رواية شمس في قلبين للكاتبة مروة نصار الفصل الثالث
انهي قصي عمله وغادر مكتبه سريعاً، تجنباً أن يضطر لمواجهة حسناء وتحمل سخافاتها، فهو اليوم ليس لديه مزاج لها او لغيرها، صعد إلي جناحه بدون حتى أن يمر علي صديقه في المكتب الذي في نهاية الردهة،وقرر أن ينعم بحمام هادئ طويل،ولو تعدل مزاجه بعدها قد يطلب أن تحضر اختصاصية المساج ليحظي جسده ببعض العناية المميزة، وما ان وطأت قدميه الجناح، شرع علي الفور بخلع ملابسه، ليغمر جسده في المياه الدافئة الممزوجة ببعض الزيوت العطرية الخاصة التي تساعد جسده علي الاسترخاء والتى أعدت خصيصاً له بناءاً علي طلبه، ظل مستلقياً في مياه المغطس عدة دقائق مغمضاً عينيه حتي غلبه النعاس وغفا قليلاً، وأثناء ذلك سمع صوتاً رقيقاً صادرً من خلفه منادياً: قصي .. قصي .
لا يعلم ما انتابه ولكنه انتفض وكاد أن يهب واقفاً ولكنه أدرك أنه عارياً بدون ملابس، فالتفت حوله قائلا: مين ؟، مين هنا ؟،لكنه لم يري أحد .
شعر انه يخَيل إليه هذا من شدة إرهاقه، تمني لو يستطيع أن يعزل نفسه تماما عن العالم كله، فاستلقي علي ظهره في أرضية المغطس وغمر جسده ورأسه داخل المياه، وحبس انفاسه في محاولة منه للاسترخاء والراحة والانفصال عن أي اصوات خارجية حتي لو كانت في رأسه فقط، كانت عيناه مفتوحتان عندما فوجيء بصورة امرأة علي صفحة الماء، امرأة لم يراها من قبل تقف بجوار المغطس وتنظر إليه، انتفض جسده داخل المياه، وأمسك الحافة بذراعاه ليخرج رأسه سريعاً وهو في قمة الغضب، وبدأ يطلق السباب والشتائم، ولكنه لم يجد من يستمع إليه، بحث بعينيه في كل ارجاء المكان لا يوجد أثر لها، شُل تفكيره وكادت رأسه أن تنفجر من شدة الحيرة، فاسندها علي حافة المغطس وأغمض عينيه وهو يحدث نفسه عن تلك الأوهام التي أصبح يراها، حتي احس بأنامل ناعمة تلامس جسده، وتتحرك علي صدره المبلل العاري، لتصيبه برعشة خفيفة أجتاحت جسده بأكمله، كما لو كان جسده لم يتذوق لمسة امرأة من قبل، ثم سمع صوت يقول: استيقظ، استيقظ انت ما زلت نائم .
شهق قصي شهقة قوية وجلس في المغطس وهو ينظر حوله، وظل مشتت لبعض الوقت، لا يدرك ما حدث، وكأنه بين الحلم واليقظة، الحقيقة والخيال، هل ما شعر به حقيقي ؟، ام ماذا ؟، حتي أيقن اخيراً أن كل هذا كان حلماً، وأنه كان يغط في نوماً عميقاً، لذا نهض سريعا من المياه وجفف جسدها بالمنشفة القطنية الكبيرة التي بجواره، ثم أرتدي بنطالاً رياضياً ودخل في الفراش لينعم بقيلولته القصيرة لعلها تفيده .
خرجت شمس وشاهي من الجاليري لتناول الغذاء في المطعم المجاور والمفضل لهما، شرعت كلا منهما في اختيار وجبتها وأثناء انتظار الطعام، جاء اتصال لشمس لأعلامها بوقوع الاختيار علي شركتها لتنفيذ التجديدات في الفندق، وأنه قد أرسل لها أيميل بالتفاصيل، اما شاهي التي كانت تستمع للمحادثة وعلمت فحواها، فكانت تجلس متحمسة جدا وبمجرد أن أنهت شمس الاتصال، صاحت في صديقتها بلهفة شديدة وترقب: السفر أمتي !
فأجابتها شمس بهدوء وبلا أي اكتراث: الاجتماع يوم السبت الصبح الساعة ١٠، يعني ممكن نسافر الصبح طيران .
اعترضت شاهي: لا انتي عارفة مش بحب الصحيان بدري، خلينا نسافر بالليل نرتاح وتقومي لأجتماعك وانتي فايقة .
صمتت شمس قليلاً تفكر ثم قالت: اوك، احسن بدل ما تروح عليكي نومة وتضيعي السفر علينا .
حل المساء، وكعادته كل يوم يجلس في الملهي الليلي في الركن الخاص به وعلي مائدته المميزة، يتابع بعينيه كل ما يدور حوله، لا يعلم ما الذي اصابه في الآونة الأخيرة ؟، لقد اصبح يبغض كل شيء، لم يعد يشتهي تلك الحياة، ولم تعد تغريه الفاتنات اللاتي حوله، لقد اصابه الضجر الشديد، وأصبح يفترسه من الداخل، جلس يرتشف من الكأس الذي امامه جرعات صغيرة حتي رأي صديقه ( وليد الصيرفي ) يدخل من الباب الأمامي للملهي ويتجه صوبه وعندما اصبح امامه، صاح به معاتباً: ايه يابني الندالة دي، فينك، مختفي من الصبح، لا عديت عليا نشرب قهوتنا مع بعض، ولا حتي كلمتني وانت نازل دلوقتي .
رفع قصي بصره نحو صديقه ثم أشار له بأصابعه ان يجلس وأجابه: عادي .. نمت شوية.
تفحص وليد وجه صديقه وشعر بغرابة في تصرفاته: مالك يا ابني، انت متغير ليه كده، بقالك كام يوم مش علي بعضك، في حاجة حصلت معاك .
ابتسم قصي بسخرية شديدة وأجابه بتهكم: وهو ايه اللي ممكن يحصل معايا .
وليد باستهجان: بطل العنجهية دي وقولي مالك .
ترك قصي الكاس من يده، وبدا يطرق المنضدة بأصابعه في عصبية ملحوظة ثم قال: ولا عنجهية ولا زفت، انا بس زهقت ومحتاج أغير شوية .
أفلتت ضحكة عالية من صديقه، تبعها ضربة خفيفة علي ذراع قصي وكأنه يخبره به ( كفي مزاحاً ) ثم استرسل في حديثه وقال: مين اللي زهق ؟، الباشا الإمبراطور زهقان، ليه واحنا هنا لزمتنا ايه، وكل البنات اللي يحلوا من علي حبل المشنقة دول بيعملوا ايه هنا، ايه يا عّم الدراما دي، والا خلاص البت حسناء مبقتش جاية علي هواك، لو مبقتش تلزمك، انا صاحبك وحبيبك، وبصراحة البت فرسة، متتسابش لوحدها .
رمق قصي صديقه بنظرات يملئوها الاشمئزار ثم قال: حسناء ايه وزفت ايه، دي واحدة سافلة، مخدتش في أيدي كلمة، دي كان ناقص هيا اللي تعرض نفسها عليا، انا مش عارف البنات جرالها ايه.
ضحك وليد بسخرية وقال: مالهم، زي الفل اهو، حد يكره النعمة .
أما هو فكان يشعر بالاستياء ولَم تعد لديه القدرة علي مواصلة الحوار، فنهض مغادرا بدون ان ينبس بأي كلمة، ولا حتى التفت لنداءات صديقه المتكرره له، بل غادر متجها إلي جناحه فهو لا يشعر باي رغبة في مواصلة تلك الليلة، ولا يريد الاحتكاك بأي شخص أيا كان .
توجه علي الفور إلي غرفته وخلع عنه ملابسه ولَم يهتم حتي بارتداء ملابس النوم بل رمي جسده علي الفراش قد ينعم ببعض الهدوء، ولكنه شعر بحركة غريبة في الفراش، ثم وجد ذراعان يلتفان حول جسده من الخلف، واشتم رائحة عطر أنثوي مثيرة تلهب الرغبة بداخل أي رجل، عطر يستطيع جيداً تمييز صاحبته، ثم همس ناعم وقبلات ناعمة صغيرة علي أذنه: وحشتني اوي ..
كاد قصي ان يلتفت نحوها ويقذفها خارج الفراش، ولكن لمساتها المثيرة، وأسلوبها الجريء أفقده عقله .. وجعل لغة الجسد هي السائدة والغريزة هي المتحكمة، ليتلاقا الجسدان والشيطان بينهما، يتلاعب بهما كيفما شاء، ويزين لهما الخطيئة والشهوة، ليعبثا كما يحلو لهما .
جلست شمس في غرفتها شاردة، عقلها مشوش، تحاول ان تعيد ترتيب افكارها وحياتها أيضا، ولكن هيهات ان يتدخل العقل فيما يصنعه القلب، حاولت ان تعزل مشاعرها وتفكر بهدوء فيما هو قادم، ولكن يبدو ان ذلك من المستحيل، فهي طوال حياتها، لم تفعل شيء سوي حب شريف، كان هو الغاية والهدف، الحلم الذي تنتظر تحقيقه، لقد دق القلب من اجله سنوات، كان شريكها في كل شيء منذ الطفولة، صديقها الوحيد، حبيبها الاول، حياتها كلها بكل تفاصيلها كان يشاركها بها، والأن لم يعد له وجود، وهي لم تعتاد علي فعل شيء بمفردها، ولا تعرف كيف سيكون شكل الحياة بدونه،مع من ستطلق ضحكاتها المرتفعة بدون خجل او حياء، امام من ستنهار دفاعاتها وتترك دموعها تنساب بدون ان تتردد، من سيتحمل ترددها الدائم عندما تذهب للتسوق، جلساتهم اليومية في الردهة التي بين البابين، وأحاديثهم علي الهاتف التي كانت لا تنتهي الا بسقوط احداهما نائما من الأخر، كل هذا انتهي، كأنه لم يكن، كيف يستطيع أنسان ان يحب بهذا القدر ؟، ثم ببساطة ينزع هذا الحب من قلبه، كيف يستطيع الاستمرار ؟، ااااه، آهه اطلقتها من صدرها، الم يعتصرها من الداخل، حيرة تطيح بعقلها، هل تسرعت في قرارها ؟، ام لم يكن أمامها اختيار ؟.
ظل ممدداً علي الفراش، بعد ان انتهي من هذا العبث، كان يشعر بالحقارة، لا يعلم ما هذا التغيير الذي انتابه ؟، تلك الحياة اصبح يبغضها تماما، لم تعد كافية له، يعلم انه لا يشعر بالسعادة، ثم ألقي نظرة علي الجسد الممدد بجواره، لا يعلم ماذا حدث له ؟، لقد كان يبغض تلك المرأة في الصباح، كيف تركها تلعب به هكذا ؟، كيف استسلم لغريزته بهذه السهولة ؟، هو لم يكن ابدا ضعيف، ثم اغمض عيناه في محاولة لمحو كل تلك الأفكار من رأسه وحاول الاستسلام للنوم.
لم تكن أشعة الشمس أصبحت قاسية بعد، كان الصبح ما زال في بدايته، والهواء الرقيق يختلط بنسيم البحر ورائحته المنعشة، لا يعلم لما ذهب للجلوس علي الشاطئ، فعادة يكون ما زال نائماً في هذا الوقت، ولكن الأرق ظل مصاحباً له،لذا انطلق نحو الخارج، وبالفعل استطاع الهواء أن يجدد نشاطه وطاقته، جلس يتأمل البحر امامه، يستنشق هواءه، ويملأ صدره بتلك الرائحة المختلفة، لم يكن هناك احد سوي بعض السياح الأجانب الذين يفضلون ان يسبحوا في هذا الوقت قبل ان يتناولوا الأفطار .
كان يشعر بنشوه كبيرة، وفجأة، ظهرت هي، نعم هي، كانت تسير علي الشاطئ تداعب الامواج قدميها، لا يعلم لما اهتم بمتابعتها، ولكنه شعر بأنه هناك شيء غريب في هذه الفتاة، نهض من مكانه واتجه نحوها، وكلما اقترب كان احساس غامض يجذبه اليها، إلي ان اصبح أمامها مباشرة.، اعترض طريقها وهي يحاول ان يتفحص وجهها، وبمجرد ان رفعت بصرها نحوه، تصلبت ملامحه، وانكمش جسده للخلف، وأضيقت عيناه كما لو كان رأي جنية من جنيات البحار، وفغر فاهه من الدهشة، وعندما حاول الحديث خرج الهواء من فمه صامتاً، لم يستطع سوي التحديق بها، نعم هي، هي من رآها من قبل، من تكون ؟ .
أما هي فقد شعرت بالحيرة والدهشة الذي تظهر علي محياه، فرفعت يدها ولامست وجهه بأناملها الصغيرة، لتعود الرجفة إلي جسده ثانيةً، ويراوده نفس الاحساس السابق، ثم تحدثت قائلة: اخيراً لقيتك .