رواية شمس في قلبين للكاتبة مروة نصار الفصل الحادي عشر
جلس قصي في مؤخرة القارب علي الدرج وأسند ظهره إلي الحافة وهي جلست أمامه علي مقعد جانبي ثم بدأ الحديث قائلاً: أكيد سمعتي عن عائلة الدالي، انا الابن الوحيد لعزيز الدالي، الوريث الوحيد للإمبراطورية، ابويا عاش يشتغل ويكبر مشاريعه، للأسف كان دايما هو وأخواته داخلين مسابقة مع بعض، مين اللي حيبقي الأقوي، مين رصيده اكبر، وانا اتطحنت في النص، من صغري وانا معاه في الشغل، مش حأقدر اقول اني مكنتش عايش حياتي، بس كنت دايما حاسس ان في حاجة مقيداني.
المهم كبرت ومسكت الشغل والفنادق، كان لازم ابقي قوي اوي عشان اقدر أمسك المنصب ده، حياتي ماشية بنظام معين، شغل وسهر وبنات وبس، مفيش اي حاجة مختلفة، الفترة اللي فاتت لقيت نفسي زهقت من كل حاجة، مبقاش في حاجة بتبسطني، بعمل اي حاجة بشكل روتيني، لكن مش حاسس بأي سعادة حتي لما بنجح مش بحس بطعم النجاح،من مدة قررت أني أعمل تغيير شامل في حياتي، قررت أبعد عن كل حاجة، وابداً حياة جديدة، لكن واضح ان الصورة الجديدة مش عاجبة حد، وممكن يفتكروا أني ضعيف، لدرجة ان من يومين واحدة من البنات اللي عرفتهم الزبالة بتهددني بأنها تشهر بيا وبسمعتي، واضح انها متعرفش هي بتتعامل مع مين !، متعرفش أني أقدر أدوس عليها زي الحشرة، بس انا مستني شوية، أتاكد من حاجة في دماغي .
ظلت شمس تستمع له وعندما انتهي بادرته وقالت بتهكم: عشان لما أقول أنك عيل نايتي، وتوتو في نفسك متبقاش تزعل .
حدق قصي بها وشعر بالذهول من رد فعلها ثم قال: انتي اكيد مجنونة، ازاي تكلميني كده .
شهقت شمس باسلوب ساخر وقالت: امال عايزني اكلمك ازاي يا عينايا، اقولك معلش يابيبي، انت اتعذبت اوي، وشفت اللي محدش شافه، يا بني أجمد كده وبلاش شغل العيال ده، تعبان من ايه، عشان معندكش مشاكل، زهقت من الراحة والرفاهية، مليت من البنات، طب ما طبيعي يحصل كده، عشان انت بتتعامل معاهم زي ما بتتعامل مع شراباتك، بتغير فيهم علي مزاجك، زعلان ان واحدة وقفت قدامك، كانت لازم تبقي زي القطيع وتسيبك تأخد اللي انت عايزوه وبعدين تسيبها، وبعدين اوجاع ايه ومشاكل ايه اللي قاعد بتوصف فيها، انا مش شايفة قدامي غير واحد مبقاش حاسس بطعم حاجة، عشان عنده كل حاجة، بص يا عّم الامور خليك في رفاهيتك وسيب المشاكل لناسها، وبلاش تشاركونا كمان في وجعنا، هو ايه الطمع ده كمان عايزين تشاركونا في الغلب بالعافية، ده ايه المرار الطافح ده .
قال قصي مقاطعاً: يا بنتي افهمي، افهمي احساسي، واللي ...
وهنا قاطعته شمس وقالت بأسي: افهم ايه، احساس ايه اللي عايزني افهمه، تعرف ايه انت عن الوجع، جربت ايه في حياتك منه، والا حسّيت بحرمان من ايه، عمرك جربت ان عمرك يتسرق منك، والا ان احلامك تتكسر حلم ورا حلم قدام عينك، جربت أن قلبك يتشرخ من القهرة ومتقدرش تقول اااه ولا تشتكي، والا انك تضرب في ظهرك من سندك وحمايتك، انت مشفتش حاجة غير الراحة والقوة، عمرك ما عرفت طعم الضعف والذل ولا حسّيت بكسرة النفس .
صمتت شمس وشردت بعيناها بعيداً وبلا وعي بدأت تتحدث وترمي أثقال تحملها فوق ظهرها منذ زمناً بعيد بدون ان تشكو حالها أو تعترض: انا كنت بنت زي أي واحدة عادية عايشة حياة جميلة، أمي الست رقية ليها واحدة صاحبتها اسمها خديجة، من كتر حبهم لبعض اتجوزوا اتنين اصحاب، وصمموا يعيشوا في عمارة واحدة، الباب قصاد الباب، اتولدت انا وشريف ابن طنط خديجة، كنّا بنعمل كل حاجة مع بعض، مش بنسيب بعض الا علي النوم، كان بيخاف عليا ولو حد فكر يقرب ليا كان بيتخانق ويعمل مشكلة كبيرة، فضلنا كده لحد ثانية ثانوي، حياتنا وأحلامنا كانت كبيرة، وحبنا كمان .
في الأجازة وقبل ما ندخل تالتة ثانوي ابويا مات، سندنا مشي وسابنا، وماما وقتها قررت اني لازم اسيب المدرسة واشتغل معاها عشان نقدر نصرف علي اخواتي الصغيرين،حاولت كتير اقنعها بأني اكمل تعليمي وحأساعدها، لكن هي رفضت تماما، وقعدتني من المدرسة، وشغلتني معاها في الخياطة، شريف حاول يقنعها لكن مفيش فايدة، ولأول مرة سكتنا تختلف، هو راح المدرسة وانا قعدت في البيت اشتغل، صدمتي كانت كبيرة، بس إصراري كان أكبر، رفضت قرار أمي، وصممت أني أغيره، رحت لمدرستي وطلبت منها تساعدني اني اقدم ثانوية منازل، ومعرفتش اي حد، كنت خايفة افشل ويقولوا يا فاشلة، بس انا كنت مصرة علي النجاح ونجحت.
ولما رحت اقول لماما سكت، خفت اقولها اني نجحت وعايزة ادخل جامعة لأحسن تقولي اني حأبقي عبأ عليها ومصاريفي حتبقي كتير، عشان كده قررت أنحت في الصخر، اشتغلت معاها في الخياطة، ورحت خدت كورسات في التصميم والاكسسوارات، وجنب شغلي معاها عملت شغل خاص بيا، وبدأت واحدة واحدة، لحد ما حبيت مجال الشموع واني اعمل منها اشكال وأبيعها للمكتبات ومحلات الهدايا، مع شغل الاكسسوارات، دخلت كلية فنون جميلة ودرست من غير ما حد يعرف، وكنت بشتغل ليل نهار عشان ماما متحسش بحاجة، وعشان اخواتي ميحتاجوش حاجة.
كبرت شغلي وعملت جروب علي النت بقيت بأعرض فيه شغلي، كل ده وشريف بيبعد عني، بقا ملهي في حياته الجديدة وجامعته واصحابه، عمري ما توقعت انه حيجيء يوم ويقولي احنا مش حننفع لبعض، اليوم اللي كنت عاملة ليه مفاجأة اني كملت تعليمي واني فاضل ليا سنة واتخرج، لقيته جاي يقولي ان سكتنا مبقتش واحدة، وانه صعب يتجوز واحدة مش معاها شهادة، لا والأحلي انه حب واحدة زميلته وعايز يخطبها، يومها قلبي اتشرخ، حياتي كلها انهارت، انا عمري ما عرفت شكل حياتي من غيره، هو الوحيد اللي كان في حياتي، هو كان سندي اللي كنت عمري ما اتخيل انه ممكن يكسرني، يومها كتمت فرحتي، وقررت اني مش حأقوله وحأخليه يندم أنه أتنازل عني بسهولة، مكنتش بنام، كنت مواصلة الليل بالنهار، دراسة وشغل.
واتخرجت وبدأت في الشغل اللي حبيته، وربنا كرمني بأني قابلت شاهي، عملت ليها شغل واتعرفنا وبقينا اصحاب، ولما قررت تستقر في مصر لقيتها بتقولي تشاركيني، وفرت ليا المحل اللي في عمارتها وعملته جاليري خاص بشغلي، وبقا براند شمس ليه اسم ومكان وفِي طريقي أني أصدر بره مصر، ويوم خطوبته عزمني، اصله خلاص بقا يعتبرني اخته، رحت ولبست اشيك لَبْس وباركت ليهم في الكوشة وقلت له أني جبت له هدية جوازه، شهادة التخرج بتاعتي، ومشيت بعد ما شفت النظرة اللي كنت مستنياها، انا نجحت بس قلبي لسه مكسور، عايشة بس من غير روح، بضحك وانا كلي وجع، ودلوقتي البيه عايز يرجع تاني، بعد ما رماني، بعد ما خلاني فقدت الثقة في أي حد، اصعب حاجة ان الضربة تجيلك من البنادم اللي لا يمكن تشك فيه .
ااااه زفرتها بقوة بعد أن أخرجت كل مكنونات قلبها، بعد ان اعترفت بكل ما قاسته في الحياة بدون أي سبب، لا تعلم لما صارحته بكل هذا، فهي إلي الأن لم تواجه نفسها حتي به، ولكنها ألقت بكل ما بداخلها كأنها تلقي قنبلة كانت ستنفجر بها، هدأت قليلاً واستعادت ثباتها ونظرت نحوه، وجدته ينظر إليها وعلامات الصدمة والدهشة علي وجهه لا يستطيع إخفائها فأكملت قائلة بسخرية: عرفت بقا انك نايتي في نفسك، ومحتاج تنشف شوية، وتبطل شغل العيال التوتو دي، وبعدين لو البت دي فعلا مش كويسة، الموضوع بسيط اوي سجل لها كلامها وهددها بيه، وريح دماغك يا كبير .
حاول قصي أن يخفي ارتباكه وشعوره بالضآلة أمامها، ولكنه لم يستطع أن يخفي حيرته وفضوله الذي لا يعلم مصدرهم وقال لها: طيب ليه رافضة ترجعي ليه طالما لسه بتحبيه .
لمعت عيونها بالدموع وقالت: في فرق كبير بين الحب والعشرة، انا كنت بحبه، كنت بحب صورة في خيالي كنت راسماها عنه، لكن الصورة دي اختفت وظهرت بدالها شخصية ما أعرفهاش ومش بحبها، انا مش بحب البنادم ده، انا ما أعرفوش، ولا عمري قابلته، الانسان اللي حبيته اختفي وبقا بداله واحد غريب عني، انا الوجع اللي جوايا من الغدر، وجعي بسبب عمر طويل عشته وانا عارفة انا واقفة فين ومع مين، كان صعب بعد كل السنين دي أغير كل ده بسهولة، اكيد حأتجرح واتوجع، لكن رجوع تاني لا، الثقة لو اتعكرت بالخيانة عمرها ما حترجع تاني، زي المياه لو اتعكرت بتراب لا يمكن ترجع نقية تاني، وانا لا يمكن اثق فيه تاني، ولا قادرة اغفر له اللي عمله، هو انتهي بالنسبة ليا، لكن جوايا لسه محتاج وقت عشان ينسي .
لا يعلم ما سر السعادة الذي شعر بها والابتسامة التي علي وجهه، لقد كان يتمني ان يسمع منها تلك الأجابة، لا يستطيع تفسير لماذا؟، ولكنه شعر بالسعادة ولأول مرة منذ زمن، ثم نهض من مكانه وقال: يلا تعالي ساعديني عشان نرجع الفندق، عشان لسه حاسس بدوخة .
بعد مرور ساعة وصل القارب إلي المرسأ وصممت شمس ان يذهبا إلي الطبيب اولاً وبعد الاطمئنان عليه وأنه فقط يحتاج إلي بعض الراحة، هرعت نحو غرفتها حتي تجد شاهي، ولكنها عندما وصلت لم تجدها هناك، أخرجت هاتفها وقامت بالاتصال بها، ولكن لا مجيب، شعرت بالقلق والغرابة، أين هي ؟، وماذا حدث ؟ .
رنين الهاتف أزعجها وجعلها تستيقظ من نومها، فتحت عيونها ببطء شديد، كانت تشعر بالكسل ولا تريد النهوض، ألقت ببصرها علي الفراش بجوارها، وجدته مازال مستغرقاً في النوم، ظلت تتأمله، كم هو وسيم .. جذاب .. مدت يدها تتحسس كتفه بأناملها، ثم اقتربت منه ووضعت رأسها علي ظهره العاري واحتضنته وهي تشعر بنشوه وسعادة كانت تفتقدها منذ زمناً بعيد، كانت متشبثة به لا تريد أن تفترق عنه، تريد ان تظل ملاصقة لقلبه، فهذا هو مكانها الطبيعي، أحضانه التي لن تمل منها ابدا .
استيقظ من اثر لمستها، شعر ببشرتها الناعمة علي جسده، فتح عيونه فهو مازال في شوقاً كبير لها، لم ولن يرتوي منها ابدا، يشعر انه في حلماً جميل لا يريد الاستيقاظ منه ابدا، ادار جسده سريعاً لتسقط علي صدره، واحتضنها بقوة كأنه يرسل لها رسالة بأنكِ ملكاً لي، ثم بدأ يطبع قبلات رقيقة علي وجهها وأذنها ورقبتها: صباح الخير يا أميرتي، صباحية مباركة .
تورد وجهها وشعرت بالخجل، دفنت وجهها في صدره وقالت: صباح الخير حبيبي .
عاود الهاتف رنينه مرة أخري، فالتقطته شاهي من جوارها ونظرت إلي اسم المتصل ثم صرخت قائلة: شمس .. ياربي أنا نسيتها خالص، ثم نهضت بذعر من الفراش وهي تبحث عن ملابسها وصرخت به قائلة: يلا بسرعة قوم البس .
كررت شمس محاولة الاتصال اكثر من مرة، ثم قررت أن تستحم وتغير ملابسها وتذهب للبحث عنها، وبالفعل أنهت حمامها وارتدت فستاناً قطنياً أبيض سريعا ومشطت شعرها واتجهت لباب الغرفة للمغادرة وبمجرد أن فتحت الباب شهقت من الفزع ثم صرخت قائلة: خضتيني، كنتي فين يا مصيبة ؟.
عبرت شاهي الباب وجلست علي الفراش، نظرت لها شمس بتعجب وأغلقت الباب ثم سارت نحوها وقالت: ايه اللي حصل !.
نظرت لها شاهي ورفعت يدها اليسري وأشارت علي إصبعها وقالت: انا اتجوزت امبارح .