رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الرابع عشر
( وانحنت لأجلها الذئاب )
في الحارة الشعبية
وصل عدي بسيارته لمدخل الحارة ومعه أوس الذي ظل صامتاً طوال الطريق ولم ينطق بكلمة .. فكل تفكيره منصب على زوجته واستعادتها في أحضانه ..
راقب عدي الطريق من مرآته الجانبية، وغمغم مع نفسه بتمني:
-يا ريت ماتكونش شافت الحلقة!
ثم نفخ بضيق، وأوقف المحرك وتابع تفكيره المضطرب مع نفسه ب:
-على الله تكون مدام تهاني موجودة تساعدني، أنا محتار، ومش عارف أفكر كويس!
وما إن أوقف سيارته حتى ترجل منها أوس على الفور، وسار بخطوات بطيئة ومتآلمة نحو مدخل البناية ..
تعلقت أنظاره بالأعلى، وأغمض عينيه بإشتياق إليها .. وتنهد قائلاً بعمق:
-انتي ليا وبس .. محدش هايقدر يمنعني عنك، ولا يبعدك عني!
أمسك بالدرابزون، وأسند يده الأخرى على صدره .. وكز على أسنانه متآلماً، فقد إشتد وجعه، ولكنه قاومه بأقصى ما يمكن تحمله
لحق به عدي، ووقف خلفه وسأله متوجساً بعد أن رأى تشنجات وجهه، والعرق المتجمع على جبينه:
-انت كويس يا أوس
رد عليه بإيجاز دون أن ينظر نحوه:
-ايوه ..!
ثم أكمل صعوده على الدرج ..
ومع كل خطوة يخطوها للأعلى تزيد خفقات قلبه شوقاً إلى حبيبته ..
شعر بروحها النقية معلقة في المكان، بنسمات عطرها تسيطر على جدرانه، وبتلهف عجيب لرؤيتها أمامه ..
رن هاتف عدي في جيبه، فأخرجه لينظر إلى شاشته، فقرأ اسم تهاني، وتسائل مندهشاً:
-هي بتتصل ليه ؟
في منزل تقى عوض الله
دثرت فردوس زوجها عوض الذي أصابه الوهن بعد طرحه أرضاً، ونفخت بضيق وهي تمط شفتيها للجانبين ..
جلست على طرف الفراش، وحدقت أمامها، وأخذت تفكر ملياً فيما صار مع ابنتها، ومدى عجزها عن الدفاع حتى عنها ..
زفرت بإنهاك، وتمتمت مع نفسها قائلة بهمس:
-طول ما احنا مشبوكين الشبكة السودة دي مش هنرتاح أبداً، لا هنلاقي مكان يلمنا، ولا حد يشفق علينا! وهنفضل كده ملطشة للي يسوى واللي مايسواش!
رفعت بصرها للسماء وتابعت حديث نفسها:
-منكم لله يا بعدة، خربتوا بيتنا وحياتنا وفضحتونا! ربنا يهدكم!
سمعت قرع الجرس، فإنتبهت حواسها له، وهبت مسرعة وهي تهتف متعشمة:
-تقى، اكيد تهاني جابتها، يا رب يا كريم.
سارت بخطوات أقرب إلى الركض في إتجاه باب المنزل، وفتحته لتتفاجيء بأوس بهيئته المهيبة أمامها، فإتسعت عينيها بذهول
وشهقت مصدومة وهي تقول:
-إنت!
نظر لها بجمود، وصاح بصوت جاد:
-فين تقى ؟!
لوت فمها لتجيبه بإزدراء:
-مش هنا
أخذ نفساً عميقاً، وحبسه في صدره ليحافظ على ثباته الإنفعالي أمامها، وصر على أسنانه قائلاً بحذر:
-ناديلي مراتي بالذوق
ردت عليه بحنق وهي تنظر له شزراً:
-قولتلك مش موجودة.
كان أوس على وشك الإنفعال عليها، ولكن أوقفه صوت عدي قائلاً بإنزعاج:
-تقى فعلا مش هنا يا أوس
إستدار أوس برأسه ناحيته، وهتف غاضباً:
-انت بتقول ايه ؟
ابتلع عدي ريقه ليجيبه بصوت لاهث:
-تقى محجوزة في القسم للتحقيق!
إعتلى وجه أوس صدمة جلية، وجحظت عينيه بفزع كبير .. وصاح بإندهاش يكسوه الغضب:
-ايييييه!
في مكتب وكيل النيابة بالمخفر
ارتشفت تقى القليل من الماء البارد بعد أن أرسل وكيل النيابة في طلبه رأفةً بحال تلك المرأة ..
عقد أصابع كفيه معاً، ونظر لها بدقة متفحصاً تعابير وجهها، وسألها بهدوء:
-الوقتي بقيتي أحسن
أومأت برأسه موافقة وهي تعيد وضع الكوب الزجاجي على الصينية ..
إلتفت وكيل النيابة برأسه للكاتب الجالس إلى جواره، وتابع بجدية:
-افتح المحضر في ساعته، وتاريخه ..!
نظرت تقى بحيرة إليه، وظل تفكيرها مشغولاً في تخمين سبب حضورها ..
انتهت هي من الإدلاء ببياناتها الرسمية، ثم سألها مجدداً بنبرة رسمية:
-ما قولك فيما هو منسوب إليكي من إتهام صريح بالتحريض على قتل أوس الجندي
إتسعت حدقتيها بصدمة كبيرة عقب عبارته الاخيرة، وخفق قلبها بقوة ..
كما جف حلقها بشدة وهي تحاول إستيعاب ما قاله تواً .. وحاولت ترتيب أفكارها بصورة منطقية ..
هي موجودة في هذا المكان تحديدا بسبب إتهامها بتلك التهمة الباطلة والمجحفة، وتم إستدعائها بتلك الطريقة المهينة ومعاملتها بعنف فقط للقضاء على أخر ما تبقى من كرامتها المهدورة ..
لوهلة بدت عاجزة عن التنفس ..
فالصدمات اكثر من قدرتها على مقاومتها ...
عاود وكيل النيابة تكرار سؤاله بهدوء مراقباً إياها بإهتمام ..
ولكنه إنتبه إلى صوت دقات خافتة على باب مكتبه، أعقبها دخول عسكري ما قائلاً بنبرة رسمية:
-أسف يا باشا على الإزعاج، بس في واحد برا مصمم إنه يقابل سيادتك!
نهره وكيل النيابة بصوت شبه منزعج:
-في تحقيقات شغالة هنا، ده مش آآآ...
لم يكمل الأخير جملته حيث إقتحم أوس الغرفة، وبحث بعينيه عمن خفق لأجلها قلبه، وبالفعل رأها جالسة تنظر أمامها ..فهتف بصوت متصلب:
-أنا أوس الجندي ..
رفعت تقى رأسها المنكسة للأعلى، وتجمدت حواسها لوهلة، وتخيلت أنها تتوهم صوته ..
ثم إستدارت برأسها ببطء نحوه، وحدقت فيه بنظرات جامدة لتتأكد من وجوده ..
للحظة شعرت بخلو الغرفة ممن فيها ليبقى هو بهيبته التي إعتادتها معها ..
لم تنكر إحساسها الإرتياح لرؤيته كما كان من قبل .. واقفاً على قدميه، شامخاً بجسده .. قوياً بسيطرته على الجميع ..
سلط أوس عينيه المحتدتين بتلهف بائن على زوجته التي إشتاق قربها، وإرتخى إلى حد ما وجهه المتصلب بعد رؤيته إياها أمامها .. وشعر بسكون عجيب يتخلل إلى روحه المعذبة ببعدها عنه .. وبسلام داخلي يهديء من ثورته الغاضبة ...
أفاقت تقى من شرودها في ملامحه حينما هدر بصوت جاد يحمل القوة:
-ودي تبقى مراتي تقى!
اقترب منها بخطوات ثابتة، ولم يحدْ بعينيه عنها، وتابع قائلاً بصلابة أرجفتها:
-وأي بلاغ متقدم ضد مراتي أنا بأسحبه فوراَ.
رد عليه وكيل النيابة بجدية:
-أها .. بس ده ماينفعش، لأن اللي مقدم البلاغ المدعو مهاب الجندي .. والدك!
أدار أوس رأسه في إتجاه وكيل النيابة، وإحتقن وجهه نوعاً ما وهو يهتف بشراسة:
-والدي يقدم اللي هو عاوزه، لكن أنا قدامك أهوو بنفسي بنفي أي حاجة عن مراتي، هي مالهاش دخل بحاجة
أضاف وكيل النيابة قائلاً بهدوء:
-بس في أصابع إتهام بتقول إنها آآآ...
قاطعه أوس بصوت شبه منفعل:
-لو مراتي كانت عاوزة تموتني كان الأولى انها تسيبني مرمي في الصحرا بدل ما تخاطر بحياتها عشان تنقذني
ثم عاود النظر إلى زوجته، ورمقها بنظرات والهة وهو يكمل بنبرة هادئة لكنها تحمل مشاعر صادقة:
-تقى استحالة تسيبني! لأني .. لأني بأحبها!
دلف إلى داخل الغرفة المحامي منعم، وأردف قائلاً بهدوء:
-أنا الأستاذ منعم محامي المدام يا فندم، وده الكارت بتاعي .. اتفضل!
تناول وكيل النيابة البطاقة منه، وتطلع إليها .. ومط فمه ليقول بهدوء:
-أها .. ماشي يا أستاذ
هتف المحامي منعم قائلاً بجدية:
-تسمحلنا يا فندم ناخد المدام معانا، اظن ان المشكو في حقه بينفي التهم عن مراته
رد عليه وكيل النيابة بهدوء:
-تمام .. أنا هاخلي سبيلها بضمان محل اقامتها .. بس لازم والدك يجي يتنازل بنفسه عن الشكوى، ده أفضل!
لم ينتظر أوس اكثر من هذا، حيث مد يده ليلتقط كف تقى المسنود على حجرها، وإحتضنه بقوة، ثم جذبها من على المقعد، وسحبها بخطوات حذرة إلى خارج الغرفة، وسارت هي معه مستسلمة، ولكن عقلها كان يأبى الخنوع للواقع الذي تعيشه جبراً ...
وقعت عيني تهاني على ابنها مصادفة .. ورقص قلبها طرباً ورمشت بعينيها غير مصدقة أنه بالفعل على مقربة منها ..
توارت عن أنظاره حتى لا يلمحها، وحتى تتمكن من التطلع إليه بتمعن ..
غمر روحها فرحة جلية، ووضعت يدها على فمها لتكتم شهقاتها السعيدة ..
نعم لقد عافاه الله، وإستعاد صحته بعد أن كان قريباً من الموت ..
أدمعت عينيها غير مصدقة، وتنهدت بسعادة، وغمغمت قائلة:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب .. الحمدلله إني شوفته حتى لو من بعيد
تركت لعبراتها الأمومية العنان لتنساب على وجهها .. فلا شيء يهم سوى أن يكون ابنها بخير ..
على الجانب الأخر
وما إن خرج أوس وتقى من الغرفة حتى إستدار هو بجسده نحوها، ووقف قبالتها، ونظر إليها بعشق بادي في عينيه، ثم أرخى قبضته عنها، ورفع كفيه نحو وجهها ليحتضنه بأصابعه .. ثم تلمس وجنتيها بحذر ليشعر بملمس بشرتها على أنامله الخشنة، وهمس لها بصوت رخيم:
-ياه يا تقى .. أنا مش مصدق إنك قصادي!
رمقته تقى بنظرات فارغة فإستشعر غرابتها، ووضعت يديها المرتعشتين على كفيه لتبعدهما عن وجهها، وقاطعته بصوت قاتم:
-متكملش.
نظر لها بإندهاش، وإنقبض قلبه نوعاً ما من كلمتها المقتضبة ..
بينما تابعت هي متسائلة بنبرتها التي أخافته ودون أن ترمش بعينيها:
-إنت بقيت كويس صح ؟
هز رأسه موافقاً إياها وهو مستمر في النظر إليها بإستغراب يكسوه القلق ..
أكملت تقى حديثها المريب قائلة:
-يبقى تنفذ وعدك و.. وتطلقني
كان لوقع كلماتها الصادمة أثراً قوياً على نفسه .. فإهتز كيانه، وشحب وجهه، وأصبحت تعابيره باردة ..
رمقها أوس بنظرات حادة مستنكرة، ولم ينطق بكلمة من هول المفاجأة .. وكأن الكلمات قد هربت منه رغماً عنه ..
لقد أهداها عقلها إلى ذلك القرار الحاسم والصارم .. تلك الحياة لا تناسبها بالمرة .. هي مهددة في كل وقت .. هي عانت وتعاني وستعاني إن استمرت معه .. لذا لزاماً عليها أن تنهي تلك الدائرة المفرغة للأبد ..
استجمعت شجاعتها لتكمل بصوت جاف:
-احنا استحالة نكمل مع بعض .. كده وصلنا لنهاية الطريق
هتف أوس بعد أن أفاق من صدمته بصوت معاند:
-مش هايحصل يا تقى!
إعتقد أن قرارها نابع مما تعرضت له أثناء رقوده في المشفى، فحاول أن يقنعها بالعكس، فهتف بحذر وهو يقاوم بكل قوة رغبته في الإنفعال أمامها:
-لو كان على اللي حصل في غيابي، فأنا هاعوضك .. صدقيني، أنا مش هاسمح لحد يمسك ولا يأذيكي ..!
تراجعت مبتعدة بظهرها للخلف، فتقدم عفوياً نحوها، وهمس بصوت مختنق وقد لمعت عينيه بشدة:
-أنا عارف انهم جوم عليكي، لكن أنا مصدقتش حاجة من اللي اتقالت، أنا .. أنا بأحبك! انتي مصدقاني صح ؟
ثم مد كفيه ليلتقط كفيها، وضغط عليهما بأصابعه، وأكمل بنبرة لاهثة وصادقة:
-تقى انتي ... انتي الحاجة الوحيدة اللي خليتني أعرف قيمة نفسي، أنا .. أنا معاكي بأكون آآ...
قاطعته تقى بقسوة شديدة في نبرتها ونظراتها:
-من فضلك ماتكملش، إحنا مش لبعض
ورمقته بنظرات لا حياة فيها وهي تضيف بجمود مخيف:
-صدقني انت يا أوس باشا، احنا هاننفصل، ولو محصلش النهاردة هايحصل بكرة أو بعده، آآ.. احنا مش لبعض!
تعمدت هي أن تضغط في كلماتها على لقبه لتشعره بمدى الفارق الطبقي والمعنوي بينهما .. ونجحت في إيصال هذا الإحساس إليه ...
ثم سحبت كفيها من يديه، وتراجعت أكثر للخلف ليتسمر مصدوماً في مكانه ..
أضافت بنبرة قاسية لتقضي على أخر ما تبقى لديه من أمل في إستعادتها:
-دي النهاية يا .. يا باشا!
هتف أوس متوسلاً وهو يرمقها بنظرات استعطاف من عينيه الدامعتين:
-انتي .. انتي بكده بتاخدي روحي معاكي
ردت عليه بجفاء واضح في نبرتها، وبصلابة أعجب في نظراتها:
-وأنا روحي ماتت من كتر القاسية!
زاد آلم صدره، ولكنه لم يقارن بذلك الآلم القوي الذي يعتصر قلبه ويكاد يقتلعه من مكانه بضراوة ...
شعور بالعجز الكامل تمكن منه .. وأصابه بالوهن
لم تشفع له نظراته الصادقة في إقناعها بالبقاء معه..
زفر العبرات أمامها لعل قلبها يرق إليه .. لكنها قاومت رغبتها في الإستسلام لإحساسه الصادق
ورغم ذلك الشعور الذي يقتلها ويزيد من صعوبة الموقف إلا أنها رفعت رأسها بكبرياء للأعلى .. وودعته قائلة:
-مع السلامة!
تابعت تهاني المشهد من على بعد وهي تتحسر على حال ابنها وابنة أختها ..
شهقت مصدومة، وبكت بأسف جلي ..
فالإثنين ضحايا الظروف والحياة ..
ودت لو تمكنت من التدخل والحول دون حدوث هذا .. لكن من سيصغي إليها منهما ..
تعلقت عيني أوس الباكيتين بتقى التي أولته ظهرها، وسارت ببطء نحو الخارج لتبتعد عنه، وترحل للأبد ومعها كل روحه ..
كان على إستعداد تام لتحمل كل شيء، ومواجهة أي شخص فقط لإرضائها وتعويضها عما فات ..
ولكن ما لم يستطع تحمله هو فراقها ..
نعم إلا رحيلها .. إلا خسارتها .. تلك هي الفاجعة الكبرى
كور قبضة يده، ورفع ذراعه ليسنده على صدره ليشعر بدقات قلبه التي تتسارع من أجلها ..
تغير لون وجهه .. وزاد تعرقه ...
وفجأة خارت قواه تماماً، وكأن روحه انتزعت نزعاً من جسده، فسقط على ركبتيه، وقبض على صدره بأصابعه الغليظة، وأطلق صرخة عنيفة ومتألمة:
-آآآآآآآآآه ...!
وتمدد بجسده على الأرضية الصلبة ليدخل في مرحلة من التشنج العنيف ...
صرخت تهاني صرخة مدوية أفزعت الموجودين وهي تركض نحوه بلهفة أم مفجوعة على فلذة كبدها:
-أوس، ابني!
تسمرت تقى في مكانها على إثر الصرختين ..
وشعرت بهزة عنيفة تجتاح روحها قبل جسدها ..
تلاحقت أنفاسها بذعر، وإستدارت ببطء للخلف، وعقدت كفيها المرتعشين معاً بعد أن أغمضت عينيها جبراً ...
فتحت عينيها بحذر، وشهقت مصعوقة حينما رأته مسجى على الأرضية، وإتسعت حدقتيها بخوف حقيقي عليه، وهتفت بإسمه:
-أوس ...!
ثم ركضت نحوه وهي تصرخ بجنون:
-أوس .. لأ.. ماتسبنيش وتروح ...!
جثت على ركبتيها أمامه .. ومدت ذراعيها نحوه، وأمسكت بجسده الذي يهتز بعنف وصاحت بصوت متشنج:
-انت بتعمل فيا كده ليه ؟
امتزجت عبراتها الحارقة بصوتها المختنق وهي ترفعه نحوها لتضمه إلى صدرها:
-ليه رابطني دايماً بيك ؟ ليه كل ما أخد قرار وأبعد بترجعني تاني ؟ لييييه ؟ رد عليا ليه ؟ قوم يا أوس وكلمني! متعملش فيا كده
تمسكت تهاني هي الأخرى به، وصاحت بصوتها الباكي:
-الحقوا ابني، هايروح مني يا ناس.
إنقلب المخفر رأساً على عقب، وسادت حالة من الهرج في الرواق ..
ركض عدي نحو رفيقه، ونظر بذهول لحالته .. وجثى هو الأخر على ركبتيه، وهتف بإهتياج:
-أوس .. رد عليا، حصلك ايه، أنا كنت واقف برا وسايبك كويس، مالك ؟ أوس .. سامعني!
اخرج هاتفه المحمول ليهاتف الطبيب مؤنس على الفور ...
هتف وكيل النيابة الذي إنضم للمتواجدين بصوت صارم:
-الاسعاف بسرعة هنا!
فزع المحامي منعم من رؤية رب عمله على تلك الحالة، وأصابته حالة من البلاهة وهو يتطلع إليه ..
مرت الدقائق على الجميع كأنها سنوات ..
احتضنت تقى أوس بذراعيها، وأسندت رأسه على قلبها، وهمست له بنشيج:
-ماتسبنيش الوقتي!
رمقتها تهاني بنظرات معاتبة، وحملتها اللوم قائلة بصوت باكي:
-ليه قاسيتي عليه يا تقى ؟ ليه جيتي عليه وهو اتغير عشانك ؟
زاد عتاب خالتها من تأنيب ضميرها، ومن شدة عبراتها، ومن الآلم الذي يعذب روحها المنهكة ..
نعم خالتها على حق .. فهي لا تمهله الفرصة لإظهار شخصيته التي تغيرت، وتصده عنها بقسوة كلما أتيحت لها الفرصة حتى قتلته تلك المرة بنفسها...
بعد لحظات حضرت سيارة الإسعاف ليترجل منها المسعفون على الفور، وقاموا برفع جسد أوس بحذر، ووضعه على الرافعة الطبية، ثم ركضوا به نحو السيارة ..
لحقت بهم تقى، وهمست بإستعطاف باكي وهي تقف خلفهم:
-خدوني معاه، أنا .. أنا مراته
نظر لها المسعف بإشفاق، وأشار بيده قائلاً:
-اركبي يا مدام
ثم عاونها على الصعود على متن السيارة، وأغلق الباب خلفها ..
ركبت تهاني مع عدي في سيارته الخاصة، وأدار الأخير المحرك لينطلق خلف سيارة الإسعاف، وهاتف في الطريق الطبيب مؤنس ليبلغه بتطور حالة أوس للأسوأ ...
جلست تقى على المقعد الجلدي الملاصق للتروللي الطبي ..
ومسحت بكفها عبراتها لتنظر إلى أوس بندم واضح من حدقتيها الحمراوتين .. ثم مدت يدها لتمسك بكفه المسنود إلى جانبه ..
نظر لها المسعف بأسف على حالتها، وتنحنح قائلاً بصوت خشن:
-اهدي يا مدام، احنا هانعمل اللي علينا!
لم تصغ إليه، ولم تنتبه إلى حديثه .. فقد كانت محدقة بمن جرحته عمداً، وقتلته بكلماتها ..
ضغطت بأصابعها المرتجفة على قبضته الباردة، وهمست بنحيب لعله يسمعها:
-أنا معاك ومش هاسيبك .. خليك معايا، وآآ...
رفعت كفه البارد إلى وجهها، وتلمست به وجنتها الملتهبة و المبللة بعبراتها .. وأضافت بصوتها المختنق:
-ومع .. ابننا اللي جاي ..!
أغمضت عينيها لتكمل بأنين واضح في نبرتها:
-ايوه ابننا .. أنا .. أنا حامل يا أوس...!