوية، فجلس جوار آدهم وأفرغ محتويات الحقيبة، تفحصها وهو يردد: أمممم، أربع حبوب دلوقتي وتلاتة بعد العشا. خلينا في دلوقتي.
وانحنى يسكب كوب من المياه ثم أفرغ بيد آدهم أول حبة، فهز رأسه نافيًا وقال: حط الأربعة.
تابع أيوب وضع باقي الحبوب بابتسامة مندهشة وتابعه بترقب لما سيفعل، لينصدم بشدة حينما ابتلع آدهم المياه بجوفه وفجأة ألقى بعدها الحبوب ليبتلعهما معًا وحينما استقام بجلسته نظر له باستغراب لطريقة تطلعه إليه وقال بشك: مالك؟
أجابه أيوب بدهشة: كنت فاكر إني الوحيد اللي بأخد الدوا بالطريقة الغريبة دي!
وتابع بنفس النبرة وعينيه تحوم بالفراغ: انت حكايتك أيه بالظبط يا حضرة الظابط، نفس التقزز من البسلة وشرب المية ودلوقتي نفس طريقة شرب الدوا إنت عايز تصاحبني عن قناعة إننا شبه بعض ولا أيه؟
تمردت ضحكاته الرجولية الصاخبة وردد بمشاغبة: ليه أنا مش واطي لدرجة إني أعمل مشاكل بينك وبين دكتور سيف في أول لقاء بينا، اضحك وهزر معايا براحتك وأول ما يرجع معرفكش.
وجده يحاول التمدد على الأريكة فأسرع إليه يعاونه، ووضع خلف ظهره وسادة صغيرة، فشكره آدهم وردد بارهاق: تسلم ايدك يا بشمهندس. أنا بأخد الدوا ده ومعرفش أيه بيحصلي بروح في دنيا تانية.
منحه أيوب ابتسامة هادئة وقال: أنا هدخل أذاكر جوه لو احتجت أي حاجة ناديني.
هز رأسه إليه قبل أن ينساق لنومٍ ثقيل جعل الأخير يتسلل بحرصٍ حتى لا يوقظه، ومازالت الابتسامة والمحبة تحيطه تجاه هذا الرجل الذي أسعد كثيرًا بالتعرف عليه.
وصل على بسيارته للمنزل فهبطت زينب ولحق بها، كانوا بطريقهما للداخل حينما استوقفهما نداء شمس من حديقة المنزل، فأشار لها بأن تتبعه وإتجه لطاولة الطعام الضخمة القريبة من المسبح، فأشارت شمس لزينب بالجلوس لجوارها بينما ظل على محله لدقيقة لا يصدق ما يراه، والدته تجلس جوار فاطمة وكلتهما تتبادلان الحديث بهمس منخفض وكأن بينهما العديد من الأسرار، تنحنح بخشونة حينما نادته فريدة بدهشة: واقف عندك كده ليه يا علي؟
حرر زر جاكيته وجلس بالمقعد المقابل لفاطمة التي منحته ابتسامة أهلكت جوارحه، فتعلقت عينيه بها لا سواها.
قربت فريدة طبق الدجاج المتبل من زينب وسألتها بابتسامة بشوشة: طمنيني يا زينب يومك الأول بالجامعة كان لطيف؟
ارتبكت للغاية فور تذكرها ما حدث ومع ذلك تلاشت أي ذكرى قد تدفع أحدًا لسؤالها عما أصابها، وقالت: الحمدلله يا فريدة هانم، أول ما خلصت محاضراتي رجعت على طول.
هزت رأسها ببسمة هادئة ثم استدارت جوارها تتساءل بدهشة: مش بتأكلي ليه يا فاطيما الأكل مش عجبك ولا أيه؟
ارتبكت من اهتمامها الغريب منذ الصباح، وتناولت شوكتها تدفعها بقطع الدجاج: لا بالعكس الأكل جميل جدًا.
اتجهت أعين على لشمس يشير لها بصدمة، فغمزت له بضحكة مشاكسة تؤكد له صفاء الاجواء بين والدته وزوجته منذ فترة لا بأس بها.
أيه ده بتتغدوا من غيري!
نطقها من يقترب ليحتل مقعده جوار فريدة منحني على رأسها مقبلًا إياها بهمس وصل للجميع رغم انخفاضه: أيه الجمال ده كله.
اختلجت معالمها وهمست على استحياءٍ: الاولاد قاعدين يا أحمد عيب!
منحها ابتسامة غير عابئة، واقتبس نظرة لعلي قائلًا: دكتور على فينك يا راجل؟
ابتسم باستمتاعٍ وهو يتابع انجذاب والدته به وقال بمشاكسة: أنا اللي فيني يا عمي، ولا أنت اللي من ساعة ما اتجوزت فيري واختفيت من الوسط كله ونسيت أصحابك الأوفياء!
انطلقت ضحكاته بصوتٍ جعلها تبتسم وهي تراقبه بعشقٍ، وقال: هدي اللعب يا صحابي يا وفي، أنا لسه مبقاليش كام ساعة متجوز لحقت تدخل في اسطوانات هتطول معانا الفترة الجاية.
وتابع وهو يدفع هاتفه إليه: بص على البيت ده كده وقولي رأيك، أنا خلاص خلصت فيه وبكره هأخد فريدة ونكتب العقد.
حمل على هاتف أحمد وتساءل بحيرة: بيت لمين؟
أجابه أحمد وهو يلتقط الطبق الذي أعدته فريدة له: لينا يا علي. هنسيب البيت ده وهننتقل للبيت الجديد لو عجب فريدة ومعندهاش أي اعتراض.
وزع نظراته بينه وبين والدته بدهشة، ولم يرضخ فضوله لما يحدث خاصة بعلمه بمكانة المنزل لوالدته فقال: ده قرار حضرتك ولا قرار مين؟
أجابته فريدة بعصبية بالغة أوشكت أعراضها لنوبة يعلمها على جيدًا: قراري أنا يا علي. أنا اللي طلبت من أحمد يشوفلنا بيت تاني نعيش فيه لاني مش قادرة أعيش هنا بعد اللي اكتشفته عن الحقير اللي كنت متجوازه، هتعارض قراري وتفضل هنا ولا هتيجي معايا؟
توسعت أعين شمس من سماع حديث والدتها، وهتفت بتعجب: ليه بتتكلمي على بابي بالطريقة دي!
تدخل أحمد بالحديث بضيق من طريقة حديثها وقال: مفيش حاجة يا شمس، مامي بس متنرفزة شوية ومش عارفة هي بتقول أيه.
نهضت عن مقعدها بغضب: قصدك أيه يا أحمد قصدك اني مجنونة!
نهض قبالتها يحاول تهدئتها بنظراته المحذرة لها: مقصدتش يا حبيبتي، أنا بس بحاول ألفت نظرك ان أعصابك مشدودة في وجود شمس والبنات.
وبإشارته لاسم ابنتها بالأخص جعلها تبدأ بالاسترخاء قليلًا، فاستدارت تجاههم وقالت ببعض التوتر: أنا مرهقة شوية ومحتاجة استريح، عن اذنكم.
وتركتهم ورحلت ومن خلفها أحمد الذي ترك طعامه ولحق بها للاعلى.
ما أن تأكدت شمس من ابتعاد والدتها حتى تساءلت بحيرة: مالها مامي يا على وليه قالت الكلام ده على بابا!
رفع ذقنه المستند على ذراعه وقال بهدوء: مفيش يا شمس زي ما أنكل أحمد قال كده فريدة هانم مرتبكة شوية يمكن لإنها لسه في بداية علاقة جديدة بعد ما رفضت الارتباط سنين طويلة.
واستكمل وهو ينهض عن الطاولة: كملي أكلك يا شمس وشوفي زينب مأكلتش حاجة من ساعة ما قعدت شكلها لسه مكسوفة.
هزت رأسها تنفي اتهامه: بأكل والله حتى شوف.
منحها ابتسامة صغيرة، بينما يدنو من فاطمة فانحنى إليها يخبرها بابتسامة صافية: خلصي أكلك وأنا مستنيكِ فوق عشان نبدأ جلستنا النهاردة.
أومأت برأسها بخفة، فتعمق بنظراته تجاهها وكأنه يضمها ضمة جعلتها تشعر بطيف يحيط بها، فتابعت عمق رماديته بتوترٍ، وعادت أنفاسها لطبيعتها فور استقامته واتجاهه للأعلى، فوزعت نظراتها بين شمس وزينب وهي تحمد الله بأن كلتهما تتشاركان الحديث ولم تلاحظ أحدهن اقترابه منها لهذا الحد.
انتهت من ارتداء حجابها واستعدت للمغادرة، فوجدته يقف بالأسفل فاستقبلها بفتح باب السيارة قائلًا بغمزة: سمو الملكة.
ابتسمت وهي تفرد التنورة وتنحني قائلة بدلال: مولاي الملك.
انطلقت ضحكاته فأمسك معصمها قبل أن تدخل مقعدها وقربها إليه يهمس بخبث: مولاكِ الملك راضي عنكِ كل الرضا يا فتاة. استغنى بكِ عن كل الجواري.
ضحكت بصوتها كله وقالت: عليك بالاستغناء عنهم والا استغنيت عن روحك مولاي.
اتفلتت سيل ضحك من عمران ولم يستطيع التوقف حتى بعد صعوده للسيارة، فتحرك بها على الفور.
راقبته مايسان ببسمة حالمة، وحاولت جاهدة أن تجلي صوتها قائلة: عمران.
أجابها ومازالت عينيه على الطريق: حبيب قلبه!
كبتت ضحكاتها وهي تفجر قنبلتها: في خبر مش لطيف عايزة أقولهولك بس مش عارفة ازاي.
حانت منه نظرة مهتمة لها: اتكلمي يا مايا. في أيه؟
قوست شفتيها بنفورٍ: نعمان جاي لندن.
أوقف سيارته بسرعة جعلتها تحتك بالرصيف مصدرة صوتًا مزعجًا، واتجه بوجهه لها: مين؟! لأ متقوليش. متتكلميش، ياااااه على الرزالة والخبر الملزق اللي يصد النفس بعد المتعة ده.
ضحكت على ما يحدث معه، فقد كان حالها يشبهها منذ أن علمت بالخبر المجيد وقالت: مش عارفة الاسبوعين اللي هيقعدهم هنستحمله ازاي، بصراحة خالك ده أرزل خلق الله ومعرفش خالتو بترحب بيه ليه في بيتها.
رفع احد حاجبيه باستنكارٍ: هو خالي لوحدي! مهو خالك إنتي كمان.
أخفضت رأسها بتهكمٍ صريح: مش بحبه ولا عمري حبته، ده بيعشق الأذى للخلق. فاكر يا عمران كان بيضربنا ازاي واحنا صغيرين وفريدة هانم مكنتش بتصدقنا وبتصدقه هو!
تلون وجهه بغضبٍ قاتل، وعاد يقود سيارته متأججًا بعصبية قوله: كان زمان الكلام ده، أنا بقيت أطول منه الوقتي. أقسم بالله لو مقعدش باحترامه المرادي لاشخلعه ولا هيهمني مخلوق.
كبتت ضحكاتها وقالت تزيد من غضبه الصاعد: أنا مش متخيلة هيعمل أيه لما يعرف إن خالتو كتبت ورثها في أسهم الشركة ليك إنت وعلى وشمس، انت مش عارف هو كان مقهور ازاي لما مامي الله يرحمها كتبتلي ال25في المية باسمي ورفضت تبيعله نصيبها ودلوقتي ال25 التانين بقوا ملك ليك ولاخواتك. صدقني هيموت لانه كان حاطط أمل إن فريدة هانم تبيعله وبكده عدد أسهمه هيعلى وشركة العيلة هيكون هو المساهم الأكبر فيها.
سحب نفسًا صاخبًا، وصاح بتريثٍ: قبل ما يوصل لازم أروح شركة الغرباوي بكره أرتب شوية حاجات، علشان أكون جاهز للقائه اللي يصد النفس ده، مالقاش غير الوقتي ويجي بروح أمه!
كبتت ضحكاتها بصعوبة، ورددت ببراءة مصطنعة: عمران ما تكسب فيا جميل وتشتري أسهمي أنا مش عايزة أي شيء يجمعني بنعمان الغرباوي. أقفله إنت زي ما أنت متعود بقى.
خطف نظرة مندهشة لها، وصاح ساخرًا: حبيب قلب جوزه الجبان بيخلع وعايز يدبسه مع نعمان يا ناس.
تعالت ضحكاتها وأقرت له: جبان جبان يا عمهم مش أحسن ما أقف قدامه ويضربني زي ما بيعمل كل مرة، ده أيده طويلة ولسانه سليط.
اقمع وجهه بغدافية مخيفة، فمنحها نظرة صارمة وصاح بعنفوان: ده أنا كنت كسرتله ايده بروح أم اللي جابوه. أقسم بالله العلي العظيم لو عادها تاني ورفع ايده عليكي لاقطعاله. خلاص العيل الصغير اللي كان بيضحك عليه بالcandy كبر وبقى راجل وقد كلمته.
عصبيته جعلتها تتراجع عن حوارها المرح، فقربت يدها من يده المتحكمة بالفرام وقالت ببسمة هادئة: ده اللي أنا واثقة منه، علشان كده مش خايفة من لقائه المرادي طول ما أنت موجود جنبي أنا مطمنة يا عمران.
انزاح غضبه وتبدد كمن لم يحضر له، وتمسك بالمقود بيد واليد الاخرى يقربها لصدره هامسًا بعشق: حبيب قلبه إنتي يا مايا، يا روحي أنا أفديكِ بعمري وبكل ما أملك.
أغلقت عينيها بقوةٍ وانسجام، فتابع القيادة بتركيزٍ حتى انجرف لطريق المنزل، اعتدلت بجلستها وتساءلت باستغراب: احنا رايحين تاني فين يا عمران، مش قولت وراك شغل كتير وآ.
قاطعها حينما أجابها بغمزة جريئة: هوصلك البيت ترتاحي شوية كفايا الارهاق اللي بذلناه بعد المجهود ده.
لكزته بقوةٍ وهي تصيح بغيظ: إنت وقح!
ادعى برائته وهو يشير لها: أنا غلطان اني خايف عليكي من ضغط الشغل اللي انتي فيه من الصبح.
زمت شفتيها بسخط: هو أنا لحقت اشتغل!
هز رأسه بموافقة لما قالت وهمس لها: اعتبربه أخر يوم ليكي في شركاتي ده لو انتي خايفة على مركزي وشغلي، لكن شركة الوراثة مقدرش أمنعك منها ولا من لقاء الخال نعمان الملزق!
انتابها النفور من ذكر اسمه وقالت بسخرية: دي أول شركة هتنازل عنها. أنا مش عارفة هقول لانكل أحمد الخبر ده ازاي، شوف هو ابن عمه وعلى الرغم من كده مش بيطيقه.
قال بنزق: بلاش تقوليله الراجل عريس جديد ومحتاج أعصابه سبيه يتأخد الصدمة بكره خبط لزق.
هزت رأسها بتأكيد وحملت حقيبتها ثم فتحت الباب لتغادر قائلة بابتسامة رقيقة: هتتأخر؟
حك ذقنه النابتة بحرجٍ: بصراحه هتأخر لاني بعد الشغل هعدي على سيف أطمن على آدهم. أنا عارف إني المفروض أقضي معاكي وقت أطول من كده بس غصب عني الظروف كلها جايه مع بعضها.
ارتسمت الحزن على معالمها وقالت بعتاب: أيه اللي بتقوله ده يا عمران. من غير اصابة آدهم أنا عارفة إنك بتحب تقضي وقت مع يوسف وجمال زي ما أنت متعود فأنا مستحيل الحاجة اللي تفرحك تزعلني بالعكس بكون سعيدة لما بشوفك فرحان.
واستطردت بابتسامة أبهجته: وعلى فكرة إنت مش مقصر معايا علشان تقول الكلام ده.
منحها بسمة جذابة، ثم قال: ابقي طمنيني على فريدة هانم ومتنسيش تدي السلسلة اللي ادتهالك لشمس.
هزت رأسها بخفوت وأغلقت الباب من خلفها ثم ولجت للمنزل بينما غادر هو للشركة مرة أخرى.
استمع دقات خافتة على باب الغرفة، فابتسم لعلمه بمن الطارق، انطلق صوته الخافت يردد: تعالي يا فطيمة.
ولجت للداخل بخطوات مترددة، حتى باتت قبالته فنهض عن مقعد مكتبه الصغير واتجه ليقف قبالتها مشيرًا للمقعد المقابل إليه مشيرًا: اتفضلي.
جلست قبالته وترقبت ما سيقول، فجذب على قهوته الساخنة يرتشف منها على مهلٍ، ثم قال: النهاردة يومنا هيكون مختلف. عايزك تكلميني عن نفسك يا فطيمة. وعن اخواتك. زينب قالتلي إن عندكم أخين ومع ذلك لما كنتي بتتكلمي شوقك وحنينك مكنش غير لزينب ليه؟
امتعضت معالمها فور تذكرها لاشقائها، فاخفضت عينيها اللامعة بالدمع أرضًا وصوت اضطراب أنفاسها تحذره مما سيخوضه معها، فأسرع بالحديث: تحبي نأجل كلام في الموضوع ده؟
هزت رأسها بالنفي وقالت دون أن تقابل عينيه: أنا وزينب ملقناش حنان في حياتنا غير من والدي ووالدتي يا علي، اخواتنا الاتنين زي عدمهم مفيش واحد فيهم يعنيه أمرنا، أنا طول الايام اللي فاتت كان شغالني زينب عايشة معاهم ازاي وهما ميعتمدش عليهم، كأننا مش اخواتهم، أنا أخويا الصغير كان عايز يعيش دور الرجولة علينا فكان كل حاجة يتحجج ويضربنا وراضي نفسه كده إنه راجل.
اهتز جسده بعنف لتخيله ما عانته طوال حياتها، الا يكفيها الاعتداء الذي تعرضت له، شعر بتثاقل صدرها من فرط احتباس دموعها فجذب يدها لتنهض إليه تستكين باحضانه، يده تربت على خصرها وهو يهدهدها كطفلته الصغيرة.
اتخذت ثواني معدودة حتى رفعت يديها معًا تحيط عنقه ومسكن أوجاعها ومهدأها الوحيد هو ضمته القوية ورائحته التي تهييء عقلها للابتعاد عما سيزورها الآن.
استكانت لدرجة جعلته يسترخي بجلسته هو الأخر، ففرده وجهها على كتفه وقالت بصوت رقيق: أنت الراجل الوحيد اللي قابلته وحسسني آني بني آدمة. إنت الوحيد اللي رجعني للحياة بعد ما ضاع طريقها عني. أنا بحبك أوي يا علي. بالله عليك متبعد عني في يوم من الأيام.
أبعدها عنه ليتمعن بعينيها بدهشة، وردد بعتاب مؤلم: ده شكل واحد ممكن يبعد أو يتخلى عن روحه يا فطيمة، أنا متمنتش في حياتي حد غيرك. أنا كنت فاكر إن الحياة العملية بين اتنين متفهمين هو الحب لحد ما قابلتك إنتِ، خلتيني أحس إني انسان تافه ومعدوم الخبرة، ميعرفش يعني أيه انسان قلبه دق واتعلق. أقصى سعادتي إني أشوف ابتسامتك أو أشوفك سعيدة. أنا مبقدرش أنام غير وأنا مطمن إنك عديتي من النوبة والكوابيس اللي بتجيلك كل يوم. أنا كلمة بحبك دي بتظلمني أنا يا فطيمة لإن كلمة الحب ولا العشق هتقدر توصلك اللي في قلبي ليكي!
اتسعت ابتسامتها فأنارت ظلمة قلبه، استند على على جبينها وطالعها بصمت وسكون، فوجدها تستكين على جبينه مثلما يفعل.
تردد قليلًا فيما سيفعله الآن ولكن عليه خوض مجازفة تحقق انتصارًا كاملًا لخطوات علاجه، فانحنى لها يختطف من رحيقها بتوازن وعقلانية جعلتها تتجمد بين ذراعيه فانصعق من فكرة انهدام كل ما فعله لعلاجها وكاد بالتراجع، ولكنه تصلب محله حينما وجد يدها تستند على كتفه وكأنها تصرح له تقبلها الأمر ومع ذلك هزم رغبته الطائشة وابتعد حتى لا تخشاه أبدًا فيدمر كل نقطة ايجابية حققها مع حالتها الشبه مستحيلة.
رقبها على بعد انفصاله عنها فوجدها تتجه بعينيها لأي مكان بالغرفة بعيدًا عن عينيه وجهها ملتهب كمن تعاني من حرارة قاتلة، ابتعدت فجأة وأسرعت لباب غرفتها، فلحق بها يناديها: فطيمة، لسه الجلسة مخلصتش ارجعي للكرسي بتاعك.
تشبثت بطرف فستانها الوردي وهي تلعن ذاتها داخلها بأنه نفسه طبيبها المتخصص، الا يكفيه ما فعله وجعلها تكاد لا تود أن تريه وجهها بحياته قط، عادت للمقعد وهي تتحاشى التطلع إليه فابتسم بمحبة لها، وحاول أن يبدو طبيعيًا حتى يعاونها لتكسر حالة خجلها المميتة، فازدرد ريقه ليخرج صوته ناعمًا عكس خشونته: فطيمة. بصيلي!
هي الآن على وشك دفع المزهرية بوجهه حتمًا، ومع ذلك رفعت عينيها لرماديته فوجدته يسألها بجدية تامة: في نقطة مش فاهمها وكنت حابب أسالك عنها من زمان.
تنحنحت بخفوت وسألته: نقطة أيه؟
قال وهو يدنو بجسده منها: بالبداية لما استلمت ملفك وكلمت مراد عنك علشان أحاول أفهم اللي حصل معاكي بالتحديد قالي إنك كنتِ من البنات اللي تم ابتزازهم وتصورهم في سكن الجامعات وده كان سبب دخولك للمكان ده، ولما انتي اتكلمتي وحكيتلي قولتلي انك اتخطفتي وانتي كنتي مع والدك في مشوار أعتقد، أنا مش فاهم ليه في مدخلين للقصة؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ، وقالت: لإن ده اللي مراد فهمه فعلًا ومجتليش فرصة أصححله فيها اللي حصل.
مش فاهم!
استفاضت بشرحها قائلة: أنا لما مراد دخلي الاوضة دي وقالي إنه ظابط وجاي يساعدني خفت إنه يكون واحد منهم وبيعمل عليا حوار علشان يعرف إذا كان حد كشف اللي حصل وممكن يبلغ فمكنتش قادرة أثق فيه بالبداية فقولتله اللي سمعت أغلب البنات بيقوله لإني خوفت أعرفه إني كنت مع أبويا ليكون واحد منهم أكون بكده عرضت أبويا للخطر، كفايا اللي عشته جوه المكان ده. لكن بعد كده محصلش مناسبة او موقف خلاني أصححله كدبتي. والموضوع أساسًا مكنش له لزمة نهايته اني خرجت من المكان ده أنا وهو والبنات.
منحها ابتسامة ثابتة وأغلق دفتره قائلًا بمزح: الجلسة انتهت وأنا عارف إن الكلمة دي بتغسلك من جوه، عايزة تتخلصي مني بسرعة البرق كأني عملك الأسود وأنا دكتور.
ضحكت بصوتٍ أطربه، ورددت قائلة بسخرية: والله بقى إنت أدرى بعملك إذا كان أسود ولا أبيض.
أسبل باستنكار: بقى كده ماشي يا فاطيما، أنا بقى بما إني دكتورك المعالج هكتبلك على حقنتين كده بديل المهدأ.
انتفضت بجلستها بذعرٍ واستعدت لتمجد به: إنت مفيش في طيبة ونقاء قلبك يا دكتور علي، إنت أجمل وأحسن دكتور في لندن والعالم كله، عمل مين اللي أسود ده أنت هتعدي الصراط على الجنة حدف.
سقط ضاحكًا من فرط انطلاق ضحكاته، وردد بصعوبة: أتمنى والله تكون من قلبك ربنا هيغفرلي سيئاتي علشان دعوات زوجة صالحة زيك بس أوعي تكون من ورا قلبك يا فطيمة هدخل سعير!
تابعت وجهه الضاحك بابتسامة رقيقة جعلته يكف عن الضحك ويتمعن بعينيها الصافية، ابتلعت بارتباك ونهضت تخبره: هروح أشوف زينب.
أمسك معصمها يوقفها: اقعدي معايا شوية.
ابعدت كفه بخجل قائلة: مش قولت إني هبات معاك النهاردة، يبقى سبني اطمن عليها لإني حاسها مرتبكة من ساعة ما رجعت من الجامعة.
تهللت أساريره لتذكرها حديثه، فقال بلهفة: هستناكي متتأخريش عليا، علشان هسهرك سهرة ملوكي حتة فيلم هيعجبك أوي.
هزت رأسها وغادرت بابتسامتها الرقيقة، فتابعها حتى أغلقت الباب من خلفها، فعاد لمقعده يتابع حديثه مع يوسف لاختيار الاجهزة وغيرها من المكينات والتجديدات اللازمة للمركز.
بشقة أيوب.
ما أن أعادت فتح جهازها حتى ورد لها رسائل عمها المتعددة لأربعون رسالة أخرهم
«آديرا إن لم تقتلي هذا الارهابي سأقتلك بيدي هذة. »
رسالة اخرى
«أيتها العاهرة كيف ظل على قيد الحياة، ستظلين ضعيفة هكذا حتى مماتك، أتتركين قاتل أخيكِ يحيى بسلامٍ! ».
أغلقت آديرا الهاتف وألقته بعيدًا عنها بغضب، ونهضت تبحث بمنزله عن أي مالًا أو أي شيء يمكن أن تبيعه ومن خلال ثمنه تستأجر من يقوم بما تفشل هي بفعلته، فوجدت باحد الادراج عدد من الصور تخص أيوب وأخيها، لاحظت فيها أخيها يبتسم من قلبه ويضم أيوب بمحبة جعلت عينيها تدمعان ورددت بخفوت: ليتك لم تثق بذلك الإرهابي كل تلك الثقة، لقد خذلك وقتلك بدمًا باردًا ولكن لا تقلق يا أخي سأقتص لك أعدك بذلك!
الساعات مضت وأخيرًا انهى عمله الشاق وانطلق بسيارته منهكًا للغاية، وما أن اقترب من مبنى يوسف حتى انطلق الهاتف برنينه المزعج للمرة الخامسة فزم شفتيه وردد بهمس خافت: الحقير المزعج.
وحرر سماعة الهاتف الخارجية قائلًا دون رؤية اسم المتصل: خير يا مزعج. واخد النهاردة اجازة من الشغل علشان تقرف أمي!
تعجب جمال وسأله: وعرفت منين اني مرحتش الشركة النهاردة.
أجابه بفتور: روحتلك النهاردة والسكرتير بتاعك بلغني بخلعانك، كنت فين يا جبمس؟
كنت مع والدتي بنعمل الفحوصات والدكتور حدد معاد الجراحة يوم الخميس.
بعد يومين؟!
أيوه. أنا خايف ومرعوب يا عمران.
عيب يا جمال الكلام ده سبت أيه للحريم، انشف كده وإجمد، وأنا بكره هعدي عليك ببوكيه ورد نسخن بيه الحاجة على الحاج.
اكتظم غيظه وانطلق يسبه: ده وقته بذمتك إرحم أمي يا أخي بقى بوقاحتك، نستني أساسًا أنا طالبك ليه.
اشجيني ما أنا اتعودت على مصايبك!
تمتم بغضب: إنت فين بحاول أتصل بيوسف ومش عارف أوصله محتاجله ضروري.
صف سيارته أسفل البناية وانطلق للمصعد: أنا طالع الشقة أهو معرفش يوسف فوق ولا في شقته النهاردة. خليك معايا هشوفه.
انتظره جمال حتى ولج بمفتاحه الخاص، فبحث بعينيه بالردهة فلم يجد أحد، انطلق لغرفة آدهم فوجده يخلد للنوم، اتجه للغرفة الجانبية فوجد يوسف يغط بنومٍ عميقٍ، فقال لمن يترقب رده: هنا اهو يا جمال، ثواني هصحيه.
ووضع الهاتف على الكومود بعدما أبقى على السماعة الخارجية، ثم هز يوسف برفقٍ: جو، يوسف.
عبث بعينيه بارهاقٍ، وهمهم: عمران أنا تعبان وعايز أريح ساعتين قبل ما أرجع العيادة عندي حالة ولادة 6الصبح. من فضلك إلزم الصمت يا ترجع بيتكم.
لكزه بقوةٍ تلك المرة وهو يكشف الغطاء عنه: قوم شوف جمال قالب الدنيا عليك ليه.
اعتدل بمنامته متسائلًا بقلق: عنده قتيل هو كمان ما أنا قلبتها هنا مستشفى وسايب بيتي ومراتي وشغالكم تمرجي!
اتاه صوت جمال المحتقن: يوسف أرجوك فوق وخليك معايا أنا بقالي ساعتين بحاول أتصل بيك وموبيلك متزفت مقفول.
انتبه لصوت الهاتف، فمال بجسده للكومود مستندًا على راسخه: انجز سامعك وياريت تلخص.
ضحك عمران وهو يتابعهما واستند على الحائط يتلصص لهما، فقال جمال: صبا صحيت من شوية وبتشتكي من وجع في بطنها ودهرها، أجبهالك العيادة ولا أديها أيه؟
ضم مقدمة أنفه وعينيه باصابعه وسأله بنومٍ: هي عملت مجهود النهاردة في البيت مثلًا؟
أجابه على الفور: لا كانت معايا عند الدكتور بتاع ماما وبعدها لفينا بالعربية شوية، أحنا حتى أكلنا بره يعني مطبختش ولا وقفت خالص.
جز بأسنانه على شفتيه وألقى جسده على الوسادة بعنف، فانتظر جمال سماع اقتراحاته ولكنه لم يستمع سوى لضحكات عمران المستمتع لما سيخوضه يوسف الآن من طيش جمال المعهود، فانطلق صوته كالانذار: سكت ليه ما تنطق مالها؟
متقلقنيش عليها يا يوسف رد!
همس بصوتٍ لم يكن مسموع الا لعمران: أكمل معاه اسئلة ازاي وده طور هايج حسبي الله ونعم الوكيل في عقلي اللي خلاني أدخل القسم المنيل بنيلة ده.
تمادى عمران بضحكاته بينما يصرخ جمال بانفعال: بتضحك على أيه يا زفت. ما تنجز يا يوسف انت التاني بقولك تعبانه وبتعيط من بطنها يا أخي!
أشار عمران ليوسف بأنه سيتولى الأمر، فنهض عن فراشه يراقب ما سيفعله هذا الوقح الذي مؤكدًا سينزع الأمر، فقال الاخير: طيب يا عم جيمس استغليت انت بقى الخروجه والفسحة دي أسوء استغلال صح؟
عبثت كلماته: استغلال أيه مش فاهمك؟
وما اتخذ الا ثواني وراح يصيح باندفاع: آه يا وقح يا زبالة. وربي لأربيك يا عمران. إقفل أنا جايلك.
أوقفه يوسف قائلًا: جمال خلاصة الرغي ده لو حصل شيء بينكم وبعده حصلها الوجع فده شيء طبيعي، هكتبلك دوا على الواتس انزل هاته واديها منه وياريت بعد كده تكون حريص، خلصنا سبني أنام بقى.
وتطلع لعمران يخبره: خد موبيلك والمزعج اللي معاك وطفي النور واطلع بره.
وجذب الغطاء على جسده ليستكمل نومه، فرفع عمران الهاتف يردد بخبث: سمعت الدكتور قالك أيه يا غشيم مع ان الموضوع مش محتاج استشارة بس هنقول أيه الحمار عمره ما يفرق بين الكزبرة والبرسيم.
اشتد انفعاله فقال: اقفل يا عمران أنا جايلك، وربي لاوريك أصبر عليا.
أخبره ببسمة واسعة: هات معاك سوداني ومكسرات يا جيمي، سهراتنا طويلة.
وأغلق الهاتف بوجهه ثم توجه لغرفة أيوب، طرق عدة طرقات وحينما استمع إذن الدخول ولج مبتسمًا يردد: مساء الخير يا بشمهندس، يا رب ما تكون نسيتني!
نهض أيوب عن الأريكة تاركًا كتبه وقلمه، وبابتسامة واسعة قال: حد ينسى عمران باشا الغرباوي، والله كنت مفتقدك بالرغم من إني مشفتكش غير مرة واحدة بس إنت من الوشوش والاشخاص اللي عمره ما تتنسى.
وتابع بضحكة مرحة: ده أنا حتى لسه سأل عنك دكتور سيفو النهاردة.
برق برماديته وصاح مستندًا بجسده على الكومود قبالة أيوب: عملتها ازاي دي؟!
عدل من قميصه الأسود وهو يجيبه باستهزاء: مهو سبني ومشي بعدها.
ضرب كلاهما كفًا بالاخر والضحك يعلو بينهما، فلمح عمران الكتب الموضوعة على الطاولة، وقال: شكلك عندك مذاكرة كتيرة، تشرب معايا قهوة؟
أجابه بامتنان: يا ريت تبقى خدمتني.
نزع عنه جاكيته وألقاه على الفراش مرددًا: عنيا. ومعاها كمان سندوتشات جبنه رومي سايحة وده للأسف أخري في المطبخ.
ضحك أيوب وقال ساخرًا: الحمد لله إننا بنعرف نفتح النور واحنا داخلين أساسًا. أنا بعرف أعمل أي حاجة بس بصراحة الطعم ميتبلعش معرفش ازاي حضرة الظابط شرب شوربة الخضار اللي عملتها أنا والله قلقان عليه من ساعتها وهو نايم تقولش شرب منوم!
اتجه ليغادر وهو يصيح بمرح: قلقتني على الراجل هروح أطمن عليه لو محتاج غسيل معدة. ورايا.
لحق به أيوب ضاحكًا، ففتح الضوء واتجه للفراش وما كاد عمران برفع الغطاء عن وجه آدهم حتى تفاجئ بسكينٍ حاد مسلط على عنقه بشكلٍ أفزع أيوب وجعله يندفع تجاه هذا الجسد القوي في محاولة لانقاذ عمران، بينما انطلق صراخ حاد من ذاك الذي يقتحم المنزل مرددًا بصراخ: عمران اطلعلي يا وقح.
اندفع جمال للغرف حتى ولج لغرفة آدهم فصعق مما رأه ومن خلفه يوسف يردد بانزعاج ونعاسه يغلبه: في أيه؟!