رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث
بليد المشاعر
(رسلان)
ليحفظ الله القائد. لينصر الرب الحزب. ارواحنا لكم. دمائنا تفديكم...
ان كنت تعيش في العراق في حكم صدام حسين فعليك ان تحفظ هذه الكلمات جيداً منذ صغرك، فلتنسى الكلمات الساذجة مثل جميعنا فداء للوطن، القائد هو الوطن. هو الشعب. هو الملك. لا ولاء لسواه ولا حب لغيره، هل نحن عبيد؟ لا. اسوأ من ذلك، بل وحتى لسنا آلات، ما نعايشه لايوجد مسمى في قاموس الكلمات يطابقه، كل ماعلينا فعله هو العمل وابقاء افواهنا مغلقة وتمجيد النظام الفاسد من دون اعتراض، وعندما اقول من دون اعتراض فلا اعني بذلك ثورة. هذا شيء لن نجرؤ بسهولة على فعله. بل لايجوز الاعتراض واستنكار مايحدث حتى بداخل عقولنا وباطن تفكيرنا، فأنت مجبور ان تقتنع بالنظام الذي تعايشه حتى مع نفسك، وبالفعل كنا راضين بأجبار من دون ان نشعر. فالخوف قتل كل ما يسبب لنا المشاعر، فما نحن مؤمنين به منذ صغرنا ان للجدران اذنين ستوصل همسنا للحكومة، وان عرفت الحكومة بسخطك عليها فالثمن الذي ستدفعه زهيد جداً بالنسبة لهم وسينفذوه من دون تردد، انها رقبتك عزيزي! هذا ان رحموك سيقطعوها لك فحسب من دون الترحيب بك لعدة ايام او اشهر في سجونهم العفنة!
كانت عيناي تراقب تلك التي تسبب لي هوس مدمن بها دون ان املك القدرة على التعافي، تلك التي تطفئ كل نيران غضبي بكلمة واحدة منها. تتسألون لما انا غاضب؟ حسناً لسببين. الاول اظنكم استنتجتموه وهو ركضها الابله الذي زجرتها عليه في الصباح وعادت لتكرره الان. ولكن هذا الغضب تلاشى فور ابطاء سرعتها. وعاد غضب اخر يتولد بداخلي ما ان ذكرت اسم ابا عمار من بين شفتيها. فبالنسبة لي عائلة ابا عمار لاتعني سوى شخص واحد، يزن!
حسناً لابد انكم تتسألون لما على ان اكرهه بهذا الشكل. رغم اني اجد كلمة اكرهه بسيطة جداً مقارنة بشعوري الفعلي اتجاهه ولكن لنكتفي ب اكرهه الان، فيزن اللطيف هذا ترك عباد الله اجمعين واختارني من بين الكل ليحدثني عن مشاعر الحب والاعجاب التي يكنها من اجل لوجين، بالله عليكم هل يمكنكم فقط ان تتخيلو ردة فعلي؟ حسناً اظن ان جوابي ورأي في هذا الامر قد وصل ليزن بصورة واضحة ومباشرة مع تلك اللكمة العنيفة التي وجهتها له فوق خده، من دون تعليق. من دون نقاش. من دون اي مقدمات، انا فقط وهبته لكمة قاسية وهددته ان يبتعد عنها وألا نال الكثير منها، ومن الجيد ان يزن لم يكن ذلك الملاكم البارع لذلك ضرباته لم تترك اثراً كالاثار التي تركتها في وجهه، ربما لهذا السبب تجنبني منذ ذلك اليوم ولم يجرؤ ويصارح لوجين بما اخبرني به، ربما خوفه على ملامح وجهه من التشوه بسبب لكماتي دفعه للصمت والتراجع!.
- يا احمق. ماالفاكهة التي لديكم؟
نظرت بحدة نحو تلك النبرة المتعجرفة التي تخاطبني، كامل محمود!
وبالطبع الزي الاخضر جعلني اكتم كلماتي الغاضبة من الانطلاق وتحملت الاهانة، فحماقتي في الرد لن تؤثر بشكل سلبي على فقط بل وحتى اسرتي ستتأثر بذلك، واظنكم تعرفون كم من الصعب على الرجل كتم غيضه ان تم التقليل من شأنه، ولكن في العراق علينا ذلك مع اصحاب الزي الاخضر الذي يمثلون صدام حسين. واي كلمة او تصرف لايعجبهم منا فالسجون مستعدة للترحيب بنا من دون حتى ان يتم عرضنا على محكمة.
اخذت نفساً عميقاً اثلج به صدري الملتهب وانا اقول بنبرة حاولت قدر الامكان ابقائها هادئة واعتيادية:
- اصناف الفاكهة معروضة امامك سيدي ويمكنك ان تراها!
وددت حقاً ان اكمل يا غبي ولكن ابتلعتها بأجبار كي لااتسبب بمشكلة نحن بغنى عنها...
مد كامل يده ليأخذ تفاحة من السلة وقضمها بشراهة وقال بتكبر:
- ليست سيئة جداً!
لم اعلق بشيء واكتفيت بتقليب بصري بملل عليه وعلى الحاشية التي تقف خلفه الذين يزيفون كلماتهم ويتملقون له فقط كي ينالو رضاه، عدد السيارات التي جاءت برفقته والحراس ستكون وفد رئيس في دولة اخرى ولكنها هنا تعود لنقيب في الجيش. هذه كانت رتبته!
- حضر لي من كل نوع كيلو!
اطلقت تنهيدة تضايق من دون ان اضيف اي كلمة على حديثه فتقدم لي بتبختر وهو يقول:
- ما بالك تزفر بضيق كالفتيات المتذمرات يا جبان؟
نظرت له بحدة وشيء ما بدء يغلي بداخلي. ولكن اشكر الرب ان عقلي بقى حيث هو ولم يتزحزح عن مكانه ويجعلني ازحزح تضاريس وجه هذا الاحمق ايضاً لأفقد رأسي بعدها بكل بسهولة!
- يا اهلاً وسهلاً بك سيدي يا اهلاً وسهلاً!
خطوات ابي المسرعة إلى ولكزته تلك على مرفقي جعلتني ابتلع كلماتي الساذجة واعود لتحضير الفاكهة من اجل هذا المعتوه، فبالتأكيد ابي ادرك تهوري المعتاد وخشي ان اقع في مشكلة معهم. لذلك ترك مجلسه واسرع الي!
سأله ذلك النقيب بأقتضاب بينما ينظر لي بأستياء: - مابه هذا المعتوه؟
سبحان الله! هل سمعني اصفه بها؟ يا ليته فعل!
- اعتذر لك بالنيابة عن ابني الوحيد يا سيدي!
- فليضبط ابنك الوحيد تصرفاته!
وضغط على حروف ابنك الوحيد ليوصل تهديد غير مباشر لنا. مع انه كان بأمكانه ايصاله بشكل مباشر ولن يحاسبه احد ولكنهم يحبون استخدام حركات الافلام قليلاً! قد يبدو تصرفي اعتياداً معه ولن يدعو للغضب. حسناً. هذا الكلام في دولة اخرى! اما في دولتنا الموقرة اذا لم نتملق لهم ونبين مدى خوفنا منهم في صوتنا وتصرفاتنا المرتبكة معهم سيعتبروه اهانة، لذلك تصرفي وبرودي في التعامل معهم ربما سيوقعني في مشكلة، او بالاصح كاد ان يوقعني بمشكلة لاسيما وانا انظر له واقول:.
- وما بها تصرفاتي؟
تهور. أليس كذلك؟ حسناً انا امقته، لماذا؟ ستفهمون لاحقاً!
لكزني ابي بصورة اشد وهو يقول له والقلق واضح في نبرته:
- اقدم لك اعتذاراتي سيدي. انت تعرفه انه لايقصد ما يفعل!
حاولت التحدث ولكن نبرة اخرى قطعت لي حروفي:
- السلام عليكم!
نظرت نحو العم عادل فرمقني بنظرة حادة يطلب مني الصمت وعدم التحامق، فسكت فوراً واشحت وجهي بضيق جانباً فألتفت كامل بأبتسامة - مبالغ فيها- نحو العم عادل وقال بنبرة حاول جعلها محترمة خالية من اي تبختر:
- اهلاً وسهلاً سيد عادل كيف حالك؟
اومئ العم عادل له بأقتضاب:
- بخير بخير شكراً لك!
ثم نظر نحوي وهو يقول بنبرة اكثر اريحية:
- بني رسلان نسيت ان اوصيك، احضر لنا لو سمحت ثلاثة من صناديق الفاكهة لعشاء اليوم.!
- حاضر عم عادل!
- ولا تنسى ان تحضرو يا ايمن!
فقال ابي بأبتسامة:
- بالتأكيد سنفعل يا عادل!
فألتف كامل ليسأله بفضول:
- لابد ان هناك وليمة!
ليجيبه العم عادل بنفس البرود:
- اجل. دعوت لها المقربين منا بمناسبة قبول لوجين في الطبية!
ليبتسم ذلك المعتوه بطريقة جعلتني اود الانقضاض عليه وقتله وهو يقول له:
- اوه! لقد تم قبولها؟ رائعة هذه ال لوجين، ان اصرت على شيء لابد ان تحققه!
تبسم العم عادل بتكلف ومجاملة من دون ان يبدي اي تعليق ليكمل ذلك المستفز ونظراتي تراقبه بأستياء:
- على الحضور والمباركة لها!
وهنا عصرت يدي بقوة كدت ان امزق الكيس المستكين بين اصابعي لأحافظ -بالكاد- على تماسك اعصابي، فهذا الحقير مكروه من قبل الجميع، سواء مني او من العم عادل بل وحتى من لوجين. ولكن كرهها له ليس سبباً كافياً ليقمع غيرتي، فالمعتوه هذا قد تقدم لخطبتها قبل شهرين وتم الرفض من قبل الجميع سواء منها او من افراد عائلتها. ولكنه بقي مصراً على التملق وانتظار تخرجها من الجامعة ولن يتبقى لها او لأسرتها اي عذر كما تعذرو الان بالدراسة...
رغم انه في الثلاثين فقط من عمره ألا انه حصل على هذه الرتبة العالية، في العراق لن تحصل على ترقية عن طريق الدراسات وسنين الخدمة، بل بعدد تقارير الوشاية التي تقدمها للرئيس ضد الشعب، هذا المنحط قدم تلك التقارير ليتسبب في مقتل ما يزيد عن مئة رجل بريء ومظلوم. كل من ماتو لم يتم اثبات ادانتهم. ولكن هذا ليس سبباً للأفراج عنهم، سيقومون بالتحقيق معهم. وعندما اقول تحقيق فأنا اعني تعذيب. وبالتالي سنحصل على خيارين نتيجتهما واحدة. اما يعترفون بجرائم لم يرتكبوها فقط كي يتخلصو من التعذيب او يصرو على برائتهم ويستمر التعذيب الى ان يلفظو انفاسهم الاخيرة. وبالحالتين النتيجة هي الموت! هل عرفتم الان لما اكرهه بهذا الشكل؟ بل وحتى اكثر من ذلك الاحمق يزن، فعلى الاقل يزن لايملك شخصيته الاجرامية!
مع جملة كامل الاخيرة رمقني العم عادل بنظرة سريعة وكأنه لايعرف كيفية الخروج من هذا المأزق ويحاول الاستنجاد بمن حوله فقال ابي فوراً وهو يأخذ الاكياس من يدي ويقدمها لكامل:
- تفضل سيدي!
فنظر كامل بطرف عينه نحو احد حراسه فأسرع لأخذ الاكياس فأستغل ابي الفرصة ليقول للعم عادل:
- هل ستتصل بأبو عمار ام ماذا ياعادل؟
نظر العم عادل لوهلة بعينا ابي وادرك انه مجرد عذر ليتجنب التحدث مع كامل فقال فوراً:.
- اجل اجل. من الجيد انك ذكرتني!
فأصطحبه ابي لداخل المحل وبقيت انا وكامل فقط. راقب رحيلهم بصمت وما ان ابتعدو نظر نحوي وقال:
- الشيء الوحيد الذي يجعلني لا اكتب بك تقرير هو علاقة عادل بكم!
ثم رفع زاوية فمه بأبتسامة حقيرة وهو يكمل:
- وكما تعرف، لا اريد اثارة سخط عادل مني في هذه الفترة!
ثم رفع اصبعه امام وجهي مهدداً:
- وركز جيداً بكلمة هذه الفترة يا قذر! فبعد ان تصبح لوجين لي لن اكون مضطر للتملق لأحد!
تبسمت شبه ابتسامة وانا اقول:
- أن اصبحت!
- ستصبح. وسترى وقتها ماذا سأفعل!
ثم تركني ورحل هو ورجاله الحمقى وبدأت ابتسامتي تتلاشى تدريجياً، ماذا ان؟ هل سأفقدها حقاً؟ اتمنى بالفعل ان لاتتخرج ابداً كي لايعيد هذا المعتوه فتح موضوع خطوبتها، هذا ان انتظر التخرج من الاساس كي يعيد فتح الموضوع!
(لوجين)
رغم اني عدت اسير بهدوء ولكني احسست بالارض تستنجد من تحتي وتطالبني بالرفق بها من خطواتي الغاضبة التي اشعر وكأنها تخلف ورائها حفرة من شدة غيضي وانا ادوسها!
لما انا ضعيفة هكذا امامه؟ لما كل مرة اردت وضع حد لهذه المهزلة المستمرة منذ سنين اجد نفسي ابوء بفشل ذريع؟ كلماتي تخذلني وشجاعتي تتهرب مني ملتاذة بخضوعي وطاعتي له لتبرزهما لساحة القتال بدلاً عنها، لما اصبح ساذجة بهذا الشكل امامه؟ انا لااعلم، انا بالفعل لااعلم، لم تكن تصعب على اي مسألة رياضية ولا قانوناً فيزيائياً ولا تجربة كيميائية، ولكنه المستحيل الوحيد الذي واجهني في حياتي كلها، انسان بهذا التركيب المعقد. كيف بأمكاني الدخول الى متاهاته من دون الضياع؟ بل انا تائهة من الاساس قبل ان ادخل اسواره المنيعة التي يحكم دائماً اغلاقها بوجهي بعنف، فكيف بي اذا دخلت؟ يا ليتني اتخلص من عذابه هذا، عذاب اهتمامي به وجفائه لي بالمقابل!
دخلت المنزل. بقدماي. بيداي. برأسي وكامل جسد. عدا عقلي الذي اصر البقاء هناك بجانب بليد المشاعر.
عدت الى ماكنت افعله قبل مغادرتي المنزل. لالا. لأكون اكثر دقة، عاد جسدي بشكل تلقائي الى ما كان يفعله من دون اي ايعازات يرسلها له عقلي الاحمق الذي لايزال يصر على مغادرتي والبقاء قربه، قد يخيل للناظر اني كنت اقوم بالتطريز، ولكن كل ماكنت افعله هو ادخال الابرة من جانب واخراجها من الجانب الاخر من دون اي وعي. التطريز كان غطاء وهمي فقط لشرودي!
والشكر للرب ان شرود ذهني واستيائي لم يستمر طويلاً بعد انسياب نبرتها المميزة الى مسامعي لتجبر عقلي بأستعادة وعيه لما حوله. رنا!
زينت ابتسامة عريضة محياي وانا ارمي ما في يداي جانباً وانهض بسرعة للقائها.
خرجت من المطبخ وصحت بصوت منغم اعتدنا على مناداة بعضنا به بنفس الطريقة:
- رنا!
التفتت إلى لتقول بمزاح:
- من بين كل الاصوات المزعجة فصوتك هو الاكثر تميزاً يا فتاة!
عدلت نظارة وهمية وقلت بغرور مصطنع:.
- بالله عليكِ ألا ينفع ان اصبح مطربة؟
فقالت بفزع مصطنع:
- ارجوكِ لاتفكري بالامر! قد يتحول الامر برأسك الى فكرة جدية وتفسدين لنا تراثنا الغنائي!
ضحكت وضربتها بخفة فوق كتفها. وبعد هذه المقابلة الغريبة تذكرنا فقط ان نلقي التحية وتهنئة بعضنا بمناسبة قبولنا في الجامعات.
وبالتأكيد انهينا الشكل الرسمي من الترحيب والتهنئة وصعدنا نحو غرفتي لأبدء سرد احداث يومي المشوق -حسب رأي- لرنا دون ان اغفل عن ابسط التفاصيل، وعندما اقول ابسط التفاصيل فأنا اقصد المواضيع التي تخص رسلان بكل تأكيد لاسيما فقرة مثل الخلق تلك التي عشقتها من دون سبب!
وما كان من رنا بعد ان ختمت حديثي سوى ان تضع ساق فوق اخرى وشبكت اصبعها امام ركبتيها وابتسمت بمكر وهي ترمقني بزاوية عينيها بتلك النظرة الغريبة التي اعرفها جيداً، فهي ترمقني بها كلما سردت لها مواقف مشابهة حصلت لي مع رسلان، رفعت رأسها نحو السقف وهي تهز رأسها بتفهم مدعية التفكير وتمتمت بصوت مسموع:
- يا ترى ان ذهبت الان راكضة ورآني. هل سيزجرني ايضاً؟ وهل ستشتعل براكين غضبه بهذا الشكل علي؟
قطبت حاجباي بعدم فهم وانا اسألها:
- ماذا تعنين؟
رفعت كتفيها بعدم مبالاة وهي تقول:
- ابداً، لاشيء مهم!
ثم كتمت ابتسامتها بصعوبة وهي تكمل:
- ينتابني الفضول فقط لأعرف سر اهتمام رسلان الغريب، والشديد! بكِ وحدكِ دوناً عن الجميع!
لااعرف بالضبط الالوان التي انتجها وجهي بتلك اللحظة ولكنها كانت الالوان الكافية التي دفعت رنا للضحك وهي تقول:
- ما هذا؟ من هذه الخجولة التي تلبستكِ فجأة؟
فرميتها بالوسادة التي تجاورني وقلت في محاولة لصبغ صوتي المرتبك ببعض التماسك والجدية:
- رجاءاً ارحمينا من تفسيراتكِ الغبية هذه، انتِ تعرفين كم رسلان شخص ملتزم ومهذب ولايحب اشياء كهذه!
- اجل لايحبها، معكِ فقط!
فجأة اوقفتني هذه الجملة عن كل شيء، عن التفكير. عن الكلام. وربما حتى عن التنفس!
تمتمت بخفوت وكأني احادث نفسي:
- عن. ماذا، ماذا تعنين؟
قالت رنا بنبرة جادة شدت كل انتباهي لها:.
- دعينا نوضح بعض الامور التي اجد انها واضحة من الاساس ولكنك حمقاء فقط!
رفعت اصبعها السبابة والوسطى امام وجهي واكملت:
- قبل يومين. يومين لااكثر. حضرتكِ كنتِ تغطين بنوم عميق وحضر ضيوف للخالةسهير فأضطررت الذهاب وحدي لمحل العم ايمن من اجل احضار بعض الفاكهة، وكعادة الخالة سهير ارادت مني الاسراع فركضت، وشاهدني رسلان اركض بأتجاههم. أتعلمين ما قال لي عندما وصلت؟
نظرت لها ببلاهة وعدم فهم فأكملت:.
- ضحك وقال ان دخلتي كلية الرياضة فستكوني العدائة رقم واحد من دون منافس، قال هذه بضحكة. من دون ان يغضب. ومن دون ان يطلب مني ان اسير مثل الخلق!
تركت كل ما كانت تلمح له وقلت بتفاجئ:
- رسلان يمازحكِ؟ بل وهل من الاساس يعرف كيفية المزاح؟ فما باله ذلك الاحمق حاد الطبع معي؟!
- ربما هو يتجنبك فقط!
وهنا توقفت للمرة الثانية وانا احدق فيها بعدم استيعاب فرفعت زاوية فمها بأبتسامة وهي تقول:.
- حسناً لنقل ان رسلان انسان متحفظ وكونه صديقنا منذ الطفولة فهو يعاملنا كأخواته ولايرضى لنا بالخطأ، لما اذاً لايحاسبني على مساحيق التجميل كما يحاسبكِ؟ مع انه انا التي لا املك اب وليس انتِ!
تأتأت شفتاي ببعض الحروف التي لااعرف معناها انا ايضاً فقطاعت لي رنا ارتباكي وهي تكمل:.
- هو ليس لديه مشكلة مع مساحيق التجميل، ألا معكِ! لا ينتقد احداهن ان لبست الضيق او القصير، ألا انتِ! ألا ترين الامر غريباً بعض الشيء يا انسة حمقاء؟
ازدردت ريقي بتوتر وانا اقول بشبه صوت:
- الى، ما تلمحين؟
تنهدت بقلة حيلة وهي تنهض وتقول:
- لافائدة منكِ، لا زلت لا اصدق ان حمقاء مثلك ستدخل الطبية، يا ويلي على ابناء بلدي الحبيب الذين سيموتون بين يديكِ!
ضحكت وانا اضربها بالوسادة الاخرى واقول:.
- دعينا لانستذكر حماقتك انسة رنا!
سحبتني من يدي وهي تجرني بأتجاه الباب قائلة:
- دعينا من حبيبك المعتوه الان ولننزل لنساعدهم بشيء بدل ان تقتلنا امي!
لم ارد على رنا بشيء وسرت بخضوع. فعقلي بقي متوقفاً مع كلمتها الوحيدة التي اصابت جهازي العصبي بالشلل. حبيبي المعتوه.
وانا انزل درجات السلم مع رنا تصارعت مع عقلي بقوة كي استخرج رسلان منه هذا اليوم على الاقل حتى اتمكن من التركيز مع من حولي، وصلت الى نهاية السلم وسمعت طرقات خفيفة فوق الباب ثم صوت ابي ينبعث من الصالة يخاطبني:
- لوجين عزيزتي افتحي الباب، لابد ان هذا رسلان قد احضر الفاكهة!
اللعنة، انتصر عقلي! التفت فوراً نحو رنا فرفعت يديها وكتفيها بمعنى لاعلاقة لي وعلى ان افتح الباب بمفردي، اظن ان مقولة الصديق وقت الضيق مقولة فاشلة جداً...
اخذت نفساً عميقاً، عميقاً جداً، وربما اكثر مما ينبغي حتى! وكالبلهاء تماماً انطلقت راكضة نحو الباب لأفتحه ليصلني صوت رنا من خلفي:
- لوجين، سيري مثل الخلق!
ثم اتبعت جملتها بضحكات مكتومة، يا لتلك المجنونة وتعليقاتها الساخرة والمضحكة! ولكني لن اهتم بالتعليقات الان، ما يهمني هو لهفتي لأفتح الباب وارى اكثر ملامح متيمة بها بجنون!
امسكت المقبض الحديدي بين يدي واستنشقت -مرة اخرى- اكبر كمية ممكنة من الهواء وطرحتها ببطئ شديد كي امد قدماي المرتجفة ببعض الطاقة وفتحت الباب، ويا للصدمة! لم يكن احداً امامي، او بالاصح على مستوى نظري، انزلت نظري اكثر. فأكثر، الى ان ارتطم بذلك الصغير الذي يرفع بصره إلى ببرائة ويقلب بين يديه انبوب معدني رفيع قد لف حوله خيط سميك وسألني بصوته الخجول:.
- خالة! طيارتي الورقية سقطت فوق سطح منزلكم. أيمكنني احضارها؟
رغبت بشدة الانقضاض على ذلك الصغير رامي وافتراسه لسببين، الاول. ناداني ب خالة. ثانياً. سلب انفاسي واشعرني بالتوتر وفي النهاية لم يكن رسلان بل كان هذا الساذج!.
أتذكرون ذلك المعلق الرياضي الذي لايفوت حدث ولا يغفل عن شيء؟ مع الاسف كان لايزال يقف خلفي! وبالتأكيد لن يترك هذه الحادثة المهمة من دون تعليق!
- حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا رامي! كدت ان تصيب الفتاة بنوبة قلبية!
قالت هذا ثم شرعت بضحك متواصل فنظرت نحوها بحنق واردت افتراسها هي الاخرى!
اعدت ابصاري نحو رامي وانا الوح له بعدم اهتمام:
- حسناً حسناً. ادخل لتحضرها!
فدخل فوراً راكضاً وكأنه يخشى ان اغير رأي وما ان مر بالقرب من رنا حتى اشارت بسبابتها اليه وهي تخاطبني قائلة:
- انظري! حتى رامي يركض ولاتوجد مشكلة. هناك الكثير من الخلق يركضون!
نظرت اليها بغيظ وانا اشرع بأغلاق الباب بينما اقول:
- بالله عليكِ اغلقي فمكِ لخمس دقائق فقط! بماذا ورطت نفسي حين اخبرتك!
- مرحباً!
مرحباً؟ وكأني لم اسمع تحية انما خبر موت احدهم. جفلت في مكاني فوراً من دون حراك وتيبس الدم في عروق جسدي عدا وجهي بالتأكيد الذي تصاعد كله اليه! استمررت بالتحديق داخل عينا رنا رغم ان عقلي كله مع ذلك الكيان الواقف خلفي على عتبة بابنا، لم يكن صوت انثى. ولم يكن صوت طفل. انه صوته هو، رسلان!
ازدردت ريقي بصعوبة بالغة واجبرت رأسي ان يستدير لأواجه تلك العيون الساحرة! استدرت اليه بكامل جسدي وعجز لساني حتى عن رد التحية. انحنى ليضع صناديق فاكهة عند العتبة واستقام بظهره قائلاً ببرود:
- انها الفاكهة التي طلبتموها!
- ش. شكراً!
- مرحبا رسلان!
هتفت رنا وهي تتقدم نحونا في محاولة منها لتخفيف الاجواء الكهرومغناطيسة التي اشتعلت حولنا فجأة. امال رسلان رأسه قليلاً كي يتمكن من رؤيتها فأنا لم اكن املك القدرة لأزحزح جسدي عن مكانه واجعله يراها، ابتسم وقال:
- اهلاً رنا. كيف حالكِ؟
لحظة لحظة، هل ابتسم؟ رسلان العبوس يبتسم؟ لما لاارى هذه الابتسامة معي؟ لماذا يمنحها للجميع عداي؟
وصلت رنا وحملت صناديق الفاكهة التي نسيت امرها وضربتني بمرفقها كي تنبهني من بلاهتي وقالت ممازحة:
- اعذرنا رسلان. ماكنة لوجين تتعطل في بعض الاحيان وتتجمد هكذا فجأة من دون حركة!
لم تنبهني من شرودي عبارة رنا، بل استعدت كامل رشدي مع تلك القهقهة التي انطلقت من بين حباله الصوتية، انتبهو معي لو سمحتم، ليست مجرد ابتسامة. وليست ضحكة صامتة، بل قهقهة! الامر بالنسبة لي كسقوط الثلج في شهر يوليو!
اخذت رنا صناديق الفاكهة ودخلت وانا لاازال متجمدة في مكاني كما وصفتني، من دون حركة. ومن دون ان انطق بأي شيء. شعرت بالدماء تتصاعد مجدداً نحو وجهي، ولكن هذه المرة دماء غضب وليس خجل، هل جربتم في يوم ان تبدو اهتمام شديد بشخص لا يبادلكم بعضه؟ حسناً. هذا هو شعوري الحالي مع رسلان بالضبط. وكأنه كان طوال الفترة المنصرمة يوصل لي رسائل غير مباشرة عن تجاهله لي! سبب كافي ليجعلني اغلي من العصبية! عصرت قبضتي بقوة كادت اظافري ان تنغرس فيها. وعندما رأيت ان الصمت طاغياً بيننا شعرت انه لافائدة من وقوفي الابله امامه ليمنحني التجاهل فقط. لذلك قررت اغلاق الباب، بل وددت صفعه بقوة في وجهه!
- لوجين!
صحيح. هذا ما اوقفني عن اكمال اغلاقه. صوته الدافئ. نبرته الهادئة التي لايشوبها الاستياء الذي يصر على مخاطبتي به دائماً. عدت مرة اخرى بكل سذاجة وفتحت الباب على اخره وقد تبددت كل الغيوم السوداء عن وجهي وقلت بلهفة:
- اجل؟
ليقول بتردد:
- م. مبروك. على قبولك في الطبية!
فجأة ارتخت كل اعصابي التي شنجها الغضب وعادت الدماء لتسري في عروقي التي يبست من التوتر وانفتحت قبضة يدي من تلقاء نفسها واشرق وجهي بأبتسامة عريضة. وكأنه الاول والوحيد من منحني التهنئة وليس وكأن خمسة قبله قد فعلو! رغم كونها قصيرة ومن دون حتى ابتسامة. ألا انه كان لها ايقاع خاص على اذني وقلبي!
فقلت بسعادة فشلت -ببراعة- في اخفائها:
- شكراً لك كثيراً!
اومئ لي بصمت ثم استدار يريد الرحيل. اخذت نفساً عميقاً واستجمعت كل الجرئة التي امتلكها في الوقت الحالي والذي لااعرف بالضبط من اين احضرتها وقلت له بصوت مرتجف ومرتبك:
- هل ستأتي الليلة؟
التفت رسلان إلى بعدم فهم فأكملت فوراً لأوضح:
- من اجل العشاء. ابي قال انه.
فقاطعني فوراً:
- اوه اجل. لقد دعانا!
لا اعلم لما قاطع جملتي قبل ان اكملها. هل يريد ان يختصر الكلام بيننا قدر المستطاع؟! ام انه لاحظ تلعثمي بالكلمات واراد ايجاد المفردات المناسبة لي؟
سألته وعيناي تترقبان اجابته التي كان متررداً كثيراً في الافصاح عنها:
- اذاً، ستأتي؟ اعني. تأتون؟
- امي وابي سيحضرون. اما انا فلم اقرر بعد!
- لماذا؟
- انا متعب واريد ان ارتاح!
ثم رمقني بنظرة اعرف معناها جيداً وهو يكمل:.
- وايضاً، هناك بعض الموجودين الذي لاارغب ان التقي بهم!
وبالتأكيد كان هنا يقصد يزن، فقلت له بأحباط:
- فقط من اجل ان لاترى يزن لن تحضر؟
ثم اكملت بتذمر:
- انا حتى لااعرف سبب خلافاتكما المستمرة!
استرق رسلان بضع ثواني من الزمن يحدق داخل عيناي بتردد وانفتحت شفتاه يود البوح بتلك الكلمات المكتومة ولكنه سرعان ما يعود لسجنها ويفضل الصمت، تصرف جعلني اشعر بالغباء والسذاجة وانا احاول اقناعه على المجيء بينما هو يرفض، وهنا قررت ان احافظ على فتات كرامتي التي انعدمت بوجوده من الاساس فكتفت يداي امام صدري وقلت بعدم اهتمام ادعيه امامه للمرة الاولى:
- على اية حال انا اسفة. انت محق!
- لا. ليس هذا ما.
وهنا انا من قاطعته هذه المرة:
- اظن ان عدم قدومك هو الحل الامثل!
من نظرة التعجب التي احتلت عيون رسلان عرفت ان ما كان متردد بأخباري به ليس مجيئه او عدمه. بل امر اخر لم استطع فهمه. ولكن حماقتي قررت ان تسترد كرامتي في هذه اللحظة بالذات! ولكني لم اتوقف. ولأول مرة في حياتي اردت ان اشعل النار في صدره كتلك التي يشعلها بي وقلت له بكبرياء:.
- انا واياك نلتقي بشكل يومي تقريباً. اما انا ويزن فأصبحنا لانلتقي ألا نادراً. وان حضرت الليلة بوجوده فستصبان اهتمامكما على اسماع احدكما الاخر كلمة لاذعة لينتهي الامر بنقاش حاد. لذلك اريد خوض حديث هادئ بعيداً عن توتر الاعصاب هذا!
فجأة رأيت وجه رسلان يتحول للون الاحمر وبرزت بعض حبيبات التعرق على وجهه. لابد ان دمائه تغلي كدمائي قبل ثواني! بقي يحدق داخل عيناي بغضب متزايد. ولكني لم اكتفي بهذا القدر. اردته ان يشتعل. ان يثور. اردت ان افتعل اي مشكلة معه فقد كي اخمد ذاك الغيظ الذي يتلبسني من بروده المستمر معي!
فقلت بثقة احاول اضفائها على نبرتي حين احادثه:
- وجود يزن سيكون كافياً. لذلك لابأس ان لم تستطع الحضور!
تقدم نحوي بخطوات ثقيلة قد اثقلها غضبه واستيائه ومد يده بأتجاهي. لأصدقكم القول ظننته سيصفعني او ما شابه لاسيما مع تلك الشرارات التي تنبعث من عينيه. فقدت السيطرة على قوتي وعدت بتوجس خطوتين نحو الخلف ويداي تعلنان استسلامهما وهما تتحران من عقدتهما امام صدري وتنسدلان بجانبي. ولكن يداه لم تتوقف واستمر بتقديمها نحوي. ولكن بدل الوصول إلى وصلت الى المقبض حيث كان من البداية وجهته الاصلية وقبض عليه بقوة وقام بأغلاق الباب بقسوة ليرتج زجاج النوافذ المجاورة وكأنها ارتعبت منه ايضاً، هذا الشاب مخيف حقاً عندما يغضب، اكاد اقسم انه لو لم يغلق الباب لقتلني، ربما لهذا السبب قرر اغلاقه ليكون حاجزاً يمنعه عني!