رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث والأربعون
جاب الطرقة ذهابًا وإيابًا وهو يطرق كفًا بالأخر، الغضب والغيظ يكاد يفجر أورداته، فزفر يوسف الجالس على الدرج جوار علي هاتفًا بسخطٍ: ما تترزع في أي مكان يا عُمران خيلتنا يا أخي!
اتجه للدرج الجانبي حيث مكان جلوسهما وهدر بانفعالٍ: انتوا جايبن الهدوء الغبي ده منين، بقالنا ساعتين قاعدين القعدة دي، ومفيش أي جديد، لا موبيل آدهم بيجمع ولا عارفين نوصل لأي خبر عن أيوب!
أجابه على وهو يحيط قدميه بيديه بتعبٍ من تلك الجلسة الغير مريحة: يعني في ايدينا أيه نعمله يا بشمهندس!
ربع يديه بمنتصف خصره وشمل أخيه بنظرةٍ متفحصة: على هو إنت جايب برودة الاعصاب دي ازاي!
ابتسم وهو يجيبه بغموضٍ: جاتني من وقت ما آدهم نزل من عربيته يكلم الشخص اللي وقف بنص الطريق، ولو عرفت مين هو هتطمن وهتكون على ثقة إن أيوب راجع.
إتجه إليه مسرعًا بلهفة تتلألأ داخل رماديته: مين هو؟
اتجهت نظرات يوسف وعُمران المهتمة إليه، فأرضى فضولهما قائلًا: الاسطورة رحيم زيدان، أخو مراد زيدان الاتنين دول ظباط تقال في المخابرات وبالذات رحيم.
وتعمق بالتطلع لأخيه قائلًا: هو اللي أنقذ فطيمة من اللي اتعرضتله.
سكنت ملامح عُمران باطمئنان، أما يوسف فكان حديث على يعد كاللغز من أمامه، ما علاقة زوجته برجلٍ كهذا وما الذي تعرضت له بالتحديد؟
لم يعينه الأمر كثيرًا ولكن تضاعفت آماله بعودة آيوب، الثقة البادية على علي جعلت خوفه يهدأ تدريجيًا، جلس ثلاثتهم على الدرج الجانبي، حتى إلتقطت آذانهم صوت المصعد ومن بعده خرج أيوب و آديرا التي تتمسك بيده وآثار الذعر يستحوذ عليها.
آيوب!
تحرر نداء عُمران بلهفة جذبت انتباهه، فالتفت ليتفاجئ بهم يجلسون على الدرج قبالة شقته، ترك يدها وهرع إليهم، فضمه عُمران بقوةٍ ألمت جسده المحتفظ بأثر اللكمات التي نالها، ولكنه احتملها بسعادة، واستمع له يهتف بفرحةٍ: الحمد لله إنك كويس وبخير، أنا كنت هتجنن لما عرفت باللي حصل. كنت خايف من اليوم ده والحمد لله إنه عدى ورجعت بالسلامة.
أغلق عينيه يستشعر حنان ضمته وحديثه الحنون، فوجد يد يوسف تمتد لتنتشله من بين ذراعيه هادرًا بمزحٍ: ما توسع خلينا نطمن على البشمهندس اللي موقع قلوبنا من صبحية ربنا.
وضمه يوسف بحبٍ مربتًا على ظهره: حمدلله على سلامتك يا بطل، لينا قعدة تفهمنا فيها اللي حصل.
أجابه وهو يبتعد عنه بفزعٍ ولهفة: سيف كويس! بعتولي رسالة من موبيله وصلوا ليه ازاي؟
لم يكن يريد أن يداهمه بما يشغله بتلك اللحظة، فأسرع على بالتداخل وهو يستقبله بابتسامة جذابة: حمدلله على سلامتك يا أيوب.
منحه ابتسامة واسعة ممتنة: الله يسلم حضرتك يا دكتور علي.
لف عُمران ذراعيه حول كتف أيوب وقال: هنقضيها كلام على السلم ولا أيه ما تفتح الباب بدل رميتنا بره بالساعات بسببك يابن الشيخ مهران.
أخرج من جيب بنطاله المفتاح واتجه للباب يفتحه بترحابٍ: لا ازاي طبعًا، انا متأسف أوي على القلق اللي عيشتوه بسببي.
رد عليه على بلباقة: فداك المهم انك رجعت بخير!
أشار لهم بالدخول قائلًا: اتفضلوا.
ولجوا جميعًا وكاد بتتبعهم ولكن عقله أرشده لشيءٍ مبهم، أين آديرا؟
راقب الطرقة بنظراتٍ متفحصة، وبحث جوار المصعد، التفت ليكمل بحثه فوجد عمران يقابله مستفهمًا: بتدور على أيه؟
أجابه بصدمة من عدم رؤيتها: آديرا!
ارتفع بصر عُمران تلقائيًا على الدرج العلوي، فتطلع إليه أيوب، فتفاجئ بها تختبئ خلف درابزين الدرج وتراقب عُمران بنظرةٍ مرتعبة، كأنها ترى وحشًا مخيفًا يهرب من أسطورة مظلمة تكاد تبتلعها.
وزع أيوب نظراته الحائرة بينهما، فوجد عمران يسحب نظراته الحادة عنها ويدلف للشقة بصمتٍ قاتل، فصعد للأعلى يناديها وهو يصيح بتهكمٍ: بربك يا فتاة ما الذي تفعلينه هنا؟!
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، فحملت طرف فستانها الممزق واستقامت بوقفتها قبالته، تهمس له ونظراتها المرتعبة تراقب باب الشقة: أأخبرت صديقك الشرس هذا بأنني نعتك بالإرهابي اليوم؟ صدقني لم أكن أقصد ذلك، حتى حينما تعلقت بك فعلتها لإنني أثق بأنك لن تترك عمي يقتلني، آآ، أنا أثق بك أيوب!
كلماتها المرتبكة الاخيرة جعلته يبتسم وهو يردد: وهذا ما أريده سدن!
رمشت بعدم استيعاب وهتفت في محاولةٍ لنطق العربية: سداان! ماذا!
فرك أنفه بارتباكٍ فمازال على عهده بعدم الضغط عليها لاستمالته لاعتناق الدين اجبارًا، سيجعلها تخطو لعودتها رويدًا رويدًا، فتنحنح بخشونة: هيا. تعالي!
هزت رأسها نافية بذعرٍ: سأنتظر هنا لحين مغادرة ذلك المتوحش، أنت لا ترى نظراته لي وكأنه سيقتلني بأي لحظة!
وتابعت وهي تلعق شفتيها الجافة: أتعلم أنا أخشاه أكثر من عمي اللعين!
ضحك بصوته الرجولي الجذاب، وبعد محاولة من استعادة ثباته قال: ألم تخبريني منذ قليلٍ بأنكِ تثقين بي؟
هزت رأسها تؤكد له، فمد كفه يطرحه لها: حسنًا، أنا هنا. لا بأس!
تعلق كفها بكفه، وهبطت خلفه للأسفل بحذرٍ، ولجت آديرا للداخل وما أن خطت قدميها الشقة حتى سحبت كفها منه وهرولت للداخل وصفقت الباب بعنفٍ جعل يوسف يضحك: منك لله يا عمران مربي للبنت الرعب!
لم يعنيه أمرها من الأساس، فتابع أيوب الذي أغلق باب الشقة وإتجه إليهم، وسأله بلهفة: احكيلنا اللي حصل يا أيوب، وفين آدهم؟
رد عليه بحيرةٍ ظاهرة: اللي حصل كان غريب ومش مفهوم، آدهم تحت مع الشخص الغامض اللي انقذنا.
واستطرد بحماسٍ كالطفل الصغير: القائد بتاعه اللي خرجنا من جوه ده باين عليه إنه تقيل أوي، نظراته وشكله وهدوئه مخيف، طول ما احنا في العربية مفتحش بوقه بكلمة واحدة وفي لحظة خروجه من المكان اللي كنا محبوسين فيه المكان اتنسف في لحظتها وهو خارج ثابت ومرمش حتى!
وتابع بضحكة ساخرة وهو يجاهد لوصف الموقف: عارفين أبطال الأفلام الهندي الأوفر، لما تلاقي البطل خارج ببرود من وسط الانفجار!
ضحك يوسف بقوةٍ بينما ابتسم علي، أما عُمران فلم يستطيع السيطرة على غيظه القابع بداخله، فنهض عن الأريكة يجذب أيوب من تلباب قميصه بعصبية اتبعت نبرته المرتفعة: بقى أنا قاعد هموت من القلق عليك وعلى أعصابي من ساعتها وإنت راجع تحكيلنا عن بطولات الظابط اللي أنقذك، بروح أمك مش حاسس بالحالة اللي أنا فيها!
منع ضحكة كادت بالانفلات منه فرفع رأسه فوق يده المنكمشة على عنق قميصه وقال: طيب نقعد وهحكيلك طيب، أبو اللي يعصبك يا جدع!
ضحك يوسف مؤكدًا له: حذرتك قبل كده ألف مرة يا أيوب، متحاولش تخرجلنا الطاووس الوقح من مكانه، سيبنا نتعامل مع البشمهندس عُمران الراقي على قد ما تقدر.
دفعه عمران بغضب وعاد يحتل مكانه، ومازال الغيظ يأجج أعصابه، يود أن يقتص من ذلك الحقير الذي اعتدى مرتين على أصدقائه، مرة نالها سيف والأخر أيوب الذي تضرر وجهه بشكلٍ ملحوظ.
ولج آدهم للداخل باستخدام مفتاحه الخاص، فانضم إليهم يهتف مازحًا: مساء الخير، أتمنى مكنش جيت متأخر!
أشار له أيوب بحماسٍ مضحك: تعالى يا آدهم احكيلهم على القائد اللي كان معاك ده محدش راضي يصدقني!
وضع مفاتيحه على الأريكة وجلس قبالتهم يقول بملامح جادة: أيوب إنت لازم ترجع مصر إنت وآديرا في أقرب فرصة، وجودك هنا الفترة دي مش في صالحك لحد ما الموضوع يتنسى.
اعتدل بجلسته بدهشةٍ، وصاح إليه: ازاي وامتحاناتي بعد شهرين ونص يا آدهم؟
رد عليه بهدوءٍ وحكمة: الباشا اللي طلب كده، متنساش إن الموضوع هيتحقق فيه بعناية والله أعلم إذا كان حد غيره عارف بموضوعك فيخدوها حجة ويلبسوك التهمة، انزل مصر وارجع تاني على امتحاناتك أسلم من كل ده، أنا هحجزلك معايا على نفس الطيارة اللي نازلة مصر.
ساد الصمت بينهم حتى قال على برزانة: آدهم بيتكلم صح يا أيوب وجودك هنا بالتوقيت ده خطر عليك وعليها.
تسلل الحزن لملامح عمران، فتنحنح بارتباكٍ: يعني مفيش حل تاني غير إنه يرجع مصر، خليه هنا وانا هحاول أمن ليه مكان كويس.
ابتسم آدهم وهو يقرأ تعابيره الحزينة لمعرفته بسفر أيوب المحتمل، وأجابه بثبات: ونضمن منين إن اللي حصل ده ميتكررش تاني؟ ده أمن حل صدقني، وبعدين دي فترة مؤقتة وهيرجع تاني.
واستكمل يوضح لهم خطورة الموقف: احنا خايفين من الكام ساعة اللي هيقضيهم أيوب هنا لحد ما يركب الطيارة فما بالك لو قعد!
وانتقلت نظراته لزوايا الشقة: الشقة دي معتش أمان بعد ما اتعرف مكانها.
أسرع عُمران بالحديث: خلاص لحد معاد الطيارة أيوب هيجي عندي في الملحق اللي جنب القصر، عمي أحمد لسه مكلمني من شوية وبلغني بأن الحرس اللي طلبهم وصلوا ومحاوطين البيت فكده هيكون في أمان لحد معاد سفره.
أجاد آدهم فكرته مناسبة فقال: خلاص يبقى أيوب يفضل عندك لحد ما نرتب للسفر.
رفع عينيه الدامعة إليهم وقال بصوتٍ محتقن: بس أنا مش عايز أسافر، أنا عايز أقعد هنا، مش هقدر أبعد عن سيف وعُمران.
واستدار برأسه تجاه الأخير يخبره على استحياء: ولا عنك يا آدهم، أنا مش هسافر!
استولى الصمت على المجلس، والحزن يصل لدرجة لا تطاق، مزقه يوسف حينما قال بعقلانية: ده لمصلحتك يا أيوب. وإن كان عليهم فآدهم نازل معاك مصر على نفس الطيارة يعني مش هيبعد عنك يا عم، وعمران وسيف محلولة المكالمات الفيديو مفيش أكتر منها، كلمهم طول النهار والليل لحد ما ترجع تاني.
أزاح دمعة خائنة كادت بأن تفضحه، وهز رأسه بهدوء رغم تمزق قلبه من لوعة الفراق بينه وبين اصدقائه، فحطم على حزنهم ذلك حينما قال بسخرية تامة: بعيدًا عن الجو الشاعري اللطيف ده بينكم بس انتوا نسيتوا حاجة مهمة.
اتجهت أعين الثلاثة إليه بترقب، فاستكمل حديثه ببسمة واسعة: آديرا هترجع مصر مع أيوب ازاي؟ أو بالمعنى الأدق هتظهر قدام الشيخ مهران بأي صلة؟
لوى عُمران شفتيه ساخطًا: هيأخده بالاحضان وهيقوله يا فرحة أمك بيك!
ارتبكت معالمه وهو يتابعهم بنظرات صامته، وردد بعد فترة طويلة من السكون: لو اضطريت هكشفله الحقيقة.
رد عليه الطاووس الوقح ساخرًا: وأيه هي الحقيقة يا ابن الشيخ مهران! انك اتجوزت آديرا اليهوديه؟
هز رأسه ينفي مقصده المبطن وردد مصححًا: اتجوزت سدن المسلمة يا عمران!
جحظت أعينهم من صدمة ما تفوه به، فلم يستطيع أحدٌ ربط ما يقول، فسبقهم على وسأله: تقصد أيه؟ إنت مخبي أيه تاني يا أيوب؟
وضعت أمامها أصنافًا عديدة من الجبنٍ، وأخذت تبحث بين محتوياته بحيرةٍ، فتابعت تلك التي تقبع أمام شعلة النيران تنتظر ما ستحضره فنادتها بيأسٍ: شمس!
استدارت إليها تشير بيدها: هااا، يالا اديني الجبنه!
أشارت لها فاطمة بتذمرٍ: في أنواع كتيرة قدامي عايزة أنهي نوع؟!
اتسعت بسمتها الخبيثة، وأردفت: هاتيهم كلهم يا فاطيما، هعمل صوص جبن مشكل للمكرونة هيبقى تحفة.
وأشارت على البراد قائلة: طلعي انتي الاستربس واعمليه لحد ما أخلص.
ربعت يديها أمام صدرها وتابعت بدهشةٍ ساخرة: شمس الساعة داخلة على 11 وانتي واقفة تعملي مكرونة وفراخ!
وضعت الملعقة بفمها تستطعم مكونات الحليب الممزوج بالطحين، وفور أن استمعت لصوتها الساخر هرولت إليها تصيح: وطي صوتك فريدة هانم هتسمعنا دي ممكن تحرمني من الأكل اسبوع جاي عشان أخس الكام كيلو اللي هيزيدهم بعد الواجبة دي، وبعدين يا فطوم فيها أيه لما نقوم نص الليل نضرب مكرونة واستربس وبانيه؟
جحظت عينيها صدمة: كمان بانيه! انتِ الجواز فتح نفسك على الأكل ولا أيه؟!
جذبت عُلبة الجبن واتجهت لتضع بالبشمل المخفوق هادرة بسخرية: هو فين ده، حبيبتي أنا اتجوزت واحد عامل زي العفريت بيختفي فجأة وبيظهر فجأة. أنا من ساعة الحفلة وأنا معرفش عنه حاجة!
وزادت من وضع الجبن الكيري قائلة بسخط: مفكرش يكلمني مرة. أنا خايفة أسافر معاه مصر ليسبني ويختفي!
وتابعت وهي تضع الملح: اللي مطمني إن على هيكون معايا.
تجهمت ملامح وجهها بحزنٍ، لا تعلم كيف ستظل تلك المدةٍ دونه، علي ليس زوجها فحسب، حسنًا هي تعشقه حد الجنون، سيطر على عاطفتها لدرجة جعلتها ترغب به!
لم يكن بأوسع مخيلاتها أن تمارس حياتها الطبيعية برفقته، وقد نجح هو بجعلها ترضخ له ولمشاعرها، ولكنه لا يعي بأنه بالنسبة لها كالهواء الذي يصعب على الإنسان العيش دونه، كيف تخبره بأنها حينما تلوث الهواء من حولها بفعل ما ارتكبه هؤلاء الجناة كان هو قناعها الذي مدها بالأكسجين النقي حتى تفادت كل تلك الغازات السامة!
تخيلها لفراقه عنها شعرت وكأنها تقف وسط وابل من الأمطار الباردة وللغرابة شعرت بأنها ترتجف دون ارادة منها، فرفعت ذراعيها تضم ذراعيها بخفةٍ.
أفاقت على شمس التي تخبرها بدهشة: الباب اتفتح، شكل على أو عُمران رجعوا!
أزاحت مريول المطبخ واتجهت للرخام المجوف لتتمكن من رؤية القادم، فانزوى حاجبيها وهتفت بذهولٍ: مايا كنتِ فين انتي وزينب لحد دلوقتي!
انكمشت تعابيرها صدمة من وجود شمس وفاطمة بالمطبخ بهذا الوقت، فقد عادت للقصر برفقة زينب ويوسف الذي أصر أن يُوصلهما ولكن زينب كانت تشعر بضيق أنفاسها فور أن استقرت السيارة أمام القصر، فطالبتها أن تتجه بهما لمكانٍ منعش، فرضخت لها مايسان حينما وجدتها بحالة نفسية سيئة.
ارتبكت زينب حينما وجدت شقيقتها تقترب منهما وتتساءل باستغراب: كنتي فين يا زينب؟
ابتلعت ريقها بارتباكٍ قاتل، وتطلعت تجاه مايا كأنها تطالبها بأن تنجدها، فطرقت حقيبتها على الطاولة القريبة وأسرعت لفاطمة تخبرها بتوتر: أنا كنت مخنوقة شوية يا فاطمة لاني اتخنقت مع عُمران النهاردة. فقولت أنزل أتمشى شوية بالعربية وأخدت زينب معايا.
تعلقت عين فاطمة بأصابع الكف البادية على وجه زينب والتورم الملحوظ، انتفض جسدها فجأة وتراجعت للخلف تضم قبضة يدها تستمد القوة لمواجهة كل ما يعتريها من بعض مشاهد الاعتداء عليها المتفرقة، فاستمدت قوة ومجاهدة كبيرة لنطقها المرتبك: أيه اللي في وشك ده يا زينب، قوليلي الحقيقة انتي كنتي فين؟
تمعنت بملامحها المتوترة والمنفعلة، كطبيبة علمت بأن شقيقتها على وشك التعرض لنوبة قاتلة، انعكاس تعابير وجهها حركات أصابع يدها المتشنجة، حدة أنفاسها، لم تكن تعلم بأنها متضررة لتلك الدرجة، لذا استجمعت قوتها لتجيبها بهدوءٍ: مفيش يا فاطمة اتخانقت مع بنت في الجامعة وزي ما انتي شايفة ضربتني بالقلم بس الحمد لله مايا اتدخلت وحلت الموضوع وصممت تخرجني عشان أنسى اللي حصل.
واستدارت لمايا تحذرها بنظرة ثابتة: مفيش داعي انك تخبي عليها لإن الموضوع خلاص اتحل.
تنحنحت مايا وهي تدعي شعورها بالحرج ليمر الأمر، على فاطمة: أنا مكنتش عايزة أقلقها مش أكتر.
صاحت شمس بانفعالٍ وهي تندفع لتراقب اصابة زينب عن قرب: ودي مين المتوحشة دي، لازم تقدمي شكوة فيها للادارة يا زينب.
أكدت لها مايا بحزم: عملنا كده فعلًا والبنت اعتذرت. الموضوع اتحل الحمد لله.
بخطواتٍ متوترة اقتربت فاطمة من زينب، تراقب اصابة وجهها وأصابعها موضوعة بفمها تضغط عليها ببكاءٍ، وما أن اقتربت منها حتى ضمتها إليهل بحركة مرتبكة وبكت وهي تتساءل بصوتٍ مزق قلب مايا وشمس: بتوجعك؟
تعلقت بها زينب وهي تجاهد أن لا تسقط دموعها، فرددت: لا خالص. أنا كويسة والله.
كانت تحمل بداخلها ألمًا نازفًا لما حدث إليها، وما أن رأت حالة فاطمة شعرت بأنها تكتسب قوة يحيطها الخوف من أن تنتكس حالة شقيقتها، شددت زينب من ضمها فهي لا تمتلك سواها، فقدت أبيها ولم يكن لدي شقيقها الأكبر ولا الأصغر حنان تجاهها، لم تعد تمتلك سواها وبالطبع لن تسمح أن تعود لظلمتها القاتلة، إن كانت تعرضت لجرحٍ بعنق السكين شقيقتها انغرس بداخلها السكين بأكمله!
أدمعت أعين شمس ومايا تأثرًا بهما، فقالت مايا بصوتٍ باكي: خلاص يا أوفر إنتِ وهي!
أزاحت شمس دموعها بأصابعها وقالت بشهقاتٍ طفلة باكية: بطلوا عياط بقى الله. وأنا اللي سهرانه أعمل مكرونة وبانيه ومزاجي كان رايق قلبتوهالي نكد.
جذبت مايا قبعة البيجامة للأعلى هاتفة بحنقٍ: آه يا حقيرة مكرونة وبانيه من ورايا!
أجابتها سريعًا وهي تحاول تخليص ملابسها: عملت حسابك معانا يا طفسة بس آآ.
وسحبت نفسًا مطولًا من أنفها وهي تعيد كلماتها: أيه الريحة دي!
ابتعدت فاطمة عن زينب واجابتها بضحكة صاخبة: المكرونة والبانيه اتحرقوا يا عروسة!
هرولت للمطبخ وهي تصرخ بصدمة: مكرونتي. فراخي، صوص الجبن المكس، أووووه لاااااا.
انفجرت الفتيات من الضحك، فأشمرت مايسان عن ساعديها وأشارت بمزح: بينا ننقذ ما يمكن إنقاذه أو نعمل غيرهم أنا بصراحة جعانه جدًا!
وصاحت وهي تهرول للمطبخ: هيا بنا يا فتيات!
اختلج السكون بينهم، ما قاله ليس هينًا بالمرةٍ، الجميع يجلس بصمتٍ قاتل، النظرات تحيل بهم وتجتمع لآيوب المتحفز لاي سؤالًا قد يُطرح، فكان عُمران أول من تحدث: يعني البنت دي المفروض إنها مسلمة؟
هز رأسه يؤكد له، مال يوسف يستند على ساعديه: ازاي الأخ يقتل أخوه بالشكل البشع ده، وبعد ما أخد أولاده وكبرهم جاله قلب يقتل أخوها ويحاول يقتلها!
أجابه عمران ببسمة ساخرة: مستغرب ليه يا دكتور دول ولاد معندهمش ملة ولا ضمير.
تنهد على بحزنٍ، وأخفض ساقيه عن طرف الاريكة ليعتدل بجلسته متسائلًا بحيرة: طيب ليه مش عايز تديها الدفتر اللي سابه أخوها يمكن لما تعرف الحقيقة الموضوع يفرق معاها وتأسلم!
رد عليه آيوب بعقلانية ورزانة: لآني ببساطة مش عايزها تحس إنها مجبورة إنها تأسلم، عايزها تختار ده بارادتها ووقتها هسبها تعرف الحقيقة.
وتابع بابتسامة جذابة: وبالمناسبة ده قرب يحصل لإنها واحنا مخطوفين قالتلي إنها عايزة تعرف أكتر عن ديني فده معناه إني قربت أوصل للي أنا عايزه.
ابتسم آدهم وأشار له باعجابٍ: مطلعتش سهل يابن الشيخ مهران!
تعالت ضحكاته الرجولية مرددًا بمشاكسةٍ: عيب عليك يا سيادة الرائد.
تعالت بينهم الضحكات الرجولية، ومن بينهم انطلق رنين هاتف يوسف فحمله وتطلع للمتصل وهو يقول بضيق: يا خبر أنا نسيت جمال خالص، أنا دبسته مع سيف في المستشفى كل ده.
برق آيوب بصدمة، وتساءل بقلقٍ: سيف في المستشفى بيعمل أيه؟
سيطر عليهم الوجوم، فانتفض بجلسته يردد بذعر: سيف حصله أيه يا دكتور يوسف؟
أخفض عينيه أرضًا بحزنٍ، فصاح منفعلًا: بسببي صح! أنا السبب!
وقف قبالته عُمران يمسك ذراعيه: اهدى سيف كويس وبخير.
غصته تزداد كلما تيقن بأنه السبب فيما أصابه، بالطبع تمكنوا منه ليحصلوا على الهاتف، انتفض بين ذراع عمران وهمس له باكيًا: عايز أشوفه يا عُمران!
ربت على ظهره بحنان وحزن يغترفه: هاخدك ليه بس اهدى.
وأبعده عنه مشيرًا له: هتوصلها الأول للملحق وبعدين هنطلع على المستشفى.
وتابع وهو يخرج برفقة الشباب: هاتها وانزل.
ولج أيوب للغرفة فوجدها تغفو على الفراش بانهاكٍ وبنفس ثيابها، حركها برفقٍ وهو يناديها: آديرا. انهضي سنترك هذا المنزل.
نهضت بتعبٍ يهاجمها ورددت: إلى أين سنذهب؟
اتجه يجذب أغراضها بالحقيبة الموضوعة جانبًا، فخشى أن يخبرها بأنه من سيرحل برفقته هو نفسه صديقه الشرس الذي تهابه، فابتسم يجيب بخبث: سنذهب برفقة أحد أصدقائي، فالمكان لم يعد أمانًا.
هزت رأسها بخفوتٍ، ونهضت تحتضن كتفيها المصاب بتعبٍ تسلل لصوتها الهامس: أشعر وكأن هناك سكينًا يمزق كتفي.
استدار إليها يتفحص موضع الألم، وقال: لنغادر الآن وحينما نصل تقومين بتغير الضماد.
نهضت عن الفراش فاحتدت أنفاسها فور أن شعرت بالأرض تتراقص بها، وتلقائيًا استندت على ذراعه هامسة له: أنا لست بخير أيوب. أشعر وكأن حوائط المنزل تدور من حولي!
أدمى شفتيه السفلية بضيق ومع ذلك ساندها حتى ولجوا للمصعد.
هبط بها أيوب للأسفل حيث تصطف سيارة يوسف وعُمران، فما أن رأته آديرا حتى تركت ذراع أيوب الذي يعد عكازها بعد يومًا متعب رأت به الموت أكثر من مرة.
كبت على ضحكته بصعوبة، وأشار لأخيه: روح إركب مع آدهم وأنا هسوق أنا بدل ما البنت يجيلها سكتة قلبية قبل ما نوصل.
أومأ له باستسلامٍ غريب، وتركهما وغادر لسيارة آدهم فتحرك به على الفور.
عاد أيوب يساندها حتى استقرت بالمقعد الخلفي واستقر هو جوار علي، اتجهت السيارتين للقصر، ففتح على الملحق لهما، وولج عُمران للداخل ليبلغ الخدم بوجود ضيوف بالخارج ليمدهم بما يحتاجوه.
ولج عمران المطبخ من الباب الخلفي، فوجد شقيقته تجلس برفقة زوجة أخيه وزينب يتناولون الطعام بجو من المزح والضحك، فابتسم وغض بصره مستكملًا طريقه لغرف الخدم الجانبية للمطبخ، فتفاجئ بزوجته تهدأ النيران وتراقب القدح.
جذبت مايسان الملعقة ورفعتها لفمها وهي تحرك شعرها للخلف حتى لا يسقط بالملعقة، تناولت ما تحمله وهي تهمس بإعجابٍ: أممم البشاميل بتاعي أحلى من بتاع شمس بكتير.
تمردت خصلة من شعرها للأمام فرفعته بضيقٍ، وهي تعود لتقليب المحتويات، شعرت بيدٍ تجمع خصلاتها وتضعها برباطًا انسدل طرفه على وجهها فتمكنت من شم رائحة البرفيوم العالقة به باجتيازٍ، أغلقت عينيها بقوةٍ ولسانها يردد دون ارادة منها: عُمران!
مال على كتفها يضمها إليه وهمسه المغري يصل لمسمعها: جنبك وقريب منك يا حبيب قلبي!
طمستها مشاعرها وقربه الخطر يقتحم أسوارها، تناست كل شيءٍ، حتى وقوفها أمام نار الموقود، مالت إليه تستجيب لحبه المطالب بقربها بعد يومًا قضاه وهو يجاهد السيطرة على اعصابه المشدودة، استكانت على صدره وصوت اندفاع دقات قلبه لقربها يرضي طبلة أذنيها، فابتسم وهو يهمس لها بمكرٍ: الطبخة اللي اجتهدتي وبتتباهي بيها هتولع مع شرارة الحب يا بيبي!
رددت بعدم فهم: طبخة أيه!
مال بها يغلق الزر الألكتروني وهو يردد من بين ضحكاته: طيب خليني أنقذها لما تفوقي من سحر قربي!
برقت بصدمة وهي تستعيد ادراكها تدريجيًا، فدفعته للخلف وهي تراقب الجانب الخاص بطاولة الفتيات: عُمرااان أنت بتعمل أيه يا مجنون، أختك ومرات أخوك بره!
منحه نظرة جريئة غير مبالية بما ذكر، وقال ويده تمتد لتعدل من جرفاته الذي يحتضن خصلاتها بتملك: كده عندك ليا اتنين جرفات، واحد اتخليت عنه عشان حبيب قلب جوزه يعرف يأكل من غير ما يتضايق والتاني أخدتيه مني يوم فرح علي.
وانحنى تجاهها يهتف بخبث: فاكرة اليوم ده يا مايا؟
ارتبكت وعينيها تتسع صدمة من تلميحاته الوقحة، فرفعت الملعقة تهدده بها: امشي يا عُمران. إمشي بدل ما أبهدلك بالبشاميل!
جذب الملعقة منها وتناول المعكرونة التي صنعتها ببطءٍ متعمدًا أن يهتف دون مبالاة بتعصبها: أمممم. لذيذة أوي.
وغمز لها بمشاكسة وهو يتابع طريقه: شيلي ليا طبق لحد ما أرجع. مش هتأخر عليكِ يا بيبي.
رفعت يدها تتحسس نبض قلبها المرتجف بحسرةٍ: هيموتني في مرة من أفعاله وجرائته دي!
وزفرت بغيظٍ وهي تلقي الملعقة من يدها، تنهدت بقلة حيلة وهي تجذب أحد الاطباق لتسكب لها، فعاد لها حديثه يتكرر بمخيلاتها فهتفت بدهشة: هو رايح فين تاني!
تجمعوا مرة أخرى قبالة باب القصر، فصعد عُمران بسيارة آدهم جوار أيوب بالخلف، بعد أن أقنع على بالبقاء والاسترخاء بعد يومه المجهد هذا، فولج للداخل وغادرت سيارة آدهم للمشفى ومن خلفها سيارة يوسف.
اتجه للدرج ليصعد للأعلى ولكنه توقف فور سماعه صوت ضحكات قادمة من المطبخ، اتجه للداخل باستنكارٍ من استيقاظ أحدٌ بوقتٍ هكذا، فابتسم وهو يردد بسخرية: دي العيلة كلها هنا وأنا مش واخد بالي!
صاحت شمس بحماسٍ: علي، تعالى اقعد عما أجبلك طبق.
جذب المقعد المجاور لفاطمة التي تزيح بقايا الطعام على فمها بحرجٍ، فراقب الموضوع على الطاولة قائلًا بصدمة: حد يأكل مكرونة والساعة داخلة على 12! شمس إنتي مش هتبطلي تعملي مصايب بليل دي.
اجابته بمزحٍ وهي تضع أحد الاطباق أمامه: الجوع كافر يا دكتور علي!
وتابعت بحنقٍ: وبعدين انت متضايق أوي ليه ما مراتك منسجمة معايا وعجبها الوضع.
ارتشفت فاطمة من كوب المياه بحرجٍ، فابتسم على وسحب شوكته يلتهم الطعام وهو يردد بحب: اللي يعجبها يعجبني بالإجبار، ومستعد أنزل كل يوم بليل أطبخلها أنا بنفسي.
مالت شمس على الطاولة تستند على ذراعيها، ونظراتها تمر بينهما بمشاكسة: يا الله على الرومانسية والحب، أنا لو سمعت الكلام والحركات دي من عُمران مش هتفاجئ لكن دكتور على أخويا الهادئ الخجول مش قادرة!
وتابعت وهي تغلق عينيها بتنهيدة: صحيح الحب بيصنع المعجزات!
أفاقت على ضربة خافتة أصابت أعلى رأسها وقولًا حازمًا: فوقي من أحلام العصر اللي انتي عايشاها دي وروحي هاتيلي مايونيز!
استقامت بوقفتها وهي تُتمتم بضيق: ماشي يا علي!
ضحكت فاطمة بصوتها كله، فمال عليها يسألها باهتمامٍ: زينب فين؟
ردت عليه وهي تراقب طبقها حتى تهرب من نظراته الحنونة: أكلت معانا ولسه طالعه من شوية.
وحينما تذكرت ما حدث لها قابلته بنظرة حزينة: كانت راجعه من برة وشها وارم وقالتلي إن ليها زميلة في الجامعة اتخنقت معاها ومايا راحتلها وحلت الموضوع، كنت عايزاك يا على تروحلها الجامعة وتشوف البنت دي لتضايقها تاني أو تعملها حاجة.
وتمردت دموعها وهي تخبره: أنا ماليش غيرها يا علي.
سحبها بأحضانه وربت على رأسها بحنانٍ وقلق من معرفتها الحقيقة، فقال: متخافيش يا حبيبتي أنا هروح معاها بكره بنفسي وهشوف الموضوع ده، المهم متزعليش نفسك.
رفعت رأسها إليه ومازالت قريبة منه: على أنا حاسة إن زينب فيها حاجة، بتحاول تخبي عني ومش راضية تقولي مالها بس أنا حاسة بيها والله.
وتابعت بانهيارٍ هزمه: نفسي أخدها في حضني وأحتويها بس مش عارفة يا علي، أنا أول ما شوفت وشها كده اتخشبت وافتكرت اللي حصلي وآآ، وخوفت أوي يكون اتعرضت للي أنا اتعرضت ليه، آآ. أنت مش فاهمني أنا أي عنف بشوفه بيفكرني باللي أنا شوفته.
خشى أن يتصاعد أمرها لنوبة قد تعيقه عن طريق تقدمه بما أحرزه، فربت على حجابها بحنانٍ وحب: اهدي يا فطيمة. كل ده من خيالك إنتي، مفيش حاجة من دي صح.
نفت ذلك باشارة متعصبة: لأ يا علي. صدقني أختي فيها حاجة بس هي خايفة تتكلم وتقولي علشان حالتي، إنت مشوفتنيش من شوية لما شوفتها حالتي كانت عاملة ازاي لدرجة انها خافت عليا ومكنتش حابة إني أشوفها بالوضع ده!
ضمها إليه بكل قوته وانحنى يقبل جبهتها، وهو يعمق نبرة صوته الرخيمة: خوفك عليها وخوفها عليكي ده شيء طبيعي يا فاطمة، مش معناه إنها بتحرص علشان تعبك، ثم إن مين اللي قالك إنك مريضة؟! انتي بقيتي زي الفل ومبقتيش محتاجاني معاكي خلاص!
تعمقت بالتطلع إليه بنظرة متلهفة، فضم ذقنها بأبهامه وهو يستكمل بذكاءٍ: تفتكري لو بخدعك كنت هسيبك وانتِ تعبانه وهسافر مصر؟
أضاء الأمر بمُقلتيها، فقال بابتسامة جذابة: فاطمة انتي بقيتي كويسة من اللحظة اللي أخدتي فيها القرار إنك تكوني زوجة ليا.
اقتمع وجهها من فرط الخجل، فنهض وهو يقدم يده لها: الوقت إتاخر يالا نطلع.
أشارت تجاه المطبخ باستغراب: والمايونيز اللي طلبته!
جذبها بقوةٍ جعلتها تستند على صدره: مش عايز غير حضنك!
واتجه بها للأعلى تاركًا شمس تراقبه بنظراتٍ مغتاظة، فعادت إلى طبقها تلتهمه وهي تهدر بانفعال: أخوات أخر زمن الواد بيطرقني!
زفر جمال بغضب وهو يراقب هاتفه: أخوك مبيردش لييه، أنا غُلبت معاك ومفيش أي فايدة!
ضم يديه معًا أعلى صدره وهو يخبره ببسمة مستفزة: ولو جبتلي أبويا نفسه مش هأخد حقن بردو، فاستسلم بقى يا جيمي وفكك من الممرضات اللي هيخلونا نخسر بعض دول.
وزع نظراته المغتاظة بينه وبين فريق التمريض المنصدمين من ذلك المريض الملقب بالطبيب، فردد بحرج: أعتذر منكن صديقي الأبله لا يرغب بتناول الأبرة دون وجود أخيه، لقد هاتفته وعلى الأرجح هو على الطريق.
ضحك سيف وصاح وهو ينحني باحترام مضحك: حبيبي يا جيمي.
بالخارج.
وقف الشباب يتابعون الممرضات التي تخرج من الغرفة تباعًا بدهشةٍ، وما أن ولجوا للداخل حتى صاح جمال: يوسف إنت لبستني أخوك ومشيت! الدكتور المحترم مفرج علينا المستشفى من ساعتها، مش راضي يأخد لا حقن ولا محاليل أمال جايبنه هنا يهبب أيه!
ربت آدهم على كتفه بشفقةٍ: اهدى يا بشمهندس مش كده.
اتجه عُمران لفراشه يردد بسخرية: بقى كل المزز دي تعدي عليك ومفيش واحدة قدرت تغريك للحقنه!
هز رأسه بتأكيدٍ: بخاف من الحقن يا عُمران.
سيف!
نطقها أيوب الذي وقف يراقب اصابات جسد سيف بصدمة، فانتبه له الاخير وصاح بلهفة: أيوب! آه يا ندل المستشفى بتتملى وبتتفرغ عليا من ساعتها وإنت لسه فاكر تآآ...
ابتلع باقي جملته حينما اقترب أيوب منه فلاحظ الكدمات الزرقاء التي تملئ وجهه، فتساءل بفزعٍ: مين اللي عمل فيك كده؟
ووزع نظراته بينهم بشكٍ: الصبح أنا ودلوقتي أيوب!
وعاد يتمعن به هاتفًا بعدم تصديق: عمها وصلك! عشان كده أخدوا تليفوني!
مال عليه أيوب يحتضنه بقوة ألمته، واستمع له يقول بحزن: أنا السبب في اللي حصلك، قولتلك قبل كده إن الأذى هيطولك معايا.
ضمه إليه وقال بألمٍ يعتصر رأسه: ولو فيها موتي أنا راضي. بس المهم أنك متتأذاش يا أيوب.
جلس عُمران يضع ساقًا فوق الاخرى بعنجهيةٍ: لو خلصتم حلقة العشق الممنوع ده اترزع مكانك يا عم أيوب، مش ناقصين تقطيع في القلب والشرايين بكفايا اللي عملته فينا!
ابتعد عنه واتجه يجلس جوار آدهم بالاريكة المقابلة لعمران، فتساءل سيف بفضول: أيوه يعني أيه اللي حصل، دخلت وحضنت ومحكتليش عمل فيك أيه؟!
مرر عُمران يده على جبينه بتعبٍ، فلكزه بساقه الممتدة إليه: بكره يبقى يحكيلك واتكن يا سيف عشان وربي أطلق اللي في رأسي عليك.
تساءل أيوب ببعض الخوف: هو أيه اللي في رأسك يا عُمران؟
كبت آدهم ضحكاته ومال عليه يهمس له: كلاب صعرانه تقريبًا سمعته بيقولها تلاتين مرة!
ابتلع ريقه بارتباكٍ ومال على آدهم يخبره بصوت منخفض: عُمران بيبقى مخيف أوي لما بيتعصب، كويس إنك جيت هناك لوحدك، لو كان جيه وقفشها مقربة مني كده كان هيضيع مستقبلي!
تعالت ضحكات آدهم بصوتٍ ملحوظ، فاعتدل رأس عمران المسترخي على المقعد ليمنحه نظرة جعلته يتنحنح مستعيدًا ثبات تعابيره، ومازالت أذنيه ملتصقة بفم أيوب الذي يعيد قول: عارف لو آديرا عرفت آنها في بيت عُمران مش بعيد تسلم نفسها وتقر على الجريمة اللي حصلت، هي في اعتقادها إنه بيت على وخدمنا الدكتور على لما هو اللي فتحلنا البيت وفضل معانا، عن صدمتها لما تعرف إنهم اخوات وانهم في بيت واحد!
ابتسم آدهم بينما يسترسل ايوب حديثه الهامس مستغلًا انغلاق أعين عمران واسترخائه على المقعد، بينما مازال جمال ويوسف يقفان بالخارج برفقة احد الاطباء للاطمئنان على صحة سيف: تعرف أنا نفسي بترعب منه بس بحبه أوي والله! إنت مصدقني صح؟
استدار إليه يجيبه بضحكة ساخرة: مصدقك طبعًا يا ايوب ده أنت ناقص تدخل جوه ودني وتقولي الكلام فده اداني تأكيد أنك ميت في جلدك منه مش مرعوب بس!
ضحك أيوب وأشار مؤكدًا له، ثم قال ببسمة هادئة: أنا صحيح زعلان اني نازل مصر بكره بس فرحان إنك هتكون معايا.
وبارتباكٍ سأله: آدهم هو أنا ينفع أفضل على تواصل معاك لما ننزل مصر؟
تبددت ابتسامته وأجابه بضيق: إنت كنت هتقطع علاقتك بيا يابن الشيخ مهران!
وبسخرية قال وهو يقلد نبرته: أمال أيه أنا بحس باحساس غريب من نحيتك وبشم فيك ريحة أبويا كنت بتتسلى بيا!
اتسعت ابتسامته وقال: خلاص هكلمك ونتقابل دايمًا.
ابتسم آدهم وأخبره بحب: مش بمزاجك يا أيوب هتقابلني غصب عنك وخصوصًا إني خلاص وصلت لمكان ابن عمك وهفتح القضية من تاني.
انتفض بلهفة: بجد؟
هز رأسه يؤكد له فكاد بأن يستفسر عما يقصده فناداه سيف بوجع: أيوب، تعالى هنا يا حيوان أنا مش ملاحق ألمك من جنب الخلق! جاي تزورني وتخفف وجعي ولا تحب وتضرب صحوبية مع سيادة الرائد!
انفجر آدهم ضاحكًا وهو يضرب كفًا بالأخر، بينما أسرع أيوب للمقعد القريب منه يخبره بضيق مصطنع: مالك بيا يا سيف مش شايفني متشلفط قدامك!
منحه نظرة ساخرة اتبعها قوله: وأنا قدامك أيه حاطط مكياج! انا اتدشملت بسببك مش واخد بالك ولا اللكمة اللي اخدتها ضيعت النظر!
ضحك رغمًا عنه وانحنى يربت على صدره كالطفل الصغير: معلش يا سي?و علقة تفوت وإن شاء الله متتكررش تاني.
رفع أحد حاجبيه باستنكار: معناه أيه الكلام ده، هتعقل وتبطل تحشر مناخيرك مع اليهود!
هز رأسه وأجاب: عقلت وتوبت بعد المرمطة اللي اتمرمطتها.
وانحنى يهمس له بصوتٍ يدعي البكاء الساخر: صاحبك اتمرمط واتحط عليه بالجامد من عمها ابن الأ، شووفت كنت هشتم في ابتلاء أبشع من كده.
ضحك سيف ساخرًا: لا ده مش ابتلاء عمها ده من صحوبيتك مع عُمران الوقح.
ماله عُمران يا دكتور؟! مش هتلم لسانك ده بروح أمك النهاردة!
لفظ بها ذاك الغاضب بعدما اعتدل بمقعده، ونهض يشير للاخر: هتيجي معايا ولا مشرف مع أبو لسان طويل!
معاك يا باشا بس اهدى كده وروق!
قالها أيوب وهو يراقب ملامحه بتوترٍ، فولج جمال للداخل يشير لعمران: تعالى بره عايزك.
تركهم وخرج لجمال أمام الغرفة، فقال: عُمران أنا عارف إن الوقت مش مناسب للكلام ده بس اللي حصل النهاردة لازم تعرفه.
فرك رأسه المتعب وقال: اتكلم يا جمال أنا مش هسحب من على لسانك الكلام!
سحب نفسًا مطولًا وألقى قنبلته الموقتة: خالك جاني المستشفى النهاردة بحجة إنه بيزور والدتي وبصريح العبارة كده هددني إني انسحب من مشروع المول التجاري لإنه عايز يدخل معاك فيه.
احتد الغضب برماديته بشكلٍ سافر، وصاح بعنفوانٍ: مشروع أيه ده اللي عايزني أدخله معايا شريك فيه، اتجن ده بروح أمه! وبيهددك إنت ليه خايف يواجهني بطمعه وجشعه مش جديد عليا!
راقب جمال الوجوه من حوله وصاح: احنا في المستشفى يا عمران ميصحش كده.
هدأت انفاسه المنفعلة تدريجيًا، وأضاف بعزمٍ: ماشي يا نعمان أنا وراك لما اجيب أخرك، وعلى رأي المثل العيلة اللي مفهاش صايع حقها ضايع!
ارتعب جمال من رؤية ابتسامته المخيفة وسأله بارتباك: ناوي على أيه يا عُمران؟
اتسعت ابتسامته وأجابه بفحيحٍ مخيفٍ: كل خير يا جيمي ده الخال بردو!
بالداخل.
بذل يوسف مجهودًا مضاعفًا حتى تقبل سيف أن يوضع بيده أبرة المحلول، فاضطر الأطباء أن يضعوا بالمحلول الآبر، فجأتهم ليلى حينما ولجت تحمل عمود معدني من الطعام، وضعته على الكومود وسحبت أحد الاطباق ومن ثم سكبت له قائلة: عملتلك شوربة خضار وبإيدي عشان تعرف معزتك يا دكتور سيف.
ابتسم وهو يشير ليوسف: سندني يا يوسف الريحة تجوع لوحدها وأنا واقع من الجوع.
عاونه يوسف حينما رفع السرير بريموت متحكم، فقدمت له ليلى الطبق وقالت ببسمة رقيقة: ألف هنا.
اشار لها يوسف وهو يضع الصينيه أمامه: أعملي طبق لأيوب يا دكتورة ليلى، وشوفيله مضاد للالتهابات للاصابات اللي في وشه.
تنحنح أيوب بحرج لتقززه من تناول تلك الشوربة: انا كويس يا دكتور يوسف.
ضحك باستهزاءٍ وأعاد ما قال: اديله طبق وشوفيله الدوا يا دكتورة.
هزت رأسها بطاعةٍ واتجهت إليه تناوله الطبق: اتفضل يا بشمهندس، هروح أجبلك من الدوا وراجعه.
تناوله منها مرددًا باحترام: شكرًا.
غادرت ليلى الغرفة وانشغل يوسف باطعام سيف، بينما ظل أيوب يراقب طبق الشوربة بأعينٍ منفرة، وحينما رفع رأسه لمن يجاوره وجده يحدجه بنظرة مهتمة وقال: كل، مستني أيه؟
ابتلع ريقه بصوت مسموع وكأنه سيتناول شيئًا سام وقال: بقرف منها يا آدهم!
ابتسم ومال عليه يهمس له: ما انت عملتهالي قبل كده واجبرتني أكلها!
راقب الطبق لقليل من الوقت وقال: لازم أكل الدكتورة ممكن تفكرني قرفان من أكلها بس أنا والله مش بحبها.
اتسعت ابتسامة آدهم وقال كأنه يعامل طفلًا صغيرًا: جدع. كل وخلص طبقك بسرعة قبل ما ترجع.
ابتلع سخريته وبدأ بنزع حبات البازلاء الخضراء(البسلة)، ووضعها على أحراف الطبق، ثم بدأ بتناولها، فقد كانت شهية للغاية.
تابعه آدهم باستغراب، وكأن نسخته تعيد ما يفعله، انتشرت طرقات باب الغرفة ومن بعدها ولجت ليلى واقتربت من أيوب لتقدم له الدواء، فحاول سحب البازلاء عن سطح الطبق سريعًا قبل أن تراه، ففجأه آدهم حينما جذبها ووضعها بفمه سريعًا يتناولها وملامحه تشمئز وهو يلوكها بنفورٍ.
تمعن به أيوب بصدمة وتناسى يد ليلى التي تقدمها له بالدواء، فنادته لتجذب انتباهه: الدوا يا بشمهندس.
انتبه لها فتناول الحبوب والمياه منها وشكرها بامتنان وما ان غادرت حتى جذب منه آدهم زجاجة المياه يتجرعها مرة واحدة ليقابله بنظرة ساخرة: شوفت عشان بحبك بلعت أيه؟
هز رأسه بابتسامة واسعة: مش متخيل أساسًا إنك أكلتها، إنت كنت بتشيلها يوم ما حطتهالك في الشوربة!
جذب المنديل يمسح فمه وأردف بتسلية: عد الجمايل يابن الشيخ مهران.
قاطعهما صوت الطاووس الوقح: هتبات هنا ولا أيه يا عم أيوب!
ودع آدهم وهرول سريعًا للخارج يصيح: أوعى تتعصب أنا في ديلك!
منحه نظرة ساخرة واتجه للمصعد فولج خلفه وهو يلوح لآدهم بيده فابتسم وهو يلوح له هو الاخر قبل ان ينغلق المصعد ويختفي بهما.
تراجعت بعيدًا عن الرخام الأسود المحيط لحوض الاغتسال بصدمة، يديها مضمومة على فمها، ولسانها ينطق دون توقف: مش ممكن! لأ مستحيل!
تراجعت فريدة حتى جلست على غطاء الحمام ومازالت نظراتها تحيط اختبار الحمل الايجابي الموضوع جوار حوض الاغتسال.
اعادت خصلات شعرها للخلف ومازالت تحت تأثير الصدمة: لأ! ازاي ده حصل!
وتابعت ودموعها تلألأت بحدقتيها: هقول أيه للأولاد! وشمس! شمس فرحها بعد كام يوم لا مستحيل!
اعتلت الصدمة ملامحها لدرجة جعلتها تعيد الاختبار لأكثر من ثلاث مرات، وأكثر ما يهزمها بتلك اللحظة الندم والصدمة، نعم مازالت صغيرة تتمتع بجسدٍ ممشق، من يرآها لا يجزم بأنها قد أنجبت يومًا بفعل حفاظها على وزنها والرياضة المنتظمة ولكن كيف ستفعلها وأولادها بات كلًا منهما رجلًا على وشك استقبال خبر حمل زوجاتهما، وابنتها على بعد أيامًا من زواجها!
ضمت فمها ومازالت تحاول الاستيعاب وبعصبية صاحت وهي تلقي الاختبار بسلة القازورات: ازاي مأخدتش بالي!
وصل آيوب برفقة عُمران للقصر، فولج للملحق الخارجي واتجه لغرفة فارغة وغفى بها بتعبٍ، بينما صعد عُمران للأعلى واتجه لحمامه الخاص، انتعش بحمامٍ دافئ واتجه لفراشه بعد أن ضبط المنبه على وقت الفجر مثلما يعتاد.
مضت ثلاث ساعات حتى استيقظ، خرج للشرفة الخارجية يتفحص السماء ببسمة خافتة، ومن ثم عاد لجناحه يجذب سجادته الخاصة وحامل المصحف الخاص بمصحفه الكبير، وهبط للحديقة.
فرد سجادته ووضع حاملة المصحف جواره، أدى صلاته بخشوعٍ تام وحينما انتهى وقف يتمعن بالحديقة مستمتعًا بتلك الأجواء المحببة إليه.
جلس على سجادته يرتشف المياه وما أن استكان وسحب حاملة مصحفه الشريف وبدأ بالتلاوة بصوتٍ عذبٍ خاشع، فردد آية استحضرته بكل ذرة داخله
بسم الله الرحمن الرحيم.
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا» (سورة المائدة).
صدق الله العظيم.
وتابع قراءته بصوته الخاشع إلى أن انتهى من وارده بشكلٍ متقن، حتى اتحنى يغلق مصحفه وقال بصرامةٍ دون أن بتطلع خلفه: هل ستمضين اليوم بأكمله وأنتِ تراقبيني؟!
انتفضت تلك المختئبة بين فروع الشجر العملاق، وكادت بالعودة وهي تلعن فضولها الأبله بالتنزه بتلك الحديقة الرائعة، فأسقطها قدرها بوجهة ذلك الشرس، فتعجبت حينما رأته يصلي مثلما يفعل أيوب.
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، وكادت بأن تفر راكضًا ولكنها وجدته يردد ومازال يلملم أشيائه الخاصة: كنت فظًا معكِ طوال تلك الفترة أعتذر عن ذلك.
أسبلت بعدم تصديق وخرجت من بين الأشجار تراقبه بنظرات مشككة، فوجدته يتطلع أرضًا أسفل قدميها مثلما يفعل زوجها، فقالت بتيهةٍ: أنت تبغضني كثيرًا فلماذا تعتذر لي فجأة؟!
ابتسم بخبث، فبعد ما استمع له بالأمس من أيوب اكتشف أنه شابًا ذكيًا يستدرجها لقيم دينه دون اجبارًا منه، ربما كان يمقتها كثيرًا لإنه يكره جنسية هؤلاء الذين يتسببون بما يحدث بأرض فلسطين، ولكن ما هون عنه سماعه لقصتها فأشفق عليها.
تنحنح عن صمته يخبرها وهو يتجه للمقعد المجاور للمسبح الضخم: ليس لسببٍ معين، أخطأت وإعتذرت وانتهى الأمر!
فركت أصابعها بارتباكٍ وهي لا تعلم أتثق به أم تركض عائدة لآيوب مصدر أمانها، ولكن فضولها كان قاتلٍ، فاقتربت تبعد المقعد المجاور لطاولته لتكون على بعدٍ كبير منه، حتى تلوذ بالفرار الآمن إن تطلب الأمر.
منع ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياه وانشغل بترقب المياه الصافية من أمامه ليعلم ما الذي تريده باقترابها هذا، فاتته تتساءل بفضول: رأيتك وأنت تصلي مثلما يفعل أيوب فاندهشت قليلًا.
رفع احد حاجبيه بذهولٍ: لماذا؟
أجابته بتلقائية مضحكة: أيوب يفعلها لذا هو خلوق للغاية وأنا أثق به كثيرًا وأنت تصلي مثله ولكنك لست مثله، أنت مخيفًا، آآ. أعني أنت سيئًا آآ، أنت آآآ...
واستطردت وهي تقبض على طرف المقعد: أعتذر ولكنك تخيفني للغاية.
تنهد واستند على ظهر المقعد: لا عليكِ، أنا أعلم ذلك.
عبست بحدقتيها صدمة: هل أنت على ما يرام سيدي؟
كبت ضحكته بصعوبة وقال بجدية مصطنعه: هل لي بسؤالك ما الذي تفعلينه خلف الشجرة؟
ردت تجيبه: رأيتك تصلي فتعحبت لذلك، أيوب يخبرني أن الصالحين لا يتركون صلواتهم وأنت شريرًا فاسقًا يا سيدي!
برق بغضب جعلها تتأهب لما هو قادم، ومع ذلك سيطر على غضبه وقال: وما الذي يدفعك للظن بأنني شرير فاسق يا امرأة؟
بتلقائية تتدعي البراءة اجابته: لانك كلما تراني تبرق بوجههي وكأنك ستتحول لأفعى سامة تعتصرني!
همس بسخط: يا ريت كنت اتحولت ولسعتك وخلصنا من خلقة أمك!
عاد ينظم أنفاسه ويستعيد قوته المهدورة، واعترف لذاته ان آيوب يبذل مجهودًا مع تلك الحمقاء يستحق كاسًا ذهبيًا اجلالاً له، وقال: ولكني لم أفعلها أليس كذلك؟
هزت رأسها تؤكد له صدق حديثه، فتابع ببسمة زائفة: اطمئني ديني لا يسمح لي بقتل أي نفس، الله عز وجل حرم علينا ذلك ومن يفعلها مصيره جهنم وبئس المصير، أنتِ رأيتي بعينيكِ أنني أودي صلاتي لأتقرب من الله عز وجل فلما عساني أرتكب ذنبًا عظيمًا كذلك.
رمشت تستوعب ما قال، وسألته باهتمام: هل يعني ذلك بأن الله سيحاسب عمي عما ارتكبه بحقي وبحق أخي؟
أكد لها: بالطبع كلنا سنحاسب عن أفعالنا، وعن المعاصي التي ارتكباها بالدنيا.
ألم ترتكب معاصي يومًا؟
ابتسم ساخرًا وقد تقاذف إليه كل السييء الذي فعله بحياته: بلى، فعلت كل شيء تقريبًا. ولكني تراجعت عن ذلك حينما كشف الله عز وجل عن بصيرتي.
تابعته باهتمامٍ وتساءلت بلهفة: ومتي سيُكشف عن بصيرتي؟
التفت تجاهها وقد لمس ما بداخلها، فقال يطمنها: لا أعلم، ولكني أشعر بأنه سيحدث قريبًا، قريبًا جدًا.
اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ وكأن الحياة فتحت ذراعيها وتلقفتها داخلها، فاعتدلت بجلستها وقالت بتحفزٍ: فلتخبرني إذًا كيف أعتنق دينك؟
وتابعت باستفهامٍ مهتم: هل يجب أن أذهب لمكانٍ محدد أو مقابلة أحدًا لفعل ذلك؟
كاد أن يجيبها حتى أستوقفهما صوتًا ذكوريًا يهتف بفزعٍ من بين أنفاسه اللاهثة بسبب ركضه السريع: آديرا أنتِ هنا! لم أترك مكانًا الا وبحثت عنكِ فيه.
وانحنى أيوب يستند على ركبته ليواجه موجة سعالها من فرط مجهوده، ومن ثم انتصب قبالتهما، يوزع نظراته بينهما بصدمة قد احاطته لحظة أدراكه فردد وعينيه تجوبهما باستنكارٍ: ما الذي يحدث هنا؟!
نهضت آديرا واتجهت إليه تخبره بحماسٍ: ذلك المتوحش ليس سيئًا بالمرة أيوب، لقد كان لطيفًا للغاية.
بالطبع لم ترى تلك الأعين الملتهبة من خلفها، فكانت نصب أعين أيوب، وما زاد صدمته حينما اتجهت لعمران مجددًا تسأله بحماسٍ صدم أيوب وأصابه في مقتلٍ: فلتخبرني الآن كيف أصبح مسلمة مثلكم!