رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأربعون
ارتدت برأسها للخلف بعينين تبرقين بصدمة، فابتسم آدهم وهو يراقبها بنظرةٍ تتفحص إنعكاس تأثير قربه منها، رمشت بأهدابها بعدم استيعاب، بينما تختلج أنفاسها داخل صدرها بفعل إرتعاش قلبها البريء، تقسم بأنها إن كانت بمفردها معه لفقدت السيطرة على مشاعرها التي نجح هو باختراقها باجتيازٍ.
ابتسم بمكرٍ على ما أحدثه بها وقال مداعيًا البراءة: مالك يا شمس؟ انتِ كويسة؟!
لعقت شفتيها بارتباكٍ ورددت ببطءٍ وكأن صوتها احتبس داخلها: إنت قليل الأدب يا آدهم!
تمردت ضحكاته الرجولية دون توقف، فرفع يده يزيح دموع عينيه التي تساقطت من فرط نوبة ضحكاته، وقال بحنكٍ خبيث: ليه بس يا حبيبي، مش كنتِ زعلانه إني مش بعبرك عن مشاعري وإني قليل الكلام.
خطف نظرة للقاعة الخارجية ودنى إليها يهمس جوار أذنها: قولتلك وقت ما تكوني مراتي. حلالي. إسمي موشوم جنب إسمك هعبرلك بالشكل اللي يأكدلك إني وقعت في عشقك من أول لحظة عيني حضنت عيونك. أنتِ كل دنيتي يا شمس!
رفع يده يحتضن خدها مستغلًا تركيزها الكامن على ما يقول، فوضع قبلة على جبينها واسترسل بنبرته الرخيمة: إنتِ شمسي اللي نورت عتمة ليلي!
وواصل في سبر أغوارها: شمس هانم الغرباوي أنا بعشقك ومستعد أخوض ألف معركة أموت فيها ألف مرة علشانك.
وأكمل بهمسٍ مغري: لإنك تستاهلي!
ارتبكت أمامه كالطفلة الصغيرة التي لا تجيد اختيار كلماتها، كانت تظنه هادئًا، لا يحب الحديث كثيرًا، وها هو الآن يفاجئها بغرامه المدفون داخله لها، يجذبها لباحة الرقص على ترانيم عشقًا جعلت قلبه ضعيفًا لا يقوى على مجابهته، بينما يستكمل هو الطريق لكسب المعركة كاملة على قلبها المسكين: طلعت 26 مهمة على مدار تاريخي المهني مخسرتش أي عملية طلعتها. كان أول طريق فشلي هي اللحظة اللي شوفتك فيها وسمعت صوتك، وكملت باقي الطريق لما لفيتي من مكانك وبصيتي في عيوني!
كل مرة كنت بشوفك فيها كنت برتبك وبخاف أنكشف، مكنتش هقع لوحدي فريقي كله كان في خطر بسبب ظهورك ليا يا شمس!
جذبها إليه بقوةٍ لتلتصق بجلسته على الأريكة، مستطردًا بأنفاسٍ تحشرجت من كثرة مشاعره: صعب على أعدائي يكشفوا هويتي، اتدربت إني أكون محصن صعب حد يكتشف أنا مين؟ حتى لو حطوني على أجهزة كشف الكدب كلها مستحيل هيطلعوا مني بمعلومة. الا قدامك أنتِ!
حسيت إني بضعف قدامك، وجودي جنبك ومساعدتك طول الفترة اللي كنت فيها جوه قصر راكان كان بيعرضنا كلنا لخطر كبير وأنا كنت جاهز ليه علشان بس أشوف ابتسامتك. أقنعت اللي حواليا إني بتقربلك علشان ممكن استغلك توصلي لينا الملف والحقيقة إني استغليتك علشان أرضي قلبي!
مال يستند بجبينه على جبينها وعينيه تتمعن بحدقتيها الناطقة بعشقه: بحبك يا شمس. بحبك أكتر مما تتخيلي. أقسملك بالله العلي العظيم إن بعدي عنك طول الفترة اللي فاتت مكنش تقل مني عليكي ولا برود زي ما أنتي فاكرة. بعدي كان حفاظ عليكي وعلى قيمتك الغالية، بعدي كان عشان أصونك مني ومن مشاعري اللي بتتحرك أول ما بلمحك...
وتابع ببسمة ساخرة: قربك كان هيدمر شغلي ويكشفني لأعدائي فما بالك لو قربت وأنا كاشفلك حبي وهويتي. صدقيني بعدي كان خوف مني إني أضعف قدامك!
فتحت عينيها الخجولة إليه، ورددت على استحياءٍ: وأنا كمان بحبك أوي يا آ.
اسمي الحقيقي علشان خاطري!
بحبك يا عمر!
ضمها إليه وهو ينتهد بعاطفةٍ، يده تضم رأسها إليه، واليد الاخرى تدفنها داخله، سحبت نفسًا ثقيلًا يليه الأخر من رائحته التي تتسلل لها لأول مرة.
عطره كان هادئًا، لطيفًا مثل شخصيته، لا يفرد طاغيته الا حينما تقترب منه، لذا لم تشعر به الا وهي ساقطة بأحضانه.
فتح عينيه يستعيد وعيه من تلك الحالة التي ستفقده كل مهاراته حتمًا، فتنحنح وهو يبعدها عنه بلطفٍ: في حد جاي علينا.
وإتجه لمقعده المجاور للأريكة مسترسلًا ببسمة ساخرة: ومن خطواته المتعصبة دي أعتقد إنه عُمران.
برقت بدهشةٍ حينما انفلتت طرقات باب غرفة الضيافة، وطل رأس أخيها من خلفه يخبر الأخر بابتسامة مغتاظة: اطلع يا عريس. عايزك!
هز آدهم رأسه إليه ونهض ليغادر، فأوقفته حينما تمسكت بيده متسائلة بحيرةٍ: عرفت ازاي؟!
اتسعت ابتسامته ومال يهمس لها وعينيه لا تفارق باب الغرفة: تدريبي كان على إيد شخص خلانا نستخدم حواس الجن نفسهم. الشخص ده يبقى الجوكر!
دعواتك أقدر أكسب عمران لصفي لإنه شكله هيحل محل الحمى العقربة!
قالها وهو يودعها بغمزة ساحرة وقبلة طائرة بالهواء، فما أن أغلق الباب من خلفه حتى ارتمت على الأريكة تضم قلبها الخافق، هاتفة بدهشة: إنت بقيت خطر على مشاعري يا سيادة الرائد.
وتابعت وهي تزدرد ريقها بارتباكٍ: هسافر معاه لوحدي ازاي ده؟!
وقف قبالته يمنحه ابتسامة هادئة، وسؤاله يتحرر على شفتيه: خير يا عُمران؟
ربع بديه بمنتصف خصره وهو يشمله بنظرةٍ تقيمية، ومن ثم صاح بمكرٍ: النهاردة عزمت الشباب على حفلة شوي على شرفك، وكلهم بلا استثناء واقفين برة بيحضروا المشواي في حين إن حضرتك قاعدلي جوه تحت التكيف ومش في دماغك حد!
راقبه وهو يجوب الردهة ذهابًا وإيابًا ولا يتوقف عن الحديث، حرر آدهم جاكيته ووضعه على ذراعه ثم حل أول أزرار قميصه والطاووس مازال يراقبه بعدم فهم، فوجده يشير بيده تجاه الباب المؤدي للحديقة: وريني المكان وأنا أساعد.
ارتسمت ابتسامة انتصار على وجهه، فأشار له بتتبعه حتى وصلوا معًا للباب الخارجي، فأمسك آدهم كتفه يمنعه من الخروج ووقف قبالته: عُمران أوعى تفكر إني ممكن أغير على شمس منك أو من علي، أنا آه بحبها وبعشقها بس عمر ما حبي وغيرتي عليها توصل لاخواتها اللي ربوها، بالعكس الحنية اللي بشوفك بتعاملها بيها إنت ودكتور على بتفرحني وبتخليني سعيد جدًا من اختياري.
وضع عُمران يده بجيب سرواله القماشي ووقف يراقبه بثباتٍ قاتل، فتابع بابتسامةٍ واسعة: بتخيل شكل الحياة اللي هعيشها معاها لما ربنا يكرمنا بأولاد. بقى عندي ثقة كبيرة إنها هتقدر تزرع الحب اللي شافته بينكم مع أولادي. أنا ولد وحيد يا عُمران مكنش ليا لا أخ ولا أخت فمعنديش خلفية عن اللي بيكون بين الأخوات لكن شمس هتقدر تنقل اللي اتربت عليه لأولادي.
طال به الصمت وهو يستمع إليه، فحل يده جاذبًا جاكيت آدهم ووقف خلفه يعاونه على ارتدائه وسط نظرات دهشة الأخير، فقال: معناه أيه ده؟
ابتسم الطاووس الوقح وهو يجيبه: معناه بسيط. إني عفوت عنك يا سيادة الرائد، ارجع لمراتك واقعد معاها وأنا هكون بدالك.
ونزع عنه الجاكيت خاصته واتجه للخروج غامزًا له بمكرٍ: إنت لسه عريس ميصحش!
اتبعه للخارج والابتسامة تنجرف على شفتيه بفرحة انتصاره الأول، فوجد الشباب بأكملهم يعملون بجهدًا كبيرًا حتى علي.
جذب عُمران الكماشة الضخمة من جمال وأشار له بالتراجع عن الشعلة ليحتل هو محله، تراجع للخلف من شدة الأدخنة، فترك الكماشة ونزع عنه قميصه ووقف عاري الصدر.
ضحك يوسف وصاح بصوتٍ مرتفع ليكون مسموع لمن يقف أمام صوت النيران: دي مش حفلة شوي دي حفلة استعراض عضلات الطاووس الوقح على الملأ!
شاركه جمال الضحك وأردف: استر نفسك يا عمران الحفلة كلها بنات متخليش البشمهندسة مايا تطلب الطلاق النهاردة!
مسح أيوب بقايا الخضروات عن يديه وقال باستنكارٍ حينما وجد آدهم يجاوره: عملت بردو اللي في دماغك وجبت العريس!
انتبه على لجملة أيوب فتطلع تجاهه فوجده يقف جواره، فقال بحرجٍ من تصرفات أخيه الطفولية: آدهم. متسمعش كلام الوقح ده وإدخل إنت لعروستك. احنا خلاص قربنا نخلص.
حرك يده يبعد رائحة الدخن عن أنفه وقال: عُمران طلب مني أرجع بس أنا اللي حبيت أجي أبص عليكم عشان لو محتاجين حاجة.
قاطع أحاديثهم ولوج سيف بملامح ممتعضة، فدفع قبالتهم صندوقًا مغلقًا، تابعه الجميع باهتمامٍ وكان أيوب أول من تحدث: إنت جايبلي هدية ولا أيه يا سيفو؟
توقفوا جميعًا عن اعداد الطعام وراقبوا سيف الذي تزداد معالمه حدة، فترك جمال ما بيده واقترب من الصندوق الموضوع بمنتصف الطاولات وكشف عن غطاءه، فاشمئزت ملامحه وتراجع للخلف وهو يحجب فمه بيده ولكنه لم يتمكن من الاحتمال فتقييء لذاك المنظر المقزز الذي رأه.
اتجه يوسف لأخيه يسأله باستغرابٍ وحدة لظنه بأنه يمزح بأمرٍ كهذا: ده أيه يا سيف فهمني؟!
رد عليه وهو يوزع نظراته بين على وعمران: الصندوق ده وصل لدكتورة زينب من يمان بيهددها فيه ببجاحة جوه بيتكم!
قال أيوب بحدةٍ: ازاي جاله قلب يعمل كده في حيوان بريء! وكل ده ليه علشان بخوفها!
ترك عمران محله وأسرع إليه يلقي نظرة عن قرب، حتى على كان لجواره، كان الأمر محير للبعض ومفهوم للأخر، فتحرر آدهم عن صمته قائلًا: كونه إنه يبعت الصندوق ده في تاني يوم تنقلوا فيه هنا فده رسالة مباشرة إنه يقدر يوصلها في أي مكان تروحه.
واستطرد بوجومٍ قاس: اللي عمله مع عمران قبل كده ودلوقتي مع زينب بيأكد إن الشخص ده مش عادي ولازم نتعامل معاه قبل ما يأخد خطوة تانية يا دكتور علي.
سحب نظراته الغاضبة عن الصندوق وتطلع إليه يخبره: أنا فعلًا ابتديت أتحرك يا آدهم. وخليت عمي يطلب حراسة مشددة من شركة معروفة هتوصل بعد بكره يحاوطوا البيت ومش هيفارقوا زينب.
جذب يوسف أحد مقاعد الطاولات وجلس يردد: مش كفايا يا علي. أكيد راجل زي ده مش سهل وهيعمل حساب لوجود الحرس يعني ببساطة يقدر يتغلب عليهم.
جذب جمال مقعدًا وجاور يوسف قائلًا: المصيبة إنه وصلها هنا وهي جوه البيت لو مكنش عمل كده كنت قولتلكم خلوها في البيت اليومين دول عما تشوفوا هتحلوا الموضوع ده ازاي!
ركل عمران الصندوق بعيدًا عنهم وصاح بعنفوانٍ: ليه فاكرها سايبة بروح أمه ده ميخدش في إيدي غلوة ابن ال، يظهرلي راجل لراجل وأنا أوريه مقامه.
جلس على وسحب عمران لمقعد مجاور له هاتفًا: عمران اهدى مش عايزين نلفت الانظار لينا.
تحرر سيف عن صمته حينما قال: الحل عندي أنا.
اجتمعت نظرات الشباب إليه باهتمامٍ، فتنحنح بخشونة: لو أنا ودكتورة زينب اتجوزنا يمكن يمل ويبعد عنها.
جحظت عين يوسف صدمة، فصاح بسرور: أقسم بالله كان قلبي حاسس إنك وقعت يالا. مدام طلبتها بلسانك هجوزهالك حتى لو خطفتها واجبرتها تتجوزك.
لكزه جمال بغضب: إتكن يا يوسف ده وقته بذمتك!
تنهد على بحزنٍ وصاح: ده مش حل يا سيف، شخص زي يمان عمل كل ده علشان يوصلها مش هيتقبل إنها تكون لغيره، فأنت كده بتحط نفسك في وش المدفع لإنه ببساطة زي ما قدر يضرب نار على عمران لمجرد إنه شتمه وهدده يبعد عنها قادر يعملها معاك. فحاول تخليك بعيد عن الموضوع ده لحد ما نشوفله حل.
جلس آدهم جوار أيوب وقال: دكتور علي. أنا محتاج أتكلم مع دكتورة زينب. من فضلك ناديها.
لف برأسه لأخيه قائلًا: نادي زينب يا عمران.
نهض عن مقعده يجذب قميصه الأبيض، ارتداه بإهمالٍ وولج للداخل، يبحث عنها بين جلسة السيدات.
حضر الحفل بعض النساء الأجنبية ذات الطبقة الآرستقراطية، أغلبهن أتينا الحفل لأجل فريدة، خطف عُمران الأنظار فور دخوله من الباب الداخلي بقميصه المفتوح على مصرعيه وعينيه الرمادية التي تتنقل بين النساء، فأتى على مسمع فريدة قول احداهن: يا إلهي. من هذا الوسيم؟
زاغت الأعين تجاه من استحوذ على عقل تلك المرأة، فجحظت الأعين بفجورٍ اعتادوا عليه الغرب، فأستدارت فريدة تجاه ما يتطلعوا تجاهه فبرقت بغضبٍ، تركت الجلسة وأسرعت إليه تناديه بحزمٍ: عُمرااان!
تركز ببصره على والدته التي ترنو إليه كالعاصفة، تشير له بحدة: أيه اللي مدخلك هنا بمنظرك ده؟!
خطف نظرة سريعة لقميصه ثم عاد يتطلع لها بدهشةٍ، وببساطة قال: كنت واقف قدام الفحم فأكيد مش هقف بالبدلة يعني!
شددت على كلماتها بغيظ من بروده: إقفل قميصك يا ولد، الستات عينهم هتتقلع عليك!
شملهم بنظرة عابثة ويده تعيد غلق أزرر قميصه، وبوقاحه قال: ما أنا طول عمري خاطف أنظار جنس حوا كله أيه الجديد؟!
بحزمٍ صاحت: عُمران!
انحنى برقيٍ داهي: فريدة هانم!
وانتصب بوقفته ليفاجئها بقبلة وضعها على وجنتها هامسًا بمكرٍ: متحاوليش تقوليلهم إني ابنك لان محدش هيصدقك!
وركض من أمامها للأعلى تاركها تتطلع إليه بصدمة، حسنًا فمن سيصدق بأن ذاك الشاب الذي يفوق حجمها مرتين تقريبًا يكون ابنها الصغير! وبالرغم من أن الأغلب من أصدقائها يعرفه جيدًا الا أنها ارتبكت وتوترت من الجمع الحاضر.
استدارت فريدة لتتجه لطاولتها فرفعت يدها تعيد خصلاتها المتمردة للخلف، فنفرت من رائحة يدها التي كانت تستند على صدر عمران فور انحنائه لتقبيلها.
قربتها فريدة لأنفها فوجدت رائحة البرفيوم الخاصة به عالقة بأصابعها، والمقبض لها بأنها شعرت بحاجتها المفاجئة لاستفراغ ما بداخل معدتها.
هرولت للحمام بتعبٍ، تفرغ ما بجوفها حتى انتهت، وقفت فريدة أمام المرآة الخارجية تعيد ترتيب خصلات شعرها ومكياجها البسيط، فاستندت على الحافة تردد بدهشة: أنا أيه حصلي!
واسترسلت بذهولٍ يجتاحها: أنا دايمًا كنت معجبة بالبرفيوم بتاع عُمران. أنا اللي كنت بطلبهوله مخصوص من فرنسا!
ورفعت رأسها تقابل انعكاسها بالمرآة وكفها يكبت فمها بصدمة: لأ، مستحيل أكون آآ، حامل!
صعد للأعلى يبحث عنها، فوجدها برفقة زوجته وزوجة أخيه، وزوجات أصدقائه، غضب عمران بصره وتنحنح بحرجٍ من وجوده بجلستهن الخاصة فقال: أنا أسف لو قطعت كلامكم. على عايزك يا دكتورة زينب تحت.
وقفت فاطمة جوارها تتساءل بقلقٍ: خير يا عمران في حاجة؟
أجابها على الفور: أبدًا، أعتقد الموضوع خاص بالجامعة بتاعتها.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، ومع ذلك رسمت ابتسامة صغيرة ومسدت على كف شقيقتها: هروح أشوفه عايزني ليه وجاية يا فطيمة.
هزت رأسها بتفهمٍ وأشارت بابتسامة هادئة: طيب يا حبيبتي. متتأخريش القعدة مع دكتورة ليلى وصبا متتعوضش.
ابتسمت ليلى ورددت: والله انتوا اللي القعدة معاكم ميتشبعش منها.
ضحك عمران ومازحهن: لو القعدة عجباكم كده كنسلوا المرواح واقعدوا كام يوم غيروا جو، أهي تكون فرصة نرجع المتسلطين دول لايام العزوبية ويعرفوا قيمتكم كويس.
غمزت صبا بمكر للفتيات وقالت: طيب وليه ميبقاش العكس. نأخد البشمهندسة مايا عندنا ونعرفك قيمتها؟
ضمت يديها معًا ورمقته بنظرة تسلية، فانصدمت حينما انحنى يميل على كتفيها ويضمها إليه بكل تملك: مقدرش أعيش من غير حبيب قلبي، مش إنتي عارفة إني مقدرش أبعد عنك يا بيبي؟
أحمر وجهها خجلًا فتراجعت بمقعدها وهي تردد: عُمران!
غمز لها وتراجع متنحنحًا: يلا يا دكتورة؟
هزت زينب رأسها بخفة واتبعته للأسفل.
أغلق عينيه يقاوم ارتعاش قلبه داخل صدره العضلي، يشعر بخطواتها الرقيقة تقترب خلفه، استدار برأسه من فوق كتفه يراها تدنو منهم برفقة عُمران، يدها المرتبكة تجذب طرف ححابها المتطاير بفعل نسمات الهواء، فستانها ينحدر أطرافه من حولها كالأميرات.
أصبحت قبالته تقف على استحياء، عينيها مثلما اعتاد تهرب من لقاء مُقلتيه، أشار لها على بالجلوس على المقعد المقابل لآدهم وسيف الذي طلب منه آدهم أن يظل على الطاولة بينما عاد جمال ويوسف وأيوب يتابعون نضج اللحم على المشعل حتى لا تخجل من تجمعهم من حولها.
جلس عُمران جوار أخيه فبدأ آدهم بحديثه: دكتورة زينب أنا طلبت من دكتور على أننا نتكلم شوية لإن باللي عمله يمان ده النهاردة باين انه مش سهل. فمحتاج إنك تساعديني بأي معلومة تعرفيها عنه.
فور أن ذكر إسمه ارتبكت بجلستها، أصابعها تفرك ببعضها البعض فوق الطاولة بشكلٍ ملحوظ، طال صمتها بشكلٍ أرضخ على ليناديها: زينب!
أجلت حلقها الجاف وهي تجاهد كلماتها للتحرر: يمان بيتاجر في الاسلحة، وله علاقات بناس مسنودة هي اللي بتحميه ومخلياه ميعملش حساب لحد.
قدم لها آدهم ورقة بيضاء وقلم أسود: اكتبي اسمه كامل وكل اللي تعرفيه عنه يا دكتورة. ومتقلقيش هنقدر نتعامل معاه.
جذبت الورقة ودونت ما طلبه منها آدهم ونظرات سيف لا تفارقها، فانفرد بصوته الرجولي يخبرهم: دكتور على الفترة الجاية هيحاول يظهرلها بأي شكل، لو الدكتورة هتنزل الجامعة يكون مع حضرتك ورجوعها معاك بردو. وجوه الجامعة سيف عينه هتكون عليها علشان كده خليته يقعد معانا ويسمع الكلام.
ابتسم بسعادة كونه سيتكفل بحمايتها، يقسم أنه سيفديها بروحه إن تطلب الأمر، فقال: متقلقوش طول ما هي جوه الجامعة هتكون تحت عنيا.
لكزه عُمران وفاه بعصبية: متسبلش بروح أمك!
كبت آدهم وعلى ضحكاتهما، تركت زينب الورقة وغادرت للأعلى على الفور.
وزع الشباب الأطباق على الطاولة الضخمة، وجهزوا أطباقًا للنساء، فحملهم على وصعد بما يحمله للأعلى، تناولت منه فاطمة الاطباق ومررتها لمايا وزبنب ليضعوا الاطباق على طاولة السيدات، بينما اجتمع الشباب بالاسفل، يتناولون الطعام بجوٍ من المرح والحديث المتبادل حتى ساعات الليل المتأخر فتفرقوا جميعًا لمنازلهم.
عاد أيوب لشقته، وإتجه لغرفته حينما وجد ضوء غرفتها مغلق فعلم أنها قد غفت، أبدل ثيابه وإتجه لمكتب غرفته الصغير، يضع من أمامه عدد من الكتب ليبدأ مذاكرته استعدادًا لامتحانات السنة الأخيرة من الجامعة.
اندمج بمذاكرته فأتاه رنين الهاتف يزعجه عن التركيز، رفع أيوب الهاتف مرددًا بدهشة: أيه اللي مصحيك لحد دلوقتي؟!
أتاه صوت سيف الهائم كالسكير: عيونها وألف آه من عيونها، بتحكي مليون حكاية وكأنها تراث أثري، قدامها أنا عاجز حتى إني أفتكر إسمي، وبكل بجاحة واقف قدامها بقولها اللي بينا مش حب إرتياح! لأ أنا بحبها ونفسي تكون ليا الزوجة اللي تساندني وتعفني عن كل الستات. أنا عايزها ليا يا أيوب!
رمش بعدم استيعاب لما يستمع إليه، فأبعد عنه الهاتف وهو يتفحص شاشته ليتأكد بأن من يحدثه هو سيف صديقه، عاد يضع الهاتف فاستمع إليه يردد: روحت فين يا أيوب. صاحبك عاشق وغرقان في عشقها!
عاد بظهره لمقعده وتنهد بضيقٍ: سيف أنا مش مبسوط باللي بسمعه منك، طول ما هي مش على ذمتك مينفعش تتكلم عنها بالشكل ده. ثم إنك بأي حق تدقق في لون عنيها وشكلها إنت طول عمرك بتغض بصرك أيه حصلك! عايزها تكون السبب ورا ذنوبك يا سيف ترضهالها؟
أجابه بكل لهفة حملها داخله: مرضاش ليها غير بكل شيء جميل إتخلق علشانها، بس غصب عني يا أيوب، عشقها دخل لقلبي غصب عني!
وتابع بحرجٍ مما سيقول: عارف لما شوفتها بتتنفض ومرعوبة وهي شايفة الصندوق كان نفسي أجري عليها وأضمها جوه حُضني. كان نفسي أطمنها يا أيوب، واتمنيت أشوف الكلب ده قدامي أقسم بالله كنت هعرفه مقامه ابن ال
منع ابتسامة كادت أن تصدح إليه، وردد بعدم تصديق: معقول اللي بيتكلم ده سيف!
رد عليه يجيبه: هو بغباوته بس بعد ما وقع في الغرام. أنا بحبها وعايزها يا أيوب.
ضحك ساخرًا: طيب وهي مش موافقة نعمل أيه بقى يا دكتور سيف؟
مازحه قائلًا: نخطفها وأكتب عليها غصب عنها يا بشمهندس أيوب
تعالت ضحكاته بعدم تصديق: ده إنت طلعت واقع لأقصى درجة وأنا معرفش!
رد عليه بهيام: واقع من الدور العشرين والله، من ساعة ما شوفتها النهاردة ومش جايلي نوم، الحمد لله إن يوسف وصلني وروح لو شافني بالحالة دي هياخدني أنا والمأذون واتنين شهود وهيعسكر عندها لحد ما تمل وتواقق.
قال أيوب بمكرٍ: بص يا معلم إنت علاجك عُمران سالم الغرباوي، اتصل بيه وهو يُظرفك كلمة بروح أمك المشهور بيها هيأتيك النوم من حيث لا تدري!
زفر بسخطٍ: ملقتش غير الطاووس الوقح. إنت عايز تخلص مني يا أيوب!
جذب الكتب أمامه وصاح بنزقٍ: بص يا عم الحبيب أنا بدأت مراجعة عشان الامتحانات قربت، فأقفل الله يكرمك خلينا ألحق أراجع أي حاجة قبل ما غيبوبة النوم تحضر.
تأفف بغضب: هقفل وأبقى قابلني لو سهرت. إنت أخرك نص ساعة وهيغمي عليك مكانك، سلام يا ابن الشيخ مهران.
أغلق الهاتف وابتسم رغمًا عنه حينما تردد إليه ذكرى قلبت عليه الحزن لتجعل مُقلتيه تدمعان تأثرًا.
أيوب أنا تعبت، أنا بشيل هم امتحاناتك بسبب التكديرة السودة دي، فأرجوك أنا مش عايز مشاكل مع عمي، هريح هنا جنبك نص ساعه أصحى ألقيك بتكمل مذكرتك. فاهم.
قالها يونس باستعطافٍ لأيوب الذي يجاهد لفتح عينيه على مكتب غرفته، فهز رأسه يؤكد له بأنه سيلتزم بالتعليمات.
تمدد يونس بإرهاق على فراش أيوب، وقبل أن يغلق عينيه قال: متصحنيش الا لو حاجة وقفت عليك أو محتاج شرح حاجة.
هز رأسه وهو يتفحصه بمكرٍ، فما أن سقط يونس بنومه حتى ارتخى أيوب بجلسته، رافعًا قدميه على سطح المكتب، ووضع الكتب فوق رأسه ليمنع ضوء الغرفة من أن يزعجه.
مرت خمسة وعشرون دقيقة حتى فتح يونس مُقلتيه الساحرة بانزعاجٍ، ففتحهما على وسعيهما بصدمة فور رؤيته يغفو هو الأخر.
انتفض عن الفراش يصرخ بغلظةٍ: أيوب!
سقط عن المقعد فزعًا، فأسرع الاخير إليه يجذبه من تلباب قميصه كاللص، وأعاده لمقعده وهو يدنو منه بنظراتٍ ملتهبة: بتستغفلني يا أيوب. عايز تزعل عمي مني!
وتابع ومازالت يده تقبض على مقدمة قميصه: ده أنا سايب شقتي يا حيوان ونايم هنا معاك في اقامة جبرية، بقولك هريح نص ساعة أصحى ألقيك متخمد قبلي! عارف لو عمي دخل علينا هيعمل فيا أنا أيه!
تثاءب بنومٍ ومال برأسه يغفو على يد يونس مردفًا: معتش قادر يا يونس خلاص فصلت، سبني أنام كلها كام ساعة وهنزل الامتحان.
عاونه يستقيم بجلسته قائلًا: لا يا حبيب أخوك مش هقدر. إنت عارف الشيخ مهران بيقتحم الاوضة مرة واحدة مقدرش أواجهه كده. قوم شد حيلك عما أعملك كوباية قهوة من صنع ايديا.
هز الأخير رأسه، وراقبه حتى خرج للمطبخ فضم الكتاب إليه وغفى من فوقه على سطح المكتب، مرت الدقائق حتى عاد يونس بصينية القهوة وبعض شطائر الجبن هاتفًا بحماس: سيحتلك الرومي في السندوتش الرومي زي ما بتحب. يلا يا بطل كمل مذاكرتك وآآ...
ابتلع باقي جملته بصدمة، فوضع الصينية على المكتب ورفع يده يهوى بها على رقبته صائحًا: انت ناوي على موتي النهاردة يابن الشيخ مهران!
زفر أيوب بضيق: يا يونس حرام. انت عارف إني في العادي بنام من 8 جاي تسهرني لتاني يوم الامتحان، سبني أنام قبل ما بابا يصحيني عشان صلاة الفجر والجو برد أهو وأنا مش قادر والله.
سحب يونس يده للفراش قائلًا بحنان: طيب تعالى اتغطى وأشرب قهوتك وهتسهر للصبح. أنا حتى عملت لنفسي قهوة عشان أسهر معاك.
تناول كلاهما القهوة وبعد دقائق غفى أيوب على كتف يونس وسقط رأس يونس فوق رأسه بعد أن غلبه النوم هو الأخر.
مرت ساعة كاملة وولج الشيخ مهران بجلبابه الأبيض الوقور ومئزره العسلي ليخبرهما باقتراب موعد الفجر، وكعادته يصطحبهما معه لفتح المسجد قبل حضور المصلين، فتفاجئ بيونس يغفو وهو يضم أيوب بين أحضانه كالطفل الصغير.
ابتسم الشيخ مهران وهو يتابعهما بحبٍ، ظل لدقائق يراقبهما ومن ثم تنحنح وهو يستعيد ثباته وصاح بخشونة: فوق منك ليه، الفجر قرب يأذن.
انتفضوا بفزعٍ حينما وجدوه أمامهما، فردد يونس بتلعثم: متقلقش يا عمي كله تمام.
ابتسم ساخرًا: .
لا مهو واضح، بقى أشدد عليك إنك تذاكرله أدخل ألقيك منيمه في حضنك يا معلم!
منحه يونس نظرة معاتبه فردد أيوب بخفوت: آسف والله.
عاد يونس يتطلع لعمه قائلًا ببسمة واسعة: أيوب لسه مخلص مذاكرة وكان بيرتاح قبل صلاة الفجر، صدقني يا عمي أيوب جدع وشاطر اللهم بارك، أنا واثق إنه هيرفع رأسك وهيحقق حلمه وحلمك.
ابتسم الشيخ مهران بحبٍ يحمله لابن أخيه والذي يعد ابنه الأول، فمرر يده على شعره الفحمي الطويل مرددًا بحب: واثق فيك قبل ما أثق فيه يا يونس.
وتابع بنبرة فخورة: زمان وإنت في تالتة ثانوي كنت خايف لتخذلني، خصوصًا إن مكنش في دماغك غير التجارة وادارة محل اجهزة الكهربائية بتاع أبوك، خوفت متجبش مجموع حلو بس إنت كنت بطمني دايمًا وبتقولي أنا هنجح يا عمي وهجيب مجموع يشرفك وعلى وعدي اني هكمل تعليمي للأخر بس مش هشتغل غير في تجارة أبويا، وفعلًا طلعت راجل وقد كلمتك دخلت كلية حاسبات ومعلومات ومع إن جالك تعين فيها كدكتور جامعة الا إنك رفضت ووقفت في محل أبوك.
وتابع بابتسامة صافية تشق تلك سنوات نجاح ابن شقيقه: لما سحبت فلوس ميراثك من البنك خوفت تضيعها منك في شيء يخسرك بس إنت طول عمرك شاطر وجدع، وأهو بفضل الله المحل الصغير بقى دكانين كبار في بعض واسمك بقى يتعمله حساب في شارع النجار كله، وفي كلتا الحالتين رفعت راس عمك فوق يا يونس.
انحنى يقبل يد عمه واستقام يقبل رأسه الأبيض الذي يغزو الشيب كله، وهو يردد باحترام وحب: ربنا يخليك ليا يا عمي، أنا ماليش غيرك في الدنيا بعد أبويا الله يرحمه، وربنا يعلم إن أيوب ده أخويا الصغير.
ضمه إليه وهو يربت على ظهره بحنانٍ: عارف يا حبيبي، يلا اتوضى وهات أيوب وحصلني على المسجد.
مرر أصابعه على سبحته البيضاء واتجه للخروج وهو يستطرد: متتأخرش علشان انت اللي هتقيم الصلاة بدالي النهاردة، واخد دور برد وصوتي تعبان.
أشمر عن ساعديه وهو يهز رأسه بفرحةٍ: حاضر يا عمي، مش هتأخر.
وفور خروجه إتجه لأيوب يجذبه عن الفراش صارخًا به: قوووم بقى متجبلناش الكلام تاني!
عاد من ذكرياته بعينين دامعتين وابتسامة صغيرة على شفتيه، أغلق أيوب كتابه ونهض بتوضئ واتجه لسجادته، يصلي ويطول سجوده داعيًا له من كل قلبه، يلح على الله أن يفرج كرب ابن عمه الشقيق!
هل سبق لك وسمعت صوت آنين روح؟ عزيزي القارئ هناك آنين خافت يصدر من داخلك لا يستمع إليه سواك أنت، ألمه الذي لا يطاق لن تستطيع تفسيره لأحدً، ولو اجتمعت كلمات ومفردات الألم لتشرح ما يعنيه لن تتمكن من أن تصل لغيرك مفهوم ما تخوضه روحك المغلولة!
هناك بذاك المكان حيث لن يستمع لصرخاتك أحدٌ ولا يقوى أحدًا على نجدتك، كأنك انعزلت عن بقعة البشر بأكملهم، هناك حيث تشعر وكأنك مغلوب على أمرك فتحاول تقبل واقعك المرير، ومن بين ذلك الظلام الكحيل كان يتقوقع على ذاته، يضم ساقيه لجسده الذي يهتز بعنفٍ ليثبت لذاته بأنه مازال على قيد الحياة، فإن سكن جسده حينها سيفقد إحساسه المدرك بالحياة التي تلزم قلبه اللعين الذي مازال متمسك بتلك الحياة الظالمة!
مال بجلسته ومازالت يديه تلتف من حوله، عينيه الفيروزية مغلقة بقوةٍ رغم أنها اعتادت على العيش بذلك الظلام، الظلام الذي تسلل لأعماقه فلمس أبعد نقطة بها.
عاش حياته كريمًا، مختارًا، لم يذق معنى الذل والاستحقار، وفجأة ألقى لفجوة جردته من كل ما امتاز به حتى ملابسه وحقوقه، وكل ما يمتلكه.
انتزعوا منه إسمه وسمعته التي كد ليصنعها، انتزعوا منه كرامته وكبريائه حتى عائلته، انتزعوا منه حبيبته وزوجته التي لم يقضى برفقتها غير بضعة أيام، ولكن لما يلاقي اللوم عليهم زوجته هي التي تخلت عنه بملئ ارادتها، فور دخوله إلى هنا بتلك التهمة الباطلة رفعت عليه تلك القضية لتلوذ بالفرار عنه وكأنها كانت تنتظر ذلك لتنال حريتها!
انهمرت دمعة حارقة على وجهه المتورم باللكمات، ولسانه مازال يجاهد للنطق بصوتٍ مبحوح: يا ررب.
أغلق يونس عينيه بألمٍ وعاد يردد: لا إله الا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين...
وتابع بقهرٍ وصوتًا خافتًا: حسبي الله ونعم الوكيل!
تخفى الليل بظلامه وسطعت شمس يومًا جديدًا ينذر ببداية لمجهولٍ سيحكم قوانين الأيام القادمة.
غادرت زينب برفقة على للجامعة بعد أن اتفق معها الا تخطو خطوة واحدة خارج الجامعة دون أن يصل بالخارج ويُعلمها بأنه بانتظارها، فصعدت لفصلها لتحضر المحاضرة الهامة التي أتت لأجلها، فمضت الساعتين تسجل خلف المعيد الهام، وبعدها استعدت لتغادر للأسفل تنتظر قدوم على مثلما أخبرها.
لمحها سيف تجلس بالأسفل بطالتها الخاطفة، كانت ترتدي تنورة واسعة من اللون الأبيض، وبادي من اللون الأسود وجاكيت من اللون الأبيض والاسود معًا، رآها تقرأ بأحد الكتب وتراقب هاتفها بين الحين والأخر، فحمل كتبه والبلطو الطبي الخاص به ثم هبط الدرج إليها.
دنى إليها يتنحنح لتلاحظ وجوده: صباح الخير يا دكتورة.
أغلقت كتابها وتطلعت له بمزيج من الارتباك والتوتر: صباح النور.
جلس على بعدٍ معقول منها وسألها: أخبارك أيه؟ أحسن؟
علمت مقصده بما حدث بالأمس فاشتعلت خجلًا حينما تذكرت قربه منها وهو يحاول أن يُفيقها، لعقت شفتيها الجافة ورددت على استحياءٍ: الحمد لله أحسن بكتير.
هز رأسه متفهمًا، ثم تطلع أمامه يراقب الجامعة بعينٍ شاردة، وفجأة قال: أيه رأيك لو خرجنا للكافيه اللي اتقابلنا فيه أول مرة، هعزمك على أيس كريم بال?انيلا زي ما بتحبي ونقعد نتكلم شوية.
ارتبكت مما قال، وهتفت بضيق: مش هينفع أنا بستنى علي. هو قالي نص ساعة وهيوصل.
انزوى بجسده تجاهها وقال: زينب أنا محتاج أتكلم معاكي، أنا آآ، أنا بحبك يا زينب وعايز أتجوزك.
اتسعت حدقتيها مما قال، ومع ذلك حاولت السيطرة على انفعالاتها وقالت بارهاق: تاني، أنا مش قولتلك مينفعش مصمم ليه تتعب نفسك يا دكتور؟
تعالى صوته دون ارادة منه: أنا مش جبان عشان أخاف من الكلب ده يا زينب. أنا عايز أكون معاكي وواثق إنك بتبادليني نفس المشاعر اللي جوايا وإنك عايزة القرب ده أكتر مني.
وتابع بنبرة هادئة تحاول استمالتها: متقفليش أبوابها في وشنا يا زينب، اديني فرصة أدخل حياتك وأنا أوعدك أنساكي يمان واللي جابوه.
تعمد أن يزرع المرح بنهاية حديثه عسى أن تلين ملامحها قليلًا، اقترب سيف منها وقال بعاطفة تسللت لها: وافقي إنك تكوني ليا زوجة وأنا هحميكِ منه بروحي يا زينب!
ارتعبت من جملته التي حللت ما سيحدث إن وافقت، بالطبع سيفقد روحه وحياته حينها، جمعت زينب أغراضها ونهضت تهرول من أمامه تجاه بوابة الخروج.
اندهش سيف مما تفعله فحمل البلطو الطبي وكتبه وركض خلفها يناديها بخوف: زينب اقفي مكانك متخرجيش الا لما دكتور على يوصل.
ألقت بحديثه عرض الحائط وخرجت من بوابة الجامعة تحاول إيقاف سيارة أجرة لتفر من أمامه، وسيف مازال يهرول من خلفها يحثها على التوقف.
أشارت لاحدى سيارات الاجرة فدنت منها، أسرعت زينب تفتح بابها الخلفي فجذبها سيف يمنعها من الصعود مشددًا على كلماته: زينب مينفعش اللي بتعمليه ده ادخلي جوه استني دكتور على أو خليني أوصلك لكن مش هسمحلك تآآ، آآآه.
قطع كلماته صارخًا بوجعٍ طاله مع تلك الضربة القوية التي طالت رأسه من الخلف، جعلته يضع يده على نفورة الدماء المنتشرة من رأسه، فاستدار للخلف فتفاجئ بأربع رجال ذو أجساد مهيبة، أحدهم يحمل عصا حديدية غليظة وتلك الضربة كانت أول هجماته.
جحظت أعينها رعبًا وفور أن استدار إليهم سيف تمكنت من رؤية دمائه فصرخت بهلعٍ: سيف!
ترك الكتب منه وقبل أن تطوله ضربة أخرى منع العصا من أن تلمس رأسه وركله بقوة ببطنه فسقط الرجل المقنع أرضًا يتلوى من ضربته، فأتاه الاخر يهاجمه.
تراجع سيف للخلف ويده تبعد جسد زينب الماسد خلفه، هامسًا لها: اركبي التاكسي وامشي من هنا حالًا.
تساقطت دموعها تباعًا ويديه تتعلق بذراعه الذي يعيدها خلفه كالستار الذي تحتمي من خلفه، فرددت باصرارٍ وحبًا تمرد بوقته ليخبره بما تخفيه: لأ، مش هسيبك لوحدك يا سيف.
وقبل أن يجيبها وجد أحدهم يدنو إليه، فسد سيف لكمته وواجهه ببراعةٍ حينما منحه لكمة حطمت أنفه بشكل جعل الاثنان الاخرين ينتبهون لمهاراته بالدفاع عن نفسه، فعلموا بأنه تدرب على فنون الملاكمة ما يجعله يسد هجماتهما لذا أشاروا لبعضهما اشارة توحي بالغدر والخيانة، فنفذت خطتهما أن يلهيه أحدهما لحين أن يجذب الاخر العصا الملقاة أرضًا ويواجهه بغتة.
تراجع سيف بها للخلف ودفعها لباب سيارة الاجرة المفتوح هادرًا بانفعال: اركبي يا زينب وامشي من هنا، أنا هبقى كويس مالكيش دعوة بيا.
بكت وهي تتعلق بذراعه وتراقب من يتقدمان إليه بفزع: لاااا، مش هسيبك لوحدك يا سيف.
أبعدها للخلف وهرع تجاه من يقترب إليه، رفع الرجل قدمه ليركله فأمسك بها سيف ورفع جسده ليسقط بثقله على قدم الاخر فصرخ بألمٍ، انهال عليه باللكمات وقبل أن تطوله لكمته الاخيرة شعر بضربة قاتلة فوق رأسه، تستهدف نفس إصابته فجعلت توازنه يختل وما حوله يدور به كالكرة المتراقصة.
أبعده المصاب أسفله عنه بينما الأخر رفع العصا وعاد يصوب ضربة إليه على كتفه، فتألم سيف وتأوه بوجعٍ قاتل، وما يتسلل إليه صراخها المرتعب: سيف، لأاااااا...
ضربة أخيرة نالت من مقدمة رأسه جعلت الدماء تندثر من فمه وأنفه بغزارة، فسقط جسده مستسلمًا لأوجاعه، ركضت زينب تحاول الوصول إليه وهي تبكي وتصرخ بجنون: سيف!
منعها أحد الرجال من الوصول إليه، بينما اقترب منه أحدهم يفتش بجيبه حتى عثر على هاتفه فحمله بجيبه وغادر هو ومن معه لتلك السيارة السوداء التي كانت بانتظاره.
اندهشت زينب مما حدث، كانت تظنهم رجال يمان ولكن حينما تركوها وغادروا تيقنت بأنهم ليسوا الا لصوص قاتلة.
هرولت إليه بكل قوتها، انحنت تحمل رأسه النازف ووضعتها على قدميها، فتلوثت تنورتها البيضاء بدمائه، خلعت عنها جاكيتها ووضعته فوق جرح رأسه تكبت النزيف الحاد وهي تناديه ببكاء وتوسل: فتح عينك يا سيف، بالله عليك فوق!
كان يستمع لصوتها فمازال لم يفقد وعيه تدريجيًا، رفعت عينيها للمارة المجتمعين من حولها وترجتهم ببكاء: فليطلب أحدكم سيارة اسعاف أرجوكم!
أشار لها احدهم بأنه طلبها وبالطريق بالفعل، فانحنت برأسها إليه تخبره بدموع اختلطت مع دماء وجهه: الاسعاف على وصول يا سيف، أوعى تستسلم عآآ، آآ، علشاني يا سيف!
كلمة ثقيلة نطقتها بالكد، ومع نطقها انهمرت دمعاتها على رموش عينيه، فتح سيف عينيه لها ومنحها ابتسامة خافتة ثم أغلقهما مجددًا بسرعة كبيرة جعلتها تظن بأنها تتوهم.
دقائق معدودة وتوقفت سيارة الاسعاف، حملوه على السرير المتحرك بعدما علقوا برقبته مانع الكسور حتى إذا احدثت الاصابة كسر لا يتضاعف مع حركتهم.
كانت لجواره بالسيارة لم تتركه، صوت بكائها، حديثها إليه كل فترة والاخرى، دعواتها إليه برجاء، كان يصل له كل انفعال صغير يخرج منها كان يصل لمسمعه.
وكلما نادته ببكاء فتح عينيه يطمنها بنظرة خاطفة ويُعاود غلقهما تأثيرًا لألمه حتى فقد الوعي بشكلٍ أفزعها وجعل الممرض يصرخ بالسائق: إننا نخسر المريض، أسرع!
تعالى صوت بكائها وهمست بارتياعٍ: يا رررب!
وصلوا للمشفى ودفعوا السرير لغرفة العمليات، فاختل توازنها على الأريكة الحديدية المقابلة لغرفة الجراحة، تتطلع لبابها بشرود تام، وكأنها تحمل مستقبلها ومستقبل حبها بين طياتها.
الدقائق تمر ومازالت متيبسة محلها لا تقوى على التفكير أو الحركة، إلى أن خرجت لها الممرضة تحمل لها قميصه الملطخ بالدماء وبنطاله ومحفظته الجلدية، قربتهم زينب إليها وهي تبكي بانهيارٍ، إلى أن تسلل لها صوتًا رجوليًا: محتاجة لحضن حد يا حبيبي!
ودنى إليها مستغلًا صدمتها وتيبس جسدها بأرضها: عينك مشتقالي ومتلهفة للقائي وبالنهاية اجتمعنا يا زينب!
تراجعت للخلف وهي تضم أغراض سيف لصدرها وكأنه سيحضر بالحال ليدافع عنها، الصدمة جعلتها كالتي فقدت النطق، فتحاول جاهدة لتخرج صوتها المنقطع داخلها، وبصعوبة بالغة رددت: يمان!