رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن والثلاثون
أزاح عنها كنزتها برفقٍ، ويدها تتشبث بكتفيه تكبت صرخاتها، دموعها تنهمر دون توقف، فهمس لها بصوته الحنون: تحملي قليلًا. سأنتهي سريعًا أعدك بأن ذلك لن يؤلمك.
هزت آديرا رأسها إليه، ما تجهله هي بأنها أصبحت تكن له ثقة لم تضعها يومًا بعمها المخيف هذا، حمل أيوب القطنة البيضاء وغمسها بالمطهر ومن ثم مررها على جرحها برفقٍ، غمست أظافرها بكتفه وهي تصرخ ألمًا.
أغلق فيروزته يحتمل إلتحام أظافرها الحادة بلحم كتفه مسببة له إصابة دامية، وكأنه تود أن يشاركها ألمها، احتمل واستكمل ما يفعله حتى عقم جرح كتفها الأيسر وفور أن انتهى وضع اللاصق الطبي ليضمن نظافة الجروح وعدم تلوثها.
جذب أيوب كنزتها الملقاة أرضًا ثم عاونها على ارتدائها مرة أخرى، وحملها للفراش لتحصل على راحة أكبر من بقائها على هذا المقعد، استدار ليغادر المطبخ فاعتدلت آديرا سريعًا حينما لاحظت بقع الدماء الخافتة المحيطة بكتف أيوب من الخلف، ما أحدثته أظافرها الحادة كان محرجًا لها للغاية، فنادته على استحياءٍ: أيوب.
توقف عن استكمال طريقه واستدار لها فقالت بحزنٍ: آسفة لم أقصد أن أؤلمك.
خطف نظرة سريعة لكتفه ثم قال وعينيه تتحاشى التطلع لها: لا عليكِ. أنا بخير.
وترك الغرفة وإتجه للمطبخ يعد لها عشاءًا سريعًا، فجذب الشطائر ومرر عليها بالسكين الجُبن وصنع لها كوبًا من الحليب ومن ثم عاد إليها يضع الصينية على الكومود ومن جوارها الأدوية والمياه قائلًا: تناولي طعامك ولا تنسي الدواء.
جذبت الصينية إليها تلتهم ما بها بنهمٍ جعله يشعر بتأنيب الضمير، غادر أيوب غرفته وإتجه لحمامه الخاص يغتسل ومن ثم فرض سجادته وأدى صلاته بخشوعٍ تام، وحينما انهاها جلس أرضًا منهمكًا، وكل ما يجوب خاطره أخر كلمات تركها له صديقه، السر الذي وضعه بين صدره وتركه ورحل بمنتهى البساطة!
زحف بجسده حتى وصل لخزانة صغيرة موضوعة بالغرفة، جذب منها حقيبته التي يرتديها على ظهره حينما يذهب للجامعة، فتحها أيوب وأخرج منها ذاك الدفتر المدفون بكتاب صديقه الخاص وأخر ما يتردد له سماع صوته ووصيته.
«أيوب حينما تشعر بأن آديرا قادرة على تقبل الحقيقة التي أخبرتك بها فسلمها ذلك الدفتر، وحينها سيكون أمامها خياران، أما أن تظل مستعمرة من قبل ذلك النَّجِسُ، وأما أن تسلك الطريق الذي سلكته أنا لألحق بمن ضحت بكل شيء لأجلي ولأجلها! ».
تشنجت يده على ما يحمله حينما فُتح الباب من أمامه وطلت آديرا منه، فدث أيوب الدفتر العتيق داخل الكتاب الخاص بصديقه وأعاده للحقيبة، بينما وضعت آديرا الصينية المتبقية بالطعام جانبًا وخطت إليه بخطواتٍ متهدجة تحتمل بها آلآم جسدها هاتفة بصوتٍ باكي: الكتاب الذي كنت تحمله يخص أخي! لطالما رأيته معه، أنا أريده من فضلك!
أعاد أيوب الحقيبة للخزانة وأغلقها مرددًا: ليس الآن.
استندت على الحائط واقتربت منه تتوسل إليه ببكاء: أرجوك أنا أريده. كان أخي يكتب به باستمرار، لعله ترك لي رسالة أو أي شيء!
استدار إليها يخبرها بهدوءٍ: سأعيده لكِ بالوقت المناسب. أعدك.
استسلمت أمام اصراره وهي تعلم بأنه لن يفعل الا ما يريد، فاستدارت لتغادر فإذا بها تحيط بالفراش بتعبٍ، دفعه ليمسك يدها، وعاتبها بضيق: ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟
رفعت رأسها إليه وهي ترى النفور والرفض بملامسته لها باديًا بعينيه، رجفة يده التي تساندها كلما اقترب كانت تؤلمها، وأكثر ما يوجعها بأنها كانت تشعر بأنه مجبورًا على مساعدتها.
انهمرت دموعها تباعًا وسحبت كفها عن يده وهي تستند على الحائط قائلة: رأيتك تدخل الغرفة دون أن تتناول طعامك فجيئتك ببعض الشطائر، ولكني سأخرج الآن وأعدك بأنني لن أزعجك أبدًا.
تعلقت بالحائط وتحركت لتعود لغرفتها فكادت بالسقوط لترنح خطاها، حاصر خصرها بذراعه يمنعها من السقوط، وقال: دعيني أساعدك. تحملك على جرحك سيؤلمك بالتأكيد.
ابعدته مجددًا وحاولت بمفردها وهي تهتف باكية: ابتعد فحسب، أنا مستعدة لتحمل الألم أهون من رؤيتك تنفر مني لتلك الدرجة.
تركته خلفها مشدوهًا، شاردًا بكلماتها وحزنها البادي على ملامح وجهها الأبيض، فأدركها تغادر الآن غرفته وتستند لتصل لغرفتها.
أسرع أيوب للخزانة، يجذب حقيبته مجددًا والتقط منها عُلبة قطيفة من اللون الأزرق، حملها وأسرع خلفها يوقفها: انتظري.
توقفت عن استكمال طريقها دون أن تلتفت إليه، فقال من خلفها: ألا تريدين الاحتفاظ بشيءٍ يُذكرك بأخيكِ؟
استدارت له بلهفةٍ، ورددت بسعادة: نعم بالطبع أريد ذلك.
قدم لها أيوب العُلبة، فاسندت جسدها للحائط ومدت يدها تلتقط العُلبة وتفتحها بتلهفٍ كبير، وجدت داخلها سلسال فضي اللون، ينتهي بزخرفة على شكل كلمة فشلت بالتعرف عليها، رفعتها إليها تلامس الكلمة باستغراب زوى تجاعيد جبينها وأيوب يتابعها باهتمامٍ، فتقابلت عينيها به وسألته بحيرة: بأي لغة كتبت تلك الكلمة؟
ابتسم وهو يجيبها: العربية.
رمشت بأهدابها الطويلة بدهشةٍ، فلماذا يترك لها أخيها كلمة عربية هل هي سرية ليجعلها مشفرة صعبة الفهم عليها، فماذا يقصد بكل ذلك؟
اهتدت برأسها لجنسية أيوب العربية، وسألته بنبرة رقيقة: هل تعرف تلك الكلمة؟
هز رأسه ببطءٍ، فقالت: أخبرني بها.
تمعن بالسلسال لثانيةٍ ثم قال لها: س، د، ن...
وبعد أن لفظ حروفها بالانجليزية نطقها لها بالعربية: سدن.
رددتها من خلفه بحروفٍ منكسرة، تجاهد لنطقها صحيحًا: سداان، سن، سدن!
ابتسم وهو يراها تحاول جاهدة نطق الاسم الذي تجهل بأنه اسمها الحقيقي، ومع ذلك حافظ على جموده واتزان قامته قبالتها، ليستقبل سؤالها القادم: وما معناه؟
سحب نفسًا مطولًا وهو يخبرها بصدمة ستستقبلها الآن: إسمًا معناه خادمة الكعبة الشريفة.
ضيقت عينيها بعدم فهم لما قال، فاستفاض يخبرها: الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين في صلواتهم، وحولها يطوفون أثناء أداء فريضة الحج، كما أنها أول بيت يوضع في الأرض وفق المُعتقد الإسلامي، ومن مسمياتها أيضاً البيت الحرام، وسميت بذلك لأن الله حرم القتال فيها، ويعتبرها المسلمون أقدس مكان على وجه الأرض، فقد جاء في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم.
?إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96?
صدق الله العظيم.
سرت رعشة مخيفة بجسدها وبدأت معالمها تنكمش بانزعاجٍ، فصاحت بانفعالٍ ظاهري: ولماذا قد يترك لي أخي شيئًا كذلك!
ادعى برائته الكاذبة ورفع كتفيه بحيرة: لا أعلم.
وبخبثٍ ماكر قال وهو يمد يده لينتشلها منها: إن كنتِ لا تودين الاحتفاظ بها لا بأس سأعديها للحقيبة مجددًا.
أغلقت عليها يدها وكأنه سيتنزع روحها منها، أخر ذكرى تركها أخيها تعني لها الكثير ولن يستطيع أن يأخذه منها: لا. سأحتفظ بها.
ووضعتها حول رقبتها أمامه فابتسم أيوب وتنهد براحةٍ، وحينما وجدها تستدير إليه رسم الثبات والهدوء فقالت: لعله كتب شيئًا بمذكراته يخص السلسال، فلتقدمه لي لأرى!
ابتسم على مكرها ومحاولتها لاستمالته لطلبها المتكرر، فقال بحزمٍ تحرر بخشونة صوته: انتهينا آديرا. أخبرتك بأنك ستحصلين عليها بالوقت المناسب. والآن غادري لفراشك واستريحي.
وتركها وغادر لغرفته يغلقها من خلفه ويتجه لفراشه يجذب كيسًا من البسكويت يتناوله ليسد جوعه، متجاهلًا طعامها الموضوع لجواره، يموت جوعًا ولا يمس طعامًا لمسته يدها، نعم يفعل ما يضطر لفعله ولكن إن تركت طريقها هذا ربما حينها سيتبدد داخله ظاهرة الاشمئزاز التي تنتابه دون ارادة منه!
طرق باب الغرفة قبل أن يطل بوجهه من خلفه متسائلًا ببسمة جذابة: حبيبة قلب أخوها صاحية ولا نايمة؟
اعتدلت شمس بفراشها وهي تخبره ببسمتها الساحرة: صاحية يا دكتور. اتفضل.
ولج على للداخل يستند على خزانتها الوردية وهو يمنحها نظرة حنونة، تتشبع من معالمها وكأنها ستفارقه غدًا.
وضعت شمس حاسوبها وكتبها على الكومود واعتدلت بجلستها تتساءل بدهشة: في حاجة يا علي؟
ربع يديه أمام صدره الصلب وأجابها: بحاول أشبع منك. مهو انتِ هتفارقيني مرتين مرة بعد كتب كتابك ومرة تانية بعد فرحك. بالمناسبة أنا اديت لآدهم جواز سفرك علشان يحجز تذاكر السفر للقاهرة الاسبوع اللي جاي، أنا كمان نازل بعدكم بيومين فربنا يصبرني بقى لحد ما أجيلك. ورجوعنا هيكون مع بعض لحد ما تمتحني وننزل كلنا عشان الفرح.
ابتسامة مشرقة اتسعت على ثغرها وهي تتخيل مرورها بكل تلك الاحداث مع حبيبها الذي احتل كل ذرة داخلها، وتمكن أخيها من رؤية حبه الذي فاق حد النخاع، فتنحنح ليجعلها تنتبه إليه، فقال: نامي بدري علشان آدهم هيجي ياخدك الصبح يجيبلك فستان كتب الكتاب.
وقبل أن تتفوه بحرف رفع يديه باستسلام: قولتله إن مفيش داعي بس هو اللي مُصر. هيكون عندك على عشرة الصبح.
واقترب إليها ينحني طابعًا قبلة عميقة على جبينها قائلًا: ربنا يفرحك باللي اختاره قلبك يا روح قلبي، متسهريش كتير نامي وارتاحي.
وتركها وأغلق بابها وهو يهتف: تصبحي على خير.
غادر على وتمددت هي على الفراش تحتضن ذاتها بفرحةٍ، ومن ثم نهضت ترفع جسدها وتقفز على الفراش مرددة بحماسٍ: هشوفه بكره!
انتظرته كثيرًا وقد تأخر الوقت، شيئًا ما بداخلها يخبرها بأنه ليس على ما يرام، جذبت مايا اسدالها ترتديه واضعة حجابها على شعرها الطويل بإهمالٍ، فصادف أن لحظة خروجها من الغرفة هي ذاتها اللحظة التي وطأت بها قدم عمران أخر درجات الدرج، فابتسمت فور أن رأته، أما هو فهاجمه شعورًا غريبًا ما بين الاشتياق إليها والخوف من فكرة خسارتها الأبدية.
ماذا إن لم ينقذه آدهم من مقتبل تلك الرصاصة؟ ماذا إن تمكن منه شبح الموت فقبض روحه وغادر تلك الحياة؟ بالطبع كان سيفتقدها كثيرًا بل أكثر مما يتخيل، أسرع إليها عُمران يقطع تلك المسافة المتبقية بينهما وبحركةٍ واحدة ضمها إليه، يدفن رأسه بخصلاتها المنسدلة من خلفها.
قدميه تتحرك بها للخلف حتى ولج بها لداخل غرفتهما فأغلق بابها من خلفهما، يتجه للفراش بها ومازالت رأسه تميل على كتفيها، رفعت مايا يديها تحتضنه وسألته بقلقٍ: عمران مالك؟
ذراعيه القويتيان يُحاوطانها بشدةٍ، فألتمست حاجته لوجودها بالقرب منه، مسدت على ظهره بحنانٍ، فأحكم من عناقه وهمس في أذنها: متبعديش عني خليكِ جنبي، حُضنك بيريحني يا مايا!
قالها وهو يجذبها لصدره بقوةٍ ومال بها للفراش غير عابئ بحذائه وملابسه، أغلق عمران عينيه باستسلامٍ للنوم فتسللت عنه ونهضت تنزع عنه حذائه، وجذبت الغطاء تداثره بقلقٍ يعتريها تجاهه.
تمددت جواره واستندت برأسها على صدره تردد وعينيها تتأمل ملامح وجهه الرجولية: لأخر يوم في عمري هكون جنبك ومش هسيبك يا عُمران!
دخل غرفته وهو ينزع جاكيته وجرفاته باختناقٍ، خطف نظرة للفراش فوجده مرتبًا، اندهش على لعدم وجود زوجته فاتجه للحمام يتفحصه وناداها بقلقٍ: فطيمة!
فركت أصابعها بارتباكٍ وتمتمت بخفوتٍ وهي تختبئ بالخزانة: أيه اللي خلاني أمشي ورا كلام مايا وألبس اللبس المحرج ده. أروح فين دلوقتي يا ربي!
أسرعت للجزء الخاص بملابسها تبحث عن مئزر لترتديه فطرقت على جبهتها بتذكرٍ: أنا لميت هدومي كلها وبعتها مع حاجة فريدة هانم بالعربية أيه الغباء ده!
جابت عينيها خزانة على فوجدته يحتفظ ببذلة واحدة تركها ليرتديها بالغد وهو يستعد للذهاب للمركز الطبي، جذبت فاطمة جاكيت الحلى وإرتدته سريعًا، في نفس لحظة اقتحامه للخزانة فردد بلهفة: انتي هنا يا فاطيما وأنا آ...
ابتلع باقي كلماته حينما وجدها تقف قبالته بجاكيت تحاول اخفاء قميصها الأبيض الظاهر من خلفه عنه، كونها أردت أن ترتدي ثيابًا تريح نومها وإن كانت مغرية هكذا جعلته سعيدًا.
طال صمته ومازال يتطلع لها، فتنحنح وهو يستعيد صوته الهارب: إنتِ بتعملي أيه عندك؟
توزعت نظراتها لكل مكانٍ بالخزانة الا عينيه، فحك أنفه وهو يخفي ابتسامته لرؤيتها مرتبكة، خجولة أمامه هكذا، رنا إليها علي يجذبها بيده لتقترب منه وانحنى ليصل لقامتها الصغيرة، هامسًا بمكرٍ: لابسة جاكت البدالة بتاعتي ليه يا فطيمة؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ وقد تلون وجهها كحبات الكريز، فتلعثم قولها: بردانة.
ضيق رماديته بشكٍ، ولكنه أراد أن يمشي بكل خطواتها فقال: أفتحلك الدفاية؟
هزت رأسها تشير بالنفي، فمال عليها يخبرها: رجعتي في قرارك ليه؟ أنا مستهلش إنك تثقي فيا يا فاطمة؟
تعانقت المُقل ببعضها البعض، فسرى إليها رعشة احتلت وجدانها، فأجلت أحبالها الصوتية: أنا بحاول عشانك يا علي.
اتسعت بسمته وجذبها لصدره يهمس بحبٍ: وده كافي بالنسبالي يا روح علي!
تمسكت به وسحبت نفسًا مطولًا من رائحته، كأنها باتت بآدمانه كالمخدر، وقالت على استحياءٍ: ليه ازازة البرفان اللي بتحط منها مبتبقاش بنفس الريحة اللي بشمها أول ما بقربلك!
ضحك مصدرًا صوتًا وقال: لإني مش بحط من نوع واحد يا فاطمة.
وأحاطها بقوةٍ وردد لها بصوتٍ مبحوح تأثرًا بعاطفته: قولتلك كل ما تحبي تشمي البرفيوم بتاعي احضنيني أنا!
رفع ذقنها إليه ليقابل عينيها، وقال بمكرٍ: على فكرة أنا كمان بحب ريحة الشاور بتاعك بس بحاول على قد ما أقدر مبينلكيش عشان متفكرنيش برمي كلام للقرب فتغيريه!
جابهته بنظرة قوية وثبات فجأه: ما أنا عارفة عشان كده بأخد دُوش بيه دايمًا.
رفع حاجبه باستنكارٍ، فتعالت ضحكاتها بانتصارٍ تحققه عليه، لانت تعابير وجهه المشدود وهو يراقب ضحكتها التي زادت من جمالها جمالًا، أصبحت كالفتنة التي تستنزف كل قوة داخله للصمود.
وجدته هائمًا بها فتوقفت عن الضحك وقابلته بنظرةٍ عاشقة، رفع على يده يحيط خدها وبحبٍ قال: ضحكتك تجنن! ابتسامتك تغوي القديس!
ودنى إليها يستند على جبينها وهو يستطرد بهمسٍ: وأنا بني آدم بيتمنى قربك يا فاطيما.
أغلقت عينيها بقوةٍ حينما سبقها على درب الغرام يطالبها بتتبعه، فحاولت أن تسرع بخطاها لتتمسك بيده، وجدته ينزع عنها جاكيته فتركته وهي تكاد تقتل من فرط الخجل.
حملها على للفراش، وتمدد جوارها متعمدًا أن يصل عينيه بعينيها، يحاول أن يجعلها ترى نظرات العشق الخامدة داخله، أصابعها تنغمس بين أصابع يدها، عاطفته توازيها فلم يسبقها بخطوةٍ لم تستعد لها بعد!
كان عطوفًا لينًا للغاية، يبرع بقراءة تعابير وجهها باهتمامٍ حتى إذا شعر بأي شيء يبتعد، يخشى أن تنتابها نوبة قاتلة وهي بين ذراعيه يقسم أنه إذا حدث حينها لن يسامح ذاته أبدًا، ولكنه يعلم بأنها مثله تريد أن تجمعهما علاقة عادية مثل أي زوجًا وزوجة، وكونه الرجل عليه أن يسبق بخطوته تجاهها، وكونه طبيبًا يعلم خطورة ما يقدم على فعله ولكنه يتمنى أن شهور علاجه لها تجني ثمارها، نجاح علاقتهما سيحقق نجاحه كطبيبٍ خاض مرحلة علاج كانت شبه مستحيلة.
تشنج جسدها بين يديه جعله يهمس لها بعشقٍ: بحبك يا فاطمة، بحبك!
استرخت وعينيها المترقرقة بالدموع تندمج بنظرة عينيه الدافئة، وحينما وجدته يبتعد ليتركها وضعت يدها على صدره مستهدفة موضع قلبه، فابتسم وهو يتمم زواجه بها فعليًا وقولًا حتى باتت زوجة له بعد معاناة قضتها وقضاها هو برفقتها!
صمت الليل وتخفى بظلامه خشية من ضوء الشمس النافذ، تململت بفراشها بانزعاجٍ من صوت منبه الهاتف الذي أعدته للاستعداد للذهاب للعمل، فتحت عينيها فوجدته يغفو قبالتها ويده تحيطها بتملكٍ، ابتسمت فاطمة وهي تتأمله بحبٍ لدرجة جعلتها تتناسى كل شيءٍ، إلى أن استقبل هاتفها رسالة من مايا، فتحتها
«صباح الخير يا طمطم. يلا استعدي ربع ساعة وهنزل. »
برقت وهي تهمس بصدمة: هتأخر من تاني يوم!
أبعدت الغطاء عنها وهرعت لحمام الغرفة تغتسل وفور أن انتهت طرقت على جبهتها وهي تصيح بانفعال: نسيت أخد لبس معايا، أنا مالي كده!
قضمت أظافرها بعنفٍ، واتجهت تفتح باب الحمام، تتطلع تجاه الفراش فوجدته مازال يغفو بعمقٍ، نادته بخفوتٍ: علي، علي!
اعتدل بنومته على ظهره وفتح عينيه يردد بنوم: صباح الخير يا حبيبتي.
اندهش حينما لم يجدها جواره فاتجه ببصره للحمام فوجدها تختبئ وتخبره بصوت احتقن بخجلٍ قاتلٍ: معلش ممكن تفتح الشنطة اللي عندك وتخرجلي منها هدوم مناسبة للشركة، أنا اتاخرت ومايا بعتتلي.
منحها ابتسامة جذابة ونهض يتجه للحقيبة قائلًا: انتِ تؤمري أمر حبيبتي.
رفع الحقيبة يفتحها، بحث بين محتوياتها حتى انتقى بذلة نسائية من اللون البني، وسحب أغراضها الشخصية ثم اتجه إليها يقدم لها ما بيده، فقالت من خلف الباب: علي.
طرق على الباب باستغراب: أنا هنا يا فطيمة. افتحي خدي اللبس!
بحرجٍ عظيمٍ قالت: ممكن تغمض عينك؟
تمردت ضحكاته وبصعوبة يقمعها حتى لا يخجلها، فأغلق عينيه وقال: حصل.
اشرأبت من خلف الباب تتأكد من أنه يغلقها بالتأكيد وسحبت ما بيده وأسرعت بغلق الباب بوجهه بعنفٍ، فلم يقوى بالسيطرة على ضحكاته التي انفجرت فجأة مرددًا باستنكارٍ: حبك أيه في قفل الأبواب بوشي هموت وأعرف!
واتجه لخزانته يجذب بذلته الوحيدة المتبقية، انحنى يلتقط جاكيتها الملقي أرضًا فعادت إليها ذكريات ليلة الأمس، ابتسم على ورفع جاكيته إليه يقربه لأنفه، أغلق عينيه بتلذذٍ حينما تركت رائحتها المنعشة أثرًا عليه.
خرج للغرفة ينتظر خروجها ليغتسل ويستعد ليومه المجهد، فما أن خرجت حتى ردد بانبهارٍ: ما شاء الله يا فطيمة زي القمر.
ارتبكت قبالته فأسرعت بلف حجابها واتجهت لباب الغرفة تهتف بتلعثمٍ مضحك: اتاخرت، أنا معرفش مكان الشركة، عمران ومايا هيمشوا ويسبوني. عملت المنبه بس انشغلت بيك ونسيت معاد الشركة.
لطمت شفتيها برفقٍ وهي تصيح بعدم تصديق: أيه اللي أنا بقوله ده!
ألقت كلمتها وهرولت راكضًا من أمامه فضحك من أعماق قلبه على ارتباكها البادي أمامه، فاتبعها حتى وصل لدربزاين الدرج يتأملها وهي تركض للأسفل بنظرات حالمة، رؤيتها اليوم بتلك الحيوية والنشاط يزيد من سعادته باتخاذ عمران قرار عملها، وحينما كان شاردًا أتاه صوتًا ذكوريًا من خلفه يردد
بقالي قرن معاك جوه البيت ده وأول مرة في حياتي أشوفك من غير قميص! بس تصدق طلع عندك عضلات بالرغم من إنك كسول ومبتلعبش رياضة!
استدار على للخلف فوجد عمران قبالته يتمعن به وكأنه لوحة فنية عرضت على أحد الحوائط، انتبه لكلماته فتطلع لذاته بدهشةٍ، كيف اتبعها للخارج دون أن يعي بأنه لا يرتدي سوى بنطاله الأسود.
أسرع على لغرفته بحرجٍ، ليس هو ذلك الفتى الجريء الذي يستعرض جسده طوال الوقت، حتى حينما يغفو لا يستغنى عن ملابسه العلوية تحسبًا لدخول شقيقته أو والدته أو حتى أخيه.
تعالت ضحكات عمران المشاكسة، فاتبعه وهو يصيح ساخرًا: بتخزى من أخوك يا دكتور!
أغلق على باب غرفته بوجهه وصاح به: وصل شمس لآدهم تحت وبطل وقاحة على الصبح يا عُمران!
اتسعت ابتسامته واتجه لغرفة شقيقته، طرق بابها وولج فصعق حينما وجد الغرفة بأكملها عبارة عن مجموعة من الأَحْجِبَة والاسكارف، ومن بين تلك الفوضى تظهر شمس بالكد وهي تعقد الحجاب من حول رقبتها بقوة جعلتها تسعل بقوةٍ وتجاهد لالتقاط أنفاسها.
ركض عمران إليها يبعد عنها الحجاب من حولها وهو يصيح بدهشة: يخربيتك عايزة تنتحري يا بت!
التقطت أنفاسها اللاهثة وهي تجيبه بصعوبة: وحياتك أبدًا يا عمران. بحاول أتحجب بس الطرحة مش راضية تثبت!
جحظت عينيه صدمة، فوزع نظراته بين لبسها المحتشم والحجاب القابع بين يده ثم ردد بسخرية: بركاتك يا سيادة الرائد!
وتنحنح بخشونة يخبرها: وماله ده شيء يسعدنا كلنا بس إلبسي بعقل بذمتك عمرك شوفتي واحدة بتلف الحجاب حولين رقبتها شبه اللي لافة حبل المشنقة كده!
هزت رأسها بنفي، واتجهت للفراش تجلس عليه بارهاق: هعمل أيه بحاول وفشلت.
وضع حقيبته الصغيرة على السراحة، وجاب الغرفة بعينيه حتى سقطت نظراته على اسكارف صغير أسود، فجذبه وألقاه بوجهها قائلًا: أعتقد ده بيتلبس الأول. بشوف مايا بتعمل كده!
التقطته منه بابتسامة واسعة، وقفت شمس أمام المرآة ترتدي ما بيدها، مسح عُمران على وجهه بعصبية: صبرني يا رب. أنا بحاول أكون محترم مع الناس بس هما اللي بيجرجروني للوقاحة ولساني الطويل.
واتجه إليها يجذبها من شعرها البني الطويل المنسدل خلف ظهرها من داخل الأسكارف هاتفًا من بين اصطكاك أسنانه: ده أيه يا بت ديل حصان!
وتابع بعصبية بالغة: ولا يكنش حجبتي النص القدماني واللي ورا لسه مدخلش في أوكازيون التوبة!
برقت بعينيها بدهشة: مش المفروض الطرحة طويلة وهتدريه.
كور يده بشكلٍ جعلها تتراجع للخلف حتى صعدت على جسد السراحة: اهدى يا عمران مش كده الله، إنت اللي شكلك متعرفش في أمور الحريم هروح أشوف مايا أو فاطمة إبعد.
لحق بها وهي تهرول من أمامه: مشوا الاتنين يا فقر، روحي لزينب هتلاقيها في أوضتها لسه.
أمأت برأسها وهي تهرول لغرفة زينب تعاونها بارتداء حجابها لأول مرة، بينما هبط عمران للأسفل ليستقبل آدهم بنفسه، فصافحه بابتسامة مشرقة: أهلًا يا كابتن، شرفتنا.
رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ من طريقته الرسمية، فمال عليه عمران يخبره: عشان الرقابة بس، بره البيت هتلاقيني واحد تاني بس هنا فريدة هانم ممكن يحصلها حاجة!
ابتسم آدهم واحتل مقعده المقابل لعمران، فتسللت عينيه للدرج يود لو يلمح طيفها ليطفئ ظمأ قلبه، ابتسم عمران ساخرًا منه وصاح: متبصش كتير مش هتنزل الوقتي وراها معركة الله يعينها عليها.
اخفض ساقه واعتدل بجلسته يسأله: معركة أيه!
هبط على للأسفل مرددًا ببسمة جذابة: أهلًا وسهلًا سيادة الرائد. نورتنا
انتصب بوقفته قبالته يبتسم في حضرة ذاك الراقي: بنورك يا دكتور علي.
أشار للمقعد بتهذب: اتفضل. استريح.
جلس محله مجددًا بينما اختار عمران الجلوس على ذراع مقعد علي، وانحنى عليه يهمس له: ها مش هتقولي كنت طالق عضلاتك وخارج بيها ليه كده على الصبح؟
منحه نظرة تحذره وهو يرسم ابتسامة لآدهم الذي نجح بقراءة حركة شفاة عمران فاخفى ضحكته بتمكنٍ، وفجأة أتاته هزة شببهة بالزلزال الذي يحيط بالمبنى العتيق فلا يترك له أثر فور رؤيته لتلك الفاتنة تهبط الدرج محدثة صوتًا موسيقي بحذائها، برق لوهلة يستوعب بأنها ترتدي حجابًا لمرتها الأولى، حسنًا كانت فاتنة بكل ما تحمله معنى الكلمة، لدرجة جعلته يتساءل بارتباكٍ: شمس؟
ضحك على وأكد له بإيماءة من رأسه، بينما ذم عمران شفتيه وصاح: اصلب طولك يا حضرة الظابط وإياك تفكر تستفرض بالبنت وهي معاك، أنا مركب Gps يعني هتلاقيني معاك في أي مكان.
لكزه على بغضب: عمران الله.
كز على أسنانه وهو يخبره بضيق: مش موافق على الخروجة دي يا علي، معقول تسيبه ياخدها كده عادي ولوحدها. أنا هروح معاها!
استغل انشغال آدهم بتأمل شمس ومال عليه: ميصحش كده يا عمران، بكره هتكون مراته وآدهم مش الشخص اللي تشكك فيه.
جذبه إليه يخبره بنفس وتيرته: افرض استغل الوضع وباسها ولا اتحرش بيها مهي هتبقى مراته بكره بقى!
احتقنت نظرات على فدفعه للخلف بنفورٍ: مش كل الشباب وقحة زيك يا وقح!
وتركه يستشيط غيظًا وإتجه لآدهم قائلًا: متتأخروش يا آدهم، ولما ترجعوا أبقى تعالى على الموقع اللي هبعتهولك في رسالة، لإننا هننقل من هنا حالًا والعنوان هبعتهولك.
هز رأسه متفهمًا، بينما صعد على للأعلى قاصدًا غرفة زينب بينما دنى هو حتى أصبح قبالتها يجلي صوته الهارب بصعوبة: دي أجمل مرة أشوفك فيها يا شمس، الحجاب مخليكِ جميلة بشكل مش طبيعي.
رفعت عينيها إليه تخبره بحزن: ده اللي كنت عايزة أقولك عليه لما صدتني بالكلام.
تسلل الضيق لمعالمه فأزاح نظارته القاتمة ومنحها نظرة جعلتها لا تود إبعاد عينيها عنه: أنا آسف. صدقيني والله أنا بعمل كل ده علشانك وبسبب زعلك ده أنا خليت دكتور على يكتب كتابنا بكره عشان أكون معاكي بطبيعتي وأقولك على كل شيء دفنته جوايا للحظة ما تكوني حلالي يا شمس.
ارتبكت أمامه للغاية، فتمسكت بحقيبة يدها ورددت بتوتر: مش هنتحرك؟
أشار بذراعه نحو الباب: اتفضلي.
كادت بأن تتبعه فأوقفها عمران حينما جذبها لاحضانه فجأة بنظرات تتحدى آدهم المبتسم لذاك الطاووس الوقح بتحد، بينما يهمس عمران لشمس: لو قربلك رنيلي وأنا أجيلك، أوعي يستفرض بيكِ يا شمس.
ضحكت بصوتها الانوثي، فنهرها بحدة: مينفعش حد يسمع صوت ضحكتك غيري يا شمس.
تطلعت له شمس بعدم استيعاب ورددت بمزح: عمران مالك ده هيبقى جوزي!
قال بغيظ: لما يبقى بقى!
وتابع ورماديته مازالت تتحدى عين آدهم: المهم متتأخريش ولو قالك حاجة كده ولا كده كلميني على طول.
اتسعت ضحكتها وهي تهز رأسها بخفة، واتبعت آدهم للخارج وعمران يلحق بها، فتح آدهم لها الباب الأمامي فلوى عمران شفتيه قائلًا بحنق: كنت ناوي أقعدها ورا بس يلا هسامح بس عشان الصحوبية اللي كانت بينا.
ردد آدهم بمزح: كانت! لأ والله فيك الخير يا عم الطاووس!
منحه نظرة ساخطة قبل أن ينحني ويحمل طرف فستان شقيقته الأزرق الطويل، ليضعه من خلفها على المقعد والحنان والحب يلمعان بحدقتيه تجاهها مما جعل آدهم يبتسم وهو يتابعه وللحق لم يشعر بالانزعاج منه أبدًا، لإنه بطبيعة مهنته يعلم بمكنون من أمامه وهو يرى حب عمران المبالغ به تجاه شقيقته الوحيدة لذا تركه كما شاء فلكلُ حقًا عليها. إن كان سيكون زوجها فهو أخيها!
ولج على للداخل حينما استمع لسماحها له بالدخول، فولج يردد بهدوء: صباح الخير يا زينب، عاملة أيه؟
انتهت من عقد حجاب اسدالها وردت عليه بابتسامة واسعة: صباح النور يا دكتور. أنا بخير الحمد لله وخلاص جهزت شنطي هغير هدومي وهنزل على طول.
ضيق حاجبيه باستغراب: والجامعة يا زينب؟
بارتباكٍ اجابته: مش هروح النهاردة. مفيش حد مع فريدة هانم كلهم خرجوا فمينفعش أنا كمان مكنش معاها.
أشار لها بالجلوس، وهو يراقب وجهها المجهد وكأنها لم تغفو منذ سنواتٍ فقال: زينب متحاوليش تقترحي حجج وأعذار علشان متنزليش الجامعة، إنتي من ساعة ما رسالة الحيوان ده وصلتلك وانتي بطلتي تنزلي، طيب وبعدين؟!
ابتلعت ريقها بارتباكٍ لمجرد ذكر اسمه أمامها، فردت بصوتٍ مبحوح: خايفة يا علي، لإني سبق وشوفت غضبه عامل ازاي، وبعدين ده تاجر سلاح مش فارق معاه لا حكومة ولا غيره.
استند بجسده على الطاولة المجوفة من أمامه وقال: معنى كده انك هتضيعي مستقبلك عشان خوفك منه يا زينب، طول مهو شايفك ضعيفة بالشكل ده هيستقوى عليكِ بكل ما فيه. أنا هسيبك النهاردة براحتك بس من بكره هتنزلي جامعتك تاني. واطمني أنكل أحمد كلم شركة حراسة وهيكون في عربية حرس معاكي في كل مكان لحد ما نوصل للبيه اللي بيهدد من بعيد وآ.
ابتلع باقي جملته، فكاد أن يخبرها بأنه تعرض لعمران ولكنه تراجع خشية من أن يحزنها، فنهض عن الأريكة وقال: هسيبك تغيري هدومك وهستناكي تحت متتأخريش علشان بمجرد ما فريدة هانم تنزل هنتحرك للبيت الجديد على طول.
هزت رأسها مجيبة: حاضر.
تركها وهبط للاسفل ينتظرهم، وأرسل رسالة لعمه يؤكد عليه أن ينتهي من أمر شركة الحرس بعدما أخبره بالأمس عن تهديدات ذاك الأرعن لزينب وقد رأى أحمد أن الحل المناسب هو وجود حرس مُسلح لحمايتها فوافقه علي على الفور.
اتجه عمران بسيارته لشركته، فولج من بابها الرئيسي فوجد أيوب بانتظاره، ضيق جفونه بنظرة مرعبة جعلت الاخير يرسم ابتسامة زائفة وهو يدنو منه: صباح الخير يا بشمهندس.
نزع نظارته السوداء وهو يمنحه نظرة مشتعلة، وهتف: نعم!
تنحنح بخفوتٍ: نعم أيه بقولك صباح الخير!
اقترب منه عمران وردد بنبرة منخفضة: عجبك كلام يوسف اللي قالهولك امبارح صح!
ارتعبت نظرات أيوب تجاهه، فابتلع ريقه الجاف وهو يدعي عدم الفهم: كلام أيه؟
غيرتلها على الجرح يا ابن الشيخ مهران!
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة، ورفع اصبعه يشير له بتوترٍ: عُمران أنا آآ...
هدر بانفعالٍ ونظراته الحادة تحيطه: ولا كلمة. ورايا!
زفر أيوب حانقًا، يلعن تلك الظروف التي أوقعت آديرا بطريقه وأوقعته هو بطريق عُمران الغرباوي، صعد خلفه للأعلى وولج لغرفة مكتبه.
نزع عنه جاكيته وألقاه لسكرتيره الخاص حسام ومن ثم ألقى إليه رابطة عنقه فتلقفها بصعوبة كادت باسقاطه فوق مكتبه، وعاد يفاجئه حينما قذف إليه ساعته الباهظة، التقطها بين يديه ولكنه فشل تلك المرة بانتصاب وقفته المذرية فسقط بها أرضًا وذراعيه تعلو بالساعة.
أشمر عُمران عن ساعديه ببسمةٍ مخيفة، فالتفت وجهه لحسام يخبره بنبرة لطالما كانت تخص القتلى المأجورين: كويس إنها منكسرتش والا كنت هتشرف جنب أخوك الشيخ أيوب في خارجته النهاردة.
وانتقلت رماديته لباب الغرفة يستطرد بفحيح الأشباح: خد الباب في إيدك وإنت خارج. أي مقابلات أو اتصالات مهمة حولها لبشمهندسة مايا
. من الأخر مش عايز أي إزعاج يفصلنا أنا وابن الشيخ مهران عن طلعتنا.
جحظت أعين أيوب صدمة، وكأنه يستعد لتقطيع جسده بالمنشار الحاد، فمال على حسام الذي يوزع نظراته بينهما بقلقٍ، همس له أيوب يستجديه: متمشيش يا حسام!
رفع كتفيه بقلة حيلة وهرول للخارج، فتراجع أيوب للخلف حتى التصق بالمقعد الذي خلفه، فسقط أعلاه والاخير ينحني إليه ويصوب نظراته القاتمة تجاهه.
أجبر صوته على التحرر متسائلًا: في أيه يا عُمران؟ إنت هتتحول ولا أيه؟!
طرق على ذراعي المقعد وبانفعالٍ شرس قال: غيرتلها على الجرح يابن الشيخ مهران! ويا ترى بقى أيه اللي نتج عن الفعل ده! اتكلم أنا سامعك!
أبعد رأسه للخلف وهو يشير له بخوفٍ غريب: أقسملك بالله محصلش أي حاجة. ولولا ان دكتور يوسف صاحبك اللي نبهني لخطورة اصابتها مكنت قربتلها نهائي!
أخذت أسنانه شفتيه السفلية يسحقها بعنفٍ يود أن يطول ذاك القابع أمامه، ومع ذلك استكمل أسئلته الطارئة: عملت أيه بعدها يابن الشيخ مهران؟
رفع ركبتيه للمقعد وكأنه سيهرول به من أمام ذاك االطاووس الوقح وراح يردد دون توقف: محصلش والله العظيم محصل. خد نفس عميق واستهدى بالله يا عمران عيب يا جدع تلميحاتك الوقحة دي. أنا سبق وقولتلك أنا شاب جامعي جاي هنا أدرس وأمتحن وأخد الشهادة وأرجع لأبويا الحارة، معنديش أهداف تانية فبالله إقلع الوش اللي يرعب ده وسبني أمشي من هنا.
وتابع بنفس الوتيرة: هو كان يوم مش طبيعي يوم ما أخدني سيف أسكن معاه بشقته وهو نفسه اليوم اللي اسودت ملامحه يوم ما اتعرفت عليك مع إني اتعرفت على سيادة الرائد آدهم والبشمهندس جمال ودكتور على بس شهادة لله ناس محترمة وزي موج البحر الهادي إنت اللي مالكش كتالوج، زي السما شوية صافية وشوية مغيمة وفجأة يضربها الرعد والبرق وكل العواصف!
ابتسم بخبثٍ مخيف وقال بجمودٍ تام وكأن ما قال لم يهز به شعرة: لو مش عايز عواصفي كلها تحضر هنا هتقول اللي حصل بالحرف والا مش هرحمك يا ابن الشيخ مهران.
لعق شفتيه الجافة وهو يرفع صوته الذي تخلي عنه: مآآ، حص، لش، محصلش!
صرخ به وقد تخلى عن كل هدوئه المخادع: انطق يا أيوب!
دفعه أيوب للخلف بقوةٍ جعلت الاخير يسقط على المقعد المقابل إليه وهو يصيح بعصبيةٍ: أكلتها وأدتها دواها وغيرتلها على الجرح ورجعت أوضتي تاني ده اللي حصل تصدق أو متصدقش دي حاجة ترجعلك!
تعالت صوت أنفاسه المنفعلة بينما ارتسمت ابتسامة تسلية على ملامح وجه عمران واتجه ليحتل مقعده باسترخاء استراب له أيوب!
سحب القلم وأخذ يوقع بآلية تامة على الأوراق من أمامه وكأن الأخر لا وجود له، فردد أيوب بنزقٍ: أيوه يعني أفهم أنا من برودك اللي نزل عليك ده فجأة أيه؟!
رفع رماديته أيه ولف مقعده يهزه بتسلية، قائلًا: إني أخدت الحقيقة.
ولا كنت برغي فيه من الصبح كان أيه؟
ترك مقعده ونهض يلهو بالقلم وهو يشير إليه: علميًا الإنسان لما بيتعصب بيخرج الحقيقة كلها عمليًا أنا مصدقك من أول ما اتكلمت بس كنت حابب إديك عينة بسيطة عن اللي هيحصلك لو لعبت بديلك مع العبرانية!