رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع
بعنوان ( شكرا )
منذ اخر جدال بينهما لم تره او حتى تحاول بل انها كانت تتجنب لقاءه بشكل متعمد حتى هو استشعر ذلك وكان على ما يبدو يحذو حذوها .. ثلاثة ايّام كاملة لم تلمح طيفه الا ظلا مبتعدا عندما تكون بشرفة غرفتها ويصادف خروجه من البيت الكبير فى نفس ذات اللحظة متخطيا البوابة الحديدية للخارج ...
نزلت الى قلب المندرة وبدأت في الاستعداد لقدوم النسوة .. استغرقت معظم النهار فى الفحوصات المختلفة .. كانت تشعر بإرهاق فوق العادة وها قد انتهت اخيرا من اخر مريضة كانت عندها وودعتها على الدرج الخارجي لحجرة الكشف مؤكدة عليها ببعض النصائح و ضرورة زيارتها في الوقت المحدد لها دون تأخير و ما ان غابت المرأة خلف الباب الخلفي للبيت الكبير الذى خصصه عفيف لدخولهن اليها حتى استدارت تعود ادراجها للداخل الا انها توقفت عندما سمعت صوت يسألها في فضول:- انتِ بجى الداكتورة اللي بيجولوا عليها..!؟..
استدارت لمصدر الصوت لتطالعها عيون قاتمة جعلتها تنتفض من كم الخبث الذي يحويها .. نظرات ذئبية حقيرة فصلتها وشعرت تحتها باكتساح حقير لأمنها وسلامتها حتى انها تراجعت للخلف رغبة في جعل مسافة كافية بينها وبين صاحب تلك النظرات المنفرة ..
لا تعرف من هذا و لا تريد ان تعرف كل ما كانت ترغب به في تلك اللحظة هو المضي في سلام بعيدة عن ذاك الشخص الغريب الغير مريح .. الا ان هتافا بصوت تعرفه جعلها تنتفض ناظرة اليه في سعادة لمجيئه .. فرحة عجيبة انتابتها عندما طالعها محياه بعد ايّام من القطيعة جعلتها تتعجب من أحوالها مؤخرا .. هتف عفيف يقطع شرودها بصوت جهوري في الضيف الواقف امام دلال والذي لم يتزحزح لمرأى عفيف:- اهلًا يا صفوت .. شرفت .. بس ايه!؟.. موعتلكش وانت داخل .. و لا كنك چيت من باب الحريم..!؟..
كادت دلال تنفجر ضاحكة شامتة في ذاك الاحمق المدعو صفوت من جراء سخرية عفيف اللاذعة والمبطنة بها تساؤلاته .. الا ان صفوت مررها بيسر عجيب ورد ببرود:- اني چيت ارحب بالداكتورة .. مش ضيفة عندينا برضك ..!؟.. و ف نفس الوجت أخدها عشان اختى خديچة تعبانة شوية .. ما انت عارف انها ف اول حملها وچوزها مسافر جلت اچي أرحب بالداكتورة وتتفضل عندينا شوية تشوف خديچة .. ربنا يجومها بالسلامة ..
هتف عفيف:- اللهم امين .. و توجه بحديثه لدلال هاتفا:- معرفتكيش يا داكتورة.. صفوت يبجى بن عمتي .. و
هتف صفوت مقاطعا:- و خطيب ناهد اخته عن جريب باذن الله..
زمجر عفيف بلهجة مخيفة أرعبتها شخصيا هاتفا و هو يجز على اسنانه:- لسه مبتناش فيه الحديت ده يا صفوت .. و جفل ع السيرة دى دلوجت ..
تنبهت لما قاله كلاهما وادركت ان عفيف يقع تحت ضغط هائل بفعل غياب اخته ناهد و التي يطلبها بن عمتها للزواج وهي بالفعل غير موجودة في النجع بل انها غير متاحة من الأساس وهي التي هربت مع أخيها ولا علم لأحد بموضعهما حتى اللحظة .. و كم اشفقت على عفيف .. فهو بقلب موقف لا يحسد عليه إطلاقا.. لذا هتفت بغية تلطيف الأجواء:- انا تحت امرك يا صفوت بيه انت و الهانم اختك .. قرايب عفيف بيه اكيد يهموني ..
ابتسم صفوت ابتسامة سمجة هاتفا بلهجة امرة:- طب ف انتظارك يا داكتورة عشان تاچى معاي ..
هتف عفيف في زمجرة و قد رأها تستدير مغادرة بهدف تنفيذ امر صفوت بتلقائية:- الداكتورة مبتروحش لحد بيته .. اللى عايزها ياجيها هنا ذي باجي الحريم ..
هتف صفوت بلهجة تموج غضبا:- ايوه صحيح .. هي مبتروحش الا عند مرت عفيرك وانت اللي توديها بنفسك كمان ..لكن بت عمتك .. لاااااه..
توقعت دلال مجزرة هاهنا بعد كلمات صفوت المسمومة تلك لكن عفيف خيب توقعاتها ليقول في هدوء قاتل:- الداكتورة مبتخرچش برة البيت الكبير الا لحالات الولادة بس ..غير كِده اللى عايزها ياچيها .. حتى و لو كان مين ..
ثم استدار الى دلال هاتفا في تبجيل مشيرا للداخل امرا:- اتفضلي يا داكتورة على چوه .. تعبناكِ النهاردة ..
كانت ترى في لهجته الآمرة ورغم تسلطها نوع من الأمان العجيب الذى ادهشها .. كيف يمكن ان يجتمع الأمان و التسلط في جملة مفيدة واحدة وتستقيم ..!؟.. لكن ها هو عفيف النعمانى يفعلها .. وها هي على الرغم من بغضها للتسلط و التجبر تجد نفسها مستمتعة به بشكل عجيب ادهشها وأخافها .. لكنها تقبلته على ايه حال وخاصة انه خلصها من ذاك الشخص المقيت المدعو صفوت والذي تتمنى ان لا تره مرة اخرى طوال مكوثها في النعمانية .. وللمرة الثانية تتعاطف مع ناهد والتي لو بقيت لأصبحت زوجة هذا الشخص اللزج والذي طلبها للزواج من عفيف .. و لا تعرف ما الحجة التي سيسوقها مستقبلا ليؤجل الحديث في هذا الامر!؟..
هتف موظف الاستقبال لنديم:- اتفضل يا فندم مفتاح الاوضة .. شرفتونا ..
اخذ نديم المفتاح وأشار لناهد لتتبعه في استسلام حتى باب الغرفة .. فتحها في هدوء و افسح لها الطريق لتمر أولا قبل ان يدلف اليها ويغلق الباب خلفه ..
وقف كل منهما يتطلع للغرفة بأثاثها القليل و ما تحويه الا التطلع الى رفيقه .. فقد جمعهما بيت واحد من قبل وكان لكل منهما غرفته الخاصة التي ينال فيها القسط الوافر من الحرية اما هنا .. في تلك الغرفة متوسطة الاتساع والتي لا تحوي الا اللازم و الضرورى فقط .. فكيف سيتسنى لهما ذلك!؟..
كان هو اول من قطع الصمت كعادتهما ليهتف في هدوء:- انا هنام هنا على الكنبة دي .. وانت هتخدي السرير أريح لك ..
هتفت معترضة لضيق الأريكة التي اتجه اليها بالفعل:- بس ..
أكد بلهجة صارمة:- مفيش بس ..
ثم استطرد بلهجة اقل صرامة تحمل في طياتها بعض الأسف:- معلش .. دي الاوضة اللى على قد إمكانياتنا دلوقتى لحد ما نشوف هنعمل ايه .. اهم حاجة ان ليها حمام خاص بيها عشان متخرجيش بره لأى سبب الا وانا معاكِ .. الفندق كويس .. بس مفيش حاجة مضمونة ..
أومأت برأسها في طاعة وهي تتجه في تثاقل الى طرف الفراش الأبعد عن الأريكة التي يحتلها و التى بالكاد تكفى جسده ..
جلست لا تعرف ما عليها فعله .. فهى تشعر انها تحلم حلم طويل لا يقظة منه .. بالاصح كابوس وجدت نفسها مغروسة فيه عنوة ولا يمكنها الاستيقاظ لإنهائه وعليها ان تعيش تفاصيله المحرجة و تتجرع المرارة والألم قطرة قطرة..
تنهدت في قلة حيلة و ألقت بنظرة سريعة على شريكها بالغرفة لتجده غارق في السكون لا يأتي بحركة فأعتقدت انه راح في النوم .. فرفعت قدميها و دستهما تحت غطاء الفراش الذى جذبته حتى عنقها لتتعلق عيناها بالسقف وهي تفكر في ما ألت اليه حياتها في تلك اللحظة بعد ان كانت الأميرة في ظل اخيها وعزه .. دمعت عيناها .. و أخيرا ألقت بنظرة على ذاك القابع هناك وهي تشعر بالاسف نحوه فهو ما استحق ابدا ما يحدث له معها .. أغمضت عينيها محاولة طرد كل تلك الأفكار التي تطرد بدورها النوم بعيدا حتى تستطيع الولوج لدنيا الأحلام والتي بالتأكيد ستكون ارحم ألف مرة من ذاك الكابوس الحي الذى تعيشه وعيناها مفتوحتان ...
اندفعت دلال من باب المطبخ المشترك بين المندرة و البيت الكبير بغية لقاء الخالة وسيلة وسؤالها عن بعض الأغراض التي قد تحتاجها في غرفة الكشف الا ان الخالة وسيلة لم تكن هناك بل انه في نفس اللحظة التي اندفعت فيها للداخل .. ظهر عفيف دالفاً للمطبخ بدوره .. و لكن هل هذا عفيف حقا ..!؟.. من هذا الرجل الذى يرتدي تلك البدلة العصرية الرائعة والتي تناسب قده السامق وبنيته المنحوتة كصخر الجبل .. تنبهت لخواطرها الغير معتادة على عقلها الواعى لتجبر نظراتها لتسيطر على رغبتها الملحة في التطلع اليه بهذا الشكل الجرئ وخاصة انها المرة الأولى تماما التي تراه فيها دون عمامته .. تاج رأسه الصعيدية اليابسة كالصوان ..
وقف متطلعا اليها بدوره لا يعلم ما عليه قوله او فعله و تنبهت بعد ان استطاعت بأعجوبة السيطرة على نظراتها انه يمسك بربطة عنقه كالتائه ..
وأخيرا دلفت الخالة وسيلة للمطبخ من جهة عفيف تقطع ذاك الاضطراب هاتفة وهي تراه واقفا في حيرة:- خير يا عفيف بيه!؟.. كنت بتنادم علىّ..
وتنبهت الخالة بعد ان مرت من خلف ظهر عفيف لوجود دلال فابتسمت لها في حبور هاتفة:- دِه الحبايب كلهم هنا .. كيفك يا بتى عايزة حاچة .. !؟..
اومأت برأسها هاتفة:- اه يا خالة .. بس انا مش مستعجلة .. شوفي طلبات عفيف بيه الأول .. الظاهر هو اللي مستعجل ..
تردد في الحديث والخالة وسيلة تتطلع اليه ولكنه هتف متعجلا وهو يظهر رابطة عنقه أمام أعينها:- الهبابة دي .. تعرفي تربطيها ..!؟..
تطلعت اليها الخالة وسيلة في عدم اهتمام ثم اعادت نظراتها للاوانى التي تغلى على نار الموقد هاتفة:- يا ولدي انا ايش دراني بالحاچات دي !؟.. ناهد اللي كانت بتربطهالك .. لكن ..
وصمتت الخالة بعد إدراكها انها تجاوزت في الحديث بذكر ناهد في تلك اللحظة و خاصة امام دلال .. و لكنها تداركت الموقف في ذكاء هاتفة:- ما تربطيها له يا داكتورة .. اكيد تعرفي .. صح ؟..
انتفضت دلال في احراج وتطلعت اليه وهو يقف كالتلميذ الخائب الغير قادر على أداء واجبه بمفرده و تذكرت ان نديم لديه نفس العقدة و انه لم يستطع يوما إجادة عقد رباط العنق مهما حاولت تعليمه .. شعرت بالحنين لأخيها الصغير و ربيبها .. و يبدو انه نفس الشعور الذى يكتنف عفيف في تلك اللحظة مفتقدا تلك الأشياء البسيطة التي كانت لناهد .. و لناهد فقط حق أدائها لمساعدة اخيها الحبيب ..
اقتربت في هدوء وقد قررت المساعدة بالفعل لتتناول رابطة العنق من يده التي امتدت بها ..
ليسير خارج المطبخ وهي تتبعه تاركي الخالة وسيلة بين أوعية طبخها ووقفت هي تنظر لتلك المرآة الجانبية في احد الأركان و هي تضع رابطة العنق على رقبتها هي و تبدأ في عقدها وما ان انتهت حتى خلعتها في هدوء تناوله إياها لكنها فوجئت بانحنائه تجاهها لتضع الرابطة في عنقه ..
تسمرت كفها لثوانى لا تعرف ما عليها فعله .. و أخيرا دفعت بالرابطة حول عنقه او بالاصح حول ياقة قميصه ..اعتدل قليلا .. فأصبحت ذراعاها مرفوعان للأعلى كأنما هي من تتعلق به بل تتشبث لتظل بقربه .. كان القرب مهلكا لكلاهما وتعلقت عيون كل منهما بعين الاخر في حديث طويل .. حديث تعارف .. و كأنما تره الان للمرأة الأولى كما يراها .. تلاقت اكفهما عدة مرات سابقا و تعارفت فيما بينهما لكن حديث العيون وتلاقيها حديث اخر .. حديث يطول شرحه..
نوافذ للروح تُفتح على مصرعيها فيتملى كل منهما لروح صاحبه و يسكن اليها و يأنس لها دون اى حواجز او سدود .. دون ان يكون هناك لكن .. هناك فقط همس شجي و سكون مطلق وروح تهيم في فضاء شاسع من النعيم ..
ولكن دوما ما تأتي لحظة التريث ليبدأ العقل فى إطلاق إشارات التنبيه لتع الروح بالخطر المحدق فتغلق ابوابها فى حرص خوفا من الوقوع في الأسر وهاقد حانت تلك اللحظة من قبلها لتبتعد مسرعة و هي تجذب احدى طرفي رابطة العنق لتحكمها حول عنقه ولم تكن تدرى من فرط اضطرابها انها زادت من جذبها حتى كادت تخنقه ليهتف هو ساخرا بصوت أجش ساعلا:- ربنا ما يوجع رجبة حد تحت يدك يا داكتورة ..
تراجعت خطوة للخلف في احراج كسا وجنتيها بالوردي .. فضحك وهو يخفف من شدة احكام الرابطة حول عنقه .. وتطلع الى خجلها الذي يعشق و نظراتها المطرقة التي يتمنى ان ترفعهما للحظات حتى تكون هي اخر ما يتطلع اليه قبل ان يغادر في سفرته الى القاهرة لعمل ما .. و قد فعلت و رفعت اليه نظرات عاتبة و قد عادت اليها روحها الوثابة لتجول من جديد بين جنبات صدرها تطل بجلاء من عينيها السمراوتين هاتفة بضيق:- هي دي كلمة شكراً !..
هتف مازحاً مغيظاً إياها راداً عليها كأنه من قدم المعروف لا هي:- العفو ..
نظرت اليه في قهر:- هو مين اللي المفروض يشكر مين ..!؟..
هتف و هو لايزل محتفظا بلهجته المازحة:- عايزة الحج .. المفروض انتِ اللي تشكريني .. بعد اللى عملتيه فيا وكنتِ هتخنجيني كان ممكن اخد بتاري منيكِ .. وانتِ عارفة .. انا مبسبش حجي ابداااا ..
هتفت معترضة بلهجة طفولية و هي تندفع لداخل المطبخ:- انا ايه اللي جبني أصلا من أوضة الكشف!؟..
هتف يناديها بلهجة جادة:- يا داكتورة ..!؟..
تنبهت ووقفت و كفها على مقبض باب المطبخ واستدارت مستفسرة ليهتف مبتسما تلك الابتسامة التي تهلكها:- شكراً..
فهتفت هي في ضيق مفتعل لتداري تأثيره على أعصابها التي تذوب بفعل نظراته تلك:- العفو .. اي خانقة ..
انفجر ضاحكاً على تعليقها الأخير قبل ان تندفع من أمامه لداخل المطبخ و صوت قهقهاته تلك يجعل قلبها كالسكير مترنحا بين أضلعها اما هو فقط كفاه من زاده انها كانت اخر من يلقاه قبل ان يرحل مبتعدا للقاهرة فى سفرة عمل هام ..
اربع ليال مرت منذ غاب عن النعمانية .. اربع ليال من عدم الراحة والأمان اعترتها لعدم وجوده بالقرب .. على الرغم انه وضع حراسة قوية على أبواب و مداخل البيت الكبير الا انها كانت لاتزل تشعر بالخواء لعدم وجوده .. إحساسها نفسه أقلقها وجعلها اكثر ضيقا ونفاذ صبر ..
كانت تملأ فراغ يومها كالعادة بالزائرات من المريضات اللائي اكتسبت ثقتهن بفضل الله ..لكن ما ان ينتصف النهار و تقل هذه الزيارات حتى تندر تقريبا بعد العصر ويبدأ يزحف ذاك الإحساس العجيب بالفراغ الداخلي و عدم الأطمئنان الذى يتملكها في غيابه ..
واليوم ليس استثناءً فها هي تستيقظ لتستقبل المريضات و ينتهى اليوم بلا اى جديد .. نزلت للحديقة المحيطة بالبيت الكبير .. فالطقس الى حد كبير دافئ ذاك النهار مما دفعها لجلب احدى الروايات و النزول للحديقة تجلس على تلك الأرجوحة التي اكتشفت وجودها في ذاك الركن البعيد و التي عرفت انه صنعها خصيصا من اجل ناهد اخته المدللة التي كان يعاملها كأميرة تأمر فتطاع ..
جلست تقرأ رواية من تلك الروايات التي وجدتها بجوار فراشها بعد استفاقتها من غيبوبة مرضها .. نظرت الى الرواية لتقرأ عنوانها "قنديل ام هاشم " .. تعجبت من الاسم و لكنها ما ان بدأت أولى سطورها حتى اخذتها الرواية بين طياتها و هي تكاد تجزم ان صراع البطل مع التخلف و الموروثات القديمة لا يختلف بأى حال من الأحوال عن صراعها هنا في نجع النعماني..
تشابه الحالة جعل الرواية اكثر متعة لذا لم تنتبه لمناع الذى اقترب متنحنحا عدة مرات حتى تنبهت هاتفة:- خير يا مناع..!؟..
ابتسم مناع في هدوء وهو يضع حمله الذى كان يحمله على كتفه هامسا بإحراج:- معلش بجى يا داكتورة .. هَدية مش كد مجامك بس جلت حضرتك لازما تكوني اول من يدوج جصب ارضي بعد ما خلصت كسره جبل ما عفيف بيه يسافر .. اهو خلصت دورى .. ياجى بالسلامة و يبدأ دوره ف الكسر ..
ابتسمت في سعادة هاتفة:- هدية مقبولة يا مناع .. بس هو كسر القصب بالدور ..!؟.. اول مرة اعرف ..
ابتسم مناع مؤكدا:- معلوم يا داكتورة بالدور .. الجصب لو جعد في الأرض ميبجالوش عازة لازما ينكسر بسرعة ويتحمل لمصنع السكر .. و المصنع بيعين مهندس يشرف ع الأدوار دي وانت عارفة عاد ايه اللى ممكن يُحصل لو المهندس دِه زمته واسعة .. لكن على مين ..!؟.. مش ف النعمانية و ف وچود عفيف بيه .. دِه هو بذات نفسيه واخد دور زينا زييه مع انه بس باشارة صغيرة جصبه يتكسر و يتحمل اول جصب و ما حد فينا يجدر ينطج بحرف .. لكن عفيف بيه طول عمره حجاني ..
ابتسمت دلال في شرود ليهتف مناع من جديد:- تعرفي يا داكتورة .. انى لولا عفيف بيه مكنتش طُلت سعدية ولا اتچوزتها ..
انتبهت بكامل حواسها لحديث مناع وهو يسرد عليها تفاصيل حكايته مع سعدية:- اني كنت رايدها ف حلال ربنا وعلى سنته و رسوله لكن .. ابوها منه لله بجى .. كسر مجديفي ومكنش عاچبه العچب .. مكنش راضي يدى بته لراچل على كد حاله محلتوش طين وشغال غفير محلتوش الا سلاحه ..
يومها كنت هموت من جهرتي لجيت عفيف بيه بيجولي ولا يهمك هتبجى من نصيبك وجبل ما يهل الشهر العربى هتكون ف بيتك..
هتفت دلال مبهوتة لحديث مناع:- وصدق فعلا ..!؟..
أكد مناع بحماسة منقطعة النظير:- وااااه .. لو عفيف النعماني يدي كلمة وميصدجش فيها أُمال مين اللي يصدج ..!؟.. و الله جبل ما يهل الشهر العربي كمان كانت ف داري .. راح بذات نفسه لأبوها و كبرني جدامه واني المجطوع من سجرة محلتيش الا امى هي اللى طلعت بيها م الدنيا .. و كتب لي جدام ابوها جيراطين ارض من الأرض الجبلية اللى بجروب الچبل..
نظرت اليه في دهشة ممزوجة بتعجب تهمس في نفسها:- هل من يتحدث عنه مناع هو عفيف النعمانى الذي لا تعلم عنه شيئا .. ام من يكون ..!؟..
ليستطرد مناع:- فكرك يا داكتورة ان عفيف بيه ساعدنى عشان اني غفيره وكِده ..!؟.. لااه .. عفيف بيه خيره ع الكل هنا .. صغير وكبير .. تعرفي الواد خرابة ..
ابتسمت ما ان تذكرت الاسم وكيف فتح حقيبتها الثمينة بمهارة شديدة و هي التي كانت تسخر من اسمه .. اومأت برأسها مؤكدة:- اه .. اعرفه .. صلح لي شنطتي ..
هتف مناع بحماس:- معلوم يصلحها و يصلح ابوها كمان.. دِه واد چن .. تعرفي يا داكتورة ..
واخفض صوته متطلعا حوله دلالة على أخبارها بسرعظيم مستطردا بهمس:- الواد خرابة دِه كان من المطاريد ف الچبل ..
انتفضت غير مصدقة .. ليبتسم ما ان وعى لنفضتها سعيدا بمدى تأثير حكاياته على ملامحها المذعورة في تلك اللحظة وأكد قائلا:- ايوه .. كان من مطاريد الچبل .. كان حرامي .. يسرج الكحل من العين.. بس عفيف بيه جدر يمسكه ف يوم وهو نازل من الچبل يسرج مواشيه.. يوميها علجه ع السجرة الكبيرة اللي جصاد الباب اللي بتوعيلها وانت داخلة دي ..
هتفت مصدومة:- ربطه وجلده ذي ما بنشوف ف الأفلام كده ..!؟.
قهقه مناع هاتفا:- لااه .. چلده ايه يا داكتورة .. عفيف بيه ميعملهاشي .. هو عِمل كِده عشان يخليه عبرة لكل واحد يفكر يهوب من بهايم النعماني او أي حاچة تخصه .. لكن ربنا جادر وهدا الواد خرابة على يده بعد ما أتكلم عفيف بيه معاه .. و لجينا عفيف بيه بنى له أوضة جرب مدخل البلد بيصلح فيها كل حاچة تخطر على بالك .. مش بجولك يا داكتورة واد چن .. و من يوميها محدش دخل البيت الكبير ولا صلح اى حاچة خربت فيه الا الواد خرابة دِه ..
كانت تفغر فاها غير مصدقة بكل تلك التفاصيل التي تتوالى على مسامعها عن عفيف النعماني .. ذاك الرجل الذى سيظل يبهرها ويثير دهشتها .. انه بحق رجل دهشتها الأول بلا منازع ..
تنحنح مناع عندما طال صمتها هاتفا:- جلبت دماغك يا داكتورة بحديتي .. يا رب يعچبك الجصب.. ولو احتجتي اي حاچة ولو كان لبن العصفور شاوري ياچيكي .. ده اني عفيف بيه موصينى اشوف طلباتك كلها وهو مش موچود .. ربنا يرد غيبته بألف سلامة ..
ابتسمت في هدوء هاتفة:- متشكرة يا مناع .. لو احتجت حاجة أكيد هقولك .. و هدية مقبولة .. سلملي على سعدية وعفيف الصغير ..
ابتسم وهو يغض الطرف ويومئ برأسه وهو يهم بالرحيل:- حاضر .. انتِ تأمري يا داكتورة ..
ورحل ليحتل موقعه من البوابة الكبيرة كالمعتاد ليتركها تجول الطرف في الحديقة حولها وهي تتذكر كل حرف قيل عن عفيف .. كل حرف كان بمثابة دفء من نوع خاص يدثرها و كأن مجرد ذكره يبعث في نفسها الأمان الذى افتقدته بشدة في غيابه الذى طال للأسف ..
تنهدت في قلة حيلة و تطلعت لحزمة القصب الكبيرة التي تركها مناع بجوار مجلسها لتنهض في حماس جاذبة احد الأعواد محاولة كسره كما رأت مناع يصنع مرة من قبل .. وضعت العود الصلب مقابلا لركبتها وبدأت في جذب طرفيه لعله يُكسر .. لكن لا فائدة .. عاودت الكرة من جديد وكادت ان تسقط من جذبها العود لتكسره .. لكنها ترنحت وتماسكت قبل السقوط ولم يُكسر العود بعد ..
همت بالمحاولة من جديد وهي تحجل على قدم واحدة وتجرب كسره على ركبتها الثانية الا ان ضحكة طفولية أوقفت محاولتها قبل ان تبدأ لتتطلع خلفها حيث مصدر الضحكة ليطالعها عفيف وهو يقف في بدلته العصرية والتي رؤيته بها تكاد تذيب قلبها وبجواره يقف مراهق لم يتعد الثالثة عشرة على أقصى تقدير بالأدق يجلس على كرسى مدولب و لازالت تلك الابتسامة الواسعة تكلل شفتيه ..
كان عفيف هو من بدأ بالسلام رغما ان هذا الواجب عليها لكن كيف لها ان تنطق حرفا وقلبها يترنح كالسكير شوقا بين جنبات صدرها:- كيفك يا داكتورة .. يا رب تكوني بخير ..!؟..
تمالكت نفسها و استجمعت احرف أبجديتها هامسة:- الحمد لله .. و حمد الله على سلامتك .. نورت بيتك ..
كان في تلك اللحظة قد تحرك ليكون أمامها مواجها لها مباشرة .. همس ينحني:- اسمحيلى يا داكتورة ..
لا تعرف لما يطلب السماح وبأي شيء تسمح .. لكنها ادركت ما كان يعنى بذهنها المشوش لقربه وهو يمد كفه ملتقطا عود القصب ليعود خطوة للخلف وفجأة يضع العود على ركبته ليجذبه في سرعة وقوة كاسرا العود غير عابئ ببنطال بدلته الغالية ..
مد كفه لها بالعود المكسور والذي اصبح نصفين وهو يهتف في الطفل المقعد:- وحشك الجصب يا كمال!؟..
اومأ الطفل في تأكيد ليبدأ عفيف في كسر عود اخر له بينما ألتفتت هي لتقترب من الطفل الذي وعت وهي تتذكر أين سمعت الاسم بالضبط و ادركت انه حفيد الخالة وسيلة الغائب والذى لم تره منذ جاءت الى النعمانية .. لكن ما هي قصة قدميه ولما يجلس على ذاك الكرسى المدولب ..!؟.. لم تخبرها الخالة وسيلة عن ذلك ابدااا .