رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والتسعون
قهر الرجال ليس هينًا بالمرة، وما يفوق وجعه بتلك اللحظة أنه ليس رجلًا عاديًا، هو من أكفئ الظباط، تدرب ليكون دائمًا في صدارة حل أي موقف قد يتعرض له، وها هو يفشل لمرته الثانية في إنقاذ حياة زوجته!
اغتمره شعور العجز والخذلان، مرارة من قلة الحيلة التي يعهدها للمرة الثانية، ولكنها كانت الأكثر ألمًا، وقتما فقد بصره لم يكن بصير بأنه سينخضع لمثل ذلك الموقف، بل زاد من عجزه وقلة حيلته بشكلٍ جعله يود لو أنهى حياته برصاصة الرحمة التي تنجو الفرس الأصيل من عيش حياة بائسة، ولكنه حتى إن وصل لذلك المطاف ليس كافرًا ليضحي بحياته ودينه بعدما كان بطلًا عظيمًا، يفصله بين الشهادة شعرة، انقطعت حينما عاد مجددًا للحياة.
تحلى بعزيمته ونهض يتحسس الخزانة، حتى وصل للتجويف السري بها، فجذب أحد أسلحته وعاد يسلطه على فتحة المقبض، بعدما سدد كاتم الصوت به، ولكنه توقف حينما حسب محل وقوع الباب المقابل للبانيو الداخلي بالتحديد.
مال بجيينه على الباب وقال ودموعه لا تتوقف: شمس، مش هقدر أضرب الباب وأنا مش عارف مكانك، عشان خاطري حاولي تساعديني!
لم تستجيب لأي من نداءاته مما زاده قلقًا وفزعًا عليها، ترك سلاحه يتهاوى أرضًا أسفل قدميه، وحاول أن يعود باحثًا عما سيستخدمه ليفتح الباب بسهولة مثلما دربه الجوكر، ولكنه لا يبصر حتى محتويات الغرفة من حوله، كل ذلك يزيد من عجزه ويزداد معه فتيل الوجع الذي سيطر كليًا عليه، فعاد يترنح أمام الباب وقد استسلم لعجزه التام، كأنه انخضع لذلك الظل الأسود، الذي جرده من كل أعماله البطولية، ومهاراته الجسدية، فبات شبه فاقد للحياة!
ترنح له صوت دقات باب الغرفة، يتبعها صوتًا رجوليًا يعلمه جيدًا: آدهم.
عقله لغي تمامًا التميز بين صوت المنادي، خشى أن يكون آيوب هو من بالخارج، سيضع بأصعب اختبار قد يمر عليه، بين غيرته الشرقية وبين حياة محبوبته، كيف سيسمح لأخيه أن يراها بمثل هذا الوضع، سيتقبل موته في سبيل أن لا يرى جنس الرجال خصلة من شعر زوجته، ولكن الامر ليس متعلق بروحه هو بل روح من غرق في عشقها حد النخاع!
تهدلت رقبته واندثت أرضًا، مصطحبة معها دمعة العجز والألم، وهمسًا خافت: يا رب.
تعالى الطرق مجددًا، وقد أتى الصوت المنادي أكثر وضوحًا: شمس إنتوا نمتوا ولا أيه؟
الصوت كان ل علي، أشرقت ملامحه البائسة، فاستعاد قوته حتى وقف على ساقيه، ودنى من باب الغرفة يردد: علي!
تعجب علي من سماع صوت آدهم المتلهف، ولكنه احتفظ بخصوصياتهما ورفض فتح باب الغرفة دون إذن صريح منهما، فاتاه صوت آدهم يتساءل: إنت لوحدك؟
رد عليه والاستغراب يتخلله: أيوه لوحدي، إنت قلقتني في أيه؟
تحرر باب الغرفة، فظهر آدهم من أمامه بوجهه الباكي، وقطرات الدماء التي بللت الشاش المحاط لمنتصف صدره العاري، صعق على ومد يده يتأمل جرحه هادرًا بقلقٍ: أيه الدم ده؟ أنت عملت أيه يا فتحلك الجرح بالشكل ده يا آدهم؟!
أبعد يده عنه وأشار لباب الحمام بضعف: شمس، إلحق شمس.
ارتاب على لما يستمع إليه، فسلط نظره على باب الحمام، وسريعًا ما فسر عقله كل شاردة وواردة تحدث أمامه، فهرول إلى الباب يناديها بفزعٍ: شمس!
اتبعه آدهم بصعوبة ومازال على يجاهد لكسر الباب، الذي كان من الصعب سقوطه، لتطور تصنعيه الحديث، فكان مصفحًا بالكامل، وصل له آدهم وقال وهو يبتلع مرارة ريقه المؤلمة: مش هتقدر تكسره، أنا هعرف افتحه، محتاج بس حاجة سنها حاد.
استدار إليه وأسرع بقوله: زي أيه؟
عمل عقله بسرعة وسأله: معاك كريدت كارد؟
هز رأسه وهو ينتشل محفظته الفخمة، يخرج منها عدد من البطاقات الخاصة بحساباته البنكية، قدم له أول ما تلقفته يده، وهو ينطق بدهشة: هتفتح باب زي ده إزاي بالكريدت كارد!
وقد أتاه ردًا مفاجئ حينما انفتح الباب من أمامهما فور أن استخدم آدهم ما بيده ببراعة أدهشت علي ولولا قسوة اللحظة لكان عبر عن إعجابه بما أبداه، ولكنه لم يرى الا شقيقته الفاقدة للوعي، فأسرع للداخل يهتف في صدمة وهلع: شمس!
بينما مال آدهم للخارج يستند على الحائط وهو يسيطر على دموعه، لا يود السقوط الآن، يحاول السيطرة على ذاته قدر المستطاع، ولكن الموقف يزداد صعوبة وبصعوبته ينخر جرحه الغائر.
حملها علي وخرج بها للفراش، تفحصها وقال وهو يخرج هاتفه ويبتعد عن السرير: في جرح صغير في رأسها ممكن هو اللي سبب الاغماء، لكن جرح رجليها كبير أعتقد هيحتاج خياطة.
واستدار يسلطه بنظرة حزينة، ثم قال: وإنت كمان محتاج دكتور حالا، أنا هكلمه.
نجح آدهم بالوصول للفراش، مسد بيده عليه حتى وصل لها، لامست يده كتفها العاري، فاستطاع أن يتبين ما ترتديه زوجته في تلك اللحظة.
غلت الدماء بعروقه وفي لمح البصر كان يسحب الغطاء عليها، وعينيه محمرة بغضب لم ينجح بالسيطرة عليه، حتى حقيقة أن على شقيقها الأكبر لم تنجح بتهدئته بالمرة.
وأخيرًا تخلى عن سكونه الخطير، مرددًا بخشونة: علي. عايز لبس لشمس!
هدوئه الغامض، نظرات الغاضب الدفينة بعينيه، انقباضات عضلات صدره وجسده، كانت مفهومه لطبيب ذكيًا بقدر علي الغرباوي، وقد كان بارعًا مثلما اعتاد بالتعامل، فجذب ملابس لشقيقته ومنحه إياها قائلًا وغصة حزنه بارزة بوضوح: مفيش شبكه هنا هطلع أكلمه من بره.
وتركه وغادر للخارج، تاركًا له مساحة خاصة، بالرغم من كونها شقيقته ولكنه يحترم كل مشاعر آدهم.
جذب آدهم المناديل الورقية يكبت بها جرح قدميها، وقد نجح بصعوبة بمعاونتها بارتداء ملابسها حتى أن جرحه الذي نزف بشكلٍ ألمه من كثرة الحركة، فلقد شعر بتدفق دمائه من اللحظة التي ارتطم بها بالخزانة وسقط أرضًا، والآن يزداد الألم.
تأكد من وضع حجابها جيدًا، وحينها تمدد جوارها بتعبٍ، ربما وجع جسده كان مؤلمًا ولكن وجع قلبه تأذي مشاعره فاق الحد!
دقائق وحضر الطبيب الذي عالج جرح قدمها، ورأسها، وبث لهما الطمأنينة عليها، بل وفجأهم أن آدهم هو من يجب معالجته سريعًا لخطورة اصابته، بل ونصحهما بالعودة به للمشفى الذي اجرت له الجراحه، ولكن آدهم أنهى التقاش بشكلٍ عنيف فاجئ علي: مش هتنقل من هنا لأي مكان، حابب تكمل شغلك على كده تمام مش حابب تبقى مشكور على معالجتك لمراتي وتقدر تتفضل.
حانت من الطبيب نظرة إلى علي، الذي قال باحترامٍ لطبيبه الذي أتى من مركزه الخاص ليسعفه بهذا الموقف الحرج: معلش يا دكتور سيادة الرائد مش بيحب قاعدة المستشفيات، تقدر حضرتك تعقم جروحه وتتأكد إن مفيش فتح بالخياطة، وأي تعليمات حضرتك هتقولها هتتنفذ بإذن الله.
هز الطبيب رأسه بتفهمٍ، وشرع بتضميد جروح آدهم، وفور أن انتهى قدم لعلي روشتة الدواء ثم استأذن بالانصراف.
بدأت شمس باستعادة وعيها، ضمت كفها لجبينها وخرج عنها صوت التأويهات، وتمتمت بعدم وعي: آدهم. آآآه، آدهم.
أغلق عينيه يحتبس وجعه بداخله، يود لو يغادر الجميع عنه في تلك اللحظة، اقترب علي منها يعاونها على استعادة وعيها، فما أن تقابلت عينيها به وتنشطت لها ذاكرتها، حتى تفقدت ذاتها على استحياءٍ، بينما يعود على لتكرار سؤاله: إنتِ كويسة؟ لو حاسة بأي تعب قوليلي!
كان آدهم يعلم ما بها بتلك اللحظة، فازداد قهره وحزنه عليها، مهما امتلك على وعُمران الحق بها، يعلم بأنها ستخجل منهما بذلك الموقف بكل تأكيد، هزت شمس رأسها وقالت: أنا كويسة يا علي، أنا بس اتجرحت من الازاز اللي وقع ومقدرتش أقف على رجليا فوقعت، بس الحمد لله انا كويسة جدًا.
واستدارت تجاه آدهم الصامت، فلاحظت تبديل الضمادات والاخرى موضوعة على الكومود، تكاد تعتصر من كثرة دمائه، فتقوست بجلستها إليه وهي تتفحصه بهلعٍ: آدهم ماله؟ وأيه الدم ده؟!
رد عليها آدهم بهدوء: أنا بخير يا شمس، ارتاحي إنتِ.
مدت يدها لذراعه، تعانق كفه بحزن، فلم يستجيب للمسة يدها، بالعادة كانت أصابعه تعانق أصابعها، ولكنها بتلك اللحظة شعرت بجفاء مشاعره.
سحب آدهم كفه وحاول النهوض، فأسرع على إليه يسأله باستغراب: على فين يا آدهم؟ مش الدكتور لسه منبه عليك إنك متتحركش!
رد عليه بصوتٍ احتقن بالألم: هروح أوضتي القديمة، شمس تعبانه ومحتاجه ترتاح، وآيوب زمانه على وصول، مش هينفع يقعد معايا وهي نايمه جنبي بالشكل ده.
هز على رأسه وقال بتفهمٍ: عندك حق، طيب اسند عليا.
أوقفتهما شمس حينما قالت بضيق: خليك يا آدهم، انا هروح لاوضتك وخليك في الجناح، وبعدين أنا كويسة والله مش هنام طول الوقت يعني.
قال دون أن يستدير إليها: الدكتور قال إنك مينفعش تدوسي على الجرح يومين على الأقل، هنا هترتاحي أكتر.
وخطى جوار على حتى خرج من الجناح، فأتاه صوت آيوب الذي خرج للتو من المصعد: آدهم!
هرول إليهما يتفقده بقلقٍ آجتازه، حينما وجد التعب يبدو عليه عما تركه بالأمس، التقط ذراعه الآخر يسانده قبالة علي، وتساءل بارتباكٍ: حصل أيه يا دكتور علي؟ البواب بيقول إن الدكتور لسه خارج من شوية، أنا سايبه إمبارح كويس.
أجابه على بابتسامته البشوشة: متقلقش، الدكتور طمنا عليه، هو بس محتاج يرتاح شوية.
أحاط آدهم كف آيوب بقوةٍ، جعلته يدقق فيه بقلقٍ، بينما استدار تجاه على وقال بثباتٍ مازال يتمسك به: آيوب معايا، إرجع إنت لشمس يا علي، خليك معاها النهاردة لو ينفع.
رد عليه بتأكيدٍ: هفضل معاها.
وربت على كفه وقال: متقلقش أنا جنبها والموضوع بسيط صدقني.
تساءل آيوب باسترابة: مالها شمس يا آدهم؟
ترك آدهم كف علي، وأكمل طريقه مستندًا على أخيه حتى وصل لغرفته الصغيرة، ولج معه والآخر ينتظر سماع اجابته، ولكنه صعق حينما وجد أخيه يتهاوى على الفراش بعينين غائرة بالدموع التي أخفاها طول تلك المدة.
أغلق آيوب باب الغرفة، وهرع إليه هاتفًا بصدمةٍ: آدهم!
انحنى قبالته يراقبه، والقلق يصارعه كالوحش المفترس، بينما يميل آدهم للأمام مستندًا بكلتا كفيه على ذقنه، محررًا دمعة احتقنت عينيه، ومازال آيوب يراقبه بفيروزته التي تشربت دمعات أخيه وانتقلت إليه، فسرت رعشة بصوته الباكي: مالك يا آدهم؟
رفع وجهه يقابل أخيه المنحني أمامه، وقال بهمسٍ مؤلم: مش هقدر أكمل مع شمس يا آيوب.
جحظت مُقلتيه في صدمة، وهدر: أيه؟!
هز رأسه وبدموعٍ انسدلت على وجهه، قال مبتلعًا غصته القاتلة: أنا هطلقها!
وبعدين يا يوسف، الليل هيدخل علينا وسيف مش راضي يفتحلنا، أنا جوعت!
قالتها ليلى بغضب، لذلك الذي يغفو على أحد المقاعد ساندًا قدميه على المكتب، فتنهد وهو يخبرها بنزق: مش انا حذرتك من الأول وإنتِ مسمعتيش مني، شوفي بقى مين اللي هيطلعنا، ده حاطط كرسي وقاعد قدام الباب حراسة!
اتجهت إليه حتى جلست قبالته على سطح المكتب، وقالت بنفور: ده جزاتي يعني إني كنت بحاول أحل المشكلة اللي بينه وبين مراته!
ضحك وهو يشير لها على المكتب الذي يقابله: وإديها أهي العروسة نايمة ولا همها تضحياتك ولا اللي بيحصل من الأساس!
خطفت نظرة لزينب التي تستند برأسها على سطح المكتب، وتغوص بنومها المريح، احتقنت معالمها غضبًا منها، وما كادت بأن تسدد إحدى الكتب إليها حتى إنفتح الباب من أمامها وولج سيف حاملًا كيسًا مغلقًا، يمنحهم نظرة ساخطة، توزعت عليهم، وانتهت بأخيه، ثم قال بعنجهية وهو يلقي ما بيده على المكتب القريب منه، حيث كانت الغرفة تحتوي على خمسة من المكاتب الخاصة بالاطباء تحت تدريب سيف: بالرغم من اللي عملتوه معايا بس قلبي للاسف طيب ومهنش عليه يسيب ابن أخوه جعان.
انتشلت منه ليلى الكيس البلاستيكي تتفقده وهي تردد: طول عمرك كريم وآآ...
تلاشت كلماتها فور أن تأملت ما بالكيس، فرفعته إليه وتساءلت بصدمة: أيه ده؟!
أجابها ببساطةٍ: سندوتش كفتة.
اجابته بنفس البرود: أعمل بيه ايه ده، أسلك بيه سناني ولا أعمل عليه حفلة جماعية مع الأخوة النزلاء اللي هنا!
كبت يوسف ضحكاته بصعوبة ومال يربت على ظهر زوجته وهو يهمس لها: معلشي امسحيها فيا أنا يا ليلى، ده عريس جديد ومعندوش لسه خبرة، بكره لما زينب تعملها هيعرف حجم الغلطة اللي إرتكبها هنا دي!
دفعته عنها وصاحت بغضب: فين الأكل يا سيف، متهزرش أنا جعانه!
أجابها بابتسامة مستفزة: مهو السندوتش ده مش عشانك يا مرات أخويا، ده زي ما قولتلك لحبيب قلب عمه.
توسعت حدقتيها بشكلٍ مضحك، ورددت بسخرية: حبيب قلب عمه بيفطر بسبع سندوتشات وبيتغدى بعشرة يا دكتور، إنجر هاتلي أربع خمس سندوتشات أسلي نفسي فيهم عما تعملنا أوردر الغدا.
منحها نظرة ساخرة وقال: العشم واخدك أوي.
وسحب الشطيرة من يدها قائلًا: وآدي السندوتش اللي إتكبرتي عليه، شوفي بقى هتأكلي أيه، ولا أقولك خلي الدكتور الفتان اللي جنبك يتصرف.
وأضاف وهو يشيعه بنظرة نارية: خليه يقص لسانه الطويل ويعملهولك في صينية بطاطس.
أمسك يوسف ذراعه، وهدر بانفعال: مش ملاحظ إنك زودتها حبتين، وبعدين مهي كده كده كانت هتعرف، لانك أولًا وأخرًا بني آدم غبي ولافت أنظار كل اللي حوليك لعقدتك المنيلة بنيلة، طبيعي إن الكل يستغرب ويسأل، ده الشلة كلها عارفين الحكاية جت عليها يعني.
توسعت مُقلتيه في صدمة: الشلة مين؟
حك يوسف ذقنه وهمس بصوت منخفض: عميتها بدل ما أكحلها باين!
وأشار ببسمة مصطنعة: الشلة. انا وعُمران وجمال، وآيوب ودكتور على وحضرة الظابط كده مش فاضلك غير إيثو ويونس أعتقد إن آيوب أكيد مفطمه على الليلة.
صك أسنانه ببعضها البعض، وهدر من بينهما بغيظٍ: ده أنا هشرحك تشريحة بنت ناس يا يوسف.
أشار بيده يوقفه وهو يذكره بصرامة: ولد إتجننت! متنساش إني أخوك الكبير وليا كل الاحترام يا سفيه!
تنهدت ليلى بحسرةٍ، ورددت: بيقولك هيشرحك ومجوع مراتك وابنك وأخرتها ترطم الكلمتين دول، ما تمد إيدك تشقط زمارة رقبته وتديله قلمين معتبرين عشان يرجع لعقله!
انتقلت نظرات سيف الغاضبة لها، وقال بنزق: ليه حد قالك إنهم قفشوني بجلباية مقطعة تحت كوبري 6 أكتوبر، ولا ماسك جوزك الفتان وبشرحه بدون بنج! لا خدي بالك أنا رحيم وكريم جدًا، هتوصى بجرعات المخدر على قد ما أقدر، عشان لما أستئصل لسانه استئصله بضمير.
جذبت منه الشطيرة تلتهمها بعنفٍ جعل سيف يتطلع لأخيه بخوفٍ، ومال يهمس له: دي أكلت السندوتش كله مرة واحدة!
هز يوسف رأسه مؤكدًا له، فتشبث سيف بذراعه وهدر بقلقٍ منها: هو نازل على المحطة على طول من غير تأشيرة!
مال يهمس له بتحذير مضحك: إفرج عنها بقى بسرعة قبل ما تأكلك حي، أديني أهو بحذرك!
وتابع وهو يشير على زينب الغافلة: بص وسط الصراعات والحروب دي كلها والهانم نايمه ولا على بالها.
لم يستمع لما يقوله، كان يراقب ليلى بتركيزٍ، وناوله المفتاح وصاح بخوف: خدها وإمشي بسرعة.
لمع الخبث بين مقلتيه، فسحب المفتاح وقال مدعيًا حبه الشديد له: طيب بص أنا هأخدها وامشي، وإنت خليك هنا مع زينب، متخرجش ورانا على طول استنى لما أخلع بيها وإطلع ورانا.
هز سيف رأسه ومازالت نظراته منصوبة على ليلى التي تطالعه بغضب وتحفز تام، جذبها يوسف للخارج وابتسامة الخبث تتسع على محياه، فما أن خرج بها حتى أغلق الباب عليهما بالمفتاح، وقال بشماتة: قضيها هنا إنت بقى مع العروسة، بين السرنجات والأدوية.
وتابع بضحكة ساخرة: بس إبقى خد بالك قبل ما تقعد على أي كرسي يا سيفو، الاحتياط واجب بردو.
لكم سيف الباب من الداخل وهو يتوعد له بغضب: افتح الزفت ده بدل ما أكسره على دماغك يا يوسف.
رد عليه بشماتة: جرب وحاول من هنا للصبح، إنت وهي تستحقوا العقاب ده أيه دخلي أنا والمدام في مشاكلك إنت ومراتك، بقيتوا جوه مع بعض يا تحلوا مشاكلكم يا تخلصوا على بعض ونخلص من لعبة توم وجيري دي.
وأضاف وهو يغادر برفقة زوجته: تصبح على خير يا سي?و، هشوفك بكره.
وتركه يفور غضبًا، ثم غادر على الفور ليوصل زوجته لشقتهما، ويتجه سريعًا للعنوان الاخير المُرسل إليه من قبل عُمران، حيث كان العنوان الاول يخص الشقة الخاصة بهم، وآخر رسائله كانت
«تليفونك ده لزمته أيه في جيبك؟ بقالي ساعتين ببعتلك ومبتردش، فاكر نفسك بقيت رئيس دولة وصعب الوصول ليك بروح أمك ولا أيه! انجز وتعالالي على الاسطبل اللي هبعتلك عنوانه ده، وأوعى تتأخر. ».
انتهى طريقهما أمام مدخل الحارة، أصر إيثان على إيصاله، فوقف قبالته ومازالت سيارة الاجرة بانتظاره، حتى تساءل يُونس باستغراب: هو أنت مش راجع البيت ولا أيه؟
أجابه والوجوم مازال يتخلله: لا، هروح لكريستين أطمنها، أكيد هي على أعصابها ومش هتقدر تكلمني لان موبيلها معايا.
ربت على كتفه بحنان وقال: روح طمنها وخليك حنين معاها هي ملهاش ذنب في اللي بيحصل ده.
وتابع بحزن غمر عينيه الصادقة: اللي شوفته النهاردة ده كبرني فوق عمري عمر، أنا كنت واخد خلفية عن الابتزاز اللي من النوع ده بس عمري ما تخيلت إنها توصل لكده.
وتابع وهو يتعمق بعينيه ليسترعى انتباهه لما سيقول: أنا اتصدمت لما لقيت فيديوهات متسجلة لرجالة بتتهدد زيها زي الستات، يعني الابتزاز ده مكنش طايل البنات وبس، ده طايل رجال أعمال تقال وليهم إسمهم، عاملين ليهم فيديوهات متفبركة وبيبتزهم بيها، وطبعًا بيدفعوا لانهم خايفين من الشوشرة والفضيحة.
احتقنت مُقلتيه وأظلمت بشدةٍ: إحنا باللي عملناه النهاردة قدرنا نحرر جزء صغير من الضحايا يا يُونس، لكن الباقي مصيرهم مجهول، اللي مستغربه إن الحكومة حطت قوانين وتشديدات مضاعفة بقوانين الابتزاز الالكتروني، مباحث الانترنت عادت سريعة جدًا وبتقدر تحل المواضيع دي، ف ليه مش بيلجئوا ليهم بدل ما الحال يوصل بيهم لهنا.
ابتسم بوجعٍ وهو يجيبه: عيب لما تسأل سؤال زي ده وإنت ابن بلد ومتربي في حارة شعبية، شارب فيها الاصول والتعامل الشرقي، الان دول مختارين ضحاياهم كويس أوي، مختارين وهما عارفين ومتأكدين إن أي راجل عربي دمه حر وبيغير على حرمة بيته، زي ما البنت هتسعى وهتعمل المستحيل عشان متتفضحش.
وتابع بمرارةٍ: اللي بيعملوه ده فاق الجبروت، ربنا ينتقم منهم ويريحنا من أشكالهم.
التقط نفسًا مطولًا يهدأ من أنفاسه المنفعلة، ثم قال بهدوء: يلا شوف انت رايح فين وأنا هطلع أريح شوية.
منحه ابتسامة ممتنة على ما فعله لاجله، وشاكسه: آه طبعًا محتاج ترتاح بعد المعركة دي، بس الواجب اللي عملته ده بكره هردهولك في كتب كتابك يا عريس.
تيقظ عقله لكلماته، فأشار يحذره: أوعى تتجن يا إيثان، عقد القران هيكون ببيت الشيخ مهران، بلاش تفكر مجرد تفكير بالاغاني ولا المهرجنات بتاعتك، الشيخ مهران هيطردنا كلنا بره ومش بعيد يكنسل جوازتي وكتب كتاب آيوب المسكين!
عقد حاجبيه بدهشة: هو آيوب لحق يتمم جوازته على الأولى عشان يتجوز التانية!
ضحك وهو يجيبه: عقلك راح لبعيد، هيجدد العقد باسمه الحقيقي.
هز رأسه بخفوت وعاد لمشاكسته: بيت الشيخ مهران والشيخ نفسه له كل الاحترام، لكن ده ميمنعش اني هعملك احتفال صغير جنب برج الحمام على السطوح، ومتقلقش هكتب على باب السطح غير مسموح لدخول الحريم، الحفلة للشباب فقط، ها مرضي يا عمهم؟
لوى شفتيه بازدراء وهمس: ربنا يستر!
قرارك ده ظالم لقصة الحب اللي بينك وبينها يا آدهم، أنا مش معاك نهائيًا.
قالها آيوب بضيقٍ من استسلام أخيه السريع لمجرد موقف حدث للتو، بل باشر بحديثه عساه يمحي أفكاره السيئة: وبعدين بطل تتكلم عن العجز والكلام الأهبل ده، الدكتور أكدلنا إن الموضوع مؤقت وهترجع زي الأول وأحسن.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه، وأزعن لما قال بينما يحقق انتصار غير مستحب: تقدر تضمنلي ده؟
عبث بحدقتيه غير مستوعب لما يقول: مش فاهم!
هتف آدهم بجراءة وحدة: تقدر تضمنلي إن الأدوية هتجيب نتيجة معايا او حتى الجراحة، تقدر تضمنلي إن لحد ما ده يحصل شمس مش هتتعرض لأي موقف تحتاج فيه مساعدة مني! تقدر تضمنلي إن مش هيجي لحظات بينا تحسسني بالعجز!
ترك آيوب المقعد وإتجه يجاوره بالفراش بحزن انتقل لنبرته الحيادية: لا مقدرش أضمنلك ده، بس الضمان الوحيد ليك هو حبها ليك يا آدهم، ثم إني متفاجئ من ضعفك ده، إنت إزاي ظابط بالاحتراف ده ومش قادر تدي لنفسك الثقة!
ابتسامة باهتة رسمها وهتف باحتقان: لانها تلاشت عني، خلاص مبقاش في ثقة في نفسي ولا في اللي هقدر أعمله، إنت جبت الخلاصة في جملتين يا آيوب، أنا احساسي، مضاعف لإني متعودتش إن حد يخدمني أو يساعدني في شيء، أتعودت أكون شخص مُعتمد عليه، مبيعتمدش على حد.
تلاشت عنه كل الكلمات، بل سد كل طريقًا فتحه سبيل الحديث بينهما، فلم يجد ذاته الا أن يخبره: فكر، وإعقلها صح، بلاش تتسرع عشان متندمش يا آدهم، الحب اللي أنا لامسه جواك ده عشق جنوني، مستحيل هينتهي بالبساطة دي.
وأضاف بكلمات محدودة لا تود التطرف للامر الذي يضايقه بتلك اللحظة: ثم إنك بالغضب ده كله لمجرد آن أخوها شافها في وضع ممكن يكسفها، ما بالك بقى لما تطلقها وتكون لحد غيرك، هتقدر تتقبل ده؟
اشتعلت النيران بجسده كالمدفئاة، وتحرر زئيره الخطير: آيوب!
ارتسمت بسمة راضية عن خبثه، فربت على يده وقال: متحملتش الكلام ما بالك بالفعل! فكر وإعقلها يا آدهم.
متسع هائل من المساحات الخضراء، تحيط بسور خشبي، يحيطه ألواح صنعت للسباق الخيول العربية الأصيلة، وعلى يسارها عدد من الغرف المخصصة للخيول ببراعةٍ، يمتلكها رجلًا هام من كبار رجال الأعمال، والذي يعد من أحد شركاء المهندس عُمران سالم الغرباوي، ألح عليه باستماتة ليزور مزرعته الصغيرة، يفعل مثلما يفعل الجميع، في محاولات للتودد إليه.
إستغل عُمران الفرصة، لشعوره بتقصيره الشديد في حق أقرب أصدقائه، شركاء محنته وبدايته التي رافقتهم، وها هو أول من فاز ببطولة صداقته يقف جواره، يراقب المدخل في مللٍ، تشربته لهجته: يوسف إتاخر أوي، وشكله كده مش جاي.
وأضاف وهو يقابل وقفته: هنقضيها فرجة كده، لو هنركب الخيل نركب لو هنمشي نمشي، بقالنا ساعة واقفين الواقفة دي، بنستنى دكتور الحالات المتعسرة.
طالعه برماديته الساحرة، وباستجمام قال: شوية وهيجي.
وبإقرار نهائي قال: مش هنركب غير مع بعض.
إلتقطت عينيه سيارة يوسف تقترب من المدخل، فأشار، لعمران قائلًا بحماس: شكله اللي داخل علينا ده.
اعتدل بوقفته يراقب السيارة، واتجه للعامل القريب منه يخبره بلطفٍ: جهز الخيول يا شام.
إبتسم وهو يجيبه: عنيا يا بشمهندس.
وإتجه للداخل يعد الخيول الثلاثة، بينما يسرع يوسف تجاه عُمران، يصيح دون أن يلتقط انفاسه حتى: قبل ما تتعصب وتخرجلي البلطجي حجك، لازم تعرف إني كنت محبوس في أوضة كشف بالمركز، وفين وفين لحد ما خرجت، فبلاش تساعد شياطنك وتخرج وقاحتك دلوقتي، الناس حولينا يا طاووس!
انتزع نظارته التي إرتداها منذ لحظات، وهدر فيه ببرودٍ: مين إنت عشان تعصبني! ثم أن وقاحتي مش محتاجه مجهود منك عشان تظهر، دي بريموت كنترول في إيدي أنا.
حافظ يوسف على بعد المسافة بينهما، بشكل اضحك عمران، فسيطر على ذاته وهو يدعي أنه يمارس تمارين تهدئه، هامسًا بنزقٍ: استغفر الله العظيم.
ثم أشار له بابتسامة كانت خطيرة: إنت واقف بعيد كده ليه؟ قرب تعالى!
أجابه وهو يبتعد خطوتان: لا أنا كده كويس.
تحررت ضحكاته الرجولية، وصاح بسخرية: تعالى يا حبيبي ومتخافش أنا مبأكلش عيال صغيرة.
اقتحم صوت جمال الضاحك جمعهما، فسدد له يوسف نظرة محتقنة، قبل أن يرنو إليهما، مربعًا يديه أمام صدره باستياء: آديني قربت، قولي بقى جمعنا هنا ليه في الوقت ده؟
اتاه الرد حينما اقترب منه العامل يصطحب إثنان من أجود الخيول، ويتبعه أحد العاملين بالأخير، فور أن رآهم يوسف اهتز بوقفته وأسرع يختبئ خلف جمال الذي كاد بالسقوط من الضحك.
اندهش عُمران مما فعله، ومع ذلك اقترب من الخيل، يمسد بيده على رأسه وجسده بحنان، حتى انخضع الفرس له، بينما صعد جمال على متن الخيل الآخر ببراعةٍ، ولم يتبقى الا يوسف الذي يراقبهما بذعرٍ، ازداد حينما أشار له عُمران: يلا يا يوسف.
رفرف بأهدابه بدهشةٍ مضحكة: يلا أيه مش فاهم!
رد عليه جمال وهو يضحك بقوة: هنخش الامتحان يعني! بيقولك يلا إركب ولا عايز حد يركبك يا دكتور.
أعدل من نظارته الطبية وقال بهدوءٍ ينافي خوفه الشديد: لا أنا ماليش في الكلام ده، اتفضلوا إنتوا أنا مرتاح كده أوي.
استدار عُمران إليه، وقال بحزمٍ: ما تنجز يالا، هنفضل هنا طول الليل عشان خاطر أمك ولا أيه؟ مش كفايا بنستنى جنابك من العصر، هتعملي فيها تقيل هقل منك في أرضك ووقتي!
صاح يوسف منفعلًا: متزعقش.
وتابع وهو يراقب الخيل بنظرة ترتجف من فرط الخوف: اركب إنت وسبني أتعرف على الحصان الأول، ولما نوصل لمرحلة التفاهم هتلاقيني نطيت.
زوى حاجبيه بسخطٍ: تتعرف عليه!، هو إنت هتكتب كتابك عليه بروح امك!
زفر يوسف بغضب، وهو يراقب جمال الذي ينهار ضحكًا حتى يكاد أن يسقط عن ظهر الخيل الذي يمتطيه ببراعة، على ما يبدو بأنه وذلك الطاووس الوقح لم تكن مرتهما الأولى، فأردف لعمران: اركب إنت وأنا هحصلك.
شيعه بنظرة قاتلة وهو يحرك رقبته في سئمٍ أرعب يوسف الذي يعلم المرحلة القادمة بعاصفة الطاووس، وحينما وجده يرفع جسده للخيل تنهد بيأس وهو يدنو من الخيل الأسود المخصص إليه، فتمتم بخفوتٍ: لونه أساسًا ميبشرش بالخير!
وأضاف وهو يطعنهما بنظرة مغتاظة: واللي يشوفهم وهما نازلين رن رن، يقول إنهم عازميني على أكلة مندي!
صاح عُمران بعصبية: ما تنجز يا دكتور الندامة، هنقف نستناك طول اليوم!
أجابه بعصبية تجابهه: مش شايفني بتزفت بحاول معاه عشان يرضى!
مال جمال للامام من نوبة الضحك الذي انتابته وهو يرى يوسف بحالة الجبن تلك للمرة الاولى، وبصعوبة هتف: فعلًا الموضوع محتاج تفكير، مش إرتباط ونسب وجواز! اهدى على الدكتور شوية يا عُمران.
تمتم من بين اصطكاك أسنانه: أنا مش هصبر كتير خلي بالك!
زم يوسف شفتيه بسخطٍ، واقترب من الخيل، يحاول ان يلامس جبهته التي تحمل غارة مميزة، يحاول تقليد ما فعله عُمران، ولكن على ما يبدو لم ينال ذلك استحسان فرسه الجامح، ثار بشكلٍ مرعب ورفع قدميه الأماميتين بشكل هجومي، جعل يوسف يهرول للخلف وهو يشير له بأن يتراجع ولكنه لم ينصاع إليه، فصرخ مستيغثًا بمن يراقبه: عُمرااااان إلحقني، الحصان بهشه مش بيتهش!
تلك المرة فشل جمال بالتحكم بجسده، من كثرة الضحك، فسقط عن الخيل، وتعرقلت ساقه بلجامه، وعلى الفور ركض الخيل جاذبًا من خلفه جمال المنبطح أرضًا، فصرخ ألمًا وهو يحاول تخليص ساقه المعلق بالسرج، وكل ما يتردد عليه جملة واحدة: عُمرااااان، إلحقني!
ما يحدث الإن داخل المزرعة أمرًا كارثيًا بكل المقاييس، نظرات العمال المذعورة والمندهشة تنتقل بين يوسف الذي صعد على الأرائك الخشبية يتهرب من الخيل الذي يهاجمه ويستفزه الاخير بمحاولة دفعه بعيدًا عنه، وجمال الذي يزحف جسده خلف الخيل الذي يركض بانحاء المزرعة ساحبًا جسد جمال من خلفه، وكلاهما يصرخان بإسم عُمران الذي يراقبهما بغضب شديد، يود لو أطاح عنقهما معًا ليتخلص منهما للابد.
كان يظن انهم سيقضون وقتًا مسليًا، حتى أنه كان يعد لحفلة شواء صغيرة مثلما كان يفعل، ولكنه وبتلك اللحظة فقد مذاق كل شيء حتى الحياة نفسها!
تدخل العمال على الفور، فأسرع إثنان منهما يسحبان السرج الخاص بخيل يوسف، وبصعوبة تمكنوا من ردعه، وسحبوه لداخل غرفته، بينما هرول أحد العمال بالسيف الحاد في محاولةٍ منه للوصول للسرج العالق به ساق جمال، ولكن لسرعه الخيل لم يتمكن من المسك به.
انقلبت الساحة المخصصة للخيول، لساحة ساخرة، الخيل يركض ساحبًا جمال من خلفه، ومن خلفهما يركض العامل بالسيف في محاولة تحسب له لانقاذ الضحية!
بينما يجلس عُمران ثابتًا على ظهر خيله، يتطلع لما يحدث بغضب ونفور تام، ثم ببرودٍ ثنى رقبته يمينًا ويسارًا، مستمتعًا بصوت الطقطقة الحادثة، وبمللٍ تحرك بخيله يقوده بحرافيةٍ، وانحنى يلتقط السيف من يد العامل، ثم أسرع من سرعة فرسه حتى بدى محازيًا لخيل جمال، وبسهولة مال يسدد السهم بالسرج فتحرر جمال أخيرًا، وسقط يلتقط أنفاسه اللاهثة بصعوبة.
ركض يوسف إليه يحاول الاطمئنان عليه، ولكنه دفعه أرضًا وهو يصيح بعنف: كل ده بسببك وبسبب غبائك، هيعملك أيه الحصان يعني هيفترسك!
لكزه يوسف بحدة وهدر منفعلًا: أنا ماليش بجو الخيول والسباقات المريضة بتاعتك إنت والوقح ده، أنا دكتور نسا وتوليد، أخري أشخص حالة، أولد قيصري، طبيعي شغال لكن جو الاكشن والخيول ده ماليش فيه أنا!
هبط عُمران عن فرسه، واتجه إليهما وهو يضع يديه بجيوب سترته الرمادية، خطاه البطيء شكل إنذار خطر إليهما، وخاصة حينما ردد بحروف ثقيلة رزينة: بمنتهى الهدوء تسند أخوك وتلموا كرامة أمكم اللي اتبعترت قدام العمال دي وتغوروا من قدامي، والا متلوموش الا نفسكم.
ابتلع يوسف ريقه بصعوبة وهو يهز رأسه: باشا إنت مشوفتناش النهاردة أصلًا.
عاون يوسف جمال على الوقوف، فأداره يتفقد ظهره باهتمامٍ، ثم قال: الحمد لله مفيش إي إصابات، سليمة يا عبحليم.
تخصر وهو ينصب عوده، هاتفًا بارهاق: ازاي وأنا حاسس أن جسمي كله متكسر، كمان حاسس إني بردان أوي.
ضحك وهو يجيبه بصدر رحب: حاسس أنك جسمك متكسر عشان اتسحلت سحلة متسحلهاش حرامي غسيل، أما بقى البرد فده راجع لبعض الخساير الناتجه عن معركتك مع الخيل، مما تسبب في إنشقاق ملابسك الخلفية، بس إطمن العلوية بس، السفلية زي الفل.
اتسعت عينيه في صدمة، وراح يردد دون وعي: يا نهار أسوح، هدومي اتقطعت!
أكد له بعد صدمته: آيوه آه.
استطرد جمال برعب: هرجع البيت أنا إزاي دلوقتي!
عبث يوسف بعدم فهم: مش فاهمك! إنت ليه محسسني إنك اتعرضت للتحرش، يا عم متكبرش الحوار ده حصان متعافي حبتين.
لكزه بغضب جحيمي: اتنيل على عينك يا دكتور الغافلة.
وتركه واندفع تجاه عُمران الذي خلع جاكيته وقميصه، وصعد على متن خيله يتحرك بحرية، حتى أتاه جمال يصرخ: إحنا كان اتفاقنا واضح وصريح، إننا هنيجي هنا نفك مودنا شوية، لكن متفقناش على خراب البيوت يا بشمهندس.
أوقف الخيل واتجه إليه، يهتف بعدم فهم: خراب بيوت أيه مش قاريك!
استدار يريه ما حدث له، فابتسم عُمران بتشفي وقال: هو أنا اللي كنت مخليك في حالة السخسخة العبيطة دي، حقك عند أخوك اللي وراك مش عندي يا بشمهندس!
وتابع وهو يطالعه بعنجهية طاووس مغرور: بس إكرامًا مني هساعدك وهديك لبس من معايا، إنت عارفني بحتفظ دايمًا بكام غيار احتياطي بالعربية، شوف اللي ينفعك وإلبسه.
مرر يده على وجهه باستياء وهتف: إرجع البيت بلبس غيراللي خرجت بيه ازاي، أنا مصدقت الدنيا راقت بيني وبين صبا، أقوم أعمل حركة زي دي تضيعني!
هبط عن الخيل يتمتم بنزقٍ: وأعملك أنا أيه دلوقتي! أخدك من إيدك لمراتك وأحكيلها الحكاية من أولها؟
صمت قليلًا يفكر بحديثه، بينما اقترب أليهما يوسف، فقال جمال بعدما حسم الامر: هو ده الحل فعلا.
ردد يوسف بصدمة: حل أيه؟ هو الحصان رفسك في رأسك قبل ما تتفك ولا أيه؟
جذب جمال هاتفه وقال بحزم: أنا مش هجازف بالمركب مرة تانية عشان اتنين معاتيه زيكم، هفتحلكم فيديو تحكوا فيه لصبا كل اللي حصل بالتفصيل، وبالاخص جزئية قطع هدومي دي!
تحرر وحش عُمران القابع داخله، سيطر عليه قدر المستطاع ولكنه بالنهاية تغلب عليه، جذب جمال من تلباب قميصه وهو يهدر من بين اصطكاك أسنانه المرعبة: طيب ما نفسرلها عملي، بس المرادي مش الخيل اللي هيمطوحك، أنا اللي هظبطلك الاعدادت كلها ها يا جيمس تحب نبدأها منين؟
ازدرد ريقه الهادر بصعوبة، وبهمسٍ ردد: يوسف!
أسرع إليه يخلصه من بين يديه، قائلًا بضحك: عيل وغلط وندمان أشد الندم.
منحه جمال نظرة نارية، فزفر بنفاذ صبر: أعملك أيه يعني عشان أسلكك منه وهو بالحالة المنيلة دي؟
رد عليه ضاحكًا: إقرله المعوذتين.
قال يوسف وصوت ضحكاته تعلو: وتفتكر الجن اللي عليه هيقتنع وهيتفك! إحنا محتاجين الشيخ مهران يقوم بالمهمة القومية دي.
لكمهما عمران معًا بكلتا يديه وهو يهدر بعصبية: بتستظرف بروح أمك إنت وهو.
وصرخ بغضب جنوني: غوروا من وشي، مش عايز أعرفكم تاني، اللي يشوفكم وانتوا هزين طولكم وداخلين عليا يفكركم خيالين وإنتوا خيال مآتة، بس الغلط من عندي أنا اللي فكرت أجبكم مكان زي ده، أكيد عقلي مكنش موجود، ضاع مع هيبتكم اللي ضاعت بالظبط.
قالها وإتجه لسيارته يلقي منه أحد قمصانه الباهظة، وقادها ليغادر من أمامهما بغيظ، بينما يلف جمال يده حول كتف يوسف، ويشجعه بجدية: جاهز تحكي اللي حصل، وتنقذ بيت أخوك يا جو؟
طالعه بنظرة مندهشة، وقال بمرح: عجبني شجاعتك وإصرارك على الموقف، وده هيخليني أساعدك، مهو مش هيبقى أنا وعمران، مش هينفع أتخلى عنك وأسيبك لمصير محكمة الآسرة البائس!
الحفاظ على إنفعالاتها كان من أقسى الأشياء التي فعلتها، كانت تخشى من أن يبدو أنها بها شيء امام والدتها، فجاهدت بالابتعاد عنها، والجلوس بغرفتها أكبر وقت تمكنت به، ولكنها رغمًا عنها لم تنتصر على قلقها وتوترها الشديد، وما يشعرها بالعجز أنه أخذ هاتفها، فتخشى إن استعملت هاتف والدتها لتحدثه تسألها والدتها عن هاتفها، ومن المؤكد أن كل شيء سينكشف تلقائيًا أمامها.
ضمت كريستين يديها إليها وهي تحجب عقلها الذي يطرح عده تخيلات للمشهد، ومنهم إصابة إيثان، ولكن ما يطمنها بأنها على ثقة كاملة أن يُونس لن يتركه.
انهمرت دموعها ندمًا على الخضوع لمثل هذا المصير من البداية، ليتها حاربته بشجاعة وأخبرت جميع من حولها به، لربما لم تصل إلى تلك النقطة.
انتفضت بجلستها حينما استمعت لصوت قرع جرس الباب، فأسرعت تتلصص من خلف باب غرفتها، فاستمعت لصوت والدتها تهتف: أتفضل يا حبيبي، ده بيتك تيجي في أي وقت.
شكرها إيثان على ردها حينما أبدى أسفه لزيارته بوقتٍ ليس مناسبًا، ولم يعلن عن قدومه، ولكنه يعلم بأنها تنتظره على أحر من الجمر، وبالفعل بعد دقائق خرجت له بوجهها الشاحب، تجلس على المقعد قبالته وتطالع عينيه بكل لهفة، تود أن تلتقط منه أي إشارة، أو أي كلمة تطمئنها، ولكن والدتها كانت جالسة برفقتهما، تتبادل الحديث معه عن أخبار شقيقتها وبعد الامور العائلية.
شعر إيثان بلهفتها، فرأف بها حينما قال بخبث حينما سألته خالته عما يريد شربه: أنا مش عايز غير فنجان قهوة من إيدك يا فوني. عليكِ شوية بن يعدل المزاج ويوصل للإدمان.
ضحكت وهي تخبره: هتفضل طول عمرك بكاش.
وتركتهما واتجهت للمطبخ لتعد ما طلبه، فور أن تأكدت من رحيلها، حتى هرعت تجاور جلسته وهي تردد برعشة: طمني يا إيثان عملت أيه؟
راقب عينيه عن قربٍ وهو يخبرها: قولتلك اطمني ومتقلقيش، ومع ذلك هطمنك أكتر، أنا مسحت كل شيء يخصك من جهاز الكلب ده، ومش كده وبس بلغنا عنه وإتقبض عليه هو واللي وراه.
وأخذ يسرد لها سريعًا عما حدث، بينما تتسع ابتسامة الاعجاب على وجهها، فمنعت دموعها من الهبوط وهي تقول: بجد يا إيثان؟ يعني معتش ليا أي فيديوهات خالص.
ضم كفيها بكل حب وقال: أنا بنفسي اللي مسحتهم ومسمحتش لمخلوق يشوف أو يعرف حاجه عن اللي حصل، خلاص يا كريستين كانت صفحه واتقطعت من حياتك نهائيًا.
وأضاف وحبها يملأ سحر عينيه: اللي عايزه منك إنك تتعلمي من التجربة دي، وبعد كده أي حاجة تتعرضي ليها سواء كبيرة أو صغيرة ترجعيلي فيها.
وحذرها بحزمٍ: أوعي تفكري مجرد تفكير، إنك تخبي عليا حاجة، أنا عدتلك المرة دي عشان كنت مقدر إن علاقتنا لسه على أول طريقها، لكن بعد كده مش هسمحلك.
اتسعت ابتسامتها وفرحتها النافذة من عينيها: صدقني مش هعمل كده تاني، أنت باللي عملته ده أثبتلي إنك هتحميني العمر كله، وهتشيلني جوه عنيك.
ابتسم وهو يميل لها بأعين راغبة: أشيلك جوه عنيا وفوق رأسي وفي حضني لو تحبي، بس هنأجلها لبعد الجواز دي عشان خالتي متجريش ورايا بالمنفضة.
تعالت ضحكاتها بسعادة، بينما يضع يده بجيب جاكيته ويجذب الكرتون الموضوع به، قدمه لها فراقبت ما تحمله باستغراب: ده أيه؟
رد عليه بحبٍ، وعاطفة: اتشديتي للينك ده لمجرد إنك كنتي هتكسبي أيفون، فأكيد مش هسيب حبيبتي نفسها في حاجة وأنا بإمكاني أحققهالها.
التقطت منه الهاتف، ناطقة بعدم تصديق: بجد يا إيثان، ده ليا أنا!
هز رأسه بخفة وهو يؤكد لها بسعادة لرؤية فرحتها: بتاعك يا كريستين، إنسي القديم بكل ذكرياته التعيسة وإفرحي بالتليفون الجديد اللي هيتملى بعد فرحنا بصور لينا مع بعض، ولو شوفت صورة ليكِ لوحدك من غيري همسحها، أنا غيور جدًا وعايز أشاركك كل ذكرياتك الجاية، موافقة يا سندريلا؟
ضحكت وهي تحرك رأسها بحماس: موافقة طبعًا، أساسًا خطوبتنا كانت جزء من حلم سندريلا اللي كان مستحيل يتحقق، ودلوقتي بعد ما إتحقق بقيت طماعة وعايزة أكتر من كده.
أجابها ببسمته الجذابة: هانت والأمير هيحقق كل أحلام السندريلا!
طافتهما بسمة العشق، نظراتهما، وعده لها، شيم الرجال الذي اتسم به، حينما أعاد حقها كاملًا، ثقته بها، كل شيء دفعها لتقع في عشقه لمرتها الثانية!
تأكد مصطفى من انغلاق ضوء غرفة آدهم فسعد بشدة لأنه تمكن من إقناع آيوب بالبقاء، ففتح الباب بحرص ومضى بمقعده للداخل، حتى وصل للأريكة التي يتمدد آيوب من فوقها، ناركًا الفراش لأخيه حتى لا يصاب جرحه.
بقى قبالته يتأمله بعينين دامعتين، يتشرب ملامحه بحبٍ، يتمنى لو أن يعتصره داخل أضلعه، يتمنى أن يخبره أنه عفى عما إرتكبه بحقه.
ظل لثلاثون دقيقة جالسًا محله، يراقبه بصمتٍ، بينما من خلفه ينغز قلب آدهم بقسوةٍ وهو يشعر بوجود آبيه بالغرفة، لذا حافظ على سكون جسده المدعي للنوم.
يفعل كل ما باستطاعته ليتمكن من إبقاء أخيه قريبًا منه، يود أن يألف المنزل ويتقبل أبيه، ولكنها تبدو كالمهمة الشاقة.
فتح عينيه بتثاقل وهو يتفحص أخيه، من فترة للحين، فتفاجئ بمصطفى قبالته، تنهد آيوب بضيقٍ، وجلس يفرك عينيه بنومٍ، هاتفًا بصوتٍ منخفض: وبعدين معاك! مش قولتلك طول ما أنا هنا خليك بعيد عني! أيه اللي مقعدك كده!
ورفع معصمه يتفقد الوقت، فوجدها الواحدة ليلًا، كبت تثائبه وهو يطالعه بنظرة باردة، فقال مصطفى بحرجٍ: أنا آسف لو صحيتك من النوم، أنا كنت بطمن على آدهم ونازل أوضتي تاني.
قالها واستدار بتحكمه الفعلي بالمقعد، ليغادر من أمامه، فألقى آيوب الوسادة عن يده، ونهض يتمتم بتذمر: الراجل ده مش هيسيبني أرتاح أبدًا، ولا هيخليني أورد لا على جنه ولا على نار.
ولحق به يرفع صوته: استنى!
فور أن غادر الغرفة ارتسمت بسمة حزينة على وجه آدهم الغارق بحزنه الشديد.
بينما هرول آيوب من خلفه، يدفع المقعد تجاه المصعد وهو يردد بضجر: هنزلك بس عشان متتكعبلش ولا يجرالك حاجة، آدهم فيه اللي مكفيه ومش ناقص هو!
أخفى مصطفى ابتسامته، وهو يؤمي برأسه باقتناعٍ، وما أن توقف المصعد حتى دفع آيوب المقعد لغرفته، حرر مقبضها ودفعه للداخل، تجاه الفراش مثلما فعل بالامس، ولكنه عارض قائلًا: لا مش جايلي نوم.
تحكم بغضبه، وقال ببسمة لم تصل لعينيه: وحضرتك حابب تعمل أيه دلوقتي؟
استدار بمقعده إليه وقال برجاء ملموس: لو ينفع تساعدني أتوضى وروح كمل نومك.
تهدلت ملامحه المشدودة، هز رأسه وهو يجيبه: بسيطة.
ودفع مقعده لمرحاض الغرفة، يجذب سطل المياه ويسكب إليه، والآخر يسر قلبه سرورًا لم يختبره من قبل، بل كان يتأمله بكل محبة، حتى جذب السطل وإنحنى يفرك أصابع قدميه بالمياه، فابتعد مصطفى بمقعده للخلف على الفور: لا يابني أوعى تلمس رجلي، إنت مقامك أعلى من إنك تنحني قدام شخص زيي!
قشعر جسده من كلماته، ذلك الرجل يحقر من ذاته، بكلمات تصف الحالة المؤلمة التي يعيشها، أوضحت كم معاناة الذات وتأنيب الضمير بشكلٍ أوجعه، انحنى يجذب السطل الذي سقط منه، واقترب منه يكمل ما يفعله، فتدفقت دمعات مصطفى، وطالعه بنظرة امتنان لن يتمكن آيوب من نسيانها قط، بل هرب منها وهو يعجل ما يفعله حتى خرج به للغرفة مجددًا.
ازدرد صوته الهادر وهو يسأله بوجع: أعملك أيه تاني؟
استجمع شتاته المنفلتة، وقال بصوتٍ جاهد الا يجعله باكي ولكنه ظهر فيه البكاء رغمًا عنه: كتر خيرك يا آآبن، يا آيوب. روح نام إنت.
هز رأسه وهو يتجه للمغادرة، صعد للأعلى وعقله مشحون بالافكار، عاد للاريكة يجلس هائمًا بالفراغ، يتذكر حديث أبيه الشيخ مهران بصلاة اليوم، كان يجلس قبالته بالمسجد يحرك يده على السبحة، ويخبره بنبرته الفصحى التي يعشقها حد الادمان: يابني ما عاهدتك يومًا قاسي القلب، كنت دومًا تمنح العفو والصفح، والله إني أخشى أن تحاسب على أبيك.
هو مش أبويا ولا آ.
مهما حاولت أن تنكر الحقيقة لن تستطيع، إعلم أننا جميعًا سنُحاسب، ومثلما سيحاسب على ما فعله بك سيحين دورك وستُحاسب على معاملتك القاسية له.
وأضاف الشيخ مهران بابتسامة بشوشة: ولو أعترفت بيه وسامحته هل سينتقص هذا من حبك لي وحبي لك، لا والله ولو اجتمعت جيوش الإنس والجان على أن ينقصوا حبك بقلبي مثقال ذرة ما فعلوا.
فاق من ذكريات أبيه ودموعه تنهمر دون توقف، لا يعلم كيف ومتى نهض عن الأريكة وعاد للاسفل، ولج لغرفة مصطفى، فوجده يصلي على مقعده بخشوعٍ مهيب، راقبه بذهولٍ وكأنه يراقب لأول مرة شخصًا يصلي، لا يعلم لما ربط ما فعله به بأنه لا يجيد دينه!
أنهى صلاته وجلس محله يهيم بشرفته الزجاجية، فتفاجئ بآيوب يقف من خلفه، لف مقعده له بلهفة: في حاجة يا آيوب؟ عمر تعب تاني ولا أيه؟
هز رأسه بالنفي، وبدى مرتبكًا لا يجيد أن يوازن أموره، فوجد ذاته يخبره بحدة: النهاردة المغرب كتب كتابي، لو عايز تيجي تعالى.
انشرح صدره، لقد إستجابت دعواته، يلوح بصيص الأمل ويزداد نوره، اقترب بمقعده منه وسأله بتوتر: لو جيت هتتضايق من وجودي؟
طالعه بنظرة دقيقة، ثم قال: لا عادي، أنا بقدر أسيطر على نفسي، وزي ما أنا قادر أتواجد معاك هنا في مكان واحد، هقدر أتقبلك هناك في بيت الشيخ مهران.
اتسعت ابتسامته وبكل سرور قال: هاجي أكيد، ربنا يسعدك ويفرحك بالذرية الصالحة يا حبيبي.
اكتفى بايماءة من رأسه وغادر من أمامه على الفور، وهو متخبط، كان ينوي إخباره بمسامحته له، كان يود أن يمنحه فرصة، لسانه كان ثقيل عن الحديث، ولكنه يجدي تقدمًا حتى ولو كان خارج عن إرادته!
ولج لجناحه الخاص ينزع جاكيته، ثم يخلع حذائه، وما كاد بالتوجه لحمام الغرفة لينعم بحمام بارد حتى توقف حينما تسلل له همسات مختطفة لأنفاس زوجته اللاهثة: عُمران. لأ...
دنى إلى الفراش يناديها بدهشةٍ: مايا؟
انتفضت بالفراش تصرخ بفزعٍ: عُمران.
أسرع تجاهها وقد جلس جوارها يزيح العرق الذي يبلل وجهها باكمله، وهو يهتف بقلق: أنا هنا يا مايا، مالك يا روحي؟
انتقلت نظراتها المذعورة إليه، تتطلع لكل أنش بوجهه، وكأنها تتفقد شيئًا، استقامت بجلستها مستندة على ركبتيها، وأخذت تحل القميص عنه، وهي تهتف برعب: دم!
وخز قلبه رعبًا عليها، ومع ذلك حاول تخفيف من حدة ما تمر به، حينما شاكسها قائلًا: طيب ولزمتها أيه تصرعيني كده يا بيبي، ما تديني حتى إشارة صغيرة ومتقلقيش أنا وقح وهفهمها على طول.
فشلت كلماته بسحبها مما تمر به، بل أحاطت وجهها تبكي بانهيارٍ تام، أعدل عُمران من قميصه وهو يزحف تجاهها، متسائلًا: مايا مالك؟ متقلقنيش عليكي!
أبعد يديها عن وجهها فوجدها تنتفض بعنف، جذبها إليه يربت على ظهرها وهو يهمس لها: إهدي حبيبتي، ده مجرد حلم، أنا هنا جنبك أهو.
مالت على كتفه وصوته المتحشرج يتحرر: متبعدش عني، أنا ماليش غيرك في الدنيا دي، ولو مبقتش فيها هخرج أنا كمان منها.
شدد من ضمها وقال بلومٍ: أيه الجنان ده بس، أيه جاب سيرة الفراق دلوقتي، احنا صحيح هنفارق بس هنفارق الكمبوند خلاص هنستلم قصر الغرباوي من بكره بإذن الله، وهوريكي جناحك بنفسي وبالاخص غرفة الهدوم اللي خصصتها لينا ولابننا.
تعالى بكائها ورددت كأنها لم تستمع لما قال: خليك جنبي، أنا مش عايزة غيرك.
احتواها بين ذراعيه وقال بحزن: أنا معاكِ وكلي ملكك يا مايا، ده كان كابوس وانتهى.
ابتعد عنه تطالعه بأعينها الدامعة، وهمست: يا رب يكون مجرد كابوس.
انحنى يقبل يدها وهو يؤكد لها بمزحٍ: اللي أنا أقوله تصدقيه بدون نقاش، أنا عندي بعد نظر في الأمور.
منحته ابتسامة صغيرة تعكس حزن مُقلتيها، فقال وهو يدعي الجدية: وبما إن كلامي ثقة فخلينا نتجاهل الجزء السلبي من كابوسك ده ونستغل الجزء الايجابي.
تساءلت بعدم فهم: أيه هو الجزء الايجابي.
أشار على قميصه ببسمة خبيثة: إنك كنتِ بتغرغري بيا من شوية وأنا آ...
كبتت فمه بيدها وهي تصيح بصدمة: عُمران بطل وقاحة، أنا كنت بتأكد أن ده مجرد حلم وانك مش بتنزف، بلاش تصيغ الامور بطريقتك المنحرفة دي.
تعالت ضحكاته الرجولية، فابعد يدها وقال بمشاغبة: هو أنا هصيغ بعقل، ده أنا هقدم تقرير شامل لفريدة هانم، وهقولها كل اللي حصل بالظبط.
لكزته بغضب وهي تدفعه عن الفراش: قوم شوف كنت داخل تعمل أيه؟ أنا غلطانه إني قلقانه عليك، إنت لسانك أصلًا هيبعد عنك أي أذى لأنه أكبر أذى ليك.
مال للخلف من فرط ضحكاته، فابتسمت رغمًا عنها وهي تراقبه، حتى أنها صفنت به، فمال تجاهها يغمز لها بسخرية: ضحكتي تجنن أنا عارف، عشان كده مبتظهرش كتير رأفة بقلوب البنات الحلويين اللي زيك.
أبعدت يده عن ذقنها وهي تردد بنفور: إنت مغرور.
سحب بيجامته واتجه لحمام غرفته وهو يخبرها: لو الطاووس متغرش مين يتغر يا مايا هانم؟!
أغلق باب الحمام من خلفه، وإتجه للدوش يميل من أسفله، وتفاصيل التهديدات المسددة إليه تجوب عقله، ماذا لو تفسر حلم مايا وتعرض للهجوم!
ثمة شعور بالخوف يجتازه لاول مرة، خوف من أن يُولد ابنه يتيمًا، خوفًا على زوجته التي إنهارت لمجرد رؤيتها لحلمٍ مثل ذلك، ماذا عن عائلته وأصدقائه؟
هو يعلم حق العلم أنه تتميمة مكملة للجميع، وراضي كل الرضا عن مكانته بينهم، شغل تفكيره ماذا سيحدث بهم لو نجحوا بتحقيق تهديداتهم!
سطعت شمس اليوم التالي ومازالت تجلس بأرضية الشرفة، تضم ذاتها وبكائها لم يجف عنها، ها قد انقضى اليوم بسرعة الرياح، وأتى اليوم المرهون بعودة علاقتهما من جديدٍ، مجرد تذكرها لشطر صغير من فصول حياتها الذابلة برفقة طليقها تعود الرهبة تسيطر عليها من جديد.
كانت تتمنى أن يوافقها يُونس لاجراء العملية الجراحية للتخلص من أثار التعذيب الباقية على جسدها، ولكنه رفض وبرفضه وجدته أنانيًا للغاية، ولكن جزء بداخلها كان يمنحه العذر، فمهما كان لن يحتمل إنها كانت له ثم أصبحت لغيره.
تأملت خديجة اسدال صلاتها بنظرة حسرة، طوال المدة التي تبقت فيها سدن برفقتها بم تخلعه عنها أبدًا، فكيف ستفعل أمامه حينما يصبح زوجها!
استمعت لصوت سدن تناديها، فأسرعت تجفف دموعها ونهضت تدلف للداخل، كانت تفرك عينيها كالاطفال وهي تحرر خصلاتها الذهبية باحثة عنها، وهي تناديها: إنت فين خديچا؟
أجابتها وهي تغلق ستائر الشرفة: أنا هنا يا سدن، صباح الخير حبيبتي.
اتجهت إليها تقف من خلفها ومازالت تفرك عينيها، فراقبتها خديجة بابتسامة حنونة، وكأنها ترى نسخة لابنها الصغير حينما يستيقظ ولم يجدها جواره: صباح خير خديچا، إنت ليه صاحي بدري، هو إنت مش نمتي هالص (خالص)!
تهربت من اجابتها على سؤالًا ستكون عينيها وملامحها الشاحبة اجابة عليه، فانسحبت للمطبخ وهي تقول: هدخل أجهز الفطار، عشان نفطر مع بعض.
لحقت بها للداخل، تمنحها نظرة مشككة، بينما تخرج خديجة من برداها الطعام، جذبت عنها سدن ما تحمله وهي تقول بضيق: مش عاوز إفطر، إنت ليه عامل في نفسك كده في يوم مهم زي ده!
سحبت منها البيض، واتجهت تخفقه على النار، قائلة ببسمة مخادعة: حزن أيه بس، أنا كويسة وزي الفل أهو.
لحقت بها وقالت بحزن: لا إنت مش كويس خديچا، إنت فيك حاجة مخبيها عني، وإنت قولت ان سدن وإنت أصدقاء بس أنا مش شوف كده.
انزلق الدمع من عينيها، أزالته وقالت: أنا عمري ما كان ليا أصحاب غيرك أصلًا يا سدن، أنا بس قلقانه وحاسة أن علاقتي بمعتز ممكن تكون حاجز بيني وبين يونس.
ردت عليها بهدوء وبسرعة فائقة جعلتها تخضع للغتها الخاصة: دعكِ من الماضي، لن تستطيعي أن تتجاوزي أي شيء طالما عقلك منحسر بما مضى، اليوم ستصبحين زوجة الرجل الذي عشقته بجنون، ألن يكفيكِ أن تعودي على عصمة من أحببتيه منذ الطفولة؟
رفعت عينيها الباهتة إليها تشرد بسؤالها، فوجدت ذاتها تبتسم: يكفيني عمره كله والله.
ردت سدن بابتسامتها الرقيقة: أجل، أستطيع أن أرى ذلك يا فتاة، دعكِ عما مضى ولا تفكري بشيئًا أخر، وإن تعلق الأمر عن العملية التجملية فتستطعين إقنعه بعد الزواج بمنتهى الهدوء، إنتِ تعلمين أن سبل الحديث بينكما غير، مصرح، لذا هناك بعض الاشياء التي ستعجزين اخباره به وإنتِ أجنبية عنه، فحينما تصبحين زوجته إفعلي ما فشلتي باقناعه به.
استرخت تعابيرها في راحةٍ لسماعها حديث سدن، فتركت ما بيدها وأسرعت تضمها بكل حب، قائلة: عندك حق يا سدن، أنا بحمد ربنا إنك كنتي جنبي ومعايا طول الفترة دي.
ضمتها بقوة وقالت: حسنًا، كنت أعلم أنكِ سعيدة للغاية ببقائي هنا، بعد أن طلب مني الشيخ الابتعاد عن آيوب حتى يتم عقد القران مجددًا، يا ويلي لم أعلم أنكِ قاسية لهذا الحد، تفكرين بمصلحتك الشخصية ولا يهمك حزني على فراقه.
تعالت ضحكات خديجة، وراقبت تذمرها بمرح: فراق أيه؟ ده انتي بتقفشيه على السلم وهو طالع وهو نازل، والحكاية كلها أصلًا مجابتش أسبوع أو عشر أيام!
حينما ذكرت انتظارها له، هرعت لاسدالها ترتديه وهي تردد بلهفة: نسيت أقف ليها النهاردة، هنزل أشوفها عند الحاجة رقيا.
ضحكت بصوته كله وهي تتساءل باستمتاعٍ: هي مين دي؟
قالت وهي تتجه للباب: آيوب!
ارتدى علي جاكيت بذلته، وانحنى يمرر يده على خصلات شقيقته، وهو يناديها بحنان: شمس.
شمس فوقي يا حبيبتي.
فتحت عينيها بإرهاق، وحينما وجدته يرتدي كامل ملابسه تساءلت وهي تستقيم بجلستها: إنت ماشي يا علي؟!
أجابها وهو يساعدها على فرد ساقها المصابة، وأجابها: أيوه يا حبيبتي لازم أنزل المركز الأول أخلص كام حاجه كده عشان عندي كام مشوار مهم.
وأضاف وهو يتمعن بعينيها ليسترعي انتباهها: شمس عايزك تركزي في الكلام اللي هقولهولك ده كويس، ويا ريت متحاوليش تتكلمي فيه مع حد، لإن آدهم من النوع الحساس جدًا.
أبعدت الغطاء عنها وزحفت حتى محل جلوسه، تجاوره، متسائلة بقلق: ليه ماله آدهم؟
سحب نفسًا مطولًا، وقال بعقلانية: إمبارح شوفته في حالة رهيبة، لأول مرة أشوفه كده، اللي حصل معاكي هيأثر في نفسيته جدًا، عشان كده عايزك تكوني جنبه الفترة اللي جاية.
وخز قلبها العاشق دون رأفة، وبحشرجة ذبحت حنجرتها قالت: تقصد أيه يا علي؟
أمسك كفها يفركه بإبهامه، مواصلًا تعليماته: الأول تكوني هادية عشان تقدري تفهمي اللي هقولهولك، أنا امبارح لاحظت حركاته وملامحه، وأنتِ طبعًا عارفة إني متعود أقرأ اللي قدامي بحكم شغلي، المريض النفسي أي تغير بسيط بيبان عليه لازم الدكتور المعالج يكون واعي له ومستعد ليه جدًا.
بدت مشتتة بين حديثه، فتمتمت بحيرة: تقصد إن آدهم مريض نفسي!
أشار نافيًا: لا طبعًا، اللي عايز أقولهولك أن آدهم مش راجل عادي يا شمس، اللي حصل ليه في كفة واللي حصل ليكي قدام عنيه في كفة تانية خالص، اللي حصل معاه محسسهوش بالعجز أد فشله بإنه ينقذك.
ابتلعت ريقها بصعوبة، وقالت: بس انا ماليش ذنب يا علي، ومتعمدش أحسسه بالعجز ده نهائي.
وأضافت ودموعها تنهمر بصدمة: عشان كده ساب الجناح! معقول يبعد عني!
ضمها إليه برفقٍ، وهمس لها بحزن على حالهما: عارف يا حبيبتي، أنا بقولك الكلام ده عشان تقدري تتعاملي معاه لو حستيه بيحاول يبعدك عنه، هو هيشوف إن اللي بيعمله ده الصح، وواجبك تثبتيله العكس.
وضم وجهها بين يديه يحمسها بقوةٍ: حاربي عشان جوزك يا شمس، متسمحيش ليه إنه يختار يخبي ضعفه وعجزه عنك بالبعد، هتتعبي بس متستسلميش.
واستكمل بصوته الرخيم: أنا كنت أقدر أتكلم معاه واحاول أساعده، بس مش شخصية آدهم أبدًا اللي هتخضع لكلامي، لذا إختارتك أنتي، آدهم اتعود يكون بطل ومنقذ لكل اللي حوليه، ويوم ما يفقد ده هيتخلى عن أي شيء يحسسه إنه بقى عاجز، بس أنا واثق إن وجودك وتمسكك بيه هيفرق معاه جدًا.
هزت رأسها بخفة وهي تجاهد لرسم بسمة رقيقة، فقبل جبهتها وقال بحنان: متخافيش يا حبيبتي، مهما حصل الحب الكبير اللي بينكم مستحيل هيضيع بالسهولة دي، اعتبريه امتحان ليكِ إنتِ، وخليكِ فاكرة كل إمتحان خاضه آدهم عشانك.
ومازحها وهو يقرص وجنتها بمرح: كفايا امتحان وقح عيلة الغرباوي أخوكِ.
ضحكت من كل قلبها، وشاركها الضحك، ثم نهض يحمل مفتاح سيارته وهو يخبرها: لو احتاجتي أي حاجة إنتي عارفة إني مش هتأخر عليكي أبدًا.
ردت عليه بحب واحترام: شكرًا على كل حاجة يا علي.
عاد يقبل وجنتها وهو يودعها: يلا أشوفك بكره بإذن الله. سلام.
تركها وغادر على الفور، بينما مازالت تجلس محلها تعيد ترتيب كل كلمة قالها علي، الجميع يعلم حكمته ونظرته للامور، حمدت الله أن من أتى ليخلصها كان علي، لولاه ما تمكنت من فهم ما يجول بعقل زوجها، وهنا تذكرت حديثه عن المحاربة لاجله.
احتملت بصعوبة على ساقيها، ونهضت تتجه لغرفته بعد ان تأكدت من الخادمة بأن آيوب رحل باكرًا.
حرر باب منزله وولج للداخل، فوجد والدته تضع طعام الافطار لوالده الذي ابتسم وهو يشير له: كده الفطار هيبقاله طعم تاني، يلا بسرعة اقعد.
جذب آيوب المقعد المجاور لابيه وجلس يجذب بعض الشطائر، قائلًا بابتسامة جذابة: ريحة الفول وصلالي من على باب العمارة.
منحته الحاجة رقية نظرة ساخطة، وتجاهلته تمامًا وهي ترص باقي الاطباق بصمت، مما دفعه ليميل على أبيه: هو في ايه يا عم الشيخ، إنت مزعل الحاجة في حاجة؟
أشار بصدمة: أنا! إزاي أقدر أزعلها هيجيني قلب أخالف وصية رسول الله وهي خير وصياه!
منحه نظرة مشككة، مرحة: كله يبان يا شيخ مهران.
ضحك وهو يضربه على رأسه بخفة: سيبك من الرغي وسمي الله وإبدأ.
قال وهو يتابعها تدنو منهما
مش قبل ما أعرف مالها؟
وأسرع يجذب منها صينية الشاي وزجاجة المياه: عنك يا ست الكل.
تركت ما بيدها واتجهت للمقعد بصمت، دفعه لسؤالها بقلق: مالك يا ماما إنتِ تعبانه أو فيكِ حاجة؟
لوت شفتيها بتهكمٍ، وهدرت فيه: ما لسه بدري، كنت خليك عنده يومين تلاتة.
أمسك الشيخ يدها وأخفض من صوته: محصلش حاجة لما بات مع أخوه يا حجة رقية، إنتِ عارفة إن آدهم متصاب وأكيد محتاج لآيوب جنبه.
سحبت يدها وصرخت ببكاء وغضب: مقولناش حاجة بس يروح ويرجع ميبتش هناك عند الراجل ده، هيخليه يبات مرة في مرة لحد ما يقعد هناك وينسانا.
رد عليها الشيخ مهران بلطف: مفيش الكلام ده، آيوب مش عيل عشان حد يعمله غسيل مخ، وبعدين متنسيش إنه بالنهاية أبوه وله واجب عليه.
نهضت تصرخ بانفعال وهي تدفع الصينية ارضا: متقولش أبوه، ده ابني وابنك ومهما مصطفى ده قال وعمل مستحيل هيقدر يأخده مني.
وأشارت لآيوب المندهش لرؤيتها بتلك الحالة، وصاحت: مفيش بيات بره البيت تاني والا أقسم بالله العلي العظيم لهعملها لأول مرة وهمد إيدي عليك، هكسرلك رجلك عشان تحرم تبات هناك تاني، سامع!
واتجهت للمطبخ وهي تهتف بشهقاتها الباكية: خلصوا أكلكم، هعمل شاي بدل اللي وقع.
مال آيوب يستند على كفيه بحزن، الجميع من حوله مجروح وجرحه هو الأكثر نزيفًا بينهم، لا يعلم بمن سيبدأ يضمد الجروح، وهو نفسه بحاجة لذلك.
شعر بملمس كف أبيه الحنون، وابتسامته التي تهون كل الصعاب من أمامه، كأنها هفوة صغيرة لن تأثر به: معلش إنت عارف الحاجة رقية بتهب تهب وتنزل على مفيش، قلبها أبيض ومفيش زيه، قوم طيب بخاطرها وهي هتتصافى على طول.
انحنى آيوب مقبلًا يد أبيه ورد: حاضر.
وتركه واتجه للمطبخ، فوجد والدته تستند على الحوض المعدني وتبكي بصمت، وما أن رأته حتى اصطنعت انشغالها بجلي الأكواب وتنظيف الفوضى التي أحدثتها.
جذب أكواب آخرى وبدأ باعداد الشاي الساخن، بينما تراقبه بصمتٍ، ومازال يتلصص ليجد فرصة الحديث، فسبقته هي حينما تركت ما بيدها وقالت ببكاء: متزعلش مني يا آيوب، أنا عمري ما أمد إيدي عليك يابني، أنا قعدت استناك امبارح ترجع ولما مرجعتش كنت هموت من القلق عليك، وحسيت اني هخسرك.
ضمها إليه وهو يقول بحزن وألم: ألف بعد الشر عليكي يا حبيبتي، انا آسف والله كان غصب عني، آدهم تعب جدًا وجرحه اتفتح، الدكتور نبه عليه ميتحركش خالص وهو أصر أكون جنبه فمقدرتش أ...
قاطعته حينما قالت: متبررش أنا عارفة إنه له حق عليك حتى لو مكنش أخوك، آدهم أنقذ حياتك أكتر، من مرة فمهما عملت عشان أشكره مش هوفيه حقه، هو بس الموضوع كبير عليا وصعب أتقبله.
ورفعت وجهها الباكي له ثم قالت: اقعد عنده زي ما تحب بس متبتش هناك، ده بيتك يا آيوب، أنا هستحمل إنك هتطلع من هنا تعيش مع مراتك فوق على الاقل هتكون معايا بنفس العمارة، لكن انك تكون في بيت الراجل ده مش هسمحلك وهتقهر منك.
انحنى يقبل كلتا كفيها وهو يؤمي لها: مش هكررها تاني صدقيني.
مررت يدها على خصلاته بسعادة وقالت وهي تزيح دموعها: طيب يلا عشان تفطر وتساعدني عشان نفرش البيت، لا خديجة نزلت ولا سدن واحنا ورانا مناسبتين النهاردة يا عريس.
ابتسم وهو يسكب الشاي قائلًا: عنيا الاتنين، هروقلك البيت أحلى ترويقة.
وخرج برفقتها فوجد سدن بالخارج تراقبه بابتسامة سعيدة، جعلته يبتسم رغمًا عنه، بمرتهما الاولى حينما عقد قرانه عليها، كان كلاهما لا يحبذان تلك الزيجة، والآن يختاران بعضهما البعض للمرة الثانية ولكن عن اختيار وقناعة، وقصة حب تنسدل من بينهما كفتيلٍ يبشر بما هو قادم!