رواية خطأ لا يمكن إصلاحه ( رفقا بالقوارير ) الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والأربعون
كان مروان يقود سيارته وهو في حالة يرثى لها من الضيق والحزن، لم ينتبه إلى إشارة المرور المضاءة في الاتجاه العكسي، وفجــأة سُمع صوت ارتطام قوي بسيارته.. لقد كانت شاحنة ضخمة قادمة في الاتجاه العكسي، ولم يستطع السائق تفادي مروان رغم إطلاقه لتحذيرات متعددة ببوق سيارته..
ترنحت سيارة مروان على إثر الارتطام ودارت حول نفسها عدة دورات متتالية إلى أن توقفت تماماً عن الحركة.. وأصيب مروان بإصابات بالغة.
أسرع عدد من المارة إلى سيارة مروان لتفقد حالته، بينما اتصل أحد الأشخاص بالاسعاف والنجدة...
كان يوسف يقود سيارته متجها ً نحو فيلته حينما ورده اتصال هاتفي، أمسك بالهاتف في يده ليجد أن المتصل هو مروان، أجاب على اتصاله و..
-يوسف هاتفياً: الوو، ايوه يا مروان، عملت ايه مع أبوك
-احد الأشخاص: سلامو عليكم
-يوسف بدهشة: مين معايا؟ ده رقم مروان
-أحد الأشخاص: حضرتك أنا معرفش الخط ده بتاع مين، بس صاحب الموبايل ده عمل حادثة ونقلناه المستشفى وآآآ..
-يوسف بصدمة: اييييه؟ بتقول ايه؟.
تلقى يوسف خبر إصابة مروان في حادث مروري كالصاعقة، لم يعرف كيف يتصرف أو ماذا يفعل، ولكنه أدار السيارة بسرعة جنونية عكس الاتجاه ليذهب إلى صديقه...
في المستشفى
وصل يوسف إلى المستشفى، صف سيارته بجوار الصيف، ثم جرى مسرعاً إلى الاستقبال و...
-يوسف وهو يلهث: في حد كلمني وقالي ان مروان النقيب عمل حادثة واتنقل على هنا
-موظف الاستقبال: لحظة أشوف الاسم
-يوسف بعصبية: بسرررعة
-موظف الاستقبال: حاضر...
تفحص موظف الاستقبال عدداً من الأوراق الموضعة أمامه، ثم بدأ يضع اصبعه على قائمة مسجل بها عدداً من الأسماء، ثم...
-موظف الاستقبال: ايوه فعلا، الاسم موجود
-يوسف: طب هو فين؟
-موظف الاستقبال: في الطواريء
-يوسف: ودي فين دي
-موظف الاستقبال وهو يشير بيده: هناك.
جرى يوسف ناحية غرفة الطواريء التي أشار إليها موظف الاستقبال، فتح الباب ليجد مروان مسجى على فراش ما، وبعض الممرضين ومعهم طبيب ما يداوون جراحه..
-يوسف بلهفة: مـــروان.
لمحه أحد الممرضين فطلب منه الانصراف على الفور، ولكن يوسف أصر على عدم الذهاب و...
-ممرض ما: لو سمحت، ماينفع حضرتك تكون هنا
-الطبيب: اطلع بره لو سمحت
-يوسف بحدة: انا مش خارج من هنا
-الطبيب: اتفضل بعد اذنك خلينا نشوف شغلنا
منع الممرض يوسف من التقدم أكثر داخل غرفة الطواريء، حاول يوسف اعتراضه و..
-يوسف بنرفزة: قولتلكم مش ماشي غير لما أطمن على مروان
-الطبيب: اطمن هو هيبقى كويس، خليني بس أكمل شغلي وبعد كده تقدر تشوفه.
اضطر يوسف أن يخرج من الغرفة وينتظر بالخارج.. كان يتحرك ذهاباً وإياباً في الممر، ويدعو الله ألا يصيب صديقه أي مكروه...
بعد فترة خرج الطبيب، أسرع يوسف تجاهه و..
-يوسف: طمني يا دكتور على مروان
-الطبيب: الحمدلله، ربنا لطف وعدت ع خير
-يوسف: يعني هو كويس
-الطبيب: ان شاء الله، احنا عملنا الفحوص اللازمة ليه وأشعة المخ، والحمدلله مافيش حاجة مقلقة
-يوسف: الحمدلله
-الطبيب: بس آآآ...
-يوسف بفزع: بس ايه؟
-الطبيب: هو في غيبوبة!
-يوسف: ايييييييييه؟ غيبوبة؟ يعني ايه؟
-الطبيب: نتيجة الارتطام القوي حصله غيبوبة
-يوسف: طب هو هيفوق منها امتى؟
-الطبيب: الله أعلم.. ممكن بعد يوم أو اتنين، اسبوع.. يعني ع حسب حالته ونفسيته
-يوسف: لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني مروان مش هايفوق ويكلمني؟
-الطبيب وهو يهز رأسه يميناً ويساراً: آآآ.. دي حاجة في ايد ربنا
-يوسف: ونعم بالله..
-الطبيب: عن اذنك.
انصرف الطبيب، بينما ظل يوسف متسمراً في مكانه مصدوماً بما حدث لصديق عمره، تذكر أنه لم يبلغ أحد بما حدث، فاتصل أولاً بوالده ليخبره بهذا الأمر.. ثم بوالد مروان الذي جن جنونه حينما علم بما أصاب ابنه...
في منزل صلاح الدسوقي
كان صلاح يتحدث في هاتفه المحمول مع علي الذي أبلغه بالخسائر الفادحة التي تعرض لها مكتبهم، وما زاد الطين بلة هو وجود شكوى خاصة بالتهرب الضريبي و...
-صلاح هاتفياً: كل ده يا علي، كل ده
-علي هاتفياً: أنا مش عارف ايه اللي حصل فجأة الدنيا اتقلبت علينا
-صلاح: تعبي وشقايا راح
-علي: منه لله اللي كان السبب
-صلاح: أنا عارف هو مين، بس مكونتش أتخيل انه يأذيني بالشكل ده رغم اني وعدته اني هبعد بنتي عن ابنه مروان
-علي: قدر الله وماشاء فعل
-صلاح بحزن: حسبي الله ونعم الوكيل...
لم يتخيل صلاح أن نيرة تقف خلفه واستمعت دون عمد للمحادثة الهاتفية الدائرة بينهما...
كانت صدمتها أقوى من أن تتحملها هي، ارتجفت أوصالها، وارتعدت من وقع الكلمات الصادمة التي دمرت حياة أسرة بأكملها، هي أخطأت ( خطأٌ لا يمكن إصلاحه )، أخطأت حينما تعرفت إلى مروان وتمادت معه، أخطأت حينما وثقت به وتخيلته فتى أحلامها المرتقب، أخطأت حينما سمحت لمشاعرها أن تظهر معه، وها هو دمر حياة أسرتها بالكامل نتيجة ذلك الخطأ..
سقطت صينية القهوة التي تحملها لوالدها من يدها على الأرض، فأحدثت دوياً عالياً، وسقطت هي خلفها فاقدة للوعي.
التفت صلاح على أثر الصوت، فوجد ابنته فاقدة للوعي، أسرع إليها صارخاً، ثم جثى على ركبتيه، وأمسك برأسها وأسندها على ركبتيه وحاول إفاقتها و..
-صلاح بصدمة: نيرة.. بنتي! ردي عليا.. نيرة.. يا نيرة.
خرجت زينب من المطبخ لترى ما حدث فوجدت ابنتها ملاقاة على الأرض، فلطمت على صدرها و...
-زينب من بعيد: في ايه اللي حصل.. بنتي!.
تعاون صلاح مع زينب في حمل نيرة إلى غرفتها..
كانت ندى تقرأ إحدى تلك الروايات الرومانسية حينما تفاجئت بوالديها وهما يحملان نيرة، فألقت بالكتاب وأسرعت ناحيتهما و...
-ندى بقلق بالغ: في ايه؟ مالها نيرة؟
-صلاح: مش عارف يا ندى والله، مش عارف
-زينب: دي عين وصابتنا.. احنا اتحسدنا والله
-صلاح: مش وقته الكلام ده، أنا هاروح أشوف دكتور ولا حاجة يجي يطمنا ع البنت
-ندى: استنى يا بابا أنا هاجي معاك
-صلاح: لأ خليكي هنا جمب اختك، وأنا مش هتأخر.
كانت نيرة صامتة كلوح الثلج، لا تتحرك.. أطرافها باردة، عيونها مغمضة، بشرتها شاحبة.. فقط بضع قطرات من الدموع تنزل على وجنتيها وتبلل أذنيها...
قلق صلاح كثيراً على ابنته، فاستدعى الطبيب المقيم على مقربة من بنايتهم و...
-الطبيب بعد أن كشف عليها: عندها صدمة عصبية
-زينب: يالهوي! وده جالها من ايه
-ندى: ايييه؟
-الطبيب: اتعرضت لموقف أكبر من طاقتها فسببلها ده
-زينب وهي تحتضن ابنتها: يا حبيبتي يا بنتي، كان مستخبيلنا كل ده فين يا ربي
-صلاح: طب هي هاتبقى كويسة
-الطبيب وهو يعطيه روشتة ما: ان شاء الله، هي بس تاخد الحقن دي وان شاء هاتبقى كويسة.
نظر صلاح في الروشتة بتمعن شديد والحزن يكسو خلجات وجهه و...
-صلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله
-الطبيب: متقلقش عليها،ان شاء الله هتفوق وتكون أحسن، بس أهم حاجة بس الراحة خلال اليومين الجايين، وانها تبعد عن أي حاجة تسببلها توتر عصبي
-صلاح: حاضر يا دكتووور
-زينب: منهم لله، حسدوني ع بناتي.. منهم لله، ملحقتش اتهنى بيهم
-ندى: خلاص يا ماما
-زينب: اه يا نيرة، كنتي وردة مفتحة يا حبيبتي
-ندى: مافيش داعي لكل ده يا ماما
-زينب: الخراب المستعجل جه ع دماغنا، وكل ده ليه عشان احنا طيبين وفي حالنا.
في المستشفى
وصل فهمي إلى المشفى الراقد به ابنه، كاد قلبه يموت قهراً عليه، لم يتخيل أنه سيرى ابنه راقداً في تلك الحالة، لم تكن حالة زوجته أحلام أقل قدراً منه.. بل بالعكس كانت شبه منهارة و...
-أحلام ببكاء مرير: ابني ضاع مني، ابني راح يا فهمي
-فهمي: اهدي يا أحلام متقوليش كده، ان شاء الله هايبقى كويس، الدكتور طمنا
-أحلام بعصبية: هيبقى كويس ازاي وهو بالحالة دي؟ انت بتكدب عليا
-فهمي: أرجوكي يا أحلام.
-أحلام وهي تنظر له بنظرات قاسية: انت السبب في اللي حصل لابنك، انت السبب، مروان غلب يفهمك انه بيحب البنت وعاوزها في الحلال وهيغير من نفسه عشانها، وانت.. انت كل همك الفلوس والمستوى.. ضيعت ابني عشان الفلوس.. حرام عليك
-فهمي: خلاص يا أحلام.
-احلام بعصبية وحدة: لأ مش خلاص.. لازم تسمعني غصب عنك، ابنك كان بيتقطع قدامك وانت ولا همك، قولي الوقتي الفلوس هتعمل ايه عشان ابني؟ فيها ايه لو كنت اتفاهمت معاه بالراحة ولا سمعتله؟ ابني الوحيد راح بسببك انت... وأنا مش مسمحاك لو جراله حاجة، مش مسمحاك.
مع كل كلمة كانت تنطق بها أحلام لفهمي، كان الآلم يفتك بقلبه، لقد كانت كلماتها اللاذعة كالسياط الحامي الذي يجلده بلا رحمة أو شفقة..
هي أصابت حينما أخبرته أنه أخطأ في حق ابنه، أخطأ (خطأ لا يمكن إصلاحه ) حينما رفض أن يستمع إلى ابنه ويتفهم مشاعره ويتناقش معه بالعقل لا بالحدة والشدة..
أخطأ حينما انساق وراء اشاعات أطلاقها غيره دون أن يتأكد من صحتها فقط ليدمر عائلة لا ذنب لها سوى أن ابنه أحب ابنتهم...
وقفت أحلام تبكي بشهقات عالية وهي ترى ابنها الوحيد.. فلذة كبدها.. راقداً لا يتحرك، وجسده متصلاً بأجهزة الكترونية واخرى كهربائية...
وقف فهمي هو الأخر ينظر إليه وعبرات الندم واللوم تسقط على جبينه و..
-فهمي في نفسه: أنا أسف يا بني، أنا السبب في اللي جرالك، أوعدك لو قومت بالسلامة هاعملك اللي انت عاوزه، انا مش عايز حاجة من الدنيا الوقتي غير إني أشوفك مبسوط وسعيد في حياتك، ولو سعادتك هاتكون مع الانسانة دي فأنا مش هاقف في طريقك.. ياااا رب اشفي ابني... يا رب...
وقف يوسف يراقب المشهد من بعيد.. لم ينطق بأي حرف منذ اصاب ما حدث مروان - صديق عمره وصديق طفولته، ظل جالساً في الممر يتذكر كل ما مروا به سوياً منذ نعومة أظافرهما إلى الآن.. لقد كان يبكي في صمت على شقيقه.. بلى هو شقيقه الذي لم تلده أمه...
وصل والدا يوسف إلى المشفى، ووجدا يوسف جالساً القرفصاء واضعاً وجهه داخل كفي يده، فأسرعت عبير إلى ابنها واحتضنته و..
-عبير: اهدي يا يوسف انشاء الله هايكون كويس
-يوسف وهو يحتضن أمه وينتحب: أنا خايف عليه أوي يا ماما، ده أخويا مش بس صاحبي.. أنا هاموت لو جراله حاجة
-عبير وهي تذرف الدموع: خلي عندك أمل في ربنا، ان شاء الله هايكون كويس، وهايفوق وتكونوا سوا في كل حاجة زي ما انتو متعودين.
-سليم وهو يربت على ظهره: ربنا يقومه بالسلامة يا يوسف، أمسك بس نفسك عشان خاطر صاحبك
-يوسف: مش قادر يا بابا.. مش قادر
-سليم: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا هاروح أطمن ع فهمي وأحلام هانم..
-عبير وهي تشير برأسها: اوك.. وانا جاية وراك، بس أشوف يوسف
-سليم: ماشي...
بعد مرور عدة أيام.
في منزل صلاح الدسوقي
ظلت أحوال نيرة كما هي لا جديد يذكر فيها.. فقط تكتفي بتناول الطعام والتحليق في سقف الغرفة لساعات دون أن تنطق بكلمة، فقد تذرف الدموع في صمت.. حاولت ندى وفاطيما معها كثيراً لكي تهونا عليها ما حدث، أحياناً تستجيب وأحياناً أخرى تظل صامتة كلوح ثلج لا روح فيها..
-فاطيماوهي جالسة بجوار أختها: مش هاتقومي بقى يا نيرة تلعبي معايا؟ طب حتى اتشاكلي معايا زي عوايدك؟ انتي ليه ساكتة كده؟ انتي مخصماني ولا ايه.
-ندى: معلش يا طمطم، هي تعبانة
-فاطيما: طب هي لسه زعلانة مني؟ أنا مش هاخد تاني الحاجة بتاعتها بس هي تكلمني
-ندى والعبرات تترقرق في عينيها: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه...
احتار والديها كثيراً في حالها.. فجميع الأطباء الذين أحضرهم صلاح لها أكدوا أنها تعاني من صدمة نفسية، وتحتاج للرعاية والانتباه بالاضافة إلى تغيير الظروف المحيطة بها والابتعاد عن أي مسببات عصبية خلال تلك الفترة...
حاولت زينب أن تنفذ جميع التعليمات التي طلبها الأطباء... وتعاونت معها ندى وفاطيما، وأحرزوا تقدماً صغيراً.. حيث تكلمت نيرة ولكن بكلمات مقتضبة.. ولكنها كانت كافية بالنسبة لهم ليطمئنوا على أحوالها...
في مكتب صلاح الدسوقي
كانت أحوال المكتب في تدهور مستمر.. تكالبت الديون بدرجة كبيرة على صلاح الدسوقي، وطالب الكثير من الدائنين مستحقاتهم، حاول علي قدر الإمكان أن يؤجل تلك الديون، ولكن نتيجة لأمر ما خفي كان كل شيء يتعقد اكثر وأكثر و..
-علي: انا مش عارف البلاوي دي كلها جت ازاي؟ سبحان الله زي ما يكونوا كلهم متفقين علينا
-صلاح بنبرة حزن: منهم لله اللي ضيعوا كل تعب السنين
-علي: طب انت ناوي على ايه يا صلاح؟
-صلاح: معدتش قدامي غير إني اصفي المكتب هنا وابيع البيت عشان اسدد الديون واحاول أقسط الباقي
-علي: طب البنات وأمهم هتعمل ايه فيهم؟
-صلاح: ماهما خلاص تقريباً شبه عارفين باللي حصل
-علي: لا حول ولا قوة إلا بالله
-صلاح: انا ع العموم بفكر أخد البنات وأمهم وارجع تاني السعودية، معدتش ليها لازمة الأعدة هنا
-علي بخضة: طب ليه كده بس
-صلاح: معدتش جايبة همها، وكفاية اوي اللي حصلنا.. المهم أنا كنت عاوزك يا علي تشوفلنا موضوع التأشيرات دي وتنجزهالي
-علي: طب أصبر شوية
-صلاح: هاصبر لحد ايه تاني؟ الحمدلله ع كل شيء...
في المشفى
علم غالبية طلاب كلية تجارة (انجليش) بما حدث مع مروان، فتناوب الجميع على زيارته والاطمئنان عليه..
كان حال والده فهمي لا يسر أي أحد.. فرغم دعوات الكثيرين لابنه بالشفاء إلا أنه مازال يحمل نفسه ذنب ما حدث لابنه، خاصة أن ذلك الحادث الآليم وقع مباشرة بعد تركه للشركة...
لم يتخلى يوسف عن صديق عمره، وإنما ظل مرابطاً أمام غرفته بالمشفى، يجلس معه بالساعات، لا يمل ولا يكل... لا يلتزم بمواعيد الزيارة أو غيرها.. هو فقط يجلس ليتحدث معه وكأنه يبث فيه الحماسة لكي ينهض من جديد...
-يوسف بنبرة حزينة: هتفضل لحد امتى كده ساكت ومش بترد عليا؟ انت عاجبتك الأعدة كده يا مارو ولا ايه؟ قوم يا عم خلينا نرجع زي زمان..!.
كان فهمي يراقب من بعيد يوسف وهو يتحدث مع ابنه، لقد استمع تقريباً إلى ذكريات عن ابنه لم يكن يعلم عنها شيئاً.. عن مواقف لم يعشها مع ابنه الوحيد.. شعر بمدى قسوته وبرودة قلبه حينما عبر ابنه لأول مرة له عن مشاعره تجاه فتاة ما خفق لها قلبه.. كم كان ظالماً، قاسياً.. تذكر وسط هذا كله أنه لم يدمر حياة ابنه فقط، ولم تعد حياته هي التي على المحك، وإنما حياة اسرة اخرى على وشك التدمير الكلي بسبب تحكماته وقسوته...
-فهمي بنبرة آسى عميقة، وتنهيدات حارة في نفسه: أه لو يرجع بيا الزمن يا بني، آآآآآآه... مكونتش فكرت اني أعملت كده.. آآآآه...
حاولت عبير أن تواسي أحلام وتمدها بالقوة لكي تستمر من أجل ابنها ولكنها فقدت طعم الحياة، فقدت كل شيء بسكون ابنها.. لم تعد ترغب في أي شيء سوى أن ترى ابنها يتحرك أمامها، فقط تشعر به كما كان معها قبل أن يصير هكذا لا حول له ولا قوة..
-أحلام ببكاء مرير: ده كان دايماً يحاول يخليني أضحك حتى لو مين خانقني، كان مالي عليا حيااااتي.. آآآآآه يا بني، آآآآه يا نور عيني.. هاعيش بعدك لمين، أنا ملحقتش افرح بيك.. كان فرحان يا عبير، كان مبسوط ان لاقى واحدة يحبها، وحسيت من كلامه عنها انه ناوي فعلاً يتغير ويهتم بمستقبله..
-عبير: استهدي بالله، ان شاء الله هيفوق
-أحلام متضرعة للمولى عزوجل: ياااا رب، انت العالم باللي فيا، يااااا رب اشفيلي ابني، أنا مش عاوزة حاجة من الدنيا دي كلها غير ابني وبس.. يااااا رب
-عبير: قادر ع كل شيء.. ان شاء الله ربنا هيسمع منك ويرجع زي الأول وأحسن.
في منزل صلاح الدسوقي
كانت زينب في حيرة من أمرها، ترددت كثيراً في امر إبلاغ بناتها بعودتهن للسعودية مرة أخرى، ولكن لا مفر من الحقيقة، فسوف يعلمون عاجلاً أم آجلاً.. لذا...
-زينب وهي تجلس على فراش نيرة: أنا... أنا كنت عاوزة أقولكم حاجة كده يا بنات
-ندى: خير يا ماما
-زينب بتردد: أبوكم قرر اننا.. آآآ... يعني نرجع السعودية
-فاطيما: هانروح السكن تاني؟
-ندى بصدمة: اييه؟
-زينب: هو تقريباً بيخلص في اجراءات السفر والتأشيرات، كلها كام يوم وآآ.. ونسافر
-ندى وهي مطرقة الرأس تحاول منع عبراتها من النزول: أها..
-زينب: طبعاً انتو مش محتاجين اعرفكم السبب ايه، بس خلاص كل حاجة هنبيعها وهنرجع، معدتش ليها لازمة الأعدة هنا واحنا خسرنا كل حاجة
-ندى وهي تمسح دموعها: ولا يحمد على مكروه سواه.
سمعت زينب صوت اغلاق باب المنزل، فأدركت أن زجوها صلاح قد عاد للمنزل، لذا تركت البنات في غرفتهن، وتوجهت إليه...
اتجه صلاح إلى غرفة نومه، والحزن لا يفارق وجهه.. لقد تكالبت المصائب عليه، ليس بيده حيلة، طرق كل الأبواب ولكن دون جدوى.. لم يعد أمامه إلا أمراً واحداً.. هو يعلم أنه عاهد نفسه ألا يفعل هذا، ولكن ضاقت به السبل...
جاءت زينب إليه فوجدته جالساً على طرف الفراش يمسك بعدة أوراق في يده ويتمعن فيها جيداً، تعجبت من أمره ثم...
-زينب: مالك يا حاج؟ ايه الورق ده اللي انت ماسكه؟
-صلاح: ده.. ده ورق ودايع البنات يا زينب
-زينب وقد جلست بجواره: ودايع البنات
-صلاح: أيوه يا زينب
-زينب: طب وانت ماسكهم ليه؟
-صلاح: أنا.. أنا مضطر إني اكسر الودايع دي كلها عشان أسدد بيها ديوني
-زينب فاغرة شفاهها: هـــاه
-صلاح: كنت معاهد نفسي إني مكسرهمش إلا لما أجوز البنات، لكن الحمل طلع كبير أوي يا زينب، معنتش قادر عليه لوحدي.. معنتش قدامي حل إلا كده
-زينب: بس.. بس دول فلوس جهاز البنات وآآ..
-صلاح: أنا لو ما اتصرفتش في الفلوس هــ... هتسجن يا زينب
-زينب: اكسرهم يا حاج.. الفلوس بتروح وبتيجي، لكن وجودك جمبنا ده الأهم.
-صلاح: ان شاء الله لما أرجع السعودية تاني هاشتغل بايدي وسناني وأعوض البنات
-زينب: دي فلوسك يا حاج، تعبك وشقاك.. اعمل بيهم اللي انت عاوزه
-صلاح بحزن: تعبي اللي راح من غير ذنب، يالا.. هاقول ايه بس
-زينب وهي تربت على كتفه: منهم لله اللي كانوا السبب.. منهم لله...!