رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع عشر
صدمتها بتلك اللحظة كادت أن تجعلها عاجزة عن الحديث، لم يكن بأوسع مخيلاتها أن ينكشف أمر حبها لأحدٍ من أبناءها، أبقته سرًا حربيًا لا ينفك لأحدٌ معرفته، تماسكت فريدة بثباتها ورددت متصنعة عدم الفهم: إنت تقصد أيه بكلامك ده يا علي؟
منحها نظرة دافئة طويلة، قبل أن يجيبها بحروفٍ عميقة: ماما أنا عارف بقصة الحب اللي كانت بينك وبين عمي.
رمشت بعينيها بدهشةٍ، وبدت حائرة بما يتوجب قوله بتلك اللحظة، فقالت بشكٍ: هو اللي قالك صح؟
هز رأسه ينفي عن عمه تلك التهمة، وقال: مقاليش حاجة، يا ريته كان عملها يمكن الفراق ما بينكم مكنش هيوصل لكل السنين دي.
أخفضت عينيها أرضًا حرجًا، بالعادة تجلس الأم برفقة ابنها تحاول اقناعه بالزواج من فتاة يحبها، والآن تجد وضعًا غريبًا لا تعلم كيف ستتعامل معه، ابنها يطالبها بالزواج وخوض حياة حرمت ذاتها منها منذ سنواتٍ.
أجلى صوته الخشن: متفكريش فينا احنا خلاص كبرنا وبقينا رجالة، فكري بنفسك لو مرة، فكري بالسنين اللي قضتيها وإنتِ بعيدة عنه، كفايا توجعي قلبك المجبور على الفراق.
أطلت له بنظرة تحوم بعينيها الغائرة، مرددة بصوتٍ يحتقن البكاء به: تفتكر إنه يستاهل إني أعمل كده بعد ما اتخلى عني يا علي؟
سحب دفعة من الهواء وأخرجها ببطءٍ، إن أخبرها الحقيقة التي أمنها له أحمد لكانت تعلم بأنها ارتكبت خطأ تندم لاجله ما بقى من عمرها، ولكنه إستئمنه عليه لذا قال بنبرته الدافئة: أنا مش عارف هو أيه اللي، خلاه يعمل كده بس اللي واثق منه إنه لو مكنش بيحبك حب جنوني مكنش فضل من غير جواز بعد السنين دي كلها ومازال مصر إنه يتجوز حضرتك.
نهضت فريدة عن مقعدها واتجهت للشرفة تتهرب من نظرات على وصمتها يطول بها دون محالة، وبعد فترة صمتها أتاه صوتها المرتبك: صعب يا علي، هقول لعمران وشمس أيه؟، بدل ما أفكر بتحضرات جوازة بنتي أحضر لجوازي!
لحق بها والابتسامة لا تفارقه، فوقف جوارها يمنحها نظرة حنونة: عمران عارف وموافق، أما بالنسبة لشمس فأعتقد مش هيكون عندها أي مشاكل لانها بتحب أنكل أحمد وهتتقبله بينا لإن ده مكانه اللي يستحقه.
بدت حائرة لا تعلم ما ستقوله، فوجدته يجذبها إلى صدره يحتوبها كأنها ابنته الصغيرة، غاصت بين جسده ولا أحدٌ يصدق بأنها والدته، فتعلقت به وهمست إليه: ربنا ما يحرمني منك يا علي، إنت ابني وأخويا وصديقي وكل شيء بمتلكه في الدنيا.
ابتسم بسعادة تلاشت حينما استكملت بمكر: لو بس تسمع كلامي وتسيبك من الجوازة دي وآآ.
قاطعها حينما رفع وجهها إليه يخبرها بشيءٍ أقرب للتوسل: علشان خاطري بلاش تضغطي عليا، ماما أنا بحبها، وحابب أقضي عمري كله معاها، شايفها زوجة وأم أولادي، من فضلك يا ريت تتقبلي ده.
علمت بأنهة تنساق خلف حائط موصود، فتنهدت بيأسٍ واستدارت توليه ظهرها، فقال بتهذبٍ: هسيبك تفكري في كلامي كويس وهنزل أشوف عمران.
وتركها وهبط للأسفل، بينما بقيت هي بالشرفة تفكر جديًا بحديثه وبكل حرف قاله لها، لا تنكر بأن معرفة على وعمران بالأمر قد أراح قلبها وخلصها من عوائق منتصف الطريق ولكن الأمر مازال يحتاج منها تفكيرًا ممهدًا.
بالأسفل.
اجتمع الشباب حول مائدة الطعام، بعدما انتهت فاطمة ومايسان من تحضير السفرة، وصنع سفرة أخرى باحد الغرف للسيدات بناء على طلب على الذي يفضل أن لا يحدث اختلاط بالجلوس بين الرجال والسيدات، وسرعان ما انضم لاصدقاء عمران وبدأ بالترحيب بشقيق يوسف بتهذبٍ: يا أهلًا بالدكتور سيف المجتهد، نورت البيت كله والله.
منحه سيف ابتسامة هادئة بعدما رفع بصره عن طبق الطعام من أمامه، فتلاشت ابتسامة على وراح يتساءل بدهشةٍ: أيه اللي في وشك ده؟
سعل عمران حينما توقف الطعام بجوفه لعلمه بأن ذاك المعتوه سيفضح أمره لاخيه ولعمه الذي يترأس طاولة الطعام، فقال: بعد عنك يا على دخل فيه تور طايح أصله كان جرفات أحمر، شكله كان بيحتفل بعيد الحب مع خواجية الخلبوص.
جحظت عين سيف بصدمة من تحليل عمران السريع والكاذب، فاستدار لاخيه الذي همس له وهو يحسس على ظهره كأنه يراود طفل صغير: عديها عشان خاطري.
كبت جمال ضحكة كادت بالافلات منه، وتنحنح بخشونة: الأكل طعمه رائع، شكلنا هنتعود على العزايم اللي من النوع ده.
ابتسم له أحمد، وقال بمحبة كبيرة يكنها لهم: البيت بيتك يا بشمهندس تنور بأي وقت.
بالرغم من محاولة جمال الناجحة لتغير مسار الحديث بين على وسيف، الا أنه لم ينجح باقماع على الذي عاد متسائلًا بشك: لما خرجتوا تجروا من شوية كنتوا فين؟
كاد عمران أن يختلق كذبة جديدة، فأوقفه سيف بضيق: كنت بتخانق مع بني آدم مستفز وأخوك جيه رباه.
واستدار تجاه أخيه الذي لطم فمه بغضب، هامسًا بضجر: متعودتش أكذب أنا! وصاحبك ده فشار درجة أولى.
جحظت أعين على بصدمة، وانتصبت كامل نظراته لاخيه هاتفًا بغضب: تاني يا عمران؟
منح عمران سيف نظرة ساخطة، وصاح بعدها بغيظ: متشكرين يا دكتور سيف، طول عمرك ذوق وصاحب واجب.
واستطرد بسخرية وهو يكاد يتخطى جمال ليصل إليه: بقى أنا أنقذت حياتك من الجحش اللي كنت عالق معاه وأخرتها جاي تبلغ عني، ايش حال ما كنا جايبنك من تحت رجليه بترفرف زي الدبيحة اللي مستنية الفرج!
جذب أحمد المنديل الورقي يزيح بقايا الطعام، وقال بخشونة: مش مهم اللي حصل المهم إنكم بخير، بس خدوا بالكم بعد كده عشان ميحصلش لحد منكم مشاكل، متنسوش إننا مش في بلدنا وهنا مبيصدقوا يمسكوا أي غلطة على أي واحد عربي.
وأبعد مقعده عن الطاولة ثم استأذن بلباقة وابتسامة لا تفارقه: أنا هدخل أكمل شغل، سفرة دايمة بينا بإذن الله، عن إذنكم.
رد عليه يوسف بمحبة: اتفضل يا عمي.
إتجه أحمد للمكتب القريب منهم، فما أن تأكد يوسف من رحيله حتى عنف سيف بحدة: عجبك كده الراجل هيقول علينا أيه؟!
تناول عمران ما بملعقته مرددًا باستهزاء: هيقول عليا أنا يا حبيبي، ما أخوك خلاص طلعني بلطجي قدام عمي وأخويا أبو لسان طويل.
صاح على بانفعال: أيدي أطول من لساني يا عمران، تحب تجرب؟
التحف بتوب الصدمة والحزن، وردد بنبرة ماكرة: إنت بتقول أيه يا علي؟ عايزني أمد إيدي على أخويا الكبير دي كانت تتقطع يا أخي لو اتعملت!
انفجر الجميع بنوبة من الضحك حتى على ضحك من بينهم، ذاك المغرور يحسم المعركة بانتصاره منذ الآن ويبرهن بأنه سيكون الحائق الوحيد خوفه من ضرب أخيه الأكبر!
تناولوا طعامهم بتلذذ وقد استمتعوا كثيرًا بالطعام المغربي، وحينما اغتسلوا جلسوا بالصالون يتناولون الحلوى والعصائر، وعند ذاك الحد استأذن على ليترك لهم مساحة خاصة بالجلوس مع صديقهم المقرب، فأن كان يربطه علاقة صديقة بهم فلأجل صداقتهم بأخيه.
فور صعود على اعتدل عمران بجلسته على الأريكة يتطلع لسيف بنظرة جعلت الاخير يزدرد ريقه بتوتر فأسرع يبرر بارتباكٍ: أنا مكنش قصدي أفتن عليك بس أنا بجد اتصدمت فيك يا عمران، إنت اتحولت من شخص اتعودت أشوفه كاريزما وشيك لشخص غريب معرفوش أنا لوهلة كنت شاكك إن عمران اللي أخويا مصاحبه غير اللي كان واقف يضرب الولد، إنت علمت عليه بالجامد أوي!
ردد جمال ساخرًا: وده يزعلك في أيه، مش ده اللي سحلك على الطريق مرتين؟!
تجاهل حديث جمال ومازالت نظراته مركزة على عمران الذي يرتشف عصيره ببرودٍ والاخر ينتظر سماع ما سيقول، فعلق بنبرة ذكورية خشنة: اسمعني يا سيف آآ.
قاطعه يوسف بحدة: يسمع أيه، ده غبي بدل ما يشكرنا إننا نجدناه واقف يتكلم في أيه!
التفت له عمران وصاح بتعصب: بتقاطعني ليه بروح أمك! ما تسبني أقوله الكلمتين من غير ما تعصبني!
برق سيف بعينيه بصدمة، فزفر عمران بغضب وعاد يهدأ من ذاته قائلًا بحرج: أخوك عارف إني لما بتعصب بتخرج ألفاظ غريبة على لساني، حقك عليا يا سيفو أنا لسه داخل مرحلة إعادة التأهيل مبقاليش اسبوعين، وأول المرحلة بعدت عن الشرب وعن الستات وانتظمت بالصلاة يعني مش هتخطى كل الوحش في يوم وليلة.
هز رأسه بخفة وإن كان غير مقتنع لوقاحته تلك، فاستكمل عمران حديثه ببسمة خبيثة: بص بقى يا دكتور سيف، خدها مني نصيحة وحطها مبدأ في حياتك.
كبت يوسف ضحكاته ومال لجمال يهمس له: أخويا هيضيع مني بعد نصايح الوقح ده، ما تيجي نمشي أنا محلتيش غيره!
هزه بضيق وهو يتابع الحديث بينهما باهتمام: اسمع بس لما نشوف هيقوله أيه؟
بدأ عمران بالحديث والابتسامة المغرورة تلاحق حديثه وكأنه يمنحهم وقتًا ثمينًا للغاية: الستات بتحب الراجل الكاريزما الشيك، اللي يقدر يهتم بشكله وبجسمه الرياضي ولبسه المتناسق، وفي نفس الوقت عايزاه وقت الجد أسد يهز الغابة علشانها ومفيش مانع إنه يكون بلطجي إن تطلب الأمر، مهو مش هيرضيها تتكوم على الأرض مضروب وإنت بالبدالة الشيك والبرفيوم الغالي والساعة الفخمة، اعقلها!
وتابع وهو يرتشف عصير البرتقال: دورك إنت بقى إنك تجمع كل الصفات دي في شخصية واحدة، تتعلم إزاي تكون كاريزما وشيك ولبق في كلامك وإمته تستحضر الانسان البلطجي اللي متدكن جواك وقت اللزوم.
وأشار على يوسف مستحضرًا بحديثه: فكك بقى من أخوك وجو المستشفيات اللي انتوا عايشين فيها دي!
ورفع يده يشير بحزم وجدية: متسبش قفاك مكشوف لحد يعلم عليه، لإن الايد اللي هتنزل عليك مرة مش هتتمنع عنك تاني!
راق له حديثه حتى وإن اتبع نبرة مرحة، ولكنه محق بنهاية الأمر، لطالما كان يوسف لجواره يعلمه أن يباشر دراسته دون أن يتأثر بأي شيئًا حوله، ولكن رغمًا عنه كان ينغمس بمشاكل غريبة كأي شابًا مغتربًا، كان يخشى التعامل بهمجية فيسوء من حوله التفكير به، ولكن ماذا حدث بالنهاية؟
بسبب صمته وتغاضيه عن حقه استغله ذاك الشاب الذي يحمل نفس دماء العروبة بعروقه وود لو أن يسجل علامات فارقة بتاريخ شبابه ليقص بها لاجياله متفاخرًا بأنه سدد الضربات لشابٍ ذات يومٍ!
حاول العمل على الحاسوب لأكثر من مرةٍ ولكنه لم يتمكن من كثرة الأفكار التي تتكوم عليه بتلك اللحظة، أحزانه تجمعت لتحاربه بكل قوته ليبقى بالنهاية بائس متخازل لا يعلم ماذا يحتاج من الصبر ليتجرع صبرًا فوق صبره؟!
أزاح أحمد الستائر عن الباب الزجاجي ليتأمل المسبح والحديقة بنظرة غائمة، فاسند جبهته للزجاج وهو يهمس بوجع: يا الله!
وفجأة تسلل له صوت طرقات خافتة اتبعها تحرر باب الغرفة، وولجت هي للداخل تقترب بعدما أغلقت الباب من خلفها.
وقفت على مقربة منه تتطلع له بنظرةٍ غريبة، جعلته يستدير بجسده كليًا لها، دنت منه على استحياءٍ وبحثت عما ستقول، طال بها الصمت وكأنها لا تجد ما ستبدأ به، فقالت بتلعثم: أحمد لازم نتكلم.
أغلق عينيه مطولًا، واستمد جزء من طاقته المهدورة، فتحرك ببطءٍ للأريكة الجلدية، احتلها بصمتٍ قطعته نبرته الهادئة: سمعك.
جلست على المقعد المجاور له، تبحث عن بداية لحديثه، وبعد فترة قالت: مش عايزة أكون أنانية معاك يا أحمد، آآ، أنا...
وانقطعت عن حديثها بتوترٍ تخطف نظرة سريعة إليه فوجدته ساكن كسكون جثة لا تجيد التحرك بعد عناء موتها، بصلابة يترقب سماع ما ستقول تلك المرة من رفضها، للحق يشفق عليها لم تجد حجة طوال تلك السنوات الا وذكرتها، ترى ماذا ستعلل سبب رفضها الآن؟
استجمعت فريدة شجاعتها التي لا تنفك عنها الا أمامه، تلزم جمودها وثباتها قبالة الجميع وتأتي أمامه تجد ذاتها طفلة تخشى كل شيءٍ بحضرته، تخلت عن تلعثمها وقالت بوضوح: أحمد إنت عشت عمرك كله بدون ما يكون عندك أولاد، وأنا مش هقدر أحققلك الحلم ده، مش هقدر أخلفلك بيبي وأنا المفروض أكون جدة بأي وقت، عشان كده مش عايزة أظلمك معايا، اتجوز يا أحمد وخلف أولاد يشيلوا إسمك قبل فوات الأوان.
تنهد بوجعٍ ويده تفرك جبينه، صوت أنفاسه الثقيلة كانت مسموعة بشكل أربكها، أحمد القوي يبدو ضعيفًا أمامها للمرة الأولى، لطالما كان عزيزًا، شامخًا. قويًا لا يتأثر بأي شيء، ارتعبت فريدة من صمته واختلاج أنفاسه داخل صدره بذاك الشكل، فهمست بخفوت ويدها تمتد بتوتر لكفه المرتخي على ذراع المقعد: أحمد!
فتح رماديته الداكنة ومال برأسه تجاهها، فأتاه سؤالها المتلهف: مالك؟ إنت تعبان أجبلك دكتور؟
تعمق بالتطلع لها بملامح جامدة، تطيل بها ولسانه يردد ساخطًا: تعبي مالوش علاج عند أي دكتور يا فريدة، ريحي نفسك.
واتشح ببسمة ساخرة مستكملًا: بتوجعيني وعايزة تعالجيني!
تدفقت دمعة خائنة من عينيها الزرقاء، وهمست بألمٍ: إنت متعرفش حاجة يا أحمد متعرفش حاجة.
ضم شفتيه بسخرية: والله. طب عرفيني إنتِ!
توترت قبالته ونهضت بعصبية عن جلستها، هاتفه بارتباك: يا أحمد افهمني أنا مش عايزة أظلمك.
نهض خلفها يخبرها: سبق وظلمتك وجيه الدور عليا إدفع التمن، ثم إني مش شايف إنك هتظلميني، على وعمران وشمس أولادي وبالنهاية حاملين اسم الغرباوي بالنهاية.
وهمس رغم تخاذل الألم أضلعه: غصب عنك وعن الكل هما من لحمي ودمي حتى لو انتِ مش شايفاني أنفع أب ليهم.
استدارت إليه تدافع عن ذاتها بصدمة: أنا مقولتش كده أبدًا، ده أنت أحن عليهم من سالم الله يرحمه.
أخرج زفيرًا قويًا اتبعه قوله الذي خرج ببطءٍ: اسمعيني يا بنت عمي، دي فرصتك الاخيرة يا نكتب كتابنا ونعلن جوازنا مع على بعد بكره يا هرجع على مصر وهكون عم لاولادك بس المرة دي هتكون أخر فرصة ليكي يا فريدة لاني خلاص فقدت كل صبر كان جوايا ليكي.
وتركها وإتجه ليغادر بسئم من الاحاديث الغير متجددة بينهما، وقبل أن يحل عقدة الباب وجدها تقول: موافقة.
رمش بعدم تصديق لما استمع إليه، فاستدار إليها يحاول التأكد مما تلقاه منذ قليلٍ، فأجلى حلقه الجاف قائلًا بتوتر: موافقة على أيه بالظبط.
قطعت هي المسافة القليلة بينهما، وقالت وهي تفرك أصابعها كالمراهقة التي تعترف بحبها: موافقة تكونلي زوج يا أحمد.
تنهد بتعبٍ واضح على ملامحه المجهدة: أخيرًا يا فريدة، أخيرًا!
منحته ابتسامة مشرقة وابتعدت من أمامه على الفور تاركته يبتسم وهو يتطلع لاثرها بعدم تصديق، فجلس على المقعد وهو يردد بفرحة: اللهم لك الحمد حتى ترضى!
دعوته المعلقة لأعوامٍ باتت صداها ملموس الآن، وأخيرًا انتهى عذابه وارتوى بعد صبرًا رشفة كانت هنيئة لقلبه النازف، ولكن ترى سره العالق بصدره سيظل مدفونًا؟!
طرق على على باب غرفتها، وحينما استمع لإذنها بالدخول ولج يبحث عنها، فوجدها تجلس أمام المرآة شاردة الذهن ويدها تتمسك بفراشة الشعر تمشط شعرها بعشوائية وغير اهتمام.
جذب منها الفراشة وجلس خلفها يمشط شعرها البني الطويل بهدوءٍ، ونظراته الحنونة لا تفارق انعكاس صورتها بالمرآة، عادت برأسها إليه مستندة على صدره، ويدها تتعلق برقبته: كويس إنك جيت، أنا محتاجالك.
صوتها المحتقن كان يحمل أثر بكاء ممزق داخلها زرع القلق داخله، فرفع جسدها إليه وتساءل بقلق: مالك يا روحي؟ وليه حابسة نفسك في أوضتك من الصبح ومنزلتيش مع مايا وفطيمة؟
هوت دمعاتها على وجنتها ورددت بهمس ضعيف: خليك معايا يا علي.
تمزق قلبه لرؤية طفلته الصغيرة تبكي، فلف جسدها إليه وضمها بكل قوته، تمسكت بقميصه من الخلف وبكت بصوتٍ مسموع: أنا مفتقدة بابا أوي وبشم ريحته فيك لما بتاخدني في حضنك.
أدمعت عينيه حينما استمع لما تقول، فانحني يطبع قبلة عميقة على جبينها وقال بشكٍ لا ينحاز عن عقله الذكي: شمس، انتِ عرفتي بموضوع جواز عمي وفريدة هانم؟
هزت رأسها وقالت ومازال رأسها مدسوس باحضانه: عمران قالي، غصب عني يا علي، مهما كنت بحب أنكل أحمد بس الموضوع مش سهل صدقني.
مسد على ظهرها بحنانٍ، وهمس لها: فاهمك وفاهم مشاعرك يا حبيبتي، بس صدقيني اما تهدي كده هتلاقي إن أنكل أحمد هو المناسب والأحق إنه يكون مكان بابا الله يرحمه، متنسيش يا شمس إنك بكره هتتجوز وهتسيبي البيت وتروحي تعيشي في بيت زوجك وأنا وعمران كل واحد فينا هيكون له حياته المستقلة، بالنهاية يا شمس ماما هتكون لوحدها إنتِ حابة تشوفيها عايشة بالوحدة دي؟
هزت رأسها رافضة لما يقول، وعاد صوتها الهزيل يصل لمسمعه: ميرضنيش ومستحيل هعارض الجوازة دي، أوعدك إني مش هبين شيء ليها.
رفع ذقنها إليه مانحها ابتسامة جذابة: كده أقول عليكي كبرتي وعقلتي.
منحته ابتسامة رقيقة، وعادت تميل برأسها على صدره ثم قالت بخجل: علي. ممكن تخليك معايا النهاردة.
حمل جسدها إليه وزحف بها للفراش، فتمدد عليه وضمها إليه بحنان مثلما كان يفعل حينما كانت تتسلل لغرفته ريثما يطاردها كابوسًا مزعجًا أو ترى فيلمًا من صيحات الرعب القاتل، استحوذ الأمان عليها وخاصة حينما همس إليها: أنا هنا في أي وقت هتكوني محتاجالي فيه يا شمس، أنا معاكي سندك وأمانك، أبوكي وأخوكي وصديقك وحبيبك. اللي جاهز يحارب الدنيا كلها عشان سعادتك، ومهما كبرتي هفضل شايفك الطفلة اللي ماسكة ايدي عشان أعديها الطريق.
ابتسمت وهي تغفو بين ذراعيه بانهاكٍ يتبع تؤرم عينيها وفكرها المرهف، مسد بيده على خصلات شعرها بحنان وظل يردد الآيات القرآنية يرقيها بها حتى لحق بها هو الأخر وسقط بنومٍ ثقيلٍ.
ودع عمران أصدقائه بحبورٍ وعاد للداخل يبحث عنها ليشكرها بامتنان على ما فعلته لأجله، وجدها تعاون الخادم بحمل الأطباق ووضعها بغسالة الأطباق، وحينما استدارت وجدته يدنو منها ويشير على الباب: عايزك.
أبعدت مريال المطبخ عنها وقالت بتعبٍ: حاضر، بس أطلع أخد شاور وأغير هدومي الأول لحسن مش قادرة.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال وهو يرفع يده لها بتسليةٍ: خديني معاكِ أستناكِ لما تخلصي ونتكلم.
أسندت يده للمصعد ومن ثم ولجت لغرفتها، فوجدته يجلس على الفراش ويراقبها باهتمامٍ، تحركت بارتباكٍ لخزانتها تجذب بيجامة من الستان وتتجه لحمام الغرفة، وقبل أن تغلق بابه قالت بحرجٍ: تحب أوديك أوضتك لحد ما أخلص وأجي نتكلم.
جذب هاتفه يدعي انشغاله به قائلًا: لا أنا مرتاح، خلصي وأنا هنا.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ وأغلقت الباب ثم بدأت بالاستحمام، وحينما انتهت ارتدت بيجامتها واتجهت للخروح وهي تجفف شعرها بالمنشفة، فما أن فتحت الباب حتى برقت بفيروزتها بصدمةٍ حينما وجدته ينحني أمامها، انتصب بهيبته أمامها، يحاول استكشاف تجمد معالمها باستغرابٍ، لا يعي ماذا يحدث معها؟
تمرد لسانها عن ثقله ورددت بعدم تصديق: بتبص عليا من عقب الباب يا عمران!
جحظت عينيه صدمة لاتهامها هذا، فقال بضجر: ليه شايفاني مراهق عشان أعملها!
قذفت وابل اتهام جديد: أمال موطي كده ليه؟
رفع ما يمسكه بيده قائلًا ومازالت صدمته جلية على ملامحه: الشاحن وقع مني، موبيلي فصل وكنت بوصله بشاحن موبيلك!
وحدجها بنظرة غاضبة قبل أن يخبرها: وبعدين يا حبيبتي مش أنا اللي أبص على مراتي من فتحة الباب، أنا زي ما قولتي عليا وقح والوقح بيعمل اللي على مزاجه في وش اللي قدامه ومبيهموش حد!
ارتخت معالمها واستكملت طريقها للسراحة تجفف خصلات شعرها وتمشطه ببراعةٍ، متسائلة لمن يراقبها: كنت عايز أيه؟
دنى منها وهو يمرر يده على الحائط، حتى أصبح قبالتها، فمد يده إليها والاخرى توزع نظراتها بين عينيه وبين يده الممدودة بعدم فهم، فرفعت كفها إليه، فوجدته يخرج من جيب سترته خاتم من الألماس يبرق من شدة لمعته، وضعه بين إصبعها وانحنى يلثمُ كفيها برقة جعلتها تغلق عينيها تأثرًا به وخاصة بكلماته التي تحررت على شفتيه: شكرًا على كل حاجة عملتيها النهاردة، الأكل كان طعمه جميل أوي، شرفتيني قدام الكل النهاردة.
نهضت عن المقعد وقالت ببسمة رقيقة: أنا معملتش حاجة مهمة تستاهل إنك تجبلي خاتم غالي زي ده يا عمران ده واجبي!
تابع عينيها بحبٍ وأجابها: مش فرض ولا واجب عليكي يا مايا، وحتى لو كان كده ففرض عليا أكافئك بعد اللي عملتيه. وبصراحة كده أنا جاي عشان أبلغك حاجة تانية.
سألته بلهفة: حاجة أيه؟
تمعن بها بهيامٍ، وقال وهو يشير برأسه: قربي علشان محدش يسمع اللي هقوله.
انكمشت تعابيراتها بغضب ورددت من بين اصطكاك اسنانها حينما تسرب لها خبث نواياه: عمران!
اتسعت ابتسامته التي زادت من وسامته الطاعنة لها، وقال ينفي شكوكها: هبلغك باللي جيت أقوله وهخرج على طول.
انصاعت له واقتربت بارتباك ثم قدمت له أذنها، فانحنى تجاهها، لفحته رائحة شعرها المبتل فأنعشته وجعلته يغلق عينيه بقوة تحمل تلك المذبحة الطاعنة لرغباته ومشاعره.
ارتبكت من قربه فهمست بخوفٍ: عمران إنت وعدتني!
ابتسم وهو يطول بصمته الماكر، فعادت تناديه مجددًا: عمران!
أطبق بجفونه معتصرًا حدقتيه، وانحنى لأذنها يخبرها: بطلي تناديني باسمي، صدقيني بتصعبي البعد عليا!
كادت بالفرار من أمامه، فجذبها إليه بقوةٍ جعلتها تصطدم بصدره العضد مما ألمها فجعله يتراجع للخلف قليلًا وهو يعود لتطلعه لها قائلًا: اسمعي اللي جاي أبلغك بيه علشان خلاص نفذ صبر أيوب اللي أنا عايش بيه، يوم فرح على وفطيمة جهزي نفسك، هنبدأ حياتنا مع بعض.
جحظت عينيها صدمة، ورددت بعدم استيعاب: بتقول أيه؟
ضحك وهو يخبرها بغمزة تسلية: ده اللي هيحصل يا حبيبتي لو مش عايزاني أنحرف بجد وأبص عليكي من فتحة الباب زي ما تخيلتي.
وتركها مندهشة محلها وغادر يردد ببسمة انتصار: تصبحي على خير يا. يا بيبي!
كادت بأن تنفجر من فرط كبتها لغيظها، فما أن رأته يفتح بابها ليغادر حتى أسرعت خلفه تصرخ بغضب: مش هيحصل يا عمران. استنى هنا رايح فين؟
أغلق الباب واستدار لها ببسمة واسعة: بنت حلال والله وحاسة بيا، إنتِ أساسًا مغرية بشكلك ده.
واقترب منها يشير: يلا بينا يا بيبي.
حاولت استيعاب مضمون حديثه، بالطبع ورائه كل ما هو وقح وجريء لذا قالت من بين اصطكاك اسنانها: اطلع بره يا وقح.
ابتسم ومرر وجهه بشكلٍ مستلذ: يا سلام بقيت بتكيف من الكلمة دي لما بتقوليها شوفتي تقصير كلمة بحبك يا عمران دي أقوى منها بمراحل!
عبثت بشكل مذري، واتجهت لفراشها تحتضن رأسها وهي ترتل بحزن: يا ربي أعمل معاه ده أيه، أجيله كده يجبني كده آه منه ابن الغرباوي هيطلعني منها بدري!
راقبها ببسمة هادئة وتساءل بسخرية: هطلعك من أيه؟
من الدنيا، هتكون هتطلعني من أيه يعني!
لا يا بيبي مصدر الكلمة غلط، بتتقال هطلعني من هدومي تفرق!
اطلع يا عمران.
ما تطلعي انتي!
تساءلت باستغراب: اطلع منين دي أوضتي!
أجابها بغمزة وقحة وادعاء بالبراءة زائف: من هدومك أأقصد فكي كده واستقبلي اللي جاي بفرحة يا آآ، يا عروسة ما إنتِ هتكوني عروسة بردو ولا أيه؟
نفذ صبرها وكل محاولة بالتمسك بعقلها، فاطاحت به تدفعه للخارج بكل قوتها وهي تصرخ بها: بره بقى بدل ما ألم عليك خلق الله عشان إنت وقح وتستاهل الفضيحة.
تعالت ضحكاته الرجولية وهو يجدها تتحلى بقوة غريبة كانت قادرة على دفع جسده القوي لخارج غرفتها وأغلقت بابها بعنف بوجهه، استند على الباب وردد ضاحكًا: ماشي يا مايا، خليكِ عارفة بس إن ابن الغرباوي نفسه طويل!
واستدار خلفه يتفحص الرواق من حوله، فابتهج حينما وجد الجميع بغرفهم، فاتشح ببسمة خبيثة وابدل مساره لصالة الرياضة بدلًا من غرفته.
مرر يده على الجهاز متحاشيًا لمس بطنها المنتفخ بعض الشيء، وعينيه مسلطة على الشاشة من أمامه كالمعتاد له عدم اباحة عينيه أي جسد امرأة قط، بينما من خلفه يقف جمال عينيه تكاد تخرجان من مكانهما على الجهاز، يتأمله ببسمة واسعة، ولجواره كانت تقف ليلى تبتسم وهي تشاهد صورة الشاشة وخاصة حينما حرك يوسف الجهاز على أجزاء من جسد الرضيع التي بدأت بالتكوين مشيرًا: دي الايد أهي، ودي رجليه.
رددت صبا بحماسٍ: هو ولد؟
قال دون أن يتطلع لها: مش هقدر أكدلك غير في الاعادة إن شاء الله يا مدام صبا.
ترك جمال موضعه المقابل للشاشة الكبيرة واقترب لينحني فوق رأس يوسف الجالس على مقعده حتى كاد بأن يسقط من فوقه ليرى ما يقوم يوسف بالتطلع إليه باهتمامٍ عبر الشاشة الصغيرة، وكأنه يرى منظر أخر غير ما تطرحه الشاشة الاخرى، صاح يوسف منفعلًا: أيه يا عم، قارفني حتى هنا!
لكزه جمال بغضبٍ: ما تظبط الكلام يالا بدل ما أظبطك أنا.
كبتت ليلى وصبا ضحكاتهما عليهما، وخاصة حينما لف يوسف يده حول رقبة جمال ودفعه لداخل الشاشة حتى كاد بأن يصيبه العمى من فرط الاضاءة: أهو كده شايف! أكيد هتطلع او هيطلع سمج زي أبوه، مرضي كده يا عم! مش كفايا مخليني افتحلك العيادة مخصوص عشانك انت وابنك؟!
تعالت ضحكات صبا باستمتاعٍ، فاليوم كان مميز لها، يكفيها بأنه سمح لها الدخول لدائرة أصدقائه للتعرف عليهما وعلى زواجاتهما عن قرب.
تخلى يوسف عن مزحه حينما رأي جمال يندمج بتأمل الشاشة بأعين شبه دامعة، فربت على ظهره بحنان: ربنا يكملها على خير ويجعله خلف صالح ليك يا حبيبي.
أجابه بتأثرٍ: يا رب يا يوسف، وعقبال ما نشيل خلفك.
اخترق الألم قلبها لسماع دعوته المرهفة، فعلمت الآن ماذا يخوض زوجها طوال تلك الفترة من زواجهما، ولكن شملتها سعادة كونها تخلت عن عقار منع الحمل منذ اليوم الذي جمعهما بعيادتها الجديدة، وتابعت يوسف باهتمامٍ لتجده يمنح رفيقه ابتسامة مشرقة وقال: تسلم يا جيمي، ارجع بقى مكانك عشان أسمعك نبض الجنين.
أسبل بجفنيه بعدم تصديق: بجد؟
هز الأخير رأسه موكدًا ورفع من صوت الجهاز ليعلو لهم صوت الجنين فتسللت البسمات الوجوه، وخاصة صبا التي بدت لا ترغب بنزع الجهاز عن بطنها وقضاء يومها بأكمله تستمع للنبضات وترى صورة جسده الغير مكتمل بعد.
خطف يوسف نظرة سريعة لزوجته، فوجدها تراقب الشاشة بنظرات حالمة مهتمة، عاد يتطلع امامه وهو يبتسم ويهمس بصوت غير مسموع: عقبال ما دماغك تلين وتكوني نايمة هنا مكانها!
انتهى الفحص وقام يوسف بتدوين بعض الادوية والمكاملات الغذائية التي تعاونها بتلك الفترة من الحمل، وخصص لها موعد بعد اسبوعين من الآن لتقوم بمتابعة مستمرة لحين موعد ولادتها.
خرجوا معًا مجددًا فعاون جمال يوسف باغلاق الباب الحديدي الخارجي للعيادة وهبط معًا للسيارة ليقوم جمال بتوصليهما أولًا، وما أن وصل للعمارة حتى انحنى يوسف لجمال يخبره: اعمل حسابك الاسبوع الجاي معزومين على افتتاح عيادة الدكتورة ليلى. ابقى بلغ الوقح بالكلام ده.
ضحك وغمز له: هي السهرة تحلى من غيره، عيوني هبلغه.
منحه الاخر ابتسامة هادئة واتبع زوجته للداخل بينما تحرك جمال بزوجته للمنزل.
شفتيها ملتصقة ببعضهما ومع محاولتها العديدة لنزعهما عن بعضهما البعض باءت بالفشل، أرادت الصراخ ولكنها لا تنصاع إليها، جسدها ينتفض بقوة مع سماع ذاك الصوت القاتل لها، ولم يكن سوى صوت تمزق الثوب الذي ترتديه، دموعها لا تفارق مقلتيها وتوسلاتها لا تفارق حركة جسدها المنتفض، ثلاثون دقيقة تعافر بهم للخروج من تلك الحالة القاتلة وبالرغم من أن عقلها الباطن يهييء لها أن صوتها مكمم لا يخرج عن حلقها الا أن الحقيقة كانت معاكسة لذلك، فلقد تحرر صوتها بصراخٍ قابض خرج لأجله أحمد من غرفته ومايا وعمران الذي خرج بالمنشفة يزيح قطرات العرق عن جبينه، فدنى وهو يستند على الحائط من عمه الذي تساءل بقلقٍ: في أيه؟
أجابته مايا بخوفٍ يسيطر على رعشة صوتها: معرفش يا عمي أنا خرجت على صوت الصريخ ده؟!
قال عمران وهو يتلصص لسماع الصوت بحيرة: أعتقد ده صوت فاطيما!
اتجهت مايسان لباب غرفتها ترهف السمع، وحينما تأكدت اتجهت لمحلهما تردد: فعلًا ده صوتها.
رفع عمران حاجبيه ساخطًا: ومستنية حد فينا يدخلها! ادخلي شوفي في أيه؟
قالت بحرجٍ من نظراتهما المسلطة عليها: افرض على جوه!
رد عليها أحمد وهو يتجه لغرفة على المجاورة لفطيمة: كان زمانه قام أول واحد. على نومه خفيف!
ولج لغرفته فوجد الفراش مرتب لم يمسه أحدٌ، فتساءل عمران باستغراب: هيكون راح فين؟!
أشار أحمد لمايسان: روحي يا بنتي شوفيها، وإنت يا عمران اتصل بعلي شوفه فين؟
افترض محله بعدما جمع علامات استفهام سؤاله: على مخرجش، ممكن يكون عند شمس، هشوفه وراجع.
انتظر أحمد أمام باب الغرفة بالخارج، فجابها ذهابًا وإيابًا بقلقٍ شديد يعتريه كلما على صراخها أقوى من السابق، فتفاجئ بفريدة تقترب منه متسائلة بحيرة: في أيه يا أحمد وأيه الصوت ده؟
ذم شفتيه بضيقٍ مما سيحدث هنا الآن، وبالرغم من ذلك قال: فطيمة شكلها شايفة كابوس من ساعتها بتصرخ وعلى مش فاهم اختفى فين دلوقتي وهو عارف حالتها!
منحته نظرة ساخرة، ورددت باقتضاب: عندك حق مينفعش يسبلنا المجنونة دي كده ويختفي، وبعد اللي بيحصل ده يرجعها مستشفى الامراض العقلية أفضل من الفضايح اللي هتحصلنا دي.
صفق كفًا بالأخر بقلة حيلة: ده وقته يا فريدة!
تسلل للداخل على أطراف أصابعه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة صافية وهو يراقب شقيقته تغفو على صدر على الذي يحتضنها بحنان، ابتسم عمران وانحني يقبل جبهة أخيه ومن ثم منح شمس قبلة على وجنتها، وهمس بحزن: طب كنتوا خدوني معاكم!
وحينما تذكر حالة فاطمة، اتجه يحرك على بحذر، ففتح الأخير عينيه بانزعاجٍ: عمران! خير؟
همس له وهو يتفحص شمس: مش خير خالص يا قلب أخوك، قوم معايا ووطي صوتك عشان بنتك متصحاش.
منحه نظرة محتقنة وعاد يضمها إليه ويغفو دون أن يعبئ به، فجذبه عمران مجددًا قائلًا بجدية: بقولك قوم في كارثة برة؟
نقلها على للوسادة ببطءٍ، ونهض ليتجه له، فاندهش حينما اتجه عمران لمحله وأشار له مدعيًا الألم: ارفع رجلي بس بهدوء.
انصاع له على وعاونه على التمدد بشكلٍ مريح وهو يراقبه بغيظٍ قد أوشك به على قتله، ولكنه يعلم بأنه سيلقي القنبلة المؤقتة حتمًا ولكن بعدما يقوم باستفزازه كالمعتاد من هذا الوقح.
جذب عمران شمس إليه، ليضمها مثلما كان يفعل علي، ورفع عينيه له قائلًا: حلو الحضن ده يهون قسوة العيشة المرة معاكم.
وأغلق عينيه يستسلم للنوم وهو يتابع بحزن مصطنع: البت دي بتفضلك عليا معرفش ليه، حاسس أنها بتخبي سر حربي عننا، يمكن تكون اكتشفت إني مش أخوها مثلًا! بس ازاي والراجل ودع بدري وملحقش يتجوز غير فريدة! هكون ابن مين مثلًا!
وطبع قبلة على جبين شمس، ثم مال برأسه فوق رأسها، وأغلق عينيه مجددًا غير باليًا بمن يتابعه بنظرات قاتلة تكاد تجعله كالديناصور الذي سيبصق النيران من فمه تجاه هذا اللعين بأي لحظة، بينما تمتم عمران وقد اتشح بوشاح النوم فعليًا: ابقى فكرني الصبح نعمل تحليل DNA، أتاكد إني أخوكم بجد لإن اللي بيحصل هنا ده قاسي!
فقد على صبره، فانحنى تجاهه واضعًا يده حول رقبته ويحاول جذبه عن الفراش بها، فصاح الاخير يحذره: إياك البت هتصحى!
وتابع ليخلص ذاته: أنا جيت أقولك ان فاطيما بتصرخ جامد وشوية كمان وفريدة هانم هتطردك إنت وهي برة البيت، كل عيش يا دكتور!
تحررت يده عن عنق أخيه وهرول من أمامه كأن شبحًا مسه للتو، بينما عاد الاخير يتمدد جوارها من جديد ليغفو هو الأخر جوارها.
تعالى صوتها بشكلٍ مقبض، مما دفع فريدة للدخول لمايا التي أخبرتهما بأنها عاجزة عن تهدئتها، فولجت الاخيرة تردد بغضب: الجيران هيطلبوا الشرطة لو مبطلتش صريخ وآ.
ابتلعت فريدة كلماتها داخل جوفها حينما رأت جسد فاطمة متجمد، عينيها مغلقة بقوة ورأسها يلتفت هنا وهناك بعصبية مفرطة، والورم يحيط بجفونها من كثرة البكاء، وخذ قلبها ووقفت على عتبة الباب تتطلع لها بدهشة.
استكملت طريقها للداخل لتقف جوار مايا التي تتابعها ببكاء، فازدردت ريقها الجاف بصعوبة: روحي يا مايا شوفي على فين بسرعة.
هزت الأخيرة رأسها وهي تراقب نظرات فريدة الغريبة بعدم استيعاب، واندفعت للخروج من الباب ولكنها توقفت حينما كادت بالاصطدام بعلي الذي ولج للداخل راكضًا، ليسرع للفراش لاهثًا.
تفحصها جيدًا بنظرة سريعة شمل بها حالتها، لا يستطيع الدواء تخفيف وطأة الحالة الحرجة التي تخوضها فاطمة الآن، لذا أسرع لغرفته قاصدًا البراد الصغير بها، وجذب منها الآبرة التي يحضرها لحدوث أمرًا طارئ هكذا، ثم عاد راكضًا لغرفتها يبعد كم البيجامة عن يدها، ويسدد الأبرة بورديها بتريثٍ.
راقبته فريدة باهتمامٍ، وعادت تسحب نظراتها لفاطمة فوجدتها مازالت تنتفض بشراسة، فقالت بحزنٍ لم تستطيع اخفاءه: لذا بترتعش ليه يا على مش الحقنة المفروض تشتغل؟
كان بحالة عدم وعي، لا يشغله سوى التفكير بمحاولةٍ لايقاظها، فقط لسانه يردد وعينيه تراقب وجهها: مش على طول كده!
وحاوط وجه فاطمة بيده، ثم رفعها لصدره، فاستقر رأسها جوار رقبته، نادها بصوتٍ قوي: فطيمة، فتحي عيونك يا حبيبتي. سامعاني.
صوته أحاطها بهالة من الأمان، فانزرع بداخلها وجوده بنفس المكان الذي يتم الاعتداء عليها به، جاهدت لفتح عيونها فخطفت صورة له وعادت لدوامة ظلامها فتجده داخلها أيضًا، رائحة ملابسه تدفعها للشعور به، حتى الهواء الداخل لرئتيها كان مندفع من أنفاسه.
كسرت حاجز صمتها المخيف ودموعها لا تتركها، مرددة بعدم وعي: على متسبنيش يا علي.
ضمها إليه بعنفٍ وكأنه لقائهما الأخير، فهمس لها بحزنٍ خيم على صوته المبحوح: عمري ما هسيبك يا فاطمة، لو ده أخر يوم في عمري هقضيه ثانية ثانية معاكِ.
عادت تهمس له ببكاءٍ: خليهم يبعدوا عني، متخليش حد يقربلي!
تعالت شهقات مايسان وهي تراقبها بهذا الحال لأول مرة، فرفعت كفها المرتعش تكبت صوتها الباكي وتابعتها بشفقة قبل أن تخرج رافضة عدم القسوة على قلبها الذي ينهار لرؤية ذاك المشهد.
أحاطها بذراعيه بقوة وقال بعدما فقد القدرة على السيطرة على دمعاته فانهمرت على وجه فاطمة القريب من أنفاسه، وردد باكيًا: مفيش حد هيلمس منك شعرة طول ما أنا على وش الدنيا، مش هيتكرر تاني يا فطيمة اللي حصل مش هيتكرر تاني أوعدك.
وترجاها بألمٍ يكاد يمزق أضلعه: عشان خاطري افتحي عيونك، ده كابوس أول ما هتفتحي عيونك هتلاقيني جنبك.
إلتمعت تلك الدمعة الخائنة بعينيها وهي تتابع أمامها ما يحدث لها، ناهيك عن تلك الكلمات الطاعنة التي تفوه بها ابنها أمام أعينها، شعرت بوخزات حادة تطول صدرها المشتعل، فانسحبت خائنة الخطى للخارج بتأثرٍ، فوجدت أحمد يسرع إليها متسائلًا: ها يا فريدة فاقت؟
هزت رأسها نافية ومازال وجهها منغمس أرضًا بحالة جعلته يتساءل مجددًا: مالك يا فريدة؟
رفعت عينيها الباكية إليه، ورددت: البنت صعبانه عليا أوي يا أحمد، منظرها يقطع القلب.
رفع احد حاجبيه باستنكارٍ، وكأنه يعلم حلمًا سخيفًا، عساه يتوهم هو الأخر، أراد أن يشن حملة جمله الماكرة والشامتة إليها، ولكنها لم تترك له المجال فانسحبت للاسفل قاصدة جناحها.
صفق أحمد كف بالأخر مرددًا بسخرية: مكدبش اللي قال إن المرأة صندوق أسرار مالوش قرار!
ذهق النهار ظلام الليل، فصدح منبه الهاتف ليزعج تلك الغافلة، فتحت شمس عينيها بانزعاجٍ فتفاجئت بعمران يضمها إليه ويبدأ هو الأخر بفتح عينيه بانزعاجٍ من صوت الهاتف، فقالت باستغرابٍ: هو أنا بتوهم ولا أيه، مش على هو اللي كان نايم جنبي امبارح؟
أجابها وهي يحاول الاستقامة بجلسته: أنا طرقت على ونمت مكانه، وهكررها كل ما تفضليه عليا يا واطية إنتِ أساسًا مبتعرفنيش غير وقت ما تتزنقي في فلوس، لإنك واثقة ومتأكدة إن ثروة العيلة البائسة دي ورأس مالها كله في ايدي أنا.
ضحكت وهي تتابعه وقالت: أمال أيه هو في حد في جنتالة عمران سالم!
ابتسم وهو يغمز لها: ثبتيني وأنا بتكيف من التثبيت!
دنت منه شمس بمكر وقالت: ومستعدة أديك حضن كبير كمان يا عموري بس على شرط.
زوى حاجبيه بدهشة: شرط أيه!
زحفت بجلستها تجاهه، تخبره ببسمة واسعة: تديني نفس الوعد اللي ادته لعلي يوم فرحه.
اعتلته الدهشة وصاح ساخرًا: مش لما اتنيل أنفذ وعد علي، ثم اني ادتله الوعد ده أيام الجامعة يعني في عز انحرافي دلوقتي أنا توبت وبقالي سنين مش بعزف ولا بغني!
ربعت يديها أمام صدرها بحزن: كده ماشي يا عمران هتفضل ابن مرات أبويا وهتتعامل على هذا الاساس.
ذم شفتيه بسخط وتفوه: مستغلة.
أومأت برأسها بتأكيدٍ، فحك خده بتفكيرٍ ثم قال: طب بصي، أنا هجرب يوم حفلة على أوفي بوعدي لو لسه متمكن زي زمان أوعدك يوم فرحك هغنيلك، لكن لو اتفضحت عذرًا مطلعش المسرح مرتين، ها قولتي أيه؟
ارتسمت بسمة واسعة وانزوت باحضانه بحبٍ: إن كان كده موافقة.
ضمها ببسمة هادئة وهمس لها بحب: ربنا يسعد قلبك يا حبيبتي، يلا هسيبك تستعدي للجامعة وهطلع الصالة.
تعجبت من سماعها ذلك وقالت: هتعمل أيه بالصالة الصبح كده مش إنت وقفت تلعب رياضة.
هز رأسه مؤكدًا وبرهن لها: الدكتورة مدياني تمارين بسيطة بعملها على غير ريق.
وتركها واستند على الحائط ليغادر، فلحقت به تسأله؛
أساعدك.
استدار لها يشير: لا يا روح قلبي أنا عايز أحرك رجلي شوية.
منحته ابتسامة هادئة وراقبته حتى غادر من أمامها.
رمشت بعينيها بخفة، وبدأت باستعادة وعيها، فشعرت بثقلٍ يفوق قدرتها الجسمانية، رمشت بعدم استيعاب ومازالت ذكراتها محتفظة ببقايا ما خاضته الآن، فاستعادت قوتها الهادرة ودفعت من يعلوها بكل طاقتها وهي تصرخ بفزع: إبعد عني.
أفاق على من نومه، فابتسم حينما وجدها استعادة وعيها، فقال متلهفًا: الحمد لله إنك فوقتي يا حبيبتي أنا كنت هموت من القلق عليكي، طمنيني بقيتي أحسن؟
احتدت عينيها تجاهه وهي تراقب سيطرته على فراشها، واحتضانه لها، رفعت يدها تضم جسدها ونظراتها النافذة تحيطه، تابعها على بنظراتٍ مرتعبة وقد صدق حدثه حينما خرج صوتها مهزوز: انت عملت فيا أيه؟
ابتلع ريقه بصوتٍ مسموع من فرط التوتر، وقال: معملتش حاجة يا فطيمة، إنتِ كنتِ منهارة وآآ...
قاطعته بصراخٍ قاتل ونهضت تكيل له اللكمات التي تلاقاها صدره بوجعٍ جسدي مؤلم، كأنها أمتلكت قوة ذكورية مخيفة، ومازالت تصرخ: كداب، كدااااب، كلكم زي بعض.
ازداد رعب علي، وكل ما يخشاه أن يصيبها السوء وتعود لانتكاسة قد تهزم ما وصل له، فحاول احتضان وجهها بيده قائلًا بحنان: حبيبتي اهدي أنا مستحيل أذيكي، أنا نمت جنبك بس والله العظيم مقربتلك!
انهارت قوتها لفرط مجهودها المبذول ضده، فاستجابت للجلوس على الفراش قبالته، وكذلك جلس على يلتقط أنفاسه ويده تضم صدره المتورم من فرط ضرباتها، فخرج صوته مبحوح من وسط أنفاسه اللاهثة: فطيمة أنا بحبك، ومش عايز منك حاجة غير إنك تبادلني نفس الحب.
رفعت عينيها له واندمست داخل رماديته لدقائقٍ، فوجدته ينهض عن الفراش بخطواتٍ غير متزنة، تحامل على الكومود وهو يخبرها: أنا هخرج وأسيبك، اهدي وارتاحي.
تابعت خطواته الغير منتظمة بنظرة نادمة، ما ذنبه أن يتلقى عاصفة غضبها الهادرة تجاه هؤلاء الذئاب، عادت لها صورتها وهي ترمي بكلتا يديها المتكورة الضربات إليه ولم يحاول حتى الدفاع عن نفسه حتى لا يلامس جسدها فتعود لارتعاشة جسدها من جديد.
ومن ثم قذفت إليها لقطات متفرقة لما اجتاحها بالأمس، وصولًا لوجوده جوارها وتوسلاتها بالا يتركها، ودمعاته الساخنة التي شعرت بها على خدها.
نهضت عن فراشها واتجهت بخطوات مترددة للباب الفاصل بين غرفته وغرفتها، تطلعت لمقبض الباب طويلًا تحاول أن تسترد ثباتها وتهدأ ارتجاف جسدها الهزيل، وحينما شعرت بأنها أفضل حررت المقبض وولجت تبحث عنه.
وجدته يقف أمام المرآة المطولة عاري الصدر، يضع المرهم على الاحمرار القاتل الذي أصاب أعلى صدره محدثة كدمات زرقاء وأخرى حمراء، سابقًا كانت ستقتل رعبًا إن رأته يقف أمامها هكذا ولكن ما أن رأت ما هي تسببت بفعله حتى اقتربت تناديه ببكاء: علي.
استدار ليتفاجئ بوجودها فارتعب من أن تسوء حالتها لرؤيته هكذا، فاستدار لفراشه يجذب قميصه يرتديه مسرعًا، وإتجه إليها فوجدها تردد بدموعها التي لا تفارقها: أنا آسفة.
منحها ابتسامة هادئة وقد نجح باغلاق أزرار قميصه ليخفي كدماته عن عينيها: أنا كويس يا فطيمة. يا ريتها تيجي فيا وأنا مستعد أتحمل أضعاف كده عشر مرات ولا إنك تتمسي بأي سوء.
واقترب منها يقرب يديه بتردد منها، فوجدت يديه معلقة بالهواء على قرب منها، فتعلقت عينيها به تحاول معرفة ما يفعل فهمس لها ببسمة خافتة: تسمحيلي أقرب؟
منحته ابتسامة حزينة، يحبها حبًا جمًا، لم تجد منه يومًا سوى الاحترام، حتى الخصوصية يمنحها لها بصدر رحب، وفوق كل ذلك لا تترك له ذكرى طيبة، أومأت برأسها تسمح له بالقرب، فحاوط وجهها بيديه وابهاميه يتحركان ليزيحان دمعاتها معًا، وقال وعينيه تتعمق بالتطلع بها: أنا مش زي أي راجل عرفتيه يا فطيمة، أنا مختلف وهتشوفي ده بنفسك، كل اللي يهمني معاكِ إني أشوف ابتسامتك، صدقيني أنا جاهز أعيش معاكي العمر كله كتف بكتف حتى بدون علاقة بينا، لإن قلبك هو اللي يهمني يكون معايا.
رمشت بتوترٍ وابعدت عينيها عنه، فقال بابتسامة مشرقة: أنا طالبتلك هدية من المغرب هتعجبك جدًا، هروح مشوار على السريع كده وهرجع أستلم الاوردر، وانتِ خديلك شاور وافطري واقعدي هنا اقري الكتاب اللي تحبيه لحد ما أرجعلك. اتفقنا؟
هزت رأسها ببسمة متحمسة: حاضر.
واستدارت تعود لغرفتها ولكنها توقفت والتفتت إليه، فوجدته يقف أمام خزانته يجذب بذلة من اللون الأسود، يضعها على الفراش ويستعد لتبديل ملابسه، فنادته على استحياء: علي.
استدار للخلف فتفاجئ بأنها مازالت تقف محلها، ضيق عينيه باستغراب وهو يراقب احمرار وجهها بشكلٍ أثار فضوله لمعرفة ما ستقول، فحررت كلماتها وهي تهم بالهروالة من أمامه: أنا بحبك.
وفور نطقها بتلك الكلمة اختفت من أمامه كهمس الرياح، اتسعت ابتسامة على وبدى غير مستوعبًا لما قالته، بالأمس كان يظن أنه يتراجع بكل ما حققه لعلاج حالتها والآن يحرز نقطة ايجابية ستكون بالصميم، وبالرغم من مغادرتها الا أنه همس وهو يراقب مكانها الفارغ كأنها تترك قرينتها من خلفها لتنقل كلماته: وأنا بعشقك يا فاطمة.
مضت ليلها دون أن يزورها النوم، وما أن دقت ساعتها بالعاشرة صباحًا حتى ابدلت ثيابها واتجهت لغرفتها.
وقفت فريدة أمام باب غرفة فطيمة تتردد بالطرق، ولكنها انصاعت لقلبها ولمشاعرها النيلة وطرقت الباب، فاتاها صوتها الخافت: ادخلي يا مايا.
ولجت فريدة للداخل فوجدتها تجلس على سجادة الصلاة وتحمل المصحف بين يدها، فقالت: عاملة أيه النهاردة، أحسن؟
شخصت عينيها بالفراغ ورفعتها بصعوبة لتراقب صاحبة الصوت، هامسة بعدم تصديق: فريدة هانم!
سئم انتظاره ومازال يتساءل أين ذهب بهذا الصباح؟!
هاتف شمس وأخبرته بأنه استيقظ منذ ساعتين وأخبرها بصعوده للصالة الرياضية، صعد على للاعلى وهو يتساءل باستغراب عن تواجده بالاعلى، اقتحم الصالة فوجده يجلس على المقعد يتجرع المياه والعرق يتصبب على انحاء جسده وكأنه كان يحارب منذ قليل.
دنى منه متسائلًا بدهشة: هو في أيه مخليك بقالك يومين نايم قايم هنا!
وضع زجاجة المياه وجذب المنشفة يزيح عرقه الغزير: بهون عن عضلة ايدي اللمين بدل ما تنخ زي اختها.
منحه نظرة مطولة شملته، وانهاها برفع يده قائلًا بغموض: تعالى أوديك أوضتك تغير هدومك، عايزك معايا عند راكان هنعزمه على الحفلة ونخدها حجه نشوف قصة سي آدهم ده، أنا مش مطمن لحكايته مع شمس.
استند على ذراع أخيه، وقال بضجر: لازم يعني أجي معاك ما تروح لوحدك ولا عاجبك وأنا ماشي متسند كده شبه المُسنين!
ردد ساخرًا: ومكنتش شبه المسنين وإنت مسند على جمال ويوسف عشان تروح تبلطج على خلق الله ولا الصحة هنا خلقها ضيق.
منحه نظرة ساخطة وارتكن عليه بقوة مبالغ بها، حتى وصلوا معًا لغرفته، فمال به على للفراش وسقط من جواره يردد بتعبٍ مفاجئ اقتحمه فجعله يضم يده لصدره، فمال إليه عمران يصرخ بذعرٍ: مالك يا علي؟!
رد باحتقان يذبح صدره: آآه. مش قادر يا عمران، هموت.
تسارعت أنفاس عمران كأنه هو من يتعرض لذاك الوجع القاتل، فردد بصوت أشبه للبكاء: حاسس بأيه؟ هتصل بدكتور حالًا.
هز رأسه نافيًا وازاح جرفاته باختناق بعدما انفجر بنوبة من السعال انتابها اشارة ضعيفة: ميه عايز ميه.
هز رأسه بلهفة وأسرع للبراد الصغير يجذب زجاجة من المياه ثم هرع لأخيه، يقدم له الزجاجة التي جذبها على ليضعها على الكومود واستكان بجلسته يتطلع للفراغ بنصف عين، ليفاجئ من يقف أمامه بلكمة قوية أطاحته أرضًا، فانقض من فوقه يكيل له اللكمات وهو يصرخ بعصبية بالغة: بتخدعنا يا حيوان، ده أنا كنت هموت من الخوف عليك وإنت مقضهالي في الجيم!
حاول عمران تفادي لكماته هاتفًا بضحك: أه يا خاين، تستاهل أوسكار في التمثيل يا دكتور على لا صايع أوي وأنا اللي رايح جاي أقول أخويا على ده متربى ألف مرة!
نالته لكمة هادرة اطاحت جانب وجهه وهو يصيح بانفعال: أمال إنت تبقى أيه في التمثيل يا حقير، ده أنا قلبي اتخلع عليك وسبت شغلي وقعدت جنبك وإنت بتسظرف! عملت كده ليه يا وقح؟
رد من بين لهاث أنفاسه: عشان مايا تكون جنبي وعلاقتنا تتحسن بدل ما هي متشعبطة بين السما والارض، وعلشان كمان أخلع من نكد فريدة هانم يا ابني دي كانت مطلعة عيني في الكام ساعة اللي بجيهم هنا ما بالك لما تلاقيني رايح جاي على البيت عشان مايا مكنتش هتسبني في حالي يا علي!
وتابع بمكر: وبعدين إنت مش كان نفسك علاقتي بيها تتحسن أهي اتحسنت وهدخل عرين الزوجية يوم فرحك يا غالي، وكلها كام شهر وأجبلك بيبهات صغيرة تتعلق في رجليك في الرايحة والجاية، مستكتر على أخوك ينحرف مع حلاله يا على اخص عليك.
تحررت يديه عنه وعاونه على الوقوف قبالته، ثم قال بضيق: وملقتش طريقة تانية غير دي يعني؟
ضحك وهو يخبره بسخرية: جربت كل حاجة، خبرتي اللي اكتسبتها من علاقتي الواطية منفعتش مع بنت خالتك مكنش قدامي غير كده ولازم تمسك نفسك لحد ما أنول المراد.
تأفف بغضب، فتابع الاخير مبتسمًا: بس صدقني أنا ايدي ورجلي فضلوا تقال بعد ما خرجت من المستشفى بعدها ابتديت احس أني كل ما بقف وبتحرك كتير بحركهم عادي.
كاد بأن يتحدث فاوقفه اندفاع باب الغرفة وظهور أحمد أمامهما يخبرهما بلهفة: محدش هيصدق اللي حصل امبارح واللي بيحصل دلوقتي!
استدار عمران قبالته يخمن بوقاحة: ضربت ورقة عرفي إنت وفريدة هانم!
تجاهله أحمد بسخط وقال لعلي: والدتك فريدة هانم أخدت بنفسها الفطار وطلعت بيه لفطيمة!