رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثاني والثلاثون
( وانحنت لأجلها الذئاب )
في العيادة الخاصة بأمراض الذكورة
نظر الطبيب المعالج لعدي لنتائج التحاليل الأخيرة بتمعن شديد، بينما راقبه الأخير بتوتر شديد ..
إعتلى ثغر الطبيب إبتسامة هادئة وهو يستطرد حديثه ب:
-الوقتي أقدر أهنيك يا عدي بيه، النتايج عال العال
تسائل عدي بتلعثم وقد إرتسم على وجهه علامات الصدمة:
-انت .. انت بتكلم جد يا دكتور ؟
أجابه الطبيب بثقة:
-هو الحاجات دي فيها هزار.
انفرج فم عدي بسعادة جلية، ومرر أصابع يده في رأسه في عدم تصديق، وهتف بلا وعي:
-أخيراً، ياه .. أنا مش عارف أقول ايه ؟
رد عليه الطبيب بهدوء:
-قول الحمدلله، ده بتوفيق ربنا!
-صح! إنت كلامك مظبوط
قالها عدي وهو يشير بإصبعه .. ثم هب من مقعده وقبله يكاد يقفز طرباً من فرط السعادة ...
في منزل تقى عوض الله
مر وقت العصاري بسلام على المتواجدين بالمنزل، وانتهت العائلة من تناول طعام الغذاء .. فقامت تهاني بجمع الصحون الفارغة لتنظيفها، واتجهت نحو المطبخ، فهتفت ليان بحماس:
-خليني أساعدك بليز
ابتسمت لها والدتها برقة وهي تقول:
-ارتاحي يا بنتي، أنا هاغسلهم بسرعة
نظرت لها فردوس شزراً، وغمغمت مع نفسها بإزدراء:
-شكلك غاوية فقر زي أمك!
تسائلت تقى بقلق:
-هو بابا مش هايطلع من الجامع ؟
ردت عليها فردوس بجمود:
-هو كده، بينزل يقعد فيه لحد ما ينسى نفسه ويجيلي بعد صلاة العشاء!
-ربنا يرده بالسلامة
هتفت بها تقى بصوت رقيق وهي تضع غطاء الطاولة المزين عليها ...
لاحقاً .. وعلى غير عادته، عاد عوض من الخارج ووجهه يكسوه الضيق والحزن ..
استغربت فردوس من عودته، وسألته بتجهم:
-جاي بدري ليه ؟
رمقها بنظرات محبطة، ثم سار في إتجاه غرفة نومه دون أن ينبس بكلمة ..
إغتاظت فردوس من تجاهله لها، وحدثت نفسها بتذمر:
-ده اللي فالح فيه، من البيت للجامع ومن الجامع للبيت، وأدي وش الضيف، مش بأشوف منك حاجة، إن مكونتش أنا ألحق أتصرف هانموت بفقرنا ومش هنلاقي تمن الكفن اللي هاندفن بيه!
تابعت تقى والدها بنظرات مرتابة، وإنقبض قلبها من هيئته، فأسرعت خلفه، ودقت على الباب بخفوت قبل أن تدلف للداخل ...
على الجانب الأخر، أصرت ليان على تنفيذ خطة والدتها في سرقة الأوراق والملفات من الخزينة الموجودة بالقصر ..
ورغم إعتراض الأخيرة إلا أنها استسلمت في النهاية نتيجة إلحاحها المتواصل .. وإرتدت ملابسها لتستعد لها ..
زمت تهاني شفتيها قائلة بتوجس:
-خلي بالك يا بنتي، بناقص منه الموضوع!
أردفت ليان قائلة بجدية شديدة:
-يا مامي اطمني، أنا محدش هايقدر يشك فيا لما أدخل واخرج
ابتلعت تهاني ريقها بخوف وهي تردد بخفوت:
-ربنا يستر.
ربتت ليان على ذراعي والدتها، وهتفت بحماس:
-يالا بينا!
استجمعت تهاني شجاعتها، وأومأت برأسها موافقة، ثم تأبطت في ذراع ابنتها وهي تخرج الغرفة ...
راقبتهما فردوس وهما تتجهان نحو باب المنزل، ورقص قلبها طربا لوجود فرصة سانحة لتتمكن من الخروج هي وإبنتها دون أن تواجه أي اعتراض أو تحقيقات من تهاني ..
برزت أسنانها الصفراء وهي تتمتم بخفوت:
-يدوب ألحق ألبس، وأخد البت ونطلع على المستوصف!
إستند عوض بمرفقيه على مقدمة عكازه، وأخفض رأسه في حزن عجيب ..
جلست تقى إلى جوار والدها، ومسحت على ظهره وهي تسأله بقلق:
-مالك يا بابا ؟ إيه اللي مزعلك كده ؟
لم يجبها في البداية، وظل محدقاً أسفل قدميه ..
خشيت تقى أن يكون قد أساء أحد ما إليها وطعن في سمعتها ظلماً، فأزعجه ذلك ولم يستطع الرد عليه ..
زادت غصتها وهي تسأله بحذر:
-حد من أهل الحارة قالك كلمة ضايقتك بسببي ؟
بدى صوتها على وشك الإختناق وهي تدافع عن نفسها:
-انت مربيني يا بابا وعارفني كويس، أنا آآ...
قاطعها عوض بصوت خافت ومحبط:
-مافيش حاجة يا تقى
تمعنت تقى في وجه والدتها، وهتفت بإحتجاج:
-بس شكلك يا بابا وعينيك وآآ...
قاطعها عوض بهدوء وهو يحاول رسم إبتسامة باهتة على وجهه:
-أنا كده يا بنتي
مالت تقى برأسها على كتف أبيها، وأغمضت عينيها وهي تردد برقة:
-ربنا يخليك ليا يا بابا، ومايحرمنيش منك أبداً!
ربت عوض على كف ابنته، ورفع وجهه للأعلى وهو يقول بجدية:
-تعرفي يا تقى جوزك صلى النهاردة هنا في الجامع
اتسعت حدقتيها بشدة عقب جملته الأخيرة، وبدى الإندهاش بارزاً على تعابير وجهها وهي محدقة في وجه والدها، وإنفرجت شفتيها في عدم تصديق، لم يستوعب عقلها بعد ما قاله بوضوح .. وتسائلت بحيرة هل حقاً توهمت ما سمعته، وأن أوس الجندي الذي لم يعرف إلا الموبقات يُصلي، وهنا في ذلك المسجد المتواضع ..
هتفت هي بصدمة ودون وعي:
-مين ؟!
تابع عوض حديثه بصوت رخيم:
-الشيخ أحمد الله يباركله اتكلم معاه وآآآ...
لم يكمل عبارته الأخيرة بسبب إقتحام فردوس للغرفة كالثور الهائج، وهتفت بتبرم وهي تشير بيدها:
-يالا يا تقى خلينا نروح مشوارنا، وسيبي أبوكي ينام!
لم ترد تقى المضي مع والدتها دون أن يفسر لها أبيها ما قاله، فإعترضت متوسلة:
-خليها وقت تاني يا ماما، أنا عاوزة أفهم من بابا حاجة
حدجتها فردوس بنظرات شبه مشتعلة، وصاحت بضجر:
-الله مش احنا متفقين يا بت!
نظرت لوالدتها بإستعطاف، وقالت بإلحاح:
-معلش، بس .. بس محتاجة أتكلم مع بابا وآآآ..
قاطعتها فردوس بغضب:
-أما نبقى نرجع، ميعاد الزيارة هايروح
حدق عوض في زوجته، وسألها بعدم فهم:
-انتو رايحين فين ؟
أجابته تقى بإنزعاج:
-ماما عاوزاني معاها آآ...
قاطعتها فردوس بصوت متجهم وهي تجذب ابنتها من ذراعها:
-مش وقت رغي، وبعدين يا عوض إنت مش كنت ضارب بوز وواخد في وشك، وجاي مش طايق نفسك، ولا طايق حد تكلمه، الوقتي خلاص ده راح ..!
حدجها عوض بنظرات متأففة وهو ينهرها:
-الملافظ سعد!
ردت عليه بسخط:
-بلا سعد بلا مسعود!
ثم إستدارت نحو إبنتها، وصاحت بها:
-يالا يا تقى، خلينا نشوف اللي ورانا، ولما نرجع ابقي اسهري مع ابوكي إن شاء الله للفجر!
تنهدت تقى قائلة بإستسلام:
-حاضر يا ماما
ثم إستدارت برأسها نحو والدها، ورمقته بنظرات حنونة، وانحنت لتقبل كفه المجعد، وهمست له:
-معلش يا بابا، اوعى تزعل، أما هأرجع بأمر الله هنتكلم
هز رأسه بخفة قائلاً بوهن:
-إن شاء الله يا بنتي!
قبلت جبين والدها، ثم أولته ظهرها، واتجهت نحو الباب، ولكن أوقفها صوته الدافيء:
-خلي بالك من نفسك يا تقى!
إلتفتت برأسها للخلف، وإرتسم على ثغرها إبتسامة ناعمة، وحركت رأسها موافقة وهي تردد بإمتثال:
-حاضر يا بابا!
لوحت بكفها وهي ترمقه بنظرات مطولة أخيرة قبل أن تضيف:
-أشوفك على خير!
شعر عوض بإنقباضة قوية في صدره وهو يرى وجه إبنته البريء، ونظراتها النقية، وكأنها تودعه للمرة الأخيرة .. واستشعر وجود خطب ما سيء، فهمس متضرعاً:
-ربنا يسترها معاكي يا بنتي ...!
في مشفى الجندي الخاص
صُدم الطبيب مؤنس حينما تم منعه من الدخول إلى المشفى، وإحتد قائلاً بغيظ للأمن:
-انتو اتجننتوا ؟ انتو مش عارفين أنا مين!
-لأ عارفين يا دكتور مؤنس، بس دي أوامر
قالها أحد رجال الأمن الداخلي للمشفى وهو يدفعه بعنف للخلف
نظر له مؤنس بنظرات مشتعلة، وهتف بغضب:
-انت متلمسنيش، وأنا هاتصرف وهاعرف أخد حقي كويس.
انضم كبير الأطباء إلى الأمن، واستطرد حديثه قائلاً بسخرية وهو يحدج مؤنس بنظرات شامتة:
-شوفت أخرتها ايه يا صديقي!
احتقن وجه مؤنس بشدة، وهتف منفعلاً:
-العبرة بالخواتيم، وأنا مش صغير! وألف مين يتمناني!
رد عليه كبير الأطباء بتهكم:
-روح للألف دول، لأن أمثالك مكانهم مش هنا
أضاف مؤنس قائلاً بنبرة تهديد:
-أنا فعلاً مايشرفنيش أكون وسطكم، بس مش هاسكت عن أس غلط كان بيحصل هنا، استعدوا للي هايحصلكم.
-اللي عندك اعمله
قالها كبير الأطباء بإستهزاء وهو يسير مبتعداً عنه ...
رمقه مؤنس بنظرات نارية وهو يغمغم مع نفسه بنبرة عدائية:
-مش أنا اللي اتطرد من هنا وأسكت، انت مش عارفني يا .. يا دكتور مهاب!
هدد الأخير بإبلاغ نقابة الأطباء وفضح تلك المؤسسة وما يدور في الخفاء في أروقتها ..
في الحارة الشعبية
خرجت تهاني وابنتها ليان من مدخل البناية القديمة، فأسرع أحد رجال الحراسة نحوهما، وهتف بنبرة رسمية:
-ليان هانم، أي أوامر
نظرت له بإستغراب، وسألته بجدية:
-انت واقف هنا ليه ؟
أجابها بهدوء جاد:
-الباشا أوس مدينا أوامر نكون هنا لحمايتكم
فغرت تهاني شفتيها قائلة بتوتر:
-هه! تحمونا!
فركت ليان طرف ذقنها لتفكر في شيء ما، ثم تسائلت بغموض:
-طب أنا رايحة القصر! هاتوصلونا ؟
أجابها بجدية وهو يهز رأسه:
-أكيد يا هانم!
ثم أشار للسائق المتواجد بالداخل ليصطحبهما، وأمر اثنين بالتواجد معهما .. بينما ظل هو وأخر أمام مدخل البناية
ضغطت تهاني على كتف ابنتها، وهمست لها بقلق:
-مافيش داعي منه المشوار ده
ابتسمت لها ليان إبتسامة مطمئنة وهي تحدثها بخفوت:
-اطمني يا مامي، بالعكس وجودهم معانا هيساعدنا
همست تهاني بتوجس أكثر وهي تتلفت حولها بنظرات مُرتابة:
-قلبي مش مرتاح!
طمأنتها بإبتسامة واثقة وهي تقول:
-Don't worry ( لا تقلقي )
ثم ركبت الاثنتين في المقعد الخلفي للسيارة الجيب، وانطلق بهما السائق ومعه اثنين من رجال الحراسة إلى وجهتهما ( قصر عائلة الجندي )
في نفس التوقيت، عدلت تقى من وضعية حجاب رأسها بعد أن أجبرتها والدتها على إرتداء عباءة سوداء تخصها فوق ثيابها المنمقة، ثم نزلت خلفها على الدرج، وتطلعت إليها بإندهاش، خاصة وأنها كانت تتصرف بغرابة ...
تفاجئت فردوس بوجود رجلين – من ذوي الملابس السوداء – أمام مدخل البناية يدخنان السجائر ويتحدثان سوياً .. فإمتعض وجهها، وتوترت ..
ازدردت ريقها بخوف، وإستدارت برأسها للخلف وهتفت في ابنتها:
-بت يا تقى غطي وشك وانتي خارجة
قطبت تقى جبينها بإستغراب أشد، وتسائلت بريبة:
-ليه يا ماما ؟
ردت عليها بنبرة منزعجة:
-هو كده مش ناقصة حد يرغي معايا ويعطلنا
هتفت تقى معترضة:
-بس دول حراسة أوس وآآ...
قاطعتها والدتها بصرامة وهي تسحب طرف الحجاب على وجهها لتغطيه:
-يووه، اسمعي الكلام! واستنيني هنا
-طيب
قالتها تقى بإمتعاض بادي على تعابيرها ..
توارت فردوس عن أنظار الحارسين لتراقبهما خلسة، وتنصتت على حوارهما ..
تسائل أحد الحارسين بجدية:
-تشرب شاي ؟
أجابه زميله بهدوء وهو يحرك رأسه نافياً:
-لأ قهوة!
أشار له بإبهامه وهو يتابع بصوت عادي:
-اشطا، هاجيبلك واحدة مظبوطة، وأنا هاطلب شاي في الخمسينة، وخليك هنا لحد ما تستلم الأوردر
-اوكي!
وما إن تأكدت من إنشغالهما حتى أشارت لإبنتها وهمست وهي تكز على أسنانها:
-تعالي بسرعة
أسرعت تقى في خطواتها، وبحذر شديد خرجت الاثنتين من المدخل دون أن يلاحظهما أي أحد ..
كذلك استشعر عوض وجود خطر محدق بإبنته الوحيدة، فقرر اللحاق بها وبوالدتها التي كانت تتصرف بطريقة تدعو للشك ..
وبالفعل خرج من المنزل خلفهما .. ولكنه اختبيء على الدرج حينما وجدهما باقيتان بمدخل البناية حتى خرجت كلتاهما بعد لحظات، فتبعهما بحرص جلي ...
في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب
جلس أوس على مقعده الوثير، وهزه بحركة ثابتة وهو محدق أمامه في الفراغ بنظرات شاردة ..
لقد سيطر على عقله ما أقبل على فعله اليوم، فلم يتمكن من التركيز في شيء أخر، وأبلغ سكرتيرته الخاصة بإلغاء كافة ارتباطاته، وعدم إزعاجه ..
نعم لقد شعر – وبقوة - بأنه نجح في إحداث تغيير جذري في نفسه .. وتردد في أذنيه صدى كلمات الشيخ الطيبة التي كانت كالمسكن لتلك الأوجاع والاضطرابات المتأججة في صدره، وأرقت مضجعه لسنوات .. اليوم فقط أدرك معنى الراحة النفسية .. وتلاشى إلى حد ما إحساس الضياع ..
دس أوس يده في جيبه، وأخرج منها فردة الحذاء الصغيرة، ثم تحسسه بأصابعه، وحدق به بنظرات مطولة .. ولاح على ثغره إبتسامة عذبة وهو يتخيل شكل طفله القادم وهو يرتديه ..
رفع الحذاء الصغير إلى فمه، وقبله بشغف، ثم ضغط عليه بقبضته .. وأعاد وضعه في جيبه ..
حرك رأسه قليلاً لينظر إلى هاتفه المحمول الملقى على سطح مكتبه، ثم همس لنفسه:
-بيتهيألي تقى هاتكون صاحية، أكلمها تجهز هي وليان قبل ما أعدي أخدهم!
وبالفعل ضغط على زر الإتصال بها، وانتظر ردها عليه بتلهف كبير ..