رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والخمسون
تصاعد الأنفاس هو المسموع بين دائرة الصمت المغلفة بالأطرف، ما بين وجوه غاضبة، وأخرى مندهشة ومصعوقة مما يحدث، وأخرى ساخطة على ابن الشيخ الأزهري الذي حط من أخلاقه فور سفره للالتحاق بالجامعة الأوروبية، فاختلط بنسائها وبما يلقبن وسط حارته الكاسيات العاريات!
لم يكن حال آيوب يفترق عنهم، لم يتوقع أن يراها هنا، والادهى أن تقترب منه على مرأى الجميع، لم تفعلها وهما بمفردهما وحينما اختارت فعلها اختارت وقتًا ومكانًا بصميم فتيل القنبلة.
ابتلع ريقه بتوترٍ وهو يراقب صمت أبيه وغضبه المستعار، بينما مازالت آديرا تتمسك بذراعه وتوزع نظراتها بين الجميع بخوفٍ.
كان إيثان أول من تدارك الموقف، فقال بمزحٍ متعمد: الخواجاية دي بينها تايهة وبتشبه على آيوب.
وأقترب منها يسحبها عن آيوب وهو يردد بهمس منخفض لها: إن أرادتي أن ينجو آيوب بحياته فلتتبعيني الآن، والأ سيقتلونه!
جحظت عينيها صدمة، بينما تنحنح إيثان رافعًا صوته ليسمعه الجميع: مش بقولكم تايهه.
واستطرد وهو يشير لها، ناطقًا بالعربية رغم علمه بأنها لن تفهمه: تعالي معايا وأنا أدلك على الموقف ومنه تقدري تروحي للمكان اللي إنتي عايزاه.
خطفت آديرا نظرة سريعة لآيوب، ولحقت بإيثان بعدما صدقت ما قال فور رؤيتها نظراتهم الغاضبة تجاهه، فما أن اختفى بها إيثان حتى قال العم صالح بضحكة: أنا قولت كده بردو، مهو مش معقول آيوب ابن الشيخ مهران يعرف الاشكال دي.
قال أحدًا من الجيرانٍ: الحمد لله إن الواد إيثان بيعرف يرطم انجليزي أهو يساعدها.
وأضاف أخر: آيوب شاب ملتزم وعمره ما رفع عينه في عين واحدة، فمش معقول هيعرف الاشكال دي، مجرد خروجها من البيت باللبس العريان ده شبهة، ربنا يحفظ بناتنا.
حجر غضبه داخله، فبالنهاية له كل الحق، والصادم له أنه ولأول مرة يرآها ترتدي ثيابًا فاضحة لتلك الدرجة حتى وإن كانت ترتدي فساتين وتنورات قصيرة.
جذب يونس كف آيوب بحدةٍ، وعينيه تخبره بأنه لا يصدق تلك الكذبة التي ألقاها صديقه، ربما مرت على عقول هؤلاء البساط ممن يجهلون ترجمة لغتها، بينما هو كان يعلم كل كلمة، فأشار له: بينا على البيت يا آيوب أنا عايز أرتاح.
تحرك به للمنزل والشيخ مهران يتبعهما بغموضٍ لا يفصح عما بداخله شيئًا، فما أن ولجوا لمدخل المنزل حتى وجدوا إيثان جالسًا على أحد الآرائك وتلك الأجنبية لجواره، هاتفًا بقلة حيلة: حاولت أرجعها الشقة بس رفضت وصممت تشوفك، اتصرف قبل ما الشيخ مهران يرجع!
يعني إنت كنت عارف بالعلاقة المشرفة اللي رابطة ابني المتدين بالبنت دي!
قالها الشيخ مهران باستهزاءٍ على لفظ متدين لابنه الذي خابت كل آماله به، كان مازال يقف على عابة البوابة الحديدية يراقبهم بنظراتٍ خاوية من الحياة، وكأنه بعد أعوام من تعب وكد خسر كل شيء زرعه داخله، وللعجب مازال متماسكًا أو يحاول التصنع بذلك.
مر من أمامهم واتجه للدرج قائلًا بصرامة دون أن يلتفت إليهم: هات الخواجاية دي وحصلني على فوق يابن الشيخ مهران!
ملأ الذعر حدقتيه، فقد حان الوقت ليكتشف أبيه ما أخفاه، تمسكت آديرا بيد آيوب وقالت باكية: آيوب هيا لنخرج من هنا، أنا خائفة من ذلك الرجل!
خوفها هالها لمجرد رؤية لحيته البيضاء الطويلة، جلبابه الابيض، كل شيءٍ يتقارن مع تلك الصورة المزروعة داخلها عن الارهاب.
ربما لم يتطابق آيوب لتلك الصورة المرسومة داخلها فاستعابت أخيرًا بأنه ليس كذلك، ولكنها ما أن دققت النظر بالشيخ مهران حتى هاجمها هواجس مريضة، تهدد ثباتها.
تحرر آيوب عن رزانته، فقبض على معصمها وجذبها للحائط بقوةٍ، وبعصبية بالغة صرخ: كيف تجرؤين على الخروج من المنزل! وبتلك الثياب الفاضحة! أخبريني هيا!
واسترسل بنفس الغضب: ألم أحذرك من مغادرة المكان! ثم بالله كيف تسمحين لنفسك بالاقتراب مني لهذا الحد!
وباستنكارٍ أضاف: أجن عقلك يا امرأة! إنتِ لستِ بلندن حتى تفعلين تلك التصرفات المخزية، أعدك بأنني لن أمرر ما فعلته آديرا.
كسر يونس صمته بعدما كان يتابع ما يحدث بغيظٍ، فجذبه إليه وهو يصيح بصدمة أثقلت لسانه فور سماع اسمها: آديرا! يهودية؟!
وجذب قميصه بكلتا يديه ليدفعه تجاه الدرج: إنت ليك عين تقف وتتخانق معاها، إنت مش متخيل الكارثة اللي إنت فيها مع الشيخ مهران، أيه اللي حصلك يا آيوب لا عمرك كان ليك في الستات ولا في أي شيء يغضب ربنا.
وبصراخٍ عنيف قال: مين دي يابن الشيخ مهران؟
وبسخرية استطرد: يا متدين يا خالوق!
حل يديه عن ثيابه وقال: مراتي يا يونس!
جحظت فيروزته بصدمة جعلته يرتد للخلف، ولسانه يهدر دون انتباه لما يتفوه به: مراتك ازاي! يا نهار أسود اتجوزت يهوديه يا آيوب!
كاد بأن يشرح له ولكن صوت والده الرعدي أتى من الأعلى ينادي بغضب لم يشهده آيوب يومًا: آيوب!
تجمد محله بخوف، فأخذ يوزع نظراته بين ايثان ويونس، وانتقل لآديرا التي تفرك معصمها ببكاءٍ وصدمة من قسوة تعامل آيوب الغريب معها.
آيوب ابن الشيخ مهران، ابن هذه الحارة البسيطة يخترق القوانين بزواجه من أجنبية يهودية الجنسية، وبالرغم من أن قلبه مازال موصود بقفل من فولاذ، لم تتمكن بثيابها وجمالها المُفتتن من غزو قلبه الأ أنه بالنهاية رجلًا يتسم بالمروءة والغيرة على نساء منزله، وهي الآن تُنتسب إليه، لا يرضى لأحد أن يرأها بهيئتها تلك حتى وإن كان أخيه وأبيه.
نزع عنه قميصه الأسود وهبط الدرج إليها يحيطها به عن أعينهما، والاثنين يتابعونه بدهشةٍ، ارتدت آديرا القميص وعاونها ذلك آيوب، بينما عينيه المحتقنة تجوب ساقيها البادية من أسفل قميصه الذي كان طوله يصل لبعد تنورتها الفاضحة.
أحاط كتفيها ليمر بها من أمام إيثان ويونس الذي يستند كلا منهما على درابزين الدرج الرئيسي بصدمة وذهول.
صعد بها لشقتهما، وانتهت خطواته بالردهة وبالتحديد قبالة أبيه الماسد على الأريكة يستند برأسه على عصاه السوداء، وما ان وجده أمامه حتى رفع رأسه إليه، فتمكن من رؤية لون الدماء العالق بأعين أبيه فتيقن بأنه بأبشع حالات غضبه، وما زاده غضبًا رؤيته له يقف أمامه بملابسه العلوية الداخلية (فالنَّة أو فانلة، نوع من الملابس التحتيّة تتّخذ من القطن أو الصوف الناعم، وهو ألوان متعدّدة أشهرها، ).
صوب بصره الصقري لمن تختبئ خلفه، متخفية بقميص ابنه الشبيه بالجلباب القصير عليها لفرق الأحجام بينهما، وما زاد سخطه يدها المتمسكة بذراعه والاخرى تتشبث بظهره، فابتسم ساخطًا: لا عندك مروءة أوي!
ونهض يقابله وجهًا لوجه، فانسحب ابنه من لقاء عينيه وأخفض بصره بحرجٍ، فصاح الشيخ ساخرًا: أيه مش قادر تبصلي! ولا محروج إنك اتفضحت وبان اللي كنت بتخبيه عني وعن أهل الحارة!
واستطرد بصراخ صعد لاجله إيثان ويونس: كنت بتدعي المثالية وإنك شاب ملتزم وإنت مقضيها مع الخواجات في بلد بره يابن الشيخ مهران! ويا بجاحتك يا أخي راجعلي بيها!
أتجه يونس إليه، فأمسك كفه وهو يرجوه: عمي من فضلك اهدى وخلينا نتكلم بهدوء.
مال إليه وازداد عنفونه: اهدى أيه يا يونس ابني جابلي العار ووطي راسي!
خرجت الحاجة رقية من غرفتها تحكم حجابها حول رقبته وتردد بذعرٍ: في أيه يا شيخ مهران؟ بتزعق كدليه؟
وجابت بصرها تلك الفتاة الغريبة التي تتحامى بابنها، فاذبهلت وبصعوبة نقلت إليه نظراتها، متسائلة: مين دي يا آيوب؟
أغلق عينيه بحزنٍ، أخر ما توقعه حدوث كل ذلك، كان سيحدثهما عن كل شيءٍ حينما تأتيه فرصة مناسبة، ولكنه منذ أن عاد من سفره، وما حدث لخديجة وخروج يونس أنساه كل شيءٍ.
استدار إليها الشيخ مهران وأشار بسخرية مؤلمة: تعالي يا حاجة شوفي ابنك المحترم، خارجين من صلاة العصر فجأة نلاقي الخواجاية دي بتحضن فيه ودلوقتي زي مانتي شايفة واقفه وماسكة ايده والله أعلم في أيه تاني ما بينهم!
تحررت آديرا عن صمتها حينما نغزت كتف آيوب، وببكاءٍ قالت له: من ذلك الأرهابي آيوب؟ هل يتحدث عن قتلي؟ فلنرحل من هنا أنا خائفة!
صُدم آيوب مما قالته، فجز على أسنانه يحاول احتمال كل ما يحدث برمته، بينما هدر الشيخ بانفعال: بتقول أيه دي يا إيثان! ترجملي!
ازدرد ريقه الهادر وردد بتلعثم: آآ، بتقول آنها. آآ...
أيه بلعت لسانك! انطق وقول بتقول أيه؟
أسرع يونس بالاجابة: عايزة تمشي من هنا يا عمي.
عاد يتطلع لابنه وقد خرج عن ثبات ليس موجود به: ويا ترى بقى ابني المحترم واخدلها شقة ولا أوضة في فندق؟! وبتشوفها امته وازاي!
واستطرد ببسمة حملت الألم بين طياتها: واليوم اللي كنت فيه مع آدهم كنت معاه فعلًا ولا كنت بتكدب عليا يابن الشيخ مهران.
مزق جلباب صمته المعتم، وبحشرجة ذبحت حلقه قال: كنت مع آدهم يا بابا أنا عمري ما كدبت عليك وحضرتك عارف إن ده مش طبعي وآ.
اخرس! متتكلمش عن اللي انا أعرفه، لإن اللي قدامي ده مش ابني واحد غريب لأول مرة أعرفه.
واسترسل بحدة هادرة: ودلوقتي حالًا ترد وتقولي مين دي؟! وتعرفها أمته وازاي؟
رفع عينيه الدامعة لأبيه واستعد لمواجهة عاصفته، فأشار له يونس يحذره من قول الحقيقة، ولكنه لم يعتاد الكذب على أبيه فقال: مراتي يا بابا.
لطمت رقية صدرها بصدمة، وصرخت ببكاء: ليه كده يا آيوب! حرام عليك يابني تعمل فينا كده حرام عليك!
توترت الأجواء الا من صوت أنفاس مهران المتصاعدة، وفجأة شقت صفعته على وجه آيوب أرض السكون، فتغلب الأوجه صدمة وحزن لما اضطر الشيخ مهران بفعله لمرته الاولى.
وبنفس قوة صموده قال: مراتك ديانتها أيه يابن الشيخ مهران؟
ارتعب يونس وعاد يهز رأسه لأيوب برجاء وتوسل الا يخبر أباه شيئًا عنها أو حتى يلفظ إسمها العبري أمامه.
انهمرت دمعة ساخنة على وجه آيوب الذي مازال وجهه مستكين للأيسر استجابة للضربة التي تلاقاها من والده الحبيب، وبصعوبة ردد: كانت يهودية بس أسلم...
طالته صفعة على خده الأخر جعلته توقف عن نطق جملة لا يريد الشيخ سماعها، وجُل ما يطارده اضطرارها للالتحاق بدينه لأجل الزواج منه وخداعه، فآن كانت أسلمت لما كان سمح لها آيوب بما ترتديه.
شعر بأنه خسر عكازه القوي، فتحرك للأريكة يحتلها بكل ثقل جسده، ويونس يحاول أن يسانده ولكنه يرفض ذلك، يختطف النظرات المنصدمة إلى ابنه وعقله رافض ولديه اعتراض لما يحاول قبوله.
أجبر لسانه الثقيل على نطق حروفٍ رغم بطئها الا أنها كانت قوية كالسواط: خدها وامشي من هنا، وأوعى توريني وشك تاني.
ازدادت شهقات رقية، وإتجهت لرقية تصرخ بانهيار: أيه اللي بتقوله ده يا حاج، عايز تطرد ابنك الوحيد! عايز تفرقني عن ضنايا يا حاج.
ساند يونس حديث زوجة عمه وقال: يا عمي الامور متتخدش كده، اديله فرصة يشرحلك، إسمع منه وبعد كده آحكم مش ده علام حضرتك لينا، من فضلك اسمعه وبلاش تطرده من هنا.
رفع مهران عينيه الغائرتين بالدمع لابن أخيه المنحني إليه، فرفع كفه يحيط خده بحنانٍ وقال: بالرغم من كل اللي إنت اتعرضتله ألا انك ما غضبتش ربنا في أي تصرف ليك يا يونس، لسه بتحاول تقاوم كل الظلم اللي اتعرضتله، بتثبتلي كل مرة إنك تربيتي. تربية الشيخ مهران.
وأشار باصبعه على آيوب، مستكملًا: أما ده فانا معرفهوش يابني، مينفعش الغريب يفضل في بيتي ويجرح حُرمته.
ونهض يتجه لغرفته قائلًا بحزمٍ: مشيه يا يونس وأنتِ يا حاجة عايزة تقفي معاه ومع غلطه حصليه.
وتركهم وولج لغرفته، فوقفت الحاجة رقية عاجزة، باكية، يؤلمها قلبها وينشطر نصفين، ما بين زوجها وابنها.
منحت آيوب نظرة أخيرة وقالت قبل أن تتبعه: ربنا يسامحك يابني. ربنا يسامحك!
غادرت وتبقى برفقة إيثان ويونس الذي وقف قبالته وبحزنٍ شديد قال: عملت في نفسك كدليه يا آيوب؟ خدعتك لندن وبناتها اللي اغلبهم متبرجات! ده إنت ألف واحدة تتمناك ليه؟!
وتابع وهو يتطلع بغضب لمن تتمسك به من الخلف: طيب حتى كنت سبتها هناك ومجبتهاش هنا لأبوك وأمك المساكين اللي ملهمش غير سمعتهم، يا أخي ده على رأي المثل إذا ابتليتم فاستتروا!
أغلق حدقتيه فتحررت دموعه على خديه، ترك الردهة لهم واتجه لغرفته، وبعد قليل عاد بحقيبة صغيرة وبيده تيشرت ارتداه فوق ملابسه، وتحرك يجذب آديرا ويخرج بها.
تهدل جسد يونس مشيرًا لايثان بتعبٍ تغلب عليه: روح وراه يا إيثان، شوفه هيروح فين!
هز رأسه بتفهمٍ ولحق به للأسفل، بينما استرخى يونس برأسه على الاريكة من خلفه، إلى ان لفت انتباهه صرير باب الغرفة التي كانت تخص عمه وزوجته قبل ان يقطنان بالغرفة الثالثة للمنزل، ليجد فارس الصغير يطل من خلف الباب وهو يفرك عينيه بنومٍ، وما أن رآه حتى هرول إليه مبتسمًا وهو يتمتم: عمو يونس!
تلقفه يونس بين ذراعيه وعلى وجهه ابتسامة جذابة!
صعد للطابق الثالث، قاصدًا الصالة الرياضية التي خصصها له عمه، نارعًا جاكيت بذلته الثمينة، ومن خلفها جرفاته.
شعوره بالاختناق جعله يمزق أزرار قميصه الأبيض غير محتمل لبطء ازالته عن جسده، واتجه على الفور لجهاز الركض، فعله عُمران على أقصى سرعته وكأنه ينتقم من نفسه على ما استمع إليه.
ركض بسرعةٍ مفرطة جعلت أنفاسه تتهاوى كالسباق الأذلي، العرق يحتشد على صدره ورقبته بشكلٍ كبير، وكلما عاد له ما استمع إليه زاد من قوة ركضه، إلى أن انتهى بعد دقائق وإتجه يضع أوزان ثقيلة بالحاملة المعدنية، يرفعهما بساقيه وجسده ينخفض خلفها.
انتظرته مايا كثيرًا بعد أن أبلغتها الخادمة بعودته منذ ساعة ونصف، فاستلت مئزر طويل، ارتدته وخرجت تستند على الحائط حتى وصلت للصالة.
وجدته يلعب تمارين الضغط بأقسى مرحلة، فمالت على الحائط ويدها تسند رأسها الذي يدور، وبصوتٍ هزيل نادته: عُمران!
شروده وتركيزه بخطوات تمرينه جعل صوتها الخافت لا يتردد إليه، فرفعت مايا صوتها وهي تحتمل بيدها الاخرى على الجهاز الرياضي القريب منها: عُمران!
انتفض بمحله، مستديرًا تجاه الصوت، فما ان رآها منحية بجسدها والارهاق والتعب يغزو ملامحها حتى هرع إليها، يمسك ذراعيها حتى دون أن يقربها إليه خشية أن يبللها عرقه، ومن بين أنفاسه العالية ردد: أيه اللي طلعك هنا وانتِ تعبانه يا مايا؟
أجابته بغيظٍ: بستناك من ساعة ما جيت. إنت بتعمل أيه هنا مش عادت تطلع الصالة بليل؟!
انساه الحزن والضيق أمرها، فصعد إلى هنا حتى لا يثير فضول أحدٌ، أجلى أحباله الصوتية: مفيش أنا هنشغل بالمشروع ومش هلاقي وقت ألعب رياضة فقولت أعوضها من دلوقتي.
مالت برأسها على الجهاز وهي تهمس بتعبٍ: اسندني يا عُمران أنا دايخة أوي!
أحاط رأسها مرددًا بسخرية مضحكة: يعني قرفتي مني وأنا حاططلك برفيوم براند، ما بالك لو ضميتك ليا بعرقي ده مش بعيد نتقابل في محكمة الأسرة عشان أشوف ابني يا بيبي!
ضحكت رغمًا عنها، وتغاضت عما قال حينما اقتربت تسند برأسها على كتفه، هامسة له: عمر ما ريحتك كانت مقرفة يا عُمران!
رفع إحد حاجبيه بسخرية: إنتِ بتحاولي تغريني وإنتِ بحالتك دي يا بيبي!
ابتسمت وهزت رأسها تنفي: أنا بعوض ثقتك المهدورة في نفسك يا حبيبي.
ضحك بصوته الرجولي العميق، وقال وهو يحيطها بحبٍ: حبيب قلب جوزه اللي رافع من معنوياته يا ناااس، بس أنا بقول يا مايا بلاش أبقى تقيل عليكي وأشوف صاروخ ألماني أتجوزه يدلعني أقصد يخدمني.
لكزته بقوةٍ وقالت بارهاق: أنا تعبانه وانت بتفكر تلعب بديلك ازاي، صنف الرجالة واحد على رأي طنط أشرقت.
برق بذهول: شوسوو! شوفتيها أمته؟
ردت عليه وهي تلقي بثقل جسدها الهزيل عليه: بتكلمني على موبيل صبا على طول.
فور ذكرها لاسمها تسلل له الحزن تدريجيًا، فأحاطها وأسندها لأريكة ضخمة، عاونها على الجلوس والتقط المنشفة النظيفة، ينظف وجهها ومن ثم اختفى من أمامها وعاد يرتدي ثيابًا منزلية مريحة بعد أن انتهى من الاستحمام بسرعة.
انحنى على ساقيه أمامها، يمسد بحنان على كفيها الموضوعان على ساقيها، فانتبهت مايا إليه، قبل كفيها وقال: ألف سلامة عليكي من التعب يا حبيب قلبي، هننزل حالًا وهخلي الدكتورة زينب تعلق ليكي المحلول اللي كتبه يوسف.
تنهدت بحزنٍ: محلول تاني يا عمران.
مضطرين يا حبيب قلبه!
ونهض يحملها لغرفتهما، وضعها على الفراش، ثم إتجه لغرفة فاطيما يخبرها أن تبلغ زينب بأن تصعد إلى مايا لمساعدتها بتركيب المحلول الطبي.
مضت الساعات ومازال كما هو منذ دلوفهم لشقة إيثان لم يخاطبها حتى، إتجه لاحد الغرف وأغلقها عليه تاركها بالخارج عقلها مخبط فيما فعله هذا الرجل المسن به وللعجب أن آيوب كان صامتًا ومستسلمًا تمامًا، لم يخاطبها بأي كلمة وكأنما يود الاختلاء بذاته.
حاولت آديرا النوم أكثر من مرةٍ، ولكنها فشلت، فاتجهت لغرفته تطرق بابها عدة مرات، حتى وجدته يقف قبالتها ويطالعه بغضبٍ أخافها منه لمرتها الاولى، وخاصة حينما صرخ بوجهها: ماذا تريدين؟ ألا يكفيكِ ما فعلته بي؟!
وخز قلبها ألمًا، فابتلعت ريقها المرير وتساءلت: ماذا فعلت آيوب؟
ضحك مستهزءًا: ماذا فعلتي! بربك يا فتاة لم تتركي شيئًا الا وفعلتيه!
وتابع وهو يصبح بوجهها كالمدفع بعدما تفحص ما ترتديه: أمازلتي بثيابك الفاضحة تلك! ثم بالله ألم أحذركِ من الخروج إلى أين كنتِ تذهبين؟ هيا أخبريني!
انهمرت بالبكاء قبالته وقالت بقهرٍ: كنت سأرحل من هنا، أنا لست متسولة لتعطف على بالطعام، وتتركني هنا كالجرو الذي تعتني بتربيته، طلبت من صديقك المخيف ذلك أن يخبرك بأنني أريد رؤيتك ولكنك لم تأتي آيوب، كنت هنا بمفردي في دولة غير دولتي وأناسًا لا أعرفهم ولكني كنت مستعدة للعيش هنا ولكن إن كنت أنت معي.
وتمسكت بالتيشرت الخاص به تتمسح كالقطة الصغيرة: أخبرني آيوب لماذا تركتني؟
اندهش مما استمع إليه، ولكن ما تفعله الآن يزيد من صدمته، بدأت تتقرب منه بشكلٍ لم يعتاده منها ولا من أي انثى، كانت تطالبه بشكل صريح، زُهق عقله وشُل حينما همست إليه: أنا أأ، أحبك آيوب!
تسلل النفور لأوردته وملأها لأخرها، فلم يشعر بذاته، عقله قد لُغي وكل ما يراه معصية، ذنبًا كبير، شيطان يصطحبه لجهنم، تناسى انها حتى زوجته، وإن كان لا يتقبلها او لا يكن لها حب أو مشاعر!
غمس أصابعه بين خصلات شعرها الأصفر وجذبها للخلف بعنفٍ كاد باسقاطها أرضًا، وعصبيته تتفرد بصوته القابض: ما الذي تفعلينه بحق الله! ألا يكفيكِ ما فعلتيه بيني وبين أبي؟
رددت بدهشة: هل كان هذا الإرهابي أبيك؟
كور يده بعنفٍ حتى لا يصفعها، فألقاها أرضًا أسفل قدميه وصرخ بانفعال: أبي ليس إرهابيًا، فكري مرتين قبل التفوه بأي لفظًا أحمقًا.
تساقطت دموعها تباعًا وهي تراقبه يجوب الطرقة ذهابًا وإيابًا ليحارب اعترافها بحبه، إذًا الأمور تخرج عن السيطرة وخاصة بما تجرأت بفعله منذ قليل.
توقف قبالتها فجأة وقال: اسمعي من المستحيل أن يكون بيننا شيئًا، لقد انتهت مهمتي، أنقذت حياتك من عمك وبذلك أكون قد وفيت بوعدي لأخيكِ.
وشدد على كل حرفٍ يخرج منه: إليكِ ما سيحدث الإن، ستعيشين هنا بضعة أشهر إلى أن أتدبر لكِ عملًا وسكنًا بلندن وحينها سأنفصل عنكِ وسينتهي كل ذلك.
وأشار لباب غرفته بتحذيرٍ قاطع: لا تطرق بابي مجددًا سمعتي!
وتركها وولج للداخل يغلق الباب من خلفه، تراجعت آديرا للخلف مستندة على الحائط، تضم ذاتها المبعثرة بيدها، ودموعها تنهمر دون توقف.
كانت تظن أنه الوحيد الذي تمتلكه في هذا العالم، لم يعد لها أي شخصًا سواه، وها هو الآن يخبرها بأنه سيرحل هو الأخر عنها، ظنت بأنه سيعبر بها لطريق دينه، وحينما تصبح ما يريد سيبادلها حبها، فهو على الأقل يعاملها برفق ولين.
نصف ساعة قضتها أمام باب غرفته، تجلس أرضًا وتطلق كل دموعها، كأن زمانها توقف وانتهى هنا، لم يبقى لها شيئًا لتظل بهذا المكان، كان يلقي عليها بأنها السبب وراء غضب أبيه وخراب حياته حتى دون نطقها صريحة لذا كما قال لقد فعل معها ما وُكل به حينما قام بحمايتها لذا عليها أن تنسحب من حياته دون أن تغرقه بمشاكله بسببها.
نهضت آديرا تزيح دموعها ببطء، نزعت عنها قميصه ووضعته على مقبض باب غرفته، ثم فتحت باب الشقة بهدوءٍ حتى لا يستمع له، وأطلقت العنان لساقيها غير عابئة بأنهم الآن بعد منتصف الليل!
خارج الحارة، وخاصة بالقرب من النيل، كان يجلس يُونس ولجواره إيثان، يقص له قصة زواج آيوب بآديرا، كل ما أخبره به آيوب سابقًا قص له، فتطلع له بدهشةٍ وقال: وليه مقولتليش يا إيثان، جاي دلوقتي وتحكيلي!
أجابه ساخرًا: على أساس إنك خارج من خمسين سنة، يابا إرحمني إحنا كلنا جوانا أسرار محتاجين نخرجها ليك بس الصبر إنت لسه طالع وواكل المر فمش هنشربهولك احنا.
دفعه من جواره بغضب: تصدق إنك حقير. قوم خلينا نروح الساعة بقت داخلة على 1 واحنا قاعدين القعدة دي، وبكره إن شاء الله هروح لآيوب وأخده ونروح لعمي، أكيد هيهدى لما يسمع اللي حكتهولي ده.
استقام بوقفته ينفض ثيابه من غبار الاريكة الأسمنتية، ولحق به في طريقهما للعودة.
شعر بأنه تمادى بحديثه، لقد هانها وجرحها وهو الذي لم يعتاد على فعل ذلك، خرج آيوب من غرفته فوجدها تترك قميصه على بابه، فظن بأنها فعلت ذلك من شدة حزنها.
إتجه لغرفتها وطرق بابها مرتين دون أن يستمع سماحها بالدخول أو حتى صوتها، فقال بارتباكٍ وضيق: حسنًا آديرا لقد أخطئت لم يكن على أن أحدثك بتلك الطريقة، أعتذر منكِ.
وعاد يطرق مجددًا: كنت غليظًا أعلم ذلك ولكني لم أكن مدركًا لما أتفوه به، اخرجي لنتحدث قليلًا.
وكأنه يخاطب ذاته، طرق مرة أخرى وقال يهددها: حسنًا أن لم تخرجي الآن سأغادر وأتركك وحيدة مجددًا.
السكون الغريب هذا جعله يرتاب مما ينتابه بتلك اللحظة، ففتح غرفته وولج يبحث عنها، صعق آيوب حينما لم يجدها، فخرج يبحث عنها بالشقة بأكملها وهو يصيح بفزعٍ: آديرااا.
انتهى به المطاف بمنتصف الردهة، مرر يده بين خصلات شعره بعنف وهو يهتف بتوتر: أكيد مشت بعد الكلام الغبي اللي قولته، ازاي بلبسها والوقت ده!
راكض آيوب للخارج، والهلع يجتاح به، يكاد أن يصيبه نوبة قلبية حادة، لا يريد تصديق بأنه فرط بأمانة صديقه بتلك السهولة، قدم لها الحماية في بلاد الغرب وأتى بها إلى هنا ليخسرها بتلك الطريقة!
وقتًا متأخرًا كذلك، ثيابًا عارية مثل التي ترتديها، شعرها الأصفر وملامحها الغربية جعلتها عرضة لمجموعة من شباب الحارة الفاسدون، من يقضون ليلهم يرتشفون المحرمات على ناصية الشوارع، وكأن الليل خُلق لمفاسدهم الدنيوية.
رأها أحدًا منهم فصاح بأصحاب السوء: ملي عينك يا تابلو المزة اللي جاية علينا دي!
نهض عن سطح سيارته المكشوفة، ينفث سيجاره بنهمٍ، فلعق شفتيه وهو يردد: شكلها حتة خواجاية، بس أيه جايبها الحارة هنا عندنا!
ضحك أحد منهم وقال وهو يهتز من فرط الخمر الذي ارتشفه: رزقنا وجالنا لحد هنا!
ألقى تابلو سيجارته وكان أول من اقترب منها، فمسك معصمها وقال: على فين العزم يا جميل؟
Let me go. (دعني أذهب)
ضحك مستهزءًا، ومرر يده على بشرتها البيضاء: دي بترطم انجليزي يا زميل!
استند على، كتفه وتجرع ما بالزجاجة: مش قولتلك خواجاية!
ومرر بصره فوق جسدها بشهوةٍ وضيعة: بس أجمل من كده في الخواجات مشفتش، ما تيجي سكة يا مزة.
ودفعها بالقوة وهو يشير لمن يحتلوا السيارة من الخلف: انزل يالا منك له.
هبط الاثنين عن مقاعدهما، وحاول ذلك اللعين جذبها لسيارته فصرخت به: اتركني!
دفعها بعنفوان بالمقعد الخلفي من السيارة، واعتلاها بالقوة وهي تصرخ وتركله بساقيها، تبكي بقهرٍ وقد تفنن هو بأن يذقيها كل مهانة قد تحصلها بلمساته المقززة فوق ما ترتديه، فأبعدت يده ومازالت تصرخ بجنون، فأمسك وجهها ورطمه بالسيارة مرتين متتاليتين، جعلت وجهها يلوثه الدماء، فخدش بشكلٍ عنيف.
توقف عن المضي قدمًا، محاولًا الانصات لمصدر الصوت، فتوقف الأخر جواره متسائلًا باستغرابٍ: وقف ليه؟
رد عليه ومازال يتلصص لسماع أي شيء: في حد بيصوت!
ضحك رفيقه وطوفه بذراعه بمشاكسة: مين اللي هيصوت في الوقت ده يا يونس!
كاد أن يتبعه ولكنه تراجع هاتفًا باصرار: ده صريخ واحدة ست يا إيثان.
وتركه وهرول تجاه الشارع الجانبي، فلحق به إيثان حتى تواجد بمكان سيارة تابلو، فاتجه إليهم وقال: بتعملوا أيه؟!
كانت السيارة مكشوفة، فتمكن كلاهما من رؤية فتاة يحجب وجهها الدماء بشكلٍ جعلهما لا يتعرفان عليها.
أتى إليه أحد الشباب الأربعة وقال: امشي يا كابتن وخد معاك صاحبك، دي مصلحة وتلزمنا.
منحه إيثان نظرة مستحقرة، وأحاط يونس وهو يجذبه: يلا يا يونس.
رفض الانسياق من خلفه وقال وعينيه متعلقة بالفتاة الصامتة، رأسها يهتز يسارًا ويمينًا من أثر اصطدام رأسها: بس يا إيثان البنت دي شكلها مخطوف واللي بيعملوه ده غصب عنها.
ألقى عقب السيجار ودنى إليه يقول بوقاحة: اسم يابن الشيخ خد أخوك وامشي، دي واحدة شمال زرجنت بس عشان البقشيش مش مالي عينها، فخدت اللي فيه النصيب عشان متطمعش بعد كده.
أحاطه يونس بنظرة منفرة، وصاح بعصبية: وقذراتكم دي طايلة الحارة ليه! مالكمش كاسر يعني!
دار بجسده يسارًا ويمينًا من أثر الخمر: ما تبعد يا عم واحنا هنتحرك من الحارة الطاهرة، بس ميل في جنب.
فتحت آديرا عينيها فلمحتهما، تعرفت على إيثان من بينهما، فرددت بصوت شاحب ولكنه كان مسموع لهدوء أجواء الليل من حولهم: إيثان!
ضيق عينيه بدهشة، وفي لمح البصر كان بالجانب الأخر من السيارة، دقق بوجه الفتاة ورفع بصره المصعوق ليونس الذي يدرس تحركات الأربعة بتمعنٍ، ليفق على صوت إيثان: دي آديرا مرات آيوب يا يونس!
احتقنت مُقلتيه وبرزت بشكلٍ مخيف، تفنن بلكمته لذلك الذي كاد بأن يعتلي مقعد السائق ليفر بالسيارة، بينما اشتبك إيثان مع الملق بتابلو، سحبه زحفًا خارج السيارة، وعلى الرغم من انه كان الزعيم بين اصدقائه لقوة بنيته وبلطجيته الدامية الا أن إيثان كان يبدد كل قواه، فإن تدرب القتال على يد أحدهم كان هو من قام بتدريب هذا الأحدهم الأبله.
جسده الضخم هاله ليسقطه أرضًا، ملقيًا جسده ليونس الذي فرغ من أشباه الرجال، فسقطوا أمامه سريعًا بسبب الخمور التي أضعفتهم أمامه، سدد يونس أغلب ركلاته بأسفل بطنه وهو يصرخ به: يا قذر يا زبالة نجست الحارة بأفعالك القذرة يا، بتتعدى على حريمنا في وسط مكانا يا.
أسرع إيثان للسيارة يتفحص تلك المستلقية على الأريكة بانهيارٍ تام، شملها بنظرة خاطفة فوجدها سليمة معافية الا من بعض الخدوش بوجهها ورقبتها، بحث من حوله عما يمكن تغطيتها به، فلمح يونس يرتدي جاكيت أسود فوق التيشرت الصيفي الذي يرتديه، فصاح له: يونس محتاج الجاكت بتاعك.
خلعه عنه وألقاه له، تنحى إيثان عن السيارة ومد يده للداخل حتى لا يجرح خصوصياتها قائلًا: ارتدي هذا آديرا.
جذبته منه ووضعته فوقها دون أن ترتديه، زحفت بضعف حتى خرجت أمامهما، فاستدار لها يونس وقال بغضب: ماذا تفعلين بالشارع بتلك الساعة المتأخرة؟ وأين آيوب!
انسدلت دموعها ولم تجيب، تاركة دمائها تختلط مع دموعها باستسلامٍ قادها ان تستدير عنهما وتستكمل طريقها المتهدجة وكأنها على وشك أن تنال موتة رحيمة.
لحق بها يونس ومن بعده إيثان الذي قال: توقفي، إلى أين تذهبين طريق العودة ليس من هنا؟
واقترح عليها عساها تتوقف: انتظري سأتصل بآيوب.
وما أن أخرج هاتفه حتى جذبته من يده تخبره بصوتٍ اختفت بحته: لا أريده. دعني وشأني.
وتركتهما ومضت قدمًا، فاعترض يونس طريقها غاضبًا: وإلى أين ستذهبين؟ هل تريدون ما حدث منذ قليل أن يتكرر معكِ مجددًا؟
ضمت جاكيته بخوف حينما ذكرها بما كان سيحدث معها، ورأسها ينفي بجنونٍ، فتابع: حسنًا لنذهب.
وجدت نفسها تعود خلفهما مجددًا، لقد تأكدت بعد تلك المدة أن كل شخص يعرف آيوب وسبق له رؤيته برفقته فهو آمينًا، حتى ذلك الشرس الذي كانت تهابه كان لطيفًا بالنهاية، وذلك الأيثان والرجل الاخر الذي كاد بضرب آيوب قبالتها هما نفسهما من دافعا عنها حتى الرمق الاخير.
توقفت حينما توقفا، فرفعت رأسها تحاه المبنى فإذا بهما عادا لنفس العمارة، تراجعت للخلف وهي تشير ببكاء: لا أريد العودة إلى هنا، لا أريد رؤيته مجددًا.
سألها يونس باستغراب: من تقصدين؟
آديرااا.
قالها آيوب الذي هرول إليهم، بعدما لف حول العمارة لمرته الثالثة على أمل أنها تحاول العودة، فما أن رآها حتى هرول إليهم، فصعق مما رآه، وجهها يغطيه الدماء وعينيها يصيبها كدمة زرقاء تغلق آحدهما، عينيه تتوزع بين وجهها وجاكت يونس المحاط بها، لا يعلم كيف استجمع قوته ليقترب منهم، فردد بارتباك: مين اللي عمل فيها كده؟
ما أصعب أن يصيب رجلًا بجرحٍ يمس عرضه وشرفه، وأكثر ما يقدر ذلك الذي نالته تلك النيران، يونس الذي قتل كل يوم لاجل ما فعلته به زوجته، فسارع بقوله: متقلقش يا آيوب محدش لمسها، أنا وإيثان كنا سهرانين ومعديين بالصدفة فسمعناها واتدخلنا بالوقت المناسب.
راقب وجهها بجمراتٍ مشتعلة، فتركها واتجه لابن عمه يسأله بثبات مخيف: مين اللي عمل فيها كده يا يونس؟
رد إيثان: ما خلاص يا آيوب ربناهم ومبقاش فيهم حتة سليمة عايز أيه تاني! ثم انك ازاي تسيبها تنزل في الوقت ده وأيه اللي مخليها مش عايزانا نكلمك ولا نجيبك هنا!
أخفض عينيه أرضًا بحزنٍ عما كان السبب به، فرفع يونس يده يمسك كتفه الايسر وقال: أنا عرفت الحقيقة من إيثان وفخور بيك يابن عمي، كفايا إنك كنت السبب في قتل اليهودي ده، صدقني الشيخ مهران لما يعرف اللي عملته وإن في شخص مات وهو على الدين الاسلامي بفضل الله ثم فضلك هيفتخر بيه وهيحس باللي أنا حاسه، سيبه يهدى النهاردة بس وبكره هعدي عليك ونروح نتكلم معاه وتقوله كل حاجة.
هز رأسه ببسمةٍ رسمها بالكد، فوداعهما وغادروا، استدار آيوب لاديرا فوجدها مازالت تقف كما هي، عينيها أرضًا لا تكف عن البكاء.
اقترب منها وقال بحزن عميق لمسها: أعتذر عما تفوهت به، أخر ما أريده أن يطولك السوء!
وحينما لم يصدر عنها شيء، أمسك يدها وناداها: آديرا؟
سحبت كفها ودموعها تختزل داخل حدقتيها، فنغزت قلبه بوجعٍ بات كالشوكة العالقة بين ضلوعه، رفع ذراعه ووضعه حول كتفيها يحثها على الصعود، انصاعت إليه كالربوت المتحرك دون أي احساس.
صعد بها لغرفتها فتحركت للفراش وجلست بهدوء، أما هو فأسرع للمرحاض يبحث عن عُلبة الاسعافات الأولية.
عاد لها فوجدها تجلس كما هي، انحنى أمامها يزيح خصلاتها للخلف، وجذب المنشفة يمسح الدماء ليتمكن من رؤية أماكن اصابتها.
إلتاع قلبه وجعًا يفوق قوته، حينما وجد جروحًا ليست هيئنة شوهت وجهها بأكمله، غمس القطنة البيضاء المعقم ووضعه بجروحها، وللعجب لم تصرخ ألمًا، كانت متجمدة دون حراك، دموعها فقط من كانت مؤشر صريح بأنها على قيد الحياة.
انتهى من وضع اللاصقات الطبية على وجهها، وحينما انتهى نهض يجلس جوارها على الفراش، يتكئ بجسده العلوي للامام، واضعًا رأسها بين يديه، يحاول السيطرة على غضبه، يود لو ذهب الآن لمن فعلوا ذلك فينهش لحمهم أحياء.
استدار بجسده لها وناداها: آديرا. أخبريني ما الذي حدث؟
أرغمها على التطلع إليه واسترسل: إلى متى ستخالفين حديثي! إن لم يكن يونس وإيثان هناك لكنتي الآن مقتولة آديرا!
ابتسمت بمرارة، ورددت: ليتهم فعلوها ربما كنت ستتخلص من مسؤوليتي التي فُرضت عليك.
وتابعت وهي تتمدد بالجاكيت على الوسادة بارهاق: لا تقلق، بامكانك اصطحابي غدًا لأبيك سأخبره بأنك تشفق على ولا يربطك بي أي علاقة.
أدمعت عينيه تأثرًا، فجذبها لتجلس قبالته مجددًا، وقال وهو يدعي اتزانه: انهضي، اغتسلي وأبدلي ملابسك.
همست له بتعبٍ: اخرج من هنا، دعني وشأني.
وعادت تتمدد على الفراش مجددًا ودموعها تنهمر على الوسادة أمامه، اختبر العجز أمامها ولا يعلم ماذا يفعل ليطيب جرحًا كان هو السبب به.
وجد نفسه يزحف للفراش حتى بات جوارها، وبتردد مد يده ومررها على شعرها الطويل من خلفها، هامسًا لها: اهدئي، لقد مر وانتهى! إنتِ هنا الآن، لن يمسك أحدًا أبدًا طالما أنا على قيد الحياة، أعدك أنني لا أفترق عنكِ آديرا.
كانت بحاجة لسندٍ، لضمة حنونة، حتى وإن كان عمها وعدوها اللدود عرض عليها تلك الضمة ما كانت رفضتها قط.
تقلبت بالفراش، فباتت قبالته وبصعوبة رددت: هل يمكنك أن تحتضني؟
فرق ذراعيه وضمها إليه، فألقت على صدره وابل من دموعٍ أحرقته ونهشته كالذئب المفترس، لأول مرة يشعر بأنها رقيقة هاشة المشاعر، ظنها جامدة لا تتأثر بأي شيء.
ربت على خصلاتها وأخذ يردد القرآن الكريم بصوتٍ مسموع لها، مضت الدقائق وقد هدأت وصوته العذب يطربها، وحينما صدق وانتهى من التلاوة وجدها تعود بوجهها إليه وتقول: أعدك أنني لن أرتدي مثل تلك الثياب مجددًا، وإن رأيت الشيخ مهران أقسم بالله سأعتذر له عن وصفي له بالإرهابي وسأتوسل ليصفح عنك!
اتسعت ابتسامته حينما رددت نفس حلفانه بالله، فمرر يده على خصلاتها مجددًا وقال: أنا أعلم بأنكِ من الداخل مختلفة عما أنتِ عليه، هناك بعض الاشياء التي لا تعلمين عنها شيئًا، إنتي لستِ آديرا، لست عبرنية.
وازاح جاكيت يونس عنها، ليصل للسلسال الموضوع خلف رقبتها، رفعه نصب أعينها قائلًا: إنتِ سدن، سدن المسلمة!
عاد يونس لمنزله، كان بطريق الصعود للأعلى، فإذا بالباب يُفتح من أمامه ليطل عليه فارس، تعجب من أنه مازال مستيقظًا، فاتجه إليه وانحنى قبالته يمر بيده يين خصلاته البنية: أيه اللي مصحيك لحد دلوقتي! وخارج تتسحب كدليه يا شقي!
ابتسم فارس وقال: مكنش جايلي نوم وطلعت اتفرج على توم وجيري بره من ورا ماما، فسمعت صوتك طالع قولت أقولك تصبح على خير قبل ما تنام.
رفع إليه وطبع قبلات متفرقة على وجهه وهو يقول: هصبح على خير أجمل من الخير اللي دخل عليا، طيب قولي في أجمل من كده!
قهقه الصغير بصوتٍ صاخب، فأشار له يونس بتحذير مضحك: هوووش هووش الجيران هيعملولنا محضر ازعاج!
مال الصغير على كتفه وقال: ينفع تاخدني معاك فوق أنا مش جايلي نوم وماما بتأخد دواها وبتنام وبتسبني.
برق بدهشة، وسأله: هي مش ماما وأهلك مسافرين!
هز رأسه نافيًا وقال: لا ماما هنا جوه، نايمة في أوضة الحاجة رقية، بس تعبانه ومش بتتحرك كتير.
اندهش من اخفاء عمه وزوجته لذلك ولكنه لم يعلق، فاحتضن الصغير وقال؛
طيب يا حبيبي ما ممكن مامتك تقلق عليك، أيه رأيك تروح تقولها وتيجي.
هز الصغير رأسه وما كاد بأن ينخفض عن ذراعيه حتى تسلل لهما صوتًا متلهفًا، باكيًا يصيح بجنون: فارررررس!
الصوت مألوفًا له، اختزل داخله كل ذكرى اجتمعت كالرزاز داخله، انحنى ذراعيه عن الصغير يضعه أرضًا، والتفت خلفه ببطءٍ، ربما نسجت ذكرياته صورة واهمية لها، ولكنها بالنهاية تقف أمامه، مستندة على الباب وجسدها محاط بالجيبرة المعلقة باحدى ذراعيها، هي بنفس نظرات عينيها، شعرها المسترسل من خلفها، ملامحها التي من المحال أن ينساها.
صدمتها وجحوظ عينيها أمامه أرضخ له عقله وجعله يستوعب إنها ليست حُلمًا، هي حقيقة أمامه وما أبشع الحقائق حينما تضرب واقع مدمر بالفعل وليس بحاجة لشييء يزيد من اختناقه، بل هو بتلك اللحظة يخضع لأصعب عملية جراحية قد تصيب القلب، وربما ينتهي الأمل بانذار صفارته المزعجة تعلن انتهاء حياة ذلك المسكين البائس!