قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي عشر

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الحادي عشر

رخيصة
(لوجين)
رسلان يقف في اخر الشارع. اصرخ عليه استشغيثه، يسير ببطئ مبتعداً عني بينما يد كامل تقبض على فمي اكثر وتحكم يداي بقوة وضحكته تملأ المكان حتى تكاد تصل لرسلان الذي لم يسمعها وان وصلته!
ابتلعه الظلام واختفى ذلك النور لأبقى في العتمة، وفجأة من وسط السكون سحبني كامل واخذني بعيداً وانا ارفس بقدماي بقوة احاول الافلات منه وافشل.
- لوجين؟ لوجين؟

استقام جسدي بشهقة ذعر مرعوبة من على سريري فتلقتني الخالة سعاد فوراً بين يديها لتضمني اليها برفق وهي تقول بقلق بعد ان افزعتها معي: - اعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. اهدأي يا ابنتي كنتِ تحلمين فقط!

استكنت بين يديها ولاتزال عينّي جاحظتين بخوف، أحقاً كان مجرد حلم؟ اذاً لِما اشعر بملمس يد كامل الخشنة على وجهي الى الان؟ لما اشعر بألم معاصمي من قبضته الوحشية عليهما؟ كان يبدو كابوس اقرب الى الواقع منه الى الحلم!

اغمضت عيناي براحة بعد ان ادرك عقلي واقتنع واخيراً انه بالفعل كان مجرد كابوس! اخذت نفساً عميقاً احاول من خلاله تزويد جسدي ببعض الاوكسجين ليهدأ قليلاً فتداخلت الى انفي رائحة المسك والعنبر التي تحرص الخالة سعاد دائماً تزكية جسدها بهم. تبسمت بشكل لا ارادي وانا اطيل الاستنشاق اكثر، انها رائحة تذكرني بايام طفولتي وجلوسي الكثير انا ورنا معاً داخل احضانها!
- حبيبتي لوجين هل ستكملين نومكِ هنا؟

قالتها الخالة سعاد بضحكة حين اطلت بقائي بين يديها فنظرت لها بابتسامة وانا اقول بصوت ناعس: - صباح الخير يا اجمل نانا في الدنيا!.
و نانا هو اللقب الذي كنت اطلقه عليها في صغري فقرصتني من خدي بلطف وقالت: - صباح الخير يا زهرتي الغالية!

ثم نهضت قبلي وهي تدفعني من كتفي تحثني على النهوض قائلة: - هيا انهضي وكفاكِ كسلاً. رنا ستمر عليكِ بعد قليل لتغادرا، لقد تركتها تفطر وخرجت لذلك هي بالتأكيد الان على وشك الوصول فأسرعي بالنهوض!

ولأول مرة اقوم من السرير مبكراً من غير وجه ممتعض او تذمرات ساخطة. فهو يومي الاول في الجامعة. اليوم الذي كنت انتظر عيشه طوال 12عاماً. حلمي الذي اجهدت نفسي لليالي طويلة في سبيله قد تحقق واخيراً. فلما عساي بعد كل هذا ان لا انهض بأبتسامة؟ لا وبل بنشاط ايضاً!
القيت نظرة اعجاب سريعة على ملابسي اللواتي حضرّتهم في الشماعة منذ الامس وانا امر من جانبهم قبل ان اذهب باتجاه الحمام المجاور لغرفتي.

شطفت وجهي لأزيل عنه كل شيء من اثار نعاس واثار مساحيق تجميل دون ان اتمكن من ازالة ابتسامتي البلهاء!
رفعت الفرشاة نحو فمي فاصبحت ابتسامتي منطقية وانا ابرز اسناني كي انظفهم بينما اتمتم اغنيتي المفضلى بصوت لا يساعد على الغناء مطلقاً: - ان كنت حبيبي. ساعدني كي ارحل عنك. او كنت طبيبي. ساعدني كي اشفى منك.

وفجأة افزعني صوت رنا القادم من خلفي وهي تقول: - حين غناها عبد الحليم اطلقو عليه لقب العندليب. اما انتِ فاقرب الى صوت اللقلق او صوت البطة البشعة!
نظرت لها والمعجون بفمي يتطاير من ضحكي ثم قلت: - اعوذ بالله منكِ. تأتين بالاوقات الخاطئة تماماً. لقد قالت الخالة سعاد انك لا زلتِ في المنزل فماالذي تفعليه هنا؟

فقلبت عيناها الى الابيض عن طريق اخفاء بؤبؤ عينها وهي تدرك جيداً اني اكره هذه الحركة وقالت لي بعد ان غيرت صوتها بشكل مخيف وتمثل ضحكة الشرير: - ومن قال اني هنا من الاساس. انتِ فقط من تريني يا لوجين ابنة عادل وسهير!
رشقتها بالمياه وانا اهتف بها: - اخبرتكِ الف مرة لا تقلبي عيونكِ بهذا الشكل ايتها الغبية انتِ تخيفيني!

ثم نظفت فمي من المعجون بينما هي تنفجر ضاحكة على منظري وبعدها اكملت موضحة فهي تدرك اني اكثر انسانة جبانة في هذه الدنيا وسأبدأ بوضع تخمينات ساذجة وليس امر بعيد المنال عني اني بعد ثواني من التفكير سأبدأ بالتفكير انها جنية فعلاً: - حين خرجت امي كنت ذاتاً اوشك على انهاء فطوري لذلك اتيت بشكل مباشر من بعدها!

جففت وجهي بتلك المنشفة الزرقاء التي لاتزال تحوي عطر معجون الحلاقة الصباحي العالق بها من وجه ابي. اتساءل احياناً كيف تكون القدرة للروائح بتفعيل كل ذكرياتنا المضمورة؟

اتجهت نحو غرفتي بينما سبقتني رنا نحو الاسفل فغيرت ملابسي ووضعت عطري المفضل ولكن مع الاسف لم اتمكن من وضع مساحيق التجميل غير الكحل داخل عيناي. فرسلان بالتأكيد سيعيدني للبيت كي امسحهما او سيتشاجر معي وسط الشارع. اعلم انه لن يمانع ذلك البتة ان غضب!

نزلت لأشاركهم وجبة الفطور وعلى ما يبدو انهم يشاركوني حماسي ايضاً فامي قد تغير اسلوبها كلياً معي وعادت كما كانت بأهتمامها ومزاحها معي. يبدو ان سعادتها قد انستها سخطها علي!
انهيت فطوري وغادرنا انا ورنا ورغم حماسنا ألا ان خطواتنا كانت رصينة. يبدو ان شعورنا اننا غدونا فتياتٍ جامعيات قد جعلنا هذا ننضج فجأة بين ليلة وضحاها!
- يا اهلاً وسهلاً بطالبات الجامعة الانيقات!

قطع علينا ثرثرتنا انا ورنا صوت العم ايمن حين كنا نمر من جانب بقالتهم. حسناً كنت انوي تجاهل مروري من جانب رسلان واتحاشى النظر اليه بعد منظري السخيف اخر مرة واعترافاتي الساذجة وسط ضحكهُ علي! ولكن العم ايمن افشل لي مخططاتي. كما يفعل دائماً!

تبسمنا بعد ان اشار لنا العم ايمن بالاقتراب فأقتربنا من طاولة البيع لنلقي التحية حيث العم ايمن ورسلان يقفان خلفها. كان حاد النظرات مشغول بتصليح راديو بين يديه ولكنه رغم ذلك رفع بصره. ليس لعيناي. بل تفحص ملابسي ليراها ان كانت ضيقة او حسب شروطه. وبشكل لا ارادي انقبضت يدي بتوتر لم استطع التخلص منه الا بعد ان اعاد ابصاره نحو الراديو مجدداً. هذا يعني اني نجوت من التوبيخ الصباحي!

- ما كل هذا الشباب يا عم ايمن؟ بالفعل الخالة ندى محظوظة بك. انت تزداد جمالاً يوماً بعد يوم!
قالتها رنا بمزاح ليضحك العم ايمن ضحكته الهادئة كنبرته وقال:
- اي شباب هذا يا ابنتي. لقد اصبحنا من الماضي نحن. الدور لكم الان!
فقالت بمكر تستخدمه دائماً مع العم ايمن لتمازحه:
- اي ماضي هذا؟ انظر الى شعرك. انت حتى لا تمتلك شعرة بيضاء واحدة!
ثم ضيقت عيناها بابتسامة واكملت:
- رغم اني متأكدة اني رأيتهم البارحة!

فضحك رسلان بقوة، لالا بل قهقه. نظر نحو ابيه ثم عاد بنظره نحو رنا وهو يبادلها مزاحها:
- هذه هي فائدة الاصباغ يا رناوي!
نعم رنا صديقتي المقربة. ونعم اثق بها. ولكن ان تتم مناداتها هكذا منه هو بالاخص فهذا سيدفعني لافتراسها. انها جينات الغيرة التي بدمائنا ومن المستحيل ان اسيطر عليها، لم ادرك ان ذلك المستفز قد تعمدها ألا بعد ان منحني نظرة خاطفة قبل ان يعيد ابصاره نحو الراديو وهو يقول:.

- أتشمون رائحة شي يحترق؟
وهنا بالفعل انبعثت كل الحرارة الى وجهي وكاد ان ينفجر من الاحراج فأخفضت ابصاري فوراً غير قادرة على النظر اليه مجدداً، تباً لحظي السيء الاسود الذي دفعني لأقول له كلام مشابه في المرة السابقة، ولكني استحق! انا حمقاء واستحق ما يحصل بي وتذكير رسلان لي بأعترافي في كل مرة!
- انتظرا هنا سأحضر لكما تفاحتين طازجتين. سمعت ان التفاح يساعد على النشاط في الصباح!

قالها العم ايمن لتجيبه رنا بمشاكستها المعتادة:
- ان كان الامر يتعلق بالاكل فأنت تعلم اني لا ارفض شيئاً يا عم ايمن!
ضحك العم على مرحها ودخل نحو تلك الغرفة الصغيرة ليغسل التفاحتين اللتان اختارهما لنا من الصندوق فقال رسلان فوراً بينما ابصاره لا تزال معلقة بالراديو يربط اسلاكه مع بعض:
- ما كل هذا الكحل يا انسة لوجين!
رمقتني رنا بنظرة وابتسامة اعرف معناها جيداً فتلعثمت اكثر بينما ارد عليه:
- انه مجرد كحل!

فنظر لي بتلك النظرة الممتعضة كلما جادلته بأشياء مشابهة فكتمت بقية حروفي فوراً بينما يعيد ابصاره نحو الراديو ويقول بكلمات يدرك جيداً اني افهم معناها:
- حسناً. لا ضرر ان تجربي الامر في اليوم الاول!
ليأمر بشكل غير مباشر انه اليوم الاول والاخير الذي سأضع فيه الكحل، لا تظنوا اني شعرت بالاحباط. بل قدماي لا تلامس الارض من فرط بهجتي وبالكاد كنت اسيطر على ابتسامتي ان لاتزداد اتساعاً!

- وها هي اجمل تفاحتين لأجل فتاتين بالحي!
تبسمنا انا ورنا بينما نأخذ التفاحتين منه ونشكره بأصوات عذبة ومؤدبة لا نستخدمها ألا في المناسبات العامة!
قطع علينا العم امجد وابل تشكراتنا بينما يقول لرسلان بتذمر:
- لقد اعطيتك الراديو منذ ساعة يا رسلان ولم تنهيه الى الان؟
نظر اليه رسلان وقال ممازحاً من غير ابتسامة:
- مرة اخرى لا تأتي لورشتنا!
ثم اردف فوراً:.

- هذا بدل ان تشكرني لأني سأصلحه ولن تأخذه لمن سيطالبوك بالمال!
- هيا يا ولد انهيه بسرعة بلا تذمر ستفوتني البرامج الصباحية!
فقال بتهكم بينما يعيد ابصاره نحو الراديو المفتوح بين يديه:
- لاتقلق ستجدهم بالتأكيد قد قطعوا البرامج الصباحية كالعادة ليبثوا خطبة الرئيس التي ستستمر لساعات!
لكزه العم ايمن وقال بتأنيب:
- اخبرتك الف مرة ان تضبط لسانك وان لاتورطنا!
- وهل شتمته انا الان؟ انا امزح فقط!

- حتى المزاح غير مقبول بخصوصه. انه ليس شخص عادي لتمزح بشأنه!
فقال العم امجد بنبرة ذات معنى:
- ان سمع احدهم مزاحك هذا يا ولدي فسيحصل على ترقية!
وهو هنا يلمح انهم سيكتبون به تقرير فوراً لترتفع مناصبهم اكثر على عدد تقاريرهم!
فقالت رنا فوراً قاطعة اجواء القلق هذه بمزاحها المعتاد بينما تقضم التفاحة وتقول للعم امجد:
- مرحباً ايها الوسيم. هل يمكننا ان نتعرف!

فضحك العم ايمن بقوة وهز رسلان رأسه بيأس من جنونها وقلت لها انا بضحكة:
- ما مشكلتك اليوم مع كبار السن؟
فنظرت لي وقالت:
- انه يومي الاول في الجامعة يا لوجين لذلك يجب ان اقوم ببعض التمارين لأتعرف على اكبر قدر ممكن من الشباب!
فلكزتها بخفة من مزاحها السخيف هذا وانا بالكاد اكتم ابتسامتي فقاطع نظراتي المؤنبة لها قهقة العم امجد وهو يقول لرنا:
- لاتزالين مشاكسة كما كنتِ في طفولتكِ يا رنا!
ثم نظر إلى وقال:.

- مرحباً يا لوجين. لم نراكِ منذ فترة!
تبسمت بخجل وانا اجيبه:
- مرحباً عم امجد. كنت مريضة قليلاً فحسب!
-سلامتكِ صغيرتي!
لترد رنا من غير ان تسيطر على الثرثارة التي تتلبسها دائماً:
- اي صغيرة هذه يا عم امجد لقد اصبحت بغ.

وقبل ان تكمل ضربتها هذه المرة على مرفقها بصورة اقوى ولم اكتفي باللكز فقط لتصمت، فلا اريد ان تكمل بغلة امام رسلان. على ان احتفظ بما تبقى لي من ماء وجهي على الاقل. رغم اني اشك بأنه قد بقيت منه قطرة!
ثم سحبتها من يدها فوراً متلافية بقية تصريحاتها وانا اقول:
- عن اذنكم، سنذهب قبل ان نتأخر!
- رافقتكم السلامة!

قالها العم ايمن والعم امجد معاً بينما اكتفى رسلان برفع نظراته إلى يراقبني. ليس ببرود. وليس بأمتعاض. بل ونظراته لاتحوي اي نظرة حادة بينها. لقد كانت نظرته دافئة. نظرة ذلك الصبي الذي كان يدللني ويفضلني على جميع فتيات المنطقة من غير منافس، وكم افتقد ذلك الصبي الان الذي يختبئ خلف هذا الشاب الجاد!

رحلت عنه لأنطوي على نفسي كعادتي لاسيما اني ورنا ركبنا سيارتين منفصلة بحكم ان كل واحدة جامعتها في منطقة مختلفة. جلست في الباص الطويل الذي يحوي جميع الناس من مختلف الطبقات والفئات. وكأنه يجبرنا على التساوي من غير تمييز!

جلست على المقعد بجوار النافذة كعادتي وراقبت الطريق بصمت ووحدة. راقبت الناس واعمالهم الصباحية. اولئك الصبية المستيقظين باكراً لغايات مختلفة. بعضهم يذهب نحو المدرسة واخرون رغم نعومة اظفارهم ينخرطون بأعمال تتجاوز اعمارهم بسنين ولكنهم مجبرين عليها ليسترزقوا ويتخلصوا من وحش الجوع الذي يخيم على ايامهم!

رجال مهندمين ببذلة محترمة واخرون بقميص متسخ. امرأة توصل طفلها للمدرسة واخرى تضعه في حجرها وتمد يدها للمارة، كم يمكننا ان نرى الكثير لو اننا تمعنا فقط بمن حولنا ولم نبالي بأنفسنا فقط!
بعد وقت ليس بالقصير وصلت نحو المستشفى - او قريب منها- حيث صفوفي الجامعية سأدرسها فيها.
نزلت وحدقت فيها من بعيد واخذت نفساً عميقاً اطرح من خلاله توتري!

دخلت اليها واتجهت للبناية المخصصة لطلبة المراحل الاولى وكان واضح على اني جديدة هنا ولست في سنة ثانية او ثالثة. واضح من نظراتي الخجولة. واضح من وقوفي كالبلهاء وسط الردهة من غير فعل شيء. اخاف ان اتقدم خطوة فتقودني قدماي لمكان خاطئ. لذلك كنت واقفة فقط اتلفت من حولي. تنفرج شفتاي. ترتفع يدي. وقبل ان انادي من مر بجواري لأساله اجده يختفي فجأة. الجميع خطواتهم سريعة هنا وكأنه لا وقت ليضيعوه بالسير برصانة. وكأنهم يعتادون منذ الان على السرعة ليصلو نحو مرضاهم مستقبلاً من غير تأخر. فثانية واحدة قد تكون الفاصلة ما بين حياة انسان ومماته!

- انتِ مرحلة اولى؟
التفت بلهفة. هناك من يحادثني واخيراً وسط هذا الازدحام! وقعت عيناي على شابة ذات عيون ثاقبة رغم ابتسامتها وشخصية قوية رغم اللطف الذي كانت تحادثني به!
تبسمت وانا ارد بخفوت:
- اجل. أعساكِ تعرفين مكان قاعتنا لو سمحتِ؟
تبسمت وتقدمتني قائلة:
- اتبعيني اولاً لتحصلي على معداتك!

من ذلك الرداء الابيض الملقى على يدها والكتب التي تحملهم بذات اليد كان واضحاً انها تتقدمني بعدة مراحل. لذلك تبعتها بصمت وبخطوات سريعة تتشابه مع خطواتها وخطوات المحيطين!

وصلنا نحو مخزن التجهيزات فطلبت مني انتظارها وتقدمت نحو الداخل وتحدثت الى المسؤول عن المخزن واشارت نحوي وهي تقول شيء ما ثم قدمت هويتها ليومئ فوراً ومن غير اي تردد او اعتراض ذهب نحو الداخل اكثر قليلاً وعاد لها برداء ابيض فوقه سماعات فتبسمت له بامتنان وهي تتقدم نحوي. قدمت لي المعدات وقالت:
- تفضلي. انهم لكِ!
استلمتهم منها وانا اقول بأستغراب:.

- ظننت ان اشياء كهذه نحن من نشتريها. او استلمها على الاقل حين حصولي على الهوية الجامعية!
غمزت لي وهي تجيب:
- انتِ طالبة مميزة وسنعتني بكِ!
نظرت لها بعدم فهم لغرابة اطوارها وقلت باستغراب اشد:
- وماالذي يجعلني مميزة عن غيري يا ترى؟
- صباح الخير بلوجين الجميلة!
جفلت وانا استدير نحو تلك النبرة الكريهة بالنسبة لي وقلت بملامح اقرب الى الاشمئزاز منها الى الامتعاض:
- كامل؟.

تجاهلني بادئ الامر ونظر نحو تلك التي ترافقني وقال برسمية:
- شكراً على مساعدتكِ شيماء بأمكانكِ الذهاب نحو قاعتك!
لتومئ تلك المدعوة شيماء وهي تقول بأحترام:
- حسناً. عن اذنك سيدي!
راقبت رحيلها ومرورها من جانب اولئك الثلاث رجال القادمين برفقة كامل من اجل الحماية لتلقي عليهم تحية سريعة تعبر عن معرفة سابقة قبل ان اعيد ابصاري نحو كامل واقول بأستهجان:
- من تلك؟

- لا تغاري عزيزتي انها مجرد متطوعة لدنيا في الحزب!
اغار؟ يااللهي! اوشك على التقيء!
زفرت بضيق وقلت بنفور واضح:
- ليست غيرة. انه امتعاض لأنك وضعت من يراقبني!
- هي لا تراقبكِ. هي طالبة هنا فكلفتها بحمايتكِ وتلبية طلباتك!
- لا داعي لكل هذا فلست طفلة!
وحاولت تخطيه والمرور فأمسكني من ساعدي واعادني امامه فسحبت يدي من يده بتقزز وهتفت به بسخط:
- كيف تجرؤ على لمسي؟ هل فقدت عقلك؟

فقال بينما يجحظ بعينه بغضب بشكل ارعبني بالفعل:
- انتبهي لألفاظكِ معي!
فكتمت كل ما حاولت قوله بعدها واكتفيت بالصمت فوراً. تقدم نحوي بجرأة اكبر ووضع كلتا يداه على وجنتي فأقشعر بدني بكره فوراً بينما يقول وكأنه يحادث طفلة:
- لا اريدك ان تفقديني اعصابي عزيزتي كي لا أؤذيكِ او اجرح مشاعركِ. اتفقنا حلوتي؟
وقعت دمعتي دون ان املك السيطرة بحبسها اكثر وقلت برجاء:
- كامل اتوسل اليك ان تبعد يداك عني!

فسحب يداه فوراً بينما اشحت وجهي جانباً امسح بقية دموعي التي لا تكف عن الهطول بينما يقول هو:
- حسناً حسناً سأبتعد. تماسكي فقط لوجين الجميلة فلا نريد لعيناكِ ان تتورم في يومكِ الدراسي الاول!
اخذت نفساً عميقاً وكفكفت كل دموعي ونظرت له احاول ادعاء الثبات بينما اقول:
- ماالذي تريده الان كامل؟
تبسم ابتسامة جانبية وقال بينما يستند بيديه على حزامه المثقل بالسلاح ومخازن الرصاص:.

- اتيت لتنبيهكِ ان لدي عيون في كل مكان. لذلك ان حاولتِ الاقتراب من احد الشباب ومازحته او خضتِ معه الاحاديث او سمحتِ له بالتحدث مطولاً اليكِ فسأجعلكِ تندمين وسأجعل ذكره من الماضي بورقة بيضاء لن اخسر فيها سوى بضع سنتيمترات من مخزون قلمي الحبر!
ثم اردف وهو يضرب ضربتين متتاليتين بخفة فوق خدي:
- ستجديني انتظرك عند باب الخروج بعد انتهاء محاضراتكِ لأصطحبكِ للمنزل فلا تتأخري!

وتركني قبل ان يسمع اجابتني او اعتراضي ورحل، رحل ليترك تلك النار بداخلي من غير انطفاء. اسرعت بخطاي نحو الحمامات التي عرفت مكانها بصعوبة وبعد وصف طويل من الطلبة. دخلت احداهن واغلقت الباب خلفي واجهشت ببكاء قوي احاول كتم صوته بيدي كي لا افتضح وكأني ارتكبت جريمة. جلست فوق الارض من غير ان ابالي بنظافتها من عدمها ولملمت جسدي بعضه الى بعض وانا امسح وجهي بهستيريا من لمساته المقرفة التي لا ازال اشعر بملمسها وكأنها لا تزال فوق بشرتي!

تورمت عيناي. لوث الكحل وجهي. تهيجت وجنتاي من ملوحة دموعي. وكل هذا ولم اشعر براحة بعد!
خرجت بعد 15 دقيقة تقريباً وغسلت وجهي بالماء كي ازيل عنه القليل من اثار بكائي وارتديت نظارتي الطبية التي اشتريتها مؤخراً واخفيت نسبياً عيناي خلفها، وها هو يومي الذي ظننته اروع ما يكون تحول للسيء فجأة بسبب كامل، ولم اظن ان القادم اسوأ!

انهيت محاضراتي -ورغم مللها- ولكن تمنيت لو انها تستمر اكثر. فأنا اعلم ان ذلك الوغد ينتظرني في الخارج! وبسببب العيون التي تراقبني والتي لم اعرف من له ومن عليه فأني اضطررت لتلافي المشاكل وخرجت فور انتهائي نحوه!

كان هناك احد حراسه يجلس في المقدمة قد نزل فور رؤيته لي وفتح لي الباب وعاد هو نحو السيارة الاخرى ليقودها وبقينا انا وكامل وحدنا في السيارة، كل ما شعرت به في لحظتها اني مجرد وضيعة. تلك الورقة جعلتني كذلك. خوفي من سجونهم جعلني كذلك، ومهما كانت الاسباب فهذا لن يمنع كرهي لنفسي وانا اجلس على مضض في الكرسي الامامي وكامل يقود السيارة وحرسه يتبعونا بواحدة اخرى خلفنا!

استمر طوال الطريق يثرثر ويثرثر من دون ان انتبه لحرف واحد مما قال. كنت اغمض عيناي بسخط للحظة او افتحهما اراقب الطريق بأمتعاض بينما اعصر حزام حقيبتي بقوة بين يداي افرغ له شحنات غضبي بدل ان افرغها بوجه كامل واندم طوال حياتي. ان بقت لي حياة!

كان دخولي لشارعنا اشبه بدخولي باب الجنة. لم اظن ولو للحظة ان هذا النعيم الذي استشعرته سيتحول لجحيم يقلب كل شيء للأسوأ، ادركت ذلك وانا انزل من السيارة واشاهد رسلان يقف عند عتبة بابنا يتحدث لأمي...
نظراتي كانت اكثر من مصدومة. لقد كانت مرعوبة! ولن ابالغ ان قلت ان نبضات قلبي تتشابه مع تلك الليلة التي جلب فيها كامل التقرير لمنزلنا!

لم اتمكن من ازاحة عيناي الخائفة من عيناه الجاحظة بصدمة اتجاهي وانا انزل من سيارة كامل الذي نزل ايضاً فور وقوفنا واستدار حول السيارة ووقف بجانبي بينما انا متسمرة في مكاني احدق بتلك العيون الملتهبة فقط!
- مرحباً سيدة سهير!
قالها كامل بنبرته المصطنعة لينتشل امي من ذهولها وهي تنظر لنا فقالت بتلعثم:
- اهلاً. اهلاً بك كامل!
- اتمنى اني لم اتأخر بتوصيل لوجين!

نظرت امي لي بعدم فهم وكأنها تسألني ولما يوصلكِ هو؟ وكيف سأجيبها وانا ذاتاً لا اعرف الجواب الصحيح وراء غايته. لذلك ببساطة تجاهلت امي واستمررت بالتحديق برسلان بنظرات اقرب الى الرجاء!

وفجأة مد كامل يده ووضعها على كتفي من الخلف ليقشعر كل جسدي من جديد بتقزز ولكن رغم ذلك لم اتحرك وابعده. اغمضت عيناي بأكراه لأتحمل ما يحصل. ان بينت غضبي من تصرفه فلن يتردد رسلان للحظة بالانقضاض عليه ولكمه. وان فعل فستكون المرة الاخيرة التي ارى فيها رسلان! لذلك ببساطة سكتُ وتحملت على مضض. فليكرهني. فليراني خائنة. ولكن على الاقل سأحميه ولن افقده. ليظن اني انا من اسمح لكامل بالتمادي بهذا الشكل ليفرغ غضبه بي وليس بكامل، وبالفعل نجحت!

- ماالذي يفعله ابن البقال هنا؟
قالها كامل بأستهزاء لأفتح عيناي بنظرات متوسلة نحو رسلان ان لا يتهور، ولكنه ذاتاً لم يكن ينظر لي. لقد كان يحدق بكامل بكره وغيض لو ان لهما طاقة لصهرا جسد كامل.
نزلت امي على العتبة وامسكت رسلان من عضده لتشد انتباهه بعيداً عن كامل قبل ان يتهور وقالت له:
- اذهب الان عزيزي رسلان وساخبر عادل بالامر حين عودته!

ولما تسمر رسلان بمكانه وادركت امي ما ينوي عليه دفعته من يده وهي تكمل بنبرة اقرب الى التوسل:
- اذهب عزيزي الان ارجوك!

فرمقني ذلك البركان الصامت بنظرة نارية اخيرة ورحل تحت نظرات وابتسامات كامل الاستفزازية وسار خطوات سريعة وكأنه يجبر نفسه على الابتعاد. وانا اجبر نفسي على التسمر بمكاني من دون ان اتحرك خلفه. سيطرت على نفسي قدر المستطاع لحين رحيل كامل. القى تحية الوداع دون ان امتلك الحروف لأرد. لا شيء مترابط قد خرج من فمي، وكأني فقدت ال28 حرفاً فجأة من قاموس لغاتي!

رحل كامل وابتعد لأبتعد انا ايضاً دون ان ابالي بيدا امي التي تحاول ردعي وتفشل!
كنت ابدو كالمجنونة وانا اهرول بأتجاه بقالتهم وابكي. اريد ان اصل بشدة!

حركت عيناي بلهفة وكانت الساحة خالية. الصناديق حيث هم ولكن من غير صاحبهم. وفجأة لمحت حركة في الغرفة الداخلية. ومن دون تفكير اخر استدرت من خلف طاولة البيع واسرعت الى الداخل. وصلت الى الداخل لألتقي بذلك الاسد الشرس يحطم كل شيء حوله. لا انكر خوفي منه لحظتها. ولكن خوفي لم يمنعني من التقدم!
- رسلان؟

قلتها بصوت مرتجف ما بين خوف وبكاء فالتفت إلى من غير نظرة رحيمة وبقي يركز عيناه داخل عيناي يكاد يخترق روحي ويحرقها ولكنه بقي ثابتاً من غير تحرك وصدره فقط من يرتفع وينخفض بجنون يكاد يسحب كل الهواء المتواجد حولنا!
تقدمت اليه وقلت بينما يداي ترتعش:
- رسلان. اقسم بذات الله اني.
وقبل ان اكمل انقض على يدي وقبض عليها بقوة وصرخ بي:
- لا اريد سماع صوتكِ...

ثم جعل نظراته اكثر حدة وكأنه يهيأ نفسه للتالي. وكأنه يهيأ نفسه لقتلي من غير رحمة:
- لم اكن اظنكِ رخيصة بهذا الشكل!
وهنا توقف الزمن بعد هذه الكلمة، هنا احسست اني فقدت جزء من حياتي لن اتذكره في المستقبل. بقيت انظر داخل تلك العيون القاسية من غير ان تكسره دموعي وصدمتي!
هزني مرة اخرى بعنف من يدي ليعيدني لوعي وهو يصرخ بي:
- انطقي! برري لي ما رأيته بأم عيناي؟ هل ستنكرين؟ هل ستقولين اني فهمتك بشكل خاطئ؟

تقوست شفتاي نحو الاسفل وبكيت بصمت بينما انطق من بين شهقاتي:
- كنت مضطرة!
فهزني بعنف اكبر كاد ان يقتلع يدي وهو يكمل صراخه:
- كنتِ مضطرة لأي شيء بالضبط؟ ان تجلسي معه في السيارة وبالمقدمة ايضاً كالمنحطات؟ لماذا؟ كنتِ خائفة منه بسبب منصبه؟ ويا ترى كم واحد خفتِ منه وارخصتي نفسكِ بهذا الشكل -وربما اكثر- من اجله؟
فسحبت يدي ودفعته من صدره وانا ابادله صراخه:
- كيف تجرؤ على قول ذلك؟

ليعود مرة اخرى ليقبض على يدي بقسوة اشد وهو يقول بقهر رغم صوته الذي اصم لي مسامعي وكأنه يحاول ان يضيع عبرة بكائه بصوته العالي:
- أأنا كيف اجرؤ؟ كيف سمحتِ لنفسكِ؟ بل وذاتاً من انتِ؟
ثم اشار الى نفسه بينما يضرب صدره بقوة:
- لقد ربيتك منذ نعومة اظفارك. انا من كنت احدد لكِ طبيعة ملابسكِ وعلاقاتك بمن حولكِ. لقد راقبتكِ بكل مشاويرك وحافظت عليكِ، منذ متى وانتِ تخرجين بمشواير مع ضباط سفلة؟

وضعت اصابع كلتا يداي على فمي اكتم صوت بكائي العالي لااعرف بماذا ابرر بل واخاف من التبرير. ان ادرك رسلان امر تلك الورقة عند كامل فلن يتردد لحظة في التهور والاسراع نحو كامل ليهدم كل شيء فوق رأسه. ليخفي كامل اثره بعد ذلك. ليسلبه مني، لذلك وببساطة انا تحملت سيل الاتهامات والشتائم. تحملت خسارته واستدرت راحلة تاركة خلفي مجنون قلب الدنيا رأساً على عقب وهدم كل شيء موجود امامه!

عدت ادراجي غير مبالية بمن حولي ونظراتهم المذهولة الى هيئتي. تملكتني رغبة الوصول إلى المنزل كتلك الرغبة التي سيطرت على حين احضرت ورقة قبولي في الطبية. عدا ان هذه المرة جسدي الهزيل لم يتمكن من الركض!

دخلت الى المنزل فأستقبلتني امي بنظرات متوجسة وعلى ما يبدو كانت بمفردها في المنزل. وهذه هي المرة الاولى التي كان الحظ فيها بجانبي وجعلني اصل قبل ابي. وجعل امي تستقبلني بين يداها وتطلب مني ان لا اكتم مشاعري، حينها انطلقت كل صراختي وبأعلى صوتي ايضاً داخل احضان امي. جلست فوق الارض لأصرخ وابكي واضرب صدري بقوة وحرقة وامي تضمني اليها فقط لا تعلم ماالذي عليها فعله. فلا احد منا يعرف!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة