رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون
في منزل مسعد غراب،
اجتمعت العائلة على الطاولة لتناول الإفطار معاً..
جلس مسعد في مواجهة سابين بعد أن تعمدت إسراء أن تضبط المقاعد ليكون الاثنين محدقان في بعضهما البعض..
أعجب مسعد كثيراً بما تدبره أخته ظناً منها أنها تقرب بينهما..
وهو بالفعل قد تعلق كثيراً بها، وباتت تشغل كل تفكيره..
-هتعملوا ايه النهاردة؟
تساءل اللواء محمد بجدية وهو يضع قطعة الخبز في فمه
-ردت عليه سابين متساءلة بعدم فهم:.
-هو آنكل يقصد ايه؟
أجابتها صفية بحسن نية:
-عمك بيسألنا هنطبخ ايه على الغدا
ردت عليها سابين بتحمس:
-أها، اوكي we can cook ( ممكن نطهو ) جرين سووب، أنا اسمع عنها
تساءل مسعد عن معنى ما قالته بإستغراب وهو يرفع حاجبه للأعلى:
-هتأكلونا ايه؟!
ردت عليه صفية بعدم فهم:
-والنبي يا بني ما أنا عارفة
أوضحت إيناس مقصدها بثقة:
-هي بتقول ممكن نطبخ جرين سووب
تساءل مسعد بفضول وهو يحك مقدمة رأسه:
-ايه الجرين سوب ده؟
أجابته إيناس بغطرسة:
-يعني ملوخية يا مسعد، اسمها ملوخية
فتح فمه مصدوماً، وردد بإندهاش من معنى ذلك المصطلح الغريب على أذنيه:
-يا شيخة، بقى الجرين سووب ملوخية، طب ما تقولوا كده، ولا لازم تصعبوها علينا!
ردت عليه إيناس بنزق:
-دي الموضة يا مسعد
تمتم بين نفسه بتبرم:
-حتى الكلام بقى فيه موضة!
التفتت صفية إلى ابنها، ووضعت أمامه قطعة من الجبن، وسألته بإهتمام:
-انت ناوي تعمل ايه النهاردة في أجازتك؟
رد عليها مسعد وهو يهز كتفيه:
-مش عارف لسه، بأفكر أقضي اليوم في البيت
-لأ، نو!
قالتها إسراء وسابين في آن واحد، فنظر إلى كلتاهما بإستغراب..
ثم تساءل بفضول وهو يحاول أخفاء ابتسامته الماكرة:
-لأ، ليه بقى؟
تبادلت سابين مع إسراء نظرات حائرة، وأطرقت الأولى رأسها في خجل بعد أن شعرت بسخونة وجنتيها من الحرج...
ضربت إيناس قدم مسعد من أسفل الطاولة، فتأوه بخفوت، ونظر نحوها، وعبس في وجهها وهو يقول:
-في ايه؟
أشارت بحاجبيها وهي تهمس له بصوت خفيض:
-المفاجأة يا بني، يا رب تفهم!
فهم ما قالت، وتنحنح بصوت خشن وهو يقول:
-طب ناوليني البيض يا نوسة!
كزت على أسنانها وهي تجيبه بغيظ:
-ماشي يا مسعد!
تساءلت صفية بإهتمام وهي تقطع الجبن:
-مش ناوية تصحي العيال يفطروا معانا يا إسراء؟
هزت إسراء رأسها معترضة وهي تقول بجدية:
-لأ يا ماما، خليهم نايمين أحسن، ده حتى نوم الظالم عبادة
غمغمت إيناس قائلة بفرحة:
-اه والله!
لاحقاً في سيارة مسعد،
استقل باسل سيارة رفيقه وجلس إلى جواره، ثم جاب الاثنين الطرقات بها دون وجهة محددة..
تساءل باسا بتعجب وهو محدق في الطرق أمامه:
-ايه يا بني، انت رايح بينا على فين؟
أجابه مسعد بفتور وهو يهز كتفيه:
-ولا حتة!
تعصب باسل قليلاً وهو يرد عليه ومشيراً بيده:
-ولا حتة! يعني مدوخنا من صباحية ربنا في الزحمة وأخد الشوارع لف ودوران وفي الأخر تقولي ولا حتة!
أخذ مسعد نفساً عميقاً، وزفره على مهل، ثم تابع بهدوء:
-بص هما طرأوني ( طردوني ) من البيت عشان يعرفوا يظبطوا للعيد ميلاد على راحتهم، وأنا قولت أعوم على هواهم وأعمل فيها عبيط وأفظل كده صايع لحد ما أرجع البيت!
رد عليه باسل بتذمر:
-طب وأنا ذنب أهلي ايه
ابتسم له مسعد ببرود وهو يقول:
-ما انت صاحبي!
زفر باسل بإنهاك، ثم رد على مضض:
-ماشي يا مسعد.
رن هاتف مسعد في جيبه، فدس يده محاولاً إخراجه منه، ثم نظر في شاشته، وقطب جبينه في عدم فهم للكلمة المكتوبة عليها، فمرره إلى رفيقه وهو يتساءل بحيرة
-شوف الاسم المكتوب ده!
قرأه باسل بصوت مسموع:
-ده برايفت نامبر ( رقم خاص )
ثم التفت إليه وسأله بجدية:
-هو انت تعرف حد عند رقم خاص يا مسعد؟
أجابه الأخير بإندهاش:
-ولا عام وحياتك!
أصر باسل على أن يجيب هو على تلك المكالمة الغريبة:
-طب ما ترد!
زفر مسعد مرة واحدة وهو يقول:
-ماشي
ضغط على زر الإيجاب، وأردف قائلاً بجدية:
-ألو!
صمت للحظات ليستمع إل الطرف الأخر، ثم أوقف السيارة فجأة، فانتفض باسل في مكانه كردة فعل، وحدجه بنظرات حادة..
تابع مسعد قائلاً بنبرة رسمية للغاية:
-تمام يا فندم، أكيد..
ظل باسل محدقاً به بإستغراب، والفضول يعتريه لمعرفة ما الذي يحدث خلال تلك المكالمة ليجعل حال رفيقه يتبدل سريعاً للجدية والقلق..
أكمل مسعد قائلاً بنبرة جادة:.
-تحت أمرك يا فندم، هانكون عند سيادتك حالاً!
أنهى المكالمة دون أن يضيف كلمة زائدة، فسألة باسل على الفور:
-في ايه؟ ومين كان بيكلمك؟
التفت مسعد ناحيته، ونظر له بنظرات منزعجة، ثم أجابه بقلق:
-دي مكالمة جاية من فوق، فوق أوي، أوي أوي!
في منزل مسعد غراب،
بعد تفكير متعمق منها قررت إيناس أن تفعل ما لم ترغب في تعجله، ولكنها فرصتها الليلة لتحقيق انتقام أخر ورد كرامتها وكبريائها المهدرين..
خاصة أنها لن تجعل أي شخص يشك فيها، فتلك المناسبة تتيح للجميع الظهور بهيئة حسنة، وبالتالي لن يشك فيها أي أحد من أفراد العائلة، وستستعيد بجدارة ثقتها بنفسها...
لذلك طلبت من سابين - بحرج كان بادياً عليها - أن تساعدها في تحسين مظهرها الأنثوي الليلة لتكون في أبهى صورها..
ابتسمت الأخيرة لها، وردت بهدوء:
-شور ( أكيد )، إنتي قولي إيناس من غير كسوف!
احتضنتها إيناس بسعادة، وشكرتها ممتنة:
-ربنا يخليكي يا سابين، بجد مش عارفة أقولك ايه، أنا يهمني النهاردة أكون مختلفة خالص، ومش مهم لو رجعت زي ما أنا بعد كده!
مطت سابين شفتيها للجانب، ونظرت لها بتعجب قليل، ثم سألتها بفضول:
-ممممم، إنتي آوز تكوني زي سيندريلا؟
التوى ثغر إيناس بإبتسامة خفيفة وهي تجيبها بخجل:
-يعني، حاجة زي كده!
ربتت سابين على ذراع إيناس، وأومأت برأسها وهي تقول بهدوء رقيق:
-أوكي، مش تقلقي، أنا أساعد إنتي!
مدت إيناس يدها لتمسك بكفها، واحتضنته بين راحتيها، واتسعت ابتسامتها السعيدة وهي تردد:
-ثانكس يا حبي!
تساءلت سابين بإهتمام وهي تضع إصبعها على شفتها السفلى:
-ها تهبي ( تحبي ) تلبسي حاجة معينة، ولا أنا give you one of my dresses ( أعطيكِ أحد فساتيني الخاصة )؟
هزت كتفيها في حيرة، وردت بنبرة عادية:
-زي ما انتي عاوزة
تابعت سابين قائلة بنبرة مهتمة وهي تعبث بمحتويات حقيبة ملابسها:
-بصي إيناس، أنا عندي new dress ( فستان جديد ) مش إلبسه before ( قبل هذا )، إنتي can use it ( ممكن تستخدميه )...!
اتسعت حدقتي إيناس في إنبهار، وارتفع حاجبيها للأعلى، وهتفت بعدم تصديق:
-بجد!
هزت سابين رأسها بإيماءة خفيفة وهي ترد عليها:
-شور!
قفزت إيناس في مكانها بسعادة، وهتفت بتهليل:
-بجد إنتي أحلى واحدة قبلتها!
رسمت سابين على وجهها علامات الجدية، ومطت فمها لتقول بإهتمام:
-بس first ( الأول )، انتي need ( محتاجة ) نعمل شوية ميك آب، وماسك عشان بشرة.
ثم أمسكت بذق وجه إيناس وأدارته للجانبين لتتفحصه بدقة، فردت عليها إيناس بحماس:
-اعملي اللي انتي عاوزاه، أنا من ايدك دي لأيدك دي!
ابتسمت سابين قائلة بود:
-أوكي
وبالفعل بدأت الفتاتين في مهمة إعداد وتجهيز إيناس لتصبح آنسة جميلة وحسنة المظهر بأبسط الأدوات...
في مكتب ما بجهة سيادية،
وقف كلاً من باسل ومسعد في مكانهما في وضعية الإنتباه الشديد أمام ذلك القائد العسكري الذي أرسل في طلبهما..
أشار لهما بيده قائلاً بهدوء:
-اتفضلوا
ارتخى جسدهما قليلاً، وتحركا بثبات نحو المقاعد، ثم جلسا بجمود..
نظر لهما القائد بتفرس قبل أن يتابع بصوت جاد للغاية:
-أكيد إنتو مش محتاجين تخمنوا أنا جايبكم هنا ليه؟
تنحنح باسل بصوت خفيض للغاية قبل أن يرد بهدوء:
-تمام سعادتك!
بينما أضاف مسعد بجدية:
-أكيد سيادتك
ساد صمت قليل بين ثلاثتهم قبل أن يقطعه القائد فجأة بصوت آجش:
-الشاهدة سابين!
انتبه مسعد لجملته، وتساءل بحذر:
-مالها يا فندم!
رد عليه القائد بتساؤل:
-مين سمحلها تتواجد عندك في البيت؟
تبادل مسعد مع رفيقه باسل نظرات متوترة، وتردد في الإجابة عليه، وظهر على تعابير وجهه القلق والإرتباك..
فقد كان يعتقد أن مسألة وجودها بمنزل عائلته لا يعرف عنها أي شخص..
لذلك ازدرد ريقه بقلق، وظل صامتاً محاولاً البحث عن إجابة مقنعة ومبررة لفعلته..
قطع عليه القائد شروده قائلاً بجدية:
-عاوز أفهمك إن وجودها في بيتك ماينفعش من الأول، لكن عشان ظروف وفاة الفريق ضياء ولخبطة الأمور بعدها، أنا اضطريت أتغاضى عن ده مؤقتاً، لكن لازم الشاهدة تتنقل لمكان أئمن من عندك
وكأن كلماته كالسيف الحاد الذي يذبحه ببطء..
هو أراد أن تظل باقية معه في منزله ليس ليوم أو اثنين، بل للأبد، فقد إعتاد عليها في حياته، وخفق قلبه لها..
نعم كان يكن لها مشاعر رقيقة وحقيقية، واستشعر بإحساسه أنها تبادله نفس الإحساس حتى وإن كان بحذر..
ابتلع ريقه بصعوبة، واجتهد للحفاظ على ثبات نبرته وهو يقول:
-اللي تؤمر به سيادتك!
أشار له القائد بيده وهو يأمره بصرامة:
-جهز الشاهدة خلال يومين بالكتير هتتنقل لمكان تاني قبل ما تسافر!
هز مسعد رأسه بإيماءة خفيفة وهو يقول بخنوع:
-حاضر
حاول هو أن يخفي تلك المشاعر الحزينة التي بدأت في الظهور قسمات وجهه، فقد تعلق بسابين، وارتبط بشدة بوجودها في حياته، ورحيلها في هذا التوقيت – وإن كان حتمياً – سيشكل فراغاً كبيراً لديه، وسيفطر قلبه الذي تعلق بها، و، وأحبها...
في مطار ما دولي،
ألقى الرجل حقيبة الظهر على كتفه، ثم تحرك بثبات في إتجاه الصالة الداخلية للمطار، وتابع حديثه الهاتفي بصوت قاتم:
-أنا في طريقي إلى هناك!
صمت لثوانٍ قبل أن يستأنف المكالمة قائلاً:
-نعم، انتهيت من الإجراءات، وسيلحق بي البقية خلال يوم!
هز رأسه بإيماءة خفيفة، وأكمل بهدوء:
-لا تقلق، سأهاتفك حينما ننتهي تماماً من أمرها..!
التوى ثغر ذلك الرجل بإبتسامة واثقة وهو يكمل خطاه، ثم وضع هاتفه في جيبه، وضبط وضعية حقيبة ظهره..
في أحد المقاهي الحديثة،
أسند النادل فنجاني القهوة السادة على الطاولة، وكذلك كوب الماء، ثم انصرف مبتعداً.
حدق باسل في رفيقه الشارد لبرهة من الوقت، ثم سأله بجدية:
-انت هاتعمل ايه؟
رد عليه بعد تنهيدة مطولة حزينة:
-مش عارف
سأله باسل بفضول:
-إنت مضايق إنها ماشية؟
أخرج مسعد نفساً ثقيلاً محملاً بالهموم، وأجابه بنبرة شبه حزينة:
-مكدبش عليك أه!
رد عليه باسل موضحاً بجدية:
-ماهو ده اللي كان متوقع، هي كانت آآ...
قاطعه مسعد بضجر وهو يشير بيده:
-الله يكرمك يا باسل مافيش داعي تقولي اي حاجة، أنا فيا اللي مكفيني
لم تكن تصرفات مسعد طبيعية بالمرة، فقد كان منفعلاً، وعصبياً في ردوده وتعامله، لذا بدون تفكير سأله باسل مباغتة:
-انت بتحبها يا مسعد؟
انتبه مسعد لما قاله رفيقه، وحدق فيه مصدوماً من فضحه لأمره، وعجز عن الرد عليه..
أضاف باسل قائلاً بجدية:
-شكلك بيقول كده
رد عليه مسعد بعد تنهيدة أخرى عميقة:.
-مش عارف إن كنت بأحبها، ولا معجب بيها ولا احساسي ايه بالظبط!
حاول باسل توضيح الرؤية لدى رفيقه ذو المشاعر المتخبطة، فأردف قائلاً بنبرة عقلانية:
-بص يا مسعد بيتهيألي انت بس اتعلقت بيها عشانها كانت قريبة أوي منك والطبيعي لما نتعود على وجود حد في حياتنا نزعل لما يسيبنا ويمشي!
نظر له مسعد بغرابة، وسأله بعدم اقتناع:
-فكرك كده؟
أجابه الأخير بثقة:
-اه.
ارتشف مسعد قهوته، ولم يضف المزيد وأثر الصمت، فماذا لديه ليقوله وهو يشعر بالتخبط والحيرة..
فكر في تفسير صديقه المقرب من إحساسه تجاهها، ربما هو مخطيء في اعتقاده أنه يحبها، فهو إلى الآن لم يتأكد من إحساسها ناحيته، وربما هي لا تبادله أي مشاعر على الإطلاق..
تابع باسل قائلاً بجدية:
-صدقني ده شعورك ناحيتها، هي جت في وقت إنت مش عندك اللي تفكر فيها، وشغلت كل تفكيرك، فإنت ارتبطت بيها!
رد عليه مسعد بفتور:.
-يا ريت يكون كده بس!