رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والثلاثون
حينما تهاجمك الدنيا بكل ما فيها، وتكسر كل عزيمة تحليت بها، وحينما تجد ذاتك وحيدًا، بائسًا، تعتكف عن الحديث والشكوى حينما تصبح دون جدوى، حينها ستجد ذاتها تنحصر بجزءٍ صغيرًا يفترشه سجادة منظمة، وملابس نظيفة، وضوءًا كاملًا واقبالًا جميلًا يليق بالله عز وجل.
هي الآن ماسدة بين يديه، تبكي قهرًا وتفرغ كل ما بداخلها، خمسة سنوات مضت عليها ومازالت تدفع الثمن من عمرها الذي فنى فتقسم بأنها تخطت السبعون عامًا وإن كانت لا تتعدى الخامسة والعشرون، تجد سكينتها على سجادتها.
انتهت من صلاتها وجلست ترفع يدها وتردد بصوتٍ ذُبح فؤاده واحتقن بأوجاعها: يا رب لو كان حيًا يرزق هونها عليه وفك كربه وحبسه يا رب.
وتابعت ببكاء حارق وكأنها لا تحتمل نطق القادم: ولو كان ميت إرحمه وتقبله قبولًا حسن، يا رب لو كان عندك اجمعني بيه بعد موتي يا رب.
انهمرت دموعها تباعًا واهتزت يديها وهي تشكو بانهيار: حرموني منه يا رب. أخدوني منه وعذبوني يا رب، فرقوني عن أكتر إنسان حبيته وطلبته منك في كل صلاة ليا. حرموني من حبيبي!، أخدوه مني وأخدوني منه يا رب.
ومالت على الحائط تبكي ويدها تكبت صرخاتها خوفًا من أن يستمع لها زوجها البغيض الغافل بغرفته، فنزعت حجابها تمسح به دموعها الغزيرة وهي تهمس بضعفٍ: حقك عليا يا يونس، حقك عليا من ظلم الدنيا اللي شوفته كله يا نن عيني. كنت عاجزة يا يونس. معرفتش احاربه ولا أحارب أهلي. هو اللي أرغمني أرفع عليك قضية الخلع هو السبب اللي فصلني عنك يا حبيبي.
ورفعت يدها تحيط صدرها بموضع القلب، تطرق بها بقوةٍ: ده مات من بعدك يا حبيبي، مات ومبقاش له وجود من غيرك.
تعالى صدرها بانقباضٍ من فرط الانفعالات التي تخوضها، تخشب جسدها الهزيل فزعًا حينما شعرت بيد ممدودة على كتفها، فاستدارت للخلف بخوفٍ غادرها حينما وجدته صغيرها.
ضمته لها خديجة وهي تسنشق رائحته بقوةٍ، وتهمس له: أيه اللي صحاك من النوم يا حبيبي؟
أجابها الصغير فارس: ملقتكيش جنبي فخوفت.
رفعت رأسه إليها وهي تعزز من شجاعته: مفيش راجل بيخاف يا فارس. قولتلك قبل كده لازم تتعود تنام لوحدك وتعتمد على نفسك.
ضمها الصغير وهو يتأمل دموعها بقلقٍ، فتناست كل ما تردده وحاوطته بكل قوتها مرددة بخفوتٍ: عملت كل ده عشانك وعشانه. سامحني يا يونس!
تحشرجت أنفاسها بشكلٍ نبهها لزيارة أزمتها الصدرية المعتادة لها، حينما يزداد بها الحزن والبكاء تزورها بحدةٍ وتواجهها بضراوةٍ، احتملت خديجة الآلآم واحتبست صوت أنفاسها المخيف عن ابنها، وضعته بفراشه وسحبت غطائه، وتسللت بخفة لغرفتها الرئيسية تبحث عن بخاختها لتنجو من اختناقها الذي يهاجمها.
وجدته يغفو على الفراش باستمتاعٍ مريضًا بعدما نجح بالمرة التي تفشل بعددها بالسيطرة على جسدها بعدما يرضخها إليه بالضرب المبرح كل مرةٍ، ارتجف جسدها بخوفٍ حينما تذكرت ما يفعله بها فسحبت كم الجلباب تخفي به آثار حروق جسدها البالغ واستكملت طريقها لدرج الكومود.
منحته نظرة منفرة قبل أن تسحب الكيس البلاستيكي تبحث بداخله عن بخاختها، فأصدر صوتًا أزعجه بمنامه فردد بفظاظة: اتهدي واتخمدي بدل ما أقوم أكمل على اللي باقي فيكي يا بنت ال.
اعتادت سماع الاهانات المتكررة منه، فسحبت الكيس واتجهت للخروج، فشملها بنظرة محتقنة وادار ظهره هاتفًا: بخت تفطسي وأرتاح من قرفك إنتي وابنك!
تحجرت خطواتها على باب الغرفة واستدارت تختطف نظرة دامعة للمدعو زوجها، رغم أنه يعلم أنها تعاني من أزمة صدرية حادة إن انتابتها يومًا ولم تلجئ لجرعة البخاخ أو الأكسجين حينها ربما تغادر روحها جسدها المُنهك ومع ذلك يغفو براحةٍ وكأنها لا تعنيه بشيءٍ، تُجزم بأنه إن كان يعتني بجروٍ صغيرٍ لكان أبدى له تعاطفه الكامن.
سحبت أذيال الخيبة وإتجهت لغرفة ابنها مجددًا، تغلق بابها جيدًا، انزوت على الفراش المقابل لفراش صغيرها ترتشف البخاخ بقوةٍ كبيرة حتى هدأت أنفاسها واستعادتها رويدًا رويدًا، فارتخى جسدها كالمدمن الذي ارتشف جرعة من السموم فأرحته.
وضعت رأسها على الوسادة وارتخى جسدها يراحةٍ رغم عينيها الغارقة بالدموع، تشعر وكأن مفرش السرير الستان رغم نعومته بأنه خشن كالشوك، يزيد من جحيم جلدها المذري، تعيش هنا بذلٍ وإهانة، وخاصة خلف باب غرفة زوجها الموصود، بالداخل حيث يتم إهانته كأنثى تجرد من كل معنى الأنوثة، يعاملها بخشونةٍ وقسوة كأنها عاهرة أو فتاة ليل!
كل ما تنجح بفعله كل تلك السنوات أنها تحتبس صرخاتها بتمكنٍ خشية من أن يستمع ابنها الصغير لصوتها، صغيرها الذي اعتاد رؤيتها بملابس محتشمة للغاية تخشى ان يرى حتى ذراعيها المحترقة نهيك عن جسدها المشوه!
انهمرت دمعة خارقة على وجهها الأبيض، وهي تتذكره، حبيبها وزوجها السابق، تقتل ألف مرة وهي تضطر آسفة بنسبه بالزوج السابق، ذاك الذي آراها من الحب ما أروها، ضمها لأحضانه التي تفتقد حنانه إلى تلك اللحظة، ذاك الذي أقسم لها بأنه سيظل يعشقها حتى الرمق الأخير من حياتها.
تسعة وعشرون يومًا قضتهما برفقته، تسعة وعشرون يومًا انحفر ذكراهم داخلها، وكأن الجنة استقبلتها بين ذراعيها لتسعة وعشرون يومًا وبعدها لفظتها بكل ما فيها لجُهنم!
لاح لها ذكرى استحوذتها بداخلها.
ممكن تفهميني أيه اللي يستاهل عياطك وحالتك دي! وفيها أيه يعني لو مجموعك مجابش الكلية اللي بتحلمي بيها!
قالها بصوته الحنون المهتم بكل صغيرة تشملها، رفعت عينيها الباكية إليه تخبره ببكاء: مستقبلي إتدمر يا يونس!
ضم شفتيه معًا يحتمل تألم قلبه القافز بين ضلوعه، وردد بحبٍ وعينيه تجوب مكان جلوس والدتها: أنا مستقبلك يا خديجة!
وتابع بابتسامةٍ صغيرة: مش ده كلامك؟
أزاحت دموعها وهي ترسم ابتسامة صغيرة على وجهها، فقال بإصرارٍ: بطلي تقابلي كل مشكلة تقابلك وكأنها نهاية العالم، مستقبلك عمره ما هيتدمر لو مدخلتيش الكلية اللي بتحلمي بيها، لو شوفتي ربنا سبحانه وتعالى أختارلك أيه كنت بكيتي وإنتي بتحمديه على إنه مفتحلكيش باب وراه مصاعب ومشاكل إنتي في غنى عنها، قومي اغسلي وشك واقعدي مع نفسك اختاري الكلية اللي هقدملك فيها يا زينة البنات.
وعاد يخطف نظرة سريعة لوالدتها ثم دنى منها ليصبح قريبًا يهمس بعشق: هو أنا مش صعبان عليكِ ولا أيه، شيدي حيلك في المذاكرة كده عايز أدخل دنيا. الحارة كلها تشهد إني صبرت عليكي صبر مصبروش واحد عازب.
وتابع ببسمة ساخرة: بذمتك حد أهبل يكتب كتابه على واحدة وهي في تالتة إعدادي ويقعد جنبها يستنى لما تأخد الجامعة؟
أزاحت دموعها وهزت رأسها بضحكة أشرقت تعابيره الجذابة، فردد مبتسمًا: منحرمش من الضحكة الجميلة دي يا زينة البنات!
تعلقت خضرة عينيها بعينيه البنية، ويدها تمتد تحتضن كف يده فبرق بمُقلتيه وهو يراقب والدتها هادرًا بتحذيرٍ: مامتك يا خديجة!
وتحرك بجسده لأخر الأريكة، ففركت أصابعها بحزنٍ، تعلم بأنه وبالرغم من أنه زوجها الا أنه يحفظه من نفسه جيدًا، الظروف الذي تزوجها بها ترغمه عنوة.
كان يريد أن ينتظرها لحين أن تنتهي من دراستها وحينها كان سيعقد القران يوم زفافهما، ولكن اصرار عمها عن أن يزوجها ابنه دفعه ليعقد قرانها بعد ان وجده عمه الشيخ مهران حلًا صائبًا خاصة بأنها تسكن بعمارته فلا يريد لابن أخيه ولتلك الفتاة بأحاديث تنطلق على ألسنة الناس من حولهم.
وتنحنح بخشونة وهو يشير له مازحًا: يلا يا عيوطة قومي كده غيري هدومك وارتاحي، لما أنزل ألم هيبتي اللي ضاعت وسط الصبيان في المحل وهما شايفين معلمهم بيجري شبه الأهبل وكل ده بسببك، واقف استناكي من ساعتها عشان تطمنيني وانتي راجعالي عينك ورامة وواخده في وشك قافش على فوق!
أشارت بكتفيها ببراءة مصطنعة: كنت زعلانه هعمل أيه؟
تنهد بقلة حيلة ونهض يتجه للخروج: هنزل أطمن على أيوب أشوفه عمل أيه هو كمان ما أنا ربنا إبتلاني بيكم. طلعتوا عيني طول فترة امتحاناتكم بجري من لجنة للجنة كأني بطمن على عيالي الصغيرين!
ضحكت بصوتها كله فتابع بمزح: ولا وقت ما تخرجولي انتِ وهو وتراجعوا الاسئلة قدامي آه لما بيطلع عندك حاجة غلط وأشوف وشك بيجيب ميت لون ببقى هتهور وأقتل أيوب في كل مرة بيقولك على حاجة غلط.
تعالت ضحكاتها وأحمر وجهها من فرط سعادتها بحديثه المرح، فانحنى تجاهها يهمس بجدية تامة: أنا بسببك يا هانم كنت بحرضه إنه لو حصل يعني واتهوروا ولأول مرة يحطوا الشباب مع البنات بلجنة واحدة كنت بقوله يغششك في أي إجابة تقف عليكي، مع إني كنت لسه ظرفه خطبة طويلة عريضه عن الغش وجيت عندك وقولته حلال. اتمسخر بيا بس هعمل أيه مراتي ولازم أبقى حنين عليها!
وضعت يدها على صدرها تخبره من بين ضحكاتها: معتش قادرة يا يونس اسكت!
ابتسم وهو يتابعها بنظرة هائمة، وردد بعشقٍ: كده هتفائل بيومي كله. وكل ما أشتاقلك صوت ضحكتك الجميلة دي هتواسيني لحد ما أشوفك تاني.
منحته ابتسامة هادئة، وعينيها تنطق له بحبه القابع داخلها، انتصب يونس بوقفته وقال: هنزل أشوف أيوب قبل ما أعدي على المحل، العمال مشغولين بتشطيب المحل الجديد ويافتة يونس الزيات بقت مسمعه بالسوق كله وخصوصًا العروضات اللي عملتها على الادوات الكهربائية.
وعاد ينحني قبالتها مستطردًا بغمزة مشاكسة: تصدقي بالله كل ما بينزلي أجهزة كهربائية جديدة أنقي لبيتنا كام حاجة وفي الأخر أخاف لوقت جوازنا يكونوا نزلوا حاجة أحدث عشان كده بحاول أتكى على الصبر حبتين لحد ما زينة البنات تخلص دراستها وتشاورلي بس أجهز البيت من مجاميعه.
تسلل الضيق لملامحها الهادئة فنهضت تقف قبالته وتخبره عاقدة الذراعين: يونس أنا قولتلك قبل كده مش عايزة اتجوز بالبيت اللي اشترته ده أنا عايزة أفضل هنا. شقتك تحت أهي واسعة وجميلة محتاجة بس تتشطب وهتبقى جنة.
زوى حاجبيه بدهشةٍ وصاح: عايزة تتجوزي في شقة قديمة! دي قيمتك عندي يا خديجة!
أصرت على حديثها قائلة: مالها الشقة يا يونس. إنت ورثت في العمارة دي زي الشيخ مهران وعيشنا وكبرنا فيها، كمان محلاتك فيها من تحت يبقى لزمتها أيه تبعد ونسكن في نص البلد أنا مرتاحة هنا وخصوصًا إن ماما هتكون ساكنة فوقي.
تهدلت معالمه باستسلام لاقناعها، يعلم كم هي عنيدة لذا رضخ لها بابتسامته الساحرة: عنيا يا زينة البنات اللي تعوزيه كله يحضر!
اتسعت ابتسامتها ورددت باستحياء وهي تهرب من نظراته: تسلملي يا حبيبي.
ابتلع ريقه بارتباكٍ، ودنى إليها يهمس: قولتي أيه؟
تمعنت بعينيه الشبيهة بالقهوة التي تحتضن لوح من الشيكولا الساخن، وتجرأت بقولها العذب: حبيبي وجوزي وكل حياتي يا يونس.
اتسعت ابتسامته بشكلٍ عينيها لا تفارق وجهه، وقال: كتير عليا كل ده يا زينة البنات!
همست له ووجهها قد تشرب بحمرة الخجل: إنت اللي كتير عليا يا يونس!
وكأن جملتها قد أرهنت الزمان ليستجيب لها، انحرمت منه وألقت لأشباه الرجال يريها الفرق المعهود بينه وبين محبوبها، ذاك الذي كان يسميها على لسانه وقلبه وهاتفه زينة البنات، وكانت تراه هو خير الرجال، الآن انتهت بها قصة عشقهما الخالد بفراق ووجعًا لن يهون على قلب بشريًا احتماله!
بلندن.
اتبعت سيارة آدهم الموقع المرسل إليه حتى وصل إليه، فوجد على يفتح البوابة الحديدية البيضاء ويشير له بالدخول، فقاد سيارته للداخل وصفها بالچراچ الضخم التابع للقصر الفخم، هبط هو أولًا وأسرع يفتح لها الباب هادرًا بمزحٍ: شمس هانم.
ضحكت حينما ذكرها بمعاملته السابقة لها حينما مارس دور الحارس الشخصي باجتيازٍ، فحملت طرف فستانها وانحنت تردد بنعومة: كابتن آدهم.
تمردت ضحكته الرجولية بشكلٍ لفت انتباهها فوقفت تتأمله بسعادة، وقال لها يحذرها: أممم هعديها كابتن دي. بس ولو لمرة ناديني باسمي الحقيقي يا شمس!
أدلت شفتيها للأسفل بحزنٍ مصطنع: والله ما لايق عليك الا آدهم صدقني!
ابتسم وهو يدنو إليها هامسًا بصوته المغري: أقولك سر؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال: وأنا كمان.
وتابع وعينيه تشرد بالفراغ: والدتي الله يرحمها مكنتش بتناديني غير بيه. عشان كده حبيت الإسم وبستعمله أنا واللي حواليا في مصر. كلهم بينادوني بيه بس عند شخص واحد والكل بيناديني قدامه بإسمي الحقيقي عشان كده بنبهك من دلوقتي أنا في مصر قدام بابا أنا عمر مش آدهم.
رمشت بعدم فهم لحديثه الشبيه بالألغاز، فقال مبتسمًا: بابا وماما الله يرحمها اتخانقوا بعد ولادتي، كانت عايزة تسميني آدهم وهو مصمم إن لقب عيلته ميلقش بيها غير عمر الرشيدي. الظابط عمر الرشيدي زي ما طول عمره بيحلم، ومن هنا حصل انقسمات وخناقات فعاند وراح سجلني عمر وهي فضلت تناديني آدهم لحد ما في وقت من الاوقات كان بيحصلي لخبطة ومبقتش عارف أنا مين فيهم عمر ولا آدهم.
وتطلع لها بابتسامته الجذابة مسترسلًا: بس لما دخلت المخابرات اكتشفت إن دي نعمة. بتنقل بإسم حركي متقبله والاغلب عارفني بيه بس قدام بابا بمثل الدور اللي يراضيه خصوصًا إنه دايمًا بيلمس حبي الزايد لوالدتي الله يرحمها.
كونه يتحدث معها عن ادق أموره، بقائه برفقتها بعض الوقت بعد وصولهما، صبره معها وهي تتنقل من محلٍ لأخر حتى انتقت فستانًا يليق بحجابها الذي ترتديه لمرتها الاولى، كل تلك الاشياء جعلتها أسعد نساء العالم بأكمله، تتمنى أن يظل يتحدث وتراقبه بصمتٍ، فمالت على يدها تستند على مقدمة السيارة وتراقبه وهو يتحدث بصمتٍ تعجب له آدهم فنادها: شمس!
اعتدلت بوقفتها تهتف بحرجٍ: هااا، نعم!
قال وهو يتجه لصندوق السيارة ليجذب الفستان المغلف بعناية: إنتِ مش معايا خالص. شكلك تعبتي من اللف النهاردة.
لحقت به تراقبه وهو يحمل أغراضها بتريثٍ: لا أنا بس سرحت فيك شوية.
أغلق صندوق السيارة واستدار يسألها باهتمام: سرحتي في أيه؟
وضعت حقيبتها على كتفها وقالت بابتسامة عذباء: حاسة إنك شخص مختلف عن آدهم الحارس اللي عرفته طول الفترة اللي فاتت.
فهم ما تقصده بحديثها، وقال برزانة: لإن اللي شوفتيه قبل كده كان بيقوم بشغله وبس. وسبق وقولتلك يا شمس تقربي منك كان من ضمن الخطة اللي حطناها عشان نوقع راكان بس اتقلبت ضدي وحبيتك.
وقطع المسافة المتبقية بينهما وهو يستطرد: بكره هتكوني مراتي على سنة الله ورسوله. هتقربي مني وهتعرفيني على طبيعتي. هحكيلك عن مشاعري وحبي الكبير ليكي. وإزاي قدرتي تحركي قلبي اللي كان مشغول ومش شايف أي بنت حوليه!
وأشار لها بالخروج فاسندت يدها لصدرها، تربت على خفقاتها المتزايدة لحديثه، وعاونها بما تحمله ليقدمه لعلي الذي عرض عليه الدخول لرؤية المنزل من الداخل ولكنه اعتذر وأخبره بأنه سيراه بحفلة عقد القران غدًا، فوادعهما وغادر.
حمل باقة الزهور الحمراء بين يديه يقلبه وكأنه يتفحص ما يحمله، ثم عاد ببصره لمن يقف أمامه وتساءل بدهشةٍ رغم أنه أخبره منذ قليل: قولتلي الورد ده لمين ومن مين؟!
رغم غرابته ولكنه اعتاد عليه هكذا، فأجابه حسام: من دكتور على لمدام فاطمة.
عقد حاجبيه بشكلٍ مضحك وهتف: على أخويا أنا جايب ورد!
ورفع عينيه له يتساءل: متأكد يا حسام!
وكأن ما وضعه بين يديه قنبلة ذرية وليست باقة ورد بريئة، فوضع قبالته الظرف المطوي قائلًا: المندوب سلمنا الظرف ده كمان. ولإن حضرتك منبه علينا محدش يدخل مكتب البشمهندسة مايا جبتهم لمكتبك.
أشار بيده ومازالت رماديته تحيط الباقة بنظرة ساخرة: روح إنت، ومتنساش تسلم أيوب المبلغ اللي قولتلك عليه وتفهمه إن ده المرتب الاسبوعي ليه.
هز رأسه مؤكدًا، ولكنه لم يقمع فضوله فقال: بس الشركة ماشية بالنظام الشهري يا مستر عُمران!
رفع عينيه عن الباقة وسلطها إليه، وردد بعصبية: وإنت مالك دافع من جيب أمك!
جحظت عين حسام صدمة، فسحب عمران نفسًا طويلًا وردد: يا ابني الله يكرمك بقالك معايا هنا أربع سنين وعارفني لما بتعصب ببقى طور فبالله ما تحاول تعصبني لإنك عارف إن التداخل فيما لا يُعني أمك ده أول شيء بيعصبني!
وتابع وهو يمرر أصابعه على الباقة التي يحملها: يلا انصرف إنت بقى وسبني أشوف حكاية أخويا الدكتور المراهق أيه!
غادر من أمامه على الفور، فترك عمران الباقة على المكتب وأعاد ظهره لمقعده يتفحصه بنظرة شاردة، استند بذقنه على ذراعه قائلًا: الصبح طالعالي من غير قميص ودلوقتي باعتلها ورد وظرف مقفول!
وتابع ببسمةٍ خبيثة: شكل عِلوة دخل عش الزوجية!
انتهت أخيرًا من حسابات الملف المتبقى أمامها بارهاقٍ، فلقد استنزف جهدًا عظيمًا منها، نهضت فاطمة عن مكتبها واتجهت لمايا تضعه من أمامها: شوفي كده يا مايا.
أبعدت عينيها عن شاشة حاسوبها لتراقب ما فعلته فاطمة بانبهارٍ، فاستقامت بوقفتها أمامها وقالت: ما شاء الله يا فاطمة والله بدون مبالغة إنتي شاطرة ودقيقة جدًا في حساباتك. حتى عمران لسه مورياه شغلك من شوية انبهر بيكِ.
وقبل أن تجيبها وجدت صوتًا ذكوريًا يقتحم حديثهما: حبيب قلبه جايب في سيرتي وشكله مشتاقلي وأديني جيت ألبي النداء!
صوبتله نظرة صارمة لوجود فاطمة ولكنه لم يبالي ودنى منهما، ووقف قبالة فاطمة يخبرها بابتسامة هادئة: كلامها صح يا فاطمة، أنا شوفت حسابات المشروع اللي اشتغلتي عليه امبارح فأنا من دلوقتي هعتمد عليكي اعتماد كُلي، وهحتاجك الفترة الجاية جدًا.
سعادتها كانت تفوق حد الوصف، شعرت وكأنها بلحظةٍ أصبحت ذات قيمة، كانت ترى حياتها ساكنة دون جديد أو شيئًا يدعوها للحماس، كل ما بيومها يُذكر هو لقائها بزوجها الحنون، على ذكره الآن تلون وجهها بخجل وشوقًا لسماع صوته الغائب عنها طوال اليوم، بالطبع سيكون مشغولًا الآن بنقل بعض الأغراض للمنزل الجديد برفقة عمه ووالدته.
حانت من مايسان نظرة لما يحمله عمران بين يديه، فرددت بسخرية: جايبلي ورد يا مستر عمران؟
تأمل ما بيده ثم عاد يتطلع لها بنظرة أسقطتها بنبذ عشقه: الكون كله يحضرلك تحت رجلك يا حبيب قلبي بس الورد ده مش ليكِ.
ضيقت عينيها بنظرة تتحفز للانقضاض عليه، وببطءٍ شديد قالت: أمال لمين يا بشمهندس؟
قدمه عمران لفاطمة وهو يسرع بالتبرير: من دكتور على الغرباوي لزوجته المصون.
وتابع وهو يخرج من جيب جاكيته الظرف: لأ وبعتلها جواب غرامي!
ابتسمت مايا بحماسٍ، بينما برقت فاطمة بدهشةٍ، حملت منه الظرف والورود ورددت بتلعثمٍ: ليا أنا!
اتجهت فاطمة لمقعد مكتبها بخجلٍ منهما، فلم يشاء أن يُخجلها فقال: لمي حاجتك انتي وفاطمة. عمي بعتلي وقالي لازم نرجع ضروري علشان نساعد معاهم. هستناكم في العربية تحت.
هزت رأسها بتفهمٍ وأغلقت حاسوبها ثم جمعت أغراضها لحقيبتها، بينما نزعت فاطمة طرف الظرف والتقطت الورقة الصغيرة تقرأ ما بها بعينيها وابتسامة عاشقة تزداد مع كل كلمة.
«كانت أجمل ليلة في عمري كله، كنت حاسس إني ملكت الدنيا كلها، قلبي من أول نظرة ضمك جواه ورافض يضم غيرك، بقيتي ساكنة في كل دقة من دقاته يا فطيمة، إني أوصل لقلبك ومشاعرك كان حلمي الأول ودلوقتي إن يكونلي ابن منك حلمي التاني وبفضلك بقى قريب يا فطيمة.
بحبك وحبك بقى علاجي النفسي من كل الضغوطات اللي بمر بيها.
علي، ».
ضمت الورقة إليها بكل حنان، وفرحتها لا تسع أحدٌ، لاحظتها مايا وهي تضع هاتفها ومتعلقاتها بحقيبتها فابتسمت لسعادتها وتمنت لها كل خيرًا صادق، وضعت الحقيبة على كتفها وتنحنحت لتفيق الأخرى قائلة: يلا يا فاطمة اتاخرنا على عُمران.
وضعت الورقة بحقيبتها ووضعت الورد بالمزهرية الموضوعة على مكتبها، ثم اتجهت إليها فهبطوا بالمصعد لعمران الذي تحرك بهما على الفور بعدما انهى مكالمته مع جمال يطمئن على والدته التي استردت وعيها وبدأت تتلقى الأدوية بشكلٍ مكثفٍ.
بالقصر.
انتقل برفقتهم خادمتين سيواصلون العمل هنا، فحملوا أغراض شمس وزينب لغرفتهن القابعة بالطابق الثاني الخاص بالفتيات، اما الطابق الثاني فصمم على شكل جناحين كبيران جدًا لعلي وعمران، والطابق الأول بأكمله خصص لفريدة وأحمد.
صعدت زينب وشمس تعاون الخادمات بترتيب الاغراض وتبقى على بالأسفل جوار أحمد وفريدة يتناقشون بتزين القاعة الداخلية للحفل بالغد، فقال أحمد: متقلقيش أنا اتفقت مع شركة متخصصة هيجوا بكره على الساعة عشرة يعملوا ديكور وزينة بسيطة، لما يوصلوا بلغيهم باللي تحبيه.
هزت رأسها باستحسانٍ، واتجهت لعلي الذي يعمل على حاسوبه ومازالت حقائبه لجواره: ما تطلع يا على تريح فوق إنت تعبت معانا من الصبح. أو على الأقل خلي حد من الخدم يطلعلك شنطك.
وضع كوب قهوته جانبًا وأجابها ببسمة هادئة: هستنى عمران الأول يختار الجناح اللي يستريح فيه ويكون مناسب للخزانة اللي حابب يعملها.
إنت اعظم أخ في الدنيا كلها أقسم بالله.
قالها عمران الذي استمع لحديثه، فجلس على ذراع مقعد على كما اعتاد وقال: شوف أنا لو فضلت للصبح أقولك بحبك أد أيه مش هعرف.
وانحنى إليه يهمس بغمزة ماكرة: بس أيه حركات الورد الروشة دي، الظاهر إني استهونت بيك يا دكتور.
منحه نظرة حازمة فضحك وهو ينهض عن مقعده، بينما الأخر يبحث عنها حتى وجدها تدلف برفقة زوجة أخيه.
قاطع أحمد حديثهما حينما أشار لعلي على أحد غرف الطابق السفلي: دي أوضة مكتب نظمتهالك مخصوص يا علي، فيها مكتبة ضخمة لكتبك والأهم فيها شاذلونج عشان لو حبيت تعالج حد من العيلة ولا حاجة.
تهدلت شفتيه بابتسامة ممتنة، وراقب باب الغرفة بحماسٍ، فقال: شكرًا يا عمي، مكان زي ده هيريحني جدًا.
لوى عمران شفتيه بتهكمٍ وردد: طيب وأنا يابو حميد. مفكرتش تعملي ليه خزنة محترمة أنقل ليها ساعاتي وجزمي وكل شيء غالي عليا.
منحه أحمد ابتسامة هادئة، وردد: مكنتش أعرف إنهم غاليين عندك كده، أنا فكرتي عنك إنك بتحب الحديد والأوزان جدًا علشان كده عملتلك في الدور الرابع جيم متكامل بأجهزة رياضية أحدث من بتاعتك.
جحظت عين عمران بانبهارٍ، وسأله بعدم تصديق: قول بجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ فهرول إليه عمران ينحني ويحمله من ساقيه فاستند بيديه على كتفيه بصدمة، والأخر يدور به هاتفًا بفرحة: إنت أحسن عم وجوز أم محصلش ولا هيتكرر في العالم كله.
انصدم على والفتيات حتى فريدة، بينما صاح احمد بغضب: ولد! نزلني!
نجحت فريدة بالتخلص من حالة صدمتها فرددت بحزمٍ: عمران!
جذبه على وخلص عمه منه قائلًا: أيه اللي بتهببه ده!
عدل أحمد جرفات بذلته السوداء وصاح بتهكم: بتستعرض عضلاتك علينا يا وقح! عارفين يا سيدي انك بتعرف تشيل أوزان ومش محتاجين اثباتات احنا!
نزع عنه جاكيته وجرفاته وتطلع للدرج بنظرة شقية، كأنه يستعد للصعود للرقص، وصاح بحماس: مش فاضي للرد دلوقتي، ورايا الأهم من أي حاجة، وقت اختيار الجناح المناسب لتنفيذ فكرة الخزانة اللي جاتني. لما أنفذها وأنزلها على حسابات السوشيل ميديا بتاعتي تقدروا تتابعوا القلبان اللي هتعمله أفكار البشمهندس عمران الغرباوي عن اذنكم!
وتركهم وصعد للاعلى ينتقي الجناح المناسب لتصميماته، بينما صعدت الفتيات لغرفة شمس يستعدون لحفلة الغد.
انتهت من ترتيب ملابسها بالخزانة، تلك الغرفة تكبر الاخرى بمساحتها، حتى شرفتها كانت واسعة تطل على حديقة القصر الواسعة، أغلقت زينب عينيها تستمتع بنسمات الهواء الباردة التي تحيطها، توجهت للمقعد الهزاز القريب من السور، جلست عليه وأخذت تهزه برفقٍ حتى استجاب جسدها المنهك للنوم، كانت غفوة مخادعة تسحبها لذكرى قاتلة، تزيد من وجعها.
سئمت من انتظاره، مضت أكتر من ثلاثون دقيقة منذ أن ناداه أحد رجاله، فاستأذن منها وغادر المنزل الذي أصر أن يحضرها إليه بحجة أن يريها أحدث المفروشات استعدادًا لزوجهما بعد أن وافقت أن يزور أخيها ليطلبها بشكلٍ رسمي.
راقبت زينب ساعتها باستياءٍ لتأخره، فخشيت أن يغضب أخيها إن تأخرت بعودتها، سحبت حقيبتها واتجهت للمغادرة، فما ان اقتربت من باب الخروج حيث مكان وقوف يمان مع أحد رجاله، استمعت له يخبره: كله تمام يا باشا، فؤاد بيه استلم صفقة الاسلحة مننا على الحدود بنفسه وسلمنا شنط الفلوس.
هز يمان رأسه باستحسان وصاح: والكلب اللي زرعته الحكومة بينا عملتوا معاه أيه؟
لعق شفتيه باجرامٍ مخيف: تويناه يا باشا هو ومراته وابنه عشان يبقى عبرة لمن يعتبر.
برقت بمقلتيها صدمة لما استمعت إليه، فتراجعت للخلف ورأسه يميل يسارًا ويمينًا بعدم تصديق، تراجعت للخلف وكأن هناك شبحًا يتقدم تجاهها، فارتطم ساقها بقدم الطاولة من خلفها وعلى الفور سقطت الأنتيكة مصدرة صوت حطام قوي، أتى يمان على أثره ليتفاجئ بباب الشرفة الخارجي مفتوحًا على مصراعيه.
ركض للطابق العلوي يناديها ويفتش عنها بالمنزل بأكمله، حتى قابل الرجل التابع إليه بالأسفل يخبره: الهانم كانت بتجري على بره ووقفت تاكسي وركبته.
شدد من لكمته على درابزين الدرج بغضبٍ بعدما تأكد له بأنها استمعت لحديثهما، وأمر فرارها الآن أمرًا كارثي لا ينذر بالخير!
أفاقت من نومها تسعل بقوةٍ، وتلتقط أنفاسها المضطربة بانهيارٍ، وكأن ما رأته يحدث أمام عينيها الآن، ذلك اليوم كان بمثابة صفعة تركت أثرها على خدها إلى هذا اليوم، خروجها من المنزل جعلها ممتنة بأنها مازالت على قيد الحياة.
تأكدت بأن الخوف الذي كانت تشعر به كلما كانت برفقته كان لسببٍ، نظراته الحادة التي تطل وقت غضبه، غيرته المجنونة، همجيته بالتعامل مع أخيها وذاك النادل الذي تطلع لها كل تلك الأفعال لا تنتج الا عن مجرم مختل بالفعل!
مر الليل بسكونه وأتى صباح اليوم المنتظر، استيقظ الجميع باكرًا وتجمعوا على طاولة الافطار ليبدأ من بعدها الجميع بأعمالهم الهامة، فجلست شمس جوار عمران ومالت عليه وهو يرتشف قهوته قائلة: مش هتغنيلي النهاردة؟
وضع فنجانه قبالته وردد باعتراضٍ: لا يوم الفرح هغنيلك وأرقصلك كمان. النهاردة No.
أمسكت ذراعه تترجاه بدلالٍ: بليز يا عمران. طيب غنيلي دلوقتي أغنية
النهاردة هكلم ابوكي، قالها وروحى راحت يانى.
قالى ايه خدودك كسفوكي؟!، لونهم برتقالي
قالى دة عيوني استنوكي. رديت روح جيب فستاني، اللي متزوق باللولي عقبال كل البنات.
ضحك على وأحمد المتابعان لها، بينما اشمئز عمران هاتفًا بحنقٍ: مبحفظش الأغاني الهابطة أنا!
برقت بصدمة: دي هابطة دي. أمال ليك في أيه؟!
خرجت مايا من المطبخ تحمل طبقًا وضع بداخله المسك الطبيعي: سيبك منه يا شمس وتعالي علشان نلحق نخلص.
رددت وهي تميل برأسها على كتف عمران: مش قبل ما يغنيلي.
تناول على شطيرة الجبن وأمره برفق: غنيلها يا عمران احنا عندنا كام شمس!
صوب له أحمد نظرة منزعجة مما يفعله وقال بمكر: رغم إن صوت الطاووس الوقح ده بيزعجني بس عشان خاطر عيون شمس نستحمله. غني يا وقح!
رفع فنجانه يرتشف المتبقي به مرة واحدة وكأنه يبتلع الخمر، وردد بخبث: شكلي كده مش هحارب نعمان لوحده، هترتاح إنت لما أقلب على عيلة الغرباوي كلها يا أحمد باشا!
تعالت ضحكات أحمد ومازحه وهو يضع قدمًا فوق الاخرى بتعالي: لو حاربت العيلة كلها قلبك ميطوعكش تعملها معايا.
ابتسم عمران وقد ارتسمت الجدية على معالمه، فنهض عن مقعده واتجه يحتضن احمد طابعًا قبلة على منبت رأسه باحترام: إنت الوحيد اللي لو وقفت قدام الدنيا كلها أنحني قدامك بكل احترام يا عمي.
ضمه أحمد إليه بحبٍ، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه فريدة التي تقترب وهي تتابعهما بفرحةٍ.
وبعد قليل نهضت فاطمة وزينب يرفعون الزينة خلف مقاعد العريس والعروس، ومن جوارهما يقف على على الدرج يعلق الزينة بالمكان التي تشير له فريدة الواقفة بالأسفل بكل عنجهية، وخطواتها تترك أثرًا في نفس ذاك العاشق الذي يراقبها.
علي بعد منهم جلس عمران يعد الموسيقى بهاتفه على السماعة الخارجية واتجه لمايا التي تضع المسك على وجه شمس بعناية، وما أن تحرر صوت الموسيقى حتى ارتفع صوته العذب يردد: «قولي لأمك يابنت
جاية الليلة اطلب ايدك
ولا بعمري عاقل كنت
وحياة الاله بريدك
عشتا بطول وعرض الدني
مابعمرو راسي بينحني
لما دخلتِ بعمري غِني
من عمري نشالله يزيدك»
وارتفع صوته مجددًا وهو يحمل مايا عن المقعد يطوف بها بين ذراعيه هاتفًا.
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدم بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
مال علي على مقدمة الدرج يتطلع لفاطمة التي رفعت رأسها عاليًا تقابل حضن عينيه الدافئ وصوت عمران يوثق عشق الدكتور على ومريضته فاطيما
«أنا لما بحب بكفي بدربي بدوب بلحظة مني تقربي
بتضحك روحي بيفرح قلبي بضحكة عينك».
تركها عمران وإتجه لمقعد شمس التي تتمايل بفرحة وهي تستمع إليه، فانحني يضمها من ظهرها لصدره ورأسه مال على كتفها وهو يناغشها بكلماته
«بيك غلّى المهر كتير
فكرو بيغلى عليكِ الغالي
بيك عجزني ت يصير
عليا نجم وصولك عالي
لو فيي ألماس بجيب
مابعمرو بيغلى عالحبيب
بيرخصلك عمري و بطيب
أنا دمي ومالي».
وإتجه تلك المرة لفريدة، مسك ذراعها بخفة ورقص بها ويده تدور بها لتستلقى على ذراعه الاخر مع انحناءة جسده برقي وطريقة آرستقراطية تعلمها جيدًا، فاءا بضحكاتها تعلو وخطواتها توازي خطواته وهو يغني بصوته الرخيم
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدم بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
«غمزيني بعينك ياروح
بغمزة ببيع الكون وهمو
ع أبعد دنيا منروح
بيرخصلك هالقلب و دمو
ميلي بخصرك صوبي ميلي.
تغنجي عليي تغميلي
ابني ع ذوقك سميلي
وعد تكوني وحدك امو! »
وعاد يردد بسمفونية عذباء.
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدم بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
انتهى من اغنيته وانطلقت الصفقات المتحمسة من الفتيات، وبالاخص زينب التي قالت بانبهار: صوتك جميل أوي يا عُمران. غنتها أحسن من صاحب الاغنية نفسه.
استدار تجاهها وقال بابتسامة بشوشة: اعمليها بس وارتبطي وهغنيلك للصبح في فرحك.
تلاشت ضحكتها الواسمة وانغمست خلف ابتسامة بسيطة وايماءة من رأسها امتنانًا إليه.
هبط على من على الدرج الخشبي يشير للفتيات قائلًا: فضوا القاعة العمال وصلوا بره هيكملوا هما.
غادرت الفتيات للأعلى برفقة فريدة، فانقسموا ليستعدوا لارتداء ملابسهم.
جهز عمران طاولة ضخمة بالخارج أمر الخدم يتحضير مشعل ضخم للشواء، وقد جهزوا اللحوم منذ الصباح وبانتظاره.
مرت ساعات النهار طويلًا وأتى المساء، فانزوى كلا منهم بغرفته يستعد لارتداء ملابسهم.
انتهت مايا من ارتداء فستانها الذهبي وقد انتهت من حجابها وزينتها البسيطة، أما عمران فخرج من الخزانة ببنطاله فقط والوجوم يحتل ملامحه وهو يهتف بضيق: لازم أعمل الخزنة وأنقل حاجتي بسرعة مش واخد أنا على عدم النظام ده!
راقبته مايا بابتسامة ساخرة، وطالعت انعكاس صورته بالمرآة تخبره: هتتأخر كده يا بشمهندس.
زفر بمللٍ، وأعاد فتح حقائبه مجددًا يبحث عن قميصًا مميزًا لجاكيته الرمادي، انطلقت طرقات باب جناحهما تزف لهما وجود الطارق، فرددت مايا بصوتها الرقيق: ادخل.
ولجت شمس للداخل تحمل طرف فستانها الطويل وحجابها وهي تهتف بحماس: مايا، عايزاكي تحطيلي نفس الميكيب السمبل اللي كنتِ حطاه يوم حفلة افتتاح دكتورة ليلى.
جحظت بعينيها بصدمة وبرقت لعمران الذي انتصب بوقفته عن الحقيبة يحذرها بعدم الحديث ولكنه ما أن رفع يده حتى رددت كالبلهاء: مش أنا اللي كنت عملاه. عمران اللي كان عملهولي.
ألقى قميصه على الفراش هاتفًا بحنقٍ: أدي أخرة اللي يعمل حاجة للحريم!
رمشت شمس بعدم استيعابًا وتلقائيًا تحركت تجاهه، تقدم له حقيبتها المستديرة التي تخص أدواتها الخاصة، وقدمت له الحجاب، تناول عنها ما تقدمه ورفعه قبالتها بسخرية: ده أعمل بيه أيه ده كمان، أشنقك بيه بعد الميكب ولا أربط بيه لسان بنت خالتك الطويل!
جذبت منه الحجاب ببسمة عريضة: sorry نسيت انك ملكش في لفة الطُرح
أشار له بسخطٍ على مقعد السراحه: اتلقحي عندك أما أستر نفسي وأجيلك!
رددت باستغراب: تستر نفسك ازاي!
أشار على صدره العاري وهو يهتف بمزحٍ مضحك: ملي عينك من العضلات عشان نفسك تتصد من شوال العضم اللي هتتجوزيه.
رفع حاجبها تتشدق بعنجهيةٍ: مين ده اللي عضم، ده آدهم حبيبي طول بعرض بحلاوة بجمال بآآ.
كمم فمها بنظرة حانقة وبنزقٍ قال: عيب يا شمس. عيب تتكلمي كده قدام أخوكي يا حبيبتي. حتى لو الجثة اللي بتتكلمي عنها هتبقى جوزك كمان شوية.
هزت رأسها تطاوعه حتى لا تستفزه فيطردها من غرفته دون ان يضع لها الميكب، تابعتهما مايا وهي تكتم ضحكاتها بصعوبة، بينما حررها عمران وهو يخبرها بجدية مضحكة: اقتنعي إن مفيش راجل في الدنيا كلها عنده امكانيات عُمران سالم الغرباوي. وده عشان متنصدميش بس!
وغمز لها بغرورٍ: أخوكي عينة واحدة نزلت وقطعوا بعدها الكتالوج!
ربتت مايا على صدرها تستمحها بأن تسايره بالصمت وأن لا تستهدف عصبيته، فرددت شمس من بين اصطكاك أسنانها: يا حبيبي أنا عارفة ومتأكدة من ده. طب تصدق بالله أنا بتمنى يطلعلنا حالًا واحدة شبه اللي في الافلام الهندي وتقول لأ ده ابني مش ابنكم وتطلع مش اخويا واترجاك تتجوزني. مرضي كده يا عم؟
حك منخاره بانزعاجٍ ومن ثم ربع يديه حول خصره العاري: مش أوي كده!
وتركها واتجه للداخل مردفًا: هلبس وأجيلك نهيص في الألوان لحد ما نوصل للي عايزينه.
توجه للداخل يجذب قميصًا من الخزانة، ارتداه باهمالٍ وخرج إليها يجلس على طرف السراحة، اتخذ خمسة دقائق يتعرف على مستحضرات التجميل من أمامه.
مرر يده على خصلاته وهو يهمس: أشكالها اختلفت ليه كده!
اقتربت برأسها منه لترى ماذا يفعل: هو أيه اللي اختلف؟
أشار لها بانفعال: مكانك لو سمحتي محتاج أركز هنا! وبعدين أنا معرفش عملتها ازاي مع مايا صدقيني مكنتش متعمد أنها تطلع بالشكل ده.
وعاد يهمس وهو يدقق بوجهها وبالألوان التي يحملها: بشرتك أفتح من مايا يبقى نغمق اللون شوية، أممم، خلينا ندمج اللون البني مع اللون ده، لأ وحش.
وجذب الأخر ودمجه فاحتل ثغره ابتسامة رائعة، اقترب منها وبدأ مرددًا: استعنا على الشقا بالله.
اقتربت منه مايا فابتسم وهو يراها تركز بما يفعله وكأنها تسجل كورسًا مهمًا، وحينما توقف عن دمج اللون فوق عين شمس تطلعت له فوجدته يتأملها بنظرة أخجلتها، وخاصة حينما قال ورماديته تغمز لها: حبيب قلب جوزه شكله استعجل ومكيج نفسه وشكله حاسس بالندم!
ضحكت وهي تؤكد له بإيماءة رأسها فقال وهو يمنحها قبلة بالهواء: ولا يهمك يا بيبي. حالًا اغسلي وشك وتعالي هخلص أختك وأزينك بإيدي انا ورايا أيه يعني!
ضحكت شمس وهتفت: عمران بما إنك مهندس وليك في تقنيات الألوان ينفع تختارلي لون مناكير كويس أحطه!
لزى شفتيه ساخطًا، وضرب وجهها بفرشاة الحمرة: مفكراني البيوتي سنتر بتاعك، انتي تحمدي ربنا اني قاعد أضرب الألوان وبحطلك، أنا أساسًا ماليش في الليلة دي، بس هعمل أيه قلبي الرهيف مش هاين عليه يزعلك وتفكري إني حطيت لحبيب قلبي وفكتني منك، واديني أهو بجتهد عشان أخرجلك شغل نضيف. سبيني بقا أركز!
منعت ضحكتها من الانفلات وتركته يعمل بتركيزٍ كما أراد.
بالأسفل.
اجتمع يوسف وجمال وسيف وآيوب، حتى صبا وليلى بالأسفل، ينتظر الشباب انضمام عمران إليهم ويحاول على بقدر الامكان التواجد برفقة أصدقاء عمران لحين ظهوره وأصبح سؤالًا واحد يتردد بينهم: أين عُمران؟!
أتاهم الرد يحلق فوق الدرج، حينما ظهر ببذلته الرمادية الجذابة، ممسكًا بزوجته بيده وبيده الاخرى شقيقته، هبطوا ثلاثتهم وسط نظرات انبهار الفتيات باطلالة شمس ومايا، والملفت بأنظارهن الدقيقة الميكب الرقيق والمتناسق لكلًا منهما.
بحثت عين شمس تلقائيًا عنه، فانفلتت شفتيها بانبهارٍ من ذاك الوسيم الذي ينتظرها بنهاية الدرج ممسكًا باقة ورد ضخمة من اللون الأبيض، يتألق بحلى سوداء اللون وقميصًا أبيض، تحوم من حوله جرفات سوداء، شعره مصفف بعناية وملامح اللون تتألق بشكل جذبها للغاية.
أما هو فكان يراقب تناسق الفستان الأبيض الرقيق حولها، حجابها الذي تركت أطرافه تنغمر من خلفها، زينتها البسيطة الذي زادت جمالها حد الفتنة.
انتهت خطواتها حتى أصبحت أمامه، قدم يده لها وتمهل بخطواته حتى تناسق خطواتها البطيئة بسبب طول الفستان.
استقروا معًا أمام المحامي، وأحمد يجلس قبالة آدهم، بينما على يجلس جوار شقيقته يضمها بابتسامة واسعة وهو لا يصدق بأن صغيرته باتت عروس.
لوهلة توقف عينيه على الدرج، فرأى فاطمة تهبط للاسفل برفقة زينب، ترتدي فستان من اللون السماوي، وترتدي حجابًا مماثل للونه، اتسعت ابتسامته وهو يطوفها بنظرة حنونة جعلتها تبادله البسمة، واتجهت لتجلس جوار صبا وليلى، ولجوارها زينب التي لاحظت اهتمام سيف برؤيتها وحملقته بها طوال الحفل.
وبعد أن انتهى المحامي من الاجراءات ووقع آدهم وشمس بارك لهما زوجهما، فنهض آدهم وفاجئ الجميع بضمته القوية لشمس وقبلته التي أحاطت جبينها، وقبل أن تستوعب ما فعله حملها بين ذراعيه ودار بها وهو يهمس لأذنيها: سحلتيني من أول نظرة وخلتيني مش عايز غيرك. بحبك يا شمس.
وأوقفها بين ذراعيه فأمسكت به بقوة حينما شعرت بالدوار، لتقابل بابتسامة واسعة وهمس خجول: وأنا بحبك أوي يا آدهم.
ضمها إليه وردد بسعادة: خلاص بقيت ملكك وإنتِ كمان بقيتي ملكي يا شمس.
راقب عمران ما يحدث باستياءٍ ولكز على الذي يتابعهما ببسمة واسعة: هتفضل واقف ومُنشكح كده كتير!
مال عليه على يخبره بضحك: ده جوزها دلوقتي يا حبيبي، يعني بقت في عهدته فريح وروح سلم على أصحابك اللي متجاهلهم دول.
منحه نظرة ساخرة واتجه للمنصة الصغيرة قائلًا: استسلمت له بسهولة كده! بس أنا لأ!
واتجه ليفرقهما عن أحضان بعضهما البعض، ثم ضمها إليه وهو يمنح آدهم بسمة مستفزة قائلًا بمكر: معلش يا عريس ما أنا لازم أبارك وأعمل الواجب بردو.
ابتسم له آدهم وأشار له بتفهمٍ، فاغتاظ عمران، كلما حاول مضايقته يفاجئه آدهم ببرودة أعصابه وتقابله الأمر، يُقسم أنه إذا كانت مايا تمتلك أخًا وغمسها بأحضانه مثلما يفعل لغمسه هو بأحضان الموت.
بالأسفل. على طاولة الشباب.
انفجر جمال ضاحكًا وصاح لهم: عمران بيطلع نار من ودانه!
ضحك يوسف وردد: هيحط آدهم في دماغه من دلوقتي!
سيف بضيق: صاحبكم ده مجنون والله. بيغير على أخته من جوزها!
زم يوسف شفتيه وردد ساخرًا: ما بلاش إنت يا دكتور سي?و. أيوب متلقح جنبك أهو ويشهد!
انقشعت ملامحه بضيق بينما ضحك أيوب قائلًا: طلع عمران نسخه من سيف!
أضاف سيف بحزن مصطنع: آدهم صعبان عليا أوي! عمران محدش يقدر يلاعبه.
رد عليه أيوب: لا حضرة الظابط باللي عمله من شوية بين أد أيه هو عاقل وراسي وهيعرف يحتوي عمران كويس متقلقش.
قال يوسف بمزح وهو يضرب كف بكف جمال: محدش بيقدر يحتوي الطاووس الوقح اسالني أنا.
انطلقت الضحكات الرجولية فيما بينهم، حتى أدمها عمران حينما أشار لهم بتتبعه قائلًا: ورايا يا حلو انت وهو، علشان تبقوا تعرفوا تنموا عليا براحتكم!
اتبعوه للخارج بدهشة من حديثه، فصعقوا حينما وجدوه يقف جوار طاولة ضخمة من اللحوم ومشعل نار ضخم، أشار لهم ببسمة ماكرة: أنا بقول طقم البدل السودة دي حرام تبوظ من دخان الشوي فأيه رأيكم تقلعوا الجواكت. متقلقوش وراكم اللي يساعدكم.
التفتوا للخلف فوجدوا الخدم بانتظارهم، نزع كلا منهم جاكيته وقدموهم لهم، فعلقوا الملابس على المشجب بينما احتل كلا منهم مهمة.
صاح يوسف بتهكم: اانت عازمنا نأكل ولا نشقى بلقمتنا!
سعل جمال من رائحة الدخان وهتف: أنا غلطان اني سبت أمي وجيت أحضر الحفلة وأخرتها واقف أنش على اللحمة!
وضع سيف السيخ على الشواية وهو يلقي عمران نظرة غاضبة: وانت مقلعتش وجيت ليه تساعد يا عمران.
رفع كتفيه ببراءة مصطنعة: أنا أخو العروسة!
ردد على بسخرية بعدما نزع عنه جاكيته ولحق بهم: على أساس انك عازب وواقف تصطادلك عروسة ولا أيه مش فاهم!
حانت منه نظرة للداخل وقال بخبث: لا وانت الصادق هوقع العريس. وأهو نجيبه يساعد.
كاد بتجاوزهم للداخل فوقف أيوب قبالته ممسكًا بالخضار والسكين، وقال بسخط: سيب سيادة الرائد في حاله يا عمران، سييه يتهنى مع عروسته واحنا شغالين بداله أهو. اتقي الله يا أخي!
ضيق جفونه بصدمة وأشار لذاته: أنا يتقالي اتقي الله ليه يا شيخ أيوب شايفني رايح أعزمه على ازازة خمرة!
وأشار بحدة: وسع من طريقي خليني أشوف شغلي!
اجتمعت الفتيات بالداخل تتبادلن اطراف الحديث، فانسدلت زينب من بينهن لرغبتها بالخروج للحديقة، خطت بالخارج وسط الأشجار والزهور باستمتاعٍ، لتخطف نظرات ذلك العاشق الذي ترك ما يفعله واتبعها دون ارادة منه.
تعثر طرف فستانها وكأنه علق بشيءٍ من أسفل قدميها، فانحنت ترى ماذا هناك، تفاجئت بصندوقًا مغلق يخرج منه أداة حادة رفيعة للغاية انغرست بفستانها الازرق الطويل.
ابعدتها عنها وفتحت الصندوق بفضولٍ، فجحظت عينيها بصدمةٍ مما رأته بداخله لدرجة جعلتها تسقط أرضًا وتزحف للخلف وهي تصرخ بفزعٍ وبكاء دفع سيف بهرول تجاهها وانخفض يطوفها بذراعيه وهو يتساءل بهلع: في أيه؟!
عاونها على الوقوف أمامه ولكنها مازالت تصرخ بانهيار، فصاح بها: زينب مالك؟!
أمسكت بساعديه ويدها تشير للعُلبة بجنون: هيقتلني، يمان هنا، يمان هيقتلني!
تطلع تجاه العُلبة فاحتقنت معالمه بصدمة وغضب، فشعر بثقلٍ يُفذق على صدره، فاذا بها ترتمي عليه فاقدة الوعي، أحاطها بين يديه بإحكامٍ وهو لا يدري كيف سيعود للحفل بها هكذا، فإتجه بها للأريكة القريبة من حمام السباحة، ثم حمل المياه بيده ونثر بها على وجهها وهو يناديها بقلقٍ: زينب. افتحي عنيكي من فضلك!
وحينما لم تستجيب عاد يحمل المياه وينثرها مجددًا، هاتفًا: زينب سامعاني!
رددت ببكاء وشهقاتها لا تتوقف: سيف!
تصلبت أصابعه الحاملة لقطرات المياه وأكثر ما يسره سماعها تناديه حتى وإن لم تكن بواعيها الكامل.
استعادت زينب وعيها، فانتفضت على الاريكة تراقب المكان من حولها برعبٍ، فترك ما بيده واتجه إليها يردد بهدوء: اهدي يا زينب، مفيش حد هنا.
عادت تتطلع للعُلبة التي تحمل قطة مذبوحة ووجهها مشوه بمياه نار، تراجعت لأخر الأريكة وهي تضم جسدها إليها وعينيها مازالت مسلطة على العلبة، فجذبها سيف ووضعها في صندوق القمامه المجاور لهما قائلًا: تلاقيها وقعت جوه الصندوق صدفة.
هزت رأسها نافية وقالت ومازالت تضم جسدها المرتجف: هو اللي عمل كده، لما هربت مصر ووصلي هددني بمية نار إنه هيشوهني، وقالي لو هربت تاني هيدبحني. هو اللي عمل كده علشان يخوفني، هيقتلني المرادي يا سيف، هيقتلني.
أشفق على حالها، فرفع بنطاله من ركبتيه وانحني قبالتها على قدميه يتطلع لها بحنانٍ، ليفاجئها حينما قال: تتجوزيني يا زينب؟
استقرت عينيها التي تفتش بالارجاء عليه ورددت بصدمة: أيه؟
ابتسم وهو يشير لها بجدية تامة لا تناسب الموقف: أنا مستعد أحميكي منه يا زينب. أنا عايز أكون معاكي، عارف إن مستحيل يتولد بينا حب بالسرعة دي بس أنا برتاح لما بشوفك وحابب نكون مع بعض على طول.
نهضت عن الاريكة تشير له بجنون وكأن روحًا تلبستها، وراحت تهتف بتشتتٍ: هيقتلك يا سيف. إبعد عني، أي حد بيقربلي بيكون مصيره الموت، إبعد يا سيف.
وركضت لتعود للقصر مجددًا فركض خلفها وهو يصيح بها: جاهز لكل ده يا زينب، صدقيني لو بقيت جنبك محدش هيقدر يأذيكِ.
وقفت محلها تستمع إليه وصوت بكائها يعلو دون توقف، فاستدارت تجاهه تقول ببسمة ألم: تفتكر إني مش عايزة إنك تكون قريب وجنبي! بس صدقني مينفعش إنت متعرفهوش يا سيف، ده شيطان!
وتابعت وهي تتراجع للخلف: إبعد عني يا سيف علشان خاطري ابعد!