رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن
بعنوان ( الهروب الكبير )
ليلة كاملة قضتها تموت ذعرا دون اي خبر يذكر عن ذاك الذي غاب خلف نديم و اخته .. القلق يتأكلها حرفيا مع مرور كل ساعة دون ان يأتيها اي معلومة عنه .. و عما يجري دون علمها.. تكاد تفنى انتظاراً وقهرا مما دفعها لتكثيف الفحوصات اليومية حتى تجد ما يشغلها عن التفكير في الامر الذي قد يدفعها للجنون ..
اوشك النهار على الانتصاف و قد اعتقدت انه ما عاد هناك من مريضات .. همت بالنهوض من خلف مكتبها في اتجاه باب حجرة الكشف لغلقها الا انها رأت فتاة صغيرة لا يتعد سنها الخامسة عشرة تقف فى اضطراب و خلفها يقف رجلا ملامحه لا تعرف الهوادة واللين ..
تطلعت اليهما فى تعجب فهى المرة الاولى التي يزورها رجل داخل عيادتها الخاصة بالنساء فعادة تأتي المريضة ومعها امها او اختها او حتى حماتها ..
تنبهت انها أطالت التحديق بهما فاندفعت تسأل فى دهشة حاولت إخفائها:- خير !؟.. اى خدمة !؟..
هتف الرجل بصوت قوى:- اه يا داكتورة .. عايزين بس خدمة ..
اكدت فى ادب:- تحت امرك ..
هتف:- عايزينك تسنني لنا البت دى عشان چايلها عريس وعايزين نكتبوا كتابها ..
انتفضت فى ذهول:- عريس !؟.. عريس ايه !؟.. دي لسه طفلة ..
تطلعت للفتاة تسألها مشفقة:- انتِ عندك كام سنة يا حبيبتي !؟..
لم تنطق الفتاة بحرف فيبدو انها كانت قد لُقنت تعليمات مشددة الا تفوه بحرف واحد مع اى من كان ..
ساد الصمت للحظات والفتاة مضطربة لا ترفع ناظريها عن الارض ابدا مما دفع ابيها ليهتف في نزق:- ملكيش صالح بالبت .. احنا عايزين نكتبوا كتابها ولازما شهادة تسنين .. هاتكتبيها ولا لاااااه!؟..
اكدت دلال فى صرامة:- طبعا لااا.. ده اذا كان الامر بأيدي لانه للاسف مش اختصاصي ..ده اختصاص الوحدة الصحية .. لكن انا عايزة أنبهك دي جريمة .. بنتك مبلغتش السن القانوني للجواز .. دى اصغر بحوالى ٣ سنين وزيادة كمان ..
وحاولت ان تثنيه عن عزمه باللين هاتفة:- ده خطر ع البنت .. ليه الاستعجال !؟.. استنى كام سنة تكون وصلت ال ١٨ ساعتها يبقى الموضوع قانوني .. و يبقى جسمها كبر شوية وتقدر تستحمل الخلفة و الولادة .. بنتك لسه عيلة صغيرة .. حرااام ..
صدرت عن الفتاة شهقة لاإرادية تؤكد بكائها الصامت الذى حاولت اخفاء أناته لكنها لم تنجح فقد كشف ذاك النحيب مدى حزنها الذى كانت تحاول وأده ..
اقتربت منها دلال فى تعاطف هامسة:- اسمك ايه !؟..
هتفت الفتاة بصوت مهتز النبرات:-نادية ..
لم يمهلهما الاب تجاذب أطراف الحديث بل جذب الفتاة من ذراعها فى قوة لتهرول خلفه محاولة مجاراة خطواته الواسعة حتى لا تنكفئ على وجهها جراء اندفاعه المحموم ..
تنهدت دلال في إشفاق وهى تتطلع للفتاة التى علا نحيبها وهى تساق خلف ابيها بهذا الشكل المهين و ندت عنها نظرة تشابكت مع نظرات دلال.. نظرة كانت تحمل من الوجع والقهر ما جعل دلال تنتفض فى قوة و دون ان تدرى تساقطت دمعات سخان على وجنتيها .. ما ان تنبهت لهما حتى مسحتهما عن خديها فى عزم و قد قررت الا تدع الامر يمر مرور الكرام ..
فقد كانت دوما تتساءل عن الهدف الإلهي من سقوطها فى تلك الأزمة التى هى بصددها و التى أتت بها لتلك الارض والان ..الان فقط .. ادركت ان الله قد ارسلها لتلك البقعة من الارض لكي تحاول انقاذ هؤلاء الفتيات من ظلم التقاليد و مرارة القهر تحت وطأتها .. و هى لن تقف مكتوفة الأيدي .. بل ستفعل ما يمليه عليه ضميرها و مهما كلفها الامر ..
اغلقت دلال باب حجرة الكشف و اندفعت بدورها فى اتجاه البوابة الرئيسية حيث يجلس مناع دوما فى انتظار أوامر سيده عفيف ..
هتفت دلال ما ان وصلت موضع مناع الذى كان يجلس فى استرخاء على أريكة خشبية يضع بندقيته خلف احد كتفيه فى تأهب دائم و يمسك بالكف الاخرى كوبا من الشاي القاتم اللون يرتشفه فى تلذذ متمهلا:- مناع..
انتفض بدوره مجيبا ندائها حتى كاد يسكب ما بكوبه من شاي هاتفا و هو ينهض على عجالة:- أوامرك يا داكتورة !؟.. فى حاچة ..!؟..
هتفت دلال مؤكدا:- اه يا مناع .. عايزاك تجهز لى الكارتة ضروري..
هتف مناع متسائلا:- ايه في يا داكتورة !؟.. حالة ولادة ولا ايه!؟..
ترددت .. هل تخبره بما كان ام تلتزم الصمت و تخفي ما تنتويه!؟.. وهل ما تفكر في القيام به الان لن يعود بالضرر على عفيف !؟ .. عندما وصل فكرها لهذه النقطة وجدت نفسها تهتف داخلها في غيظ:- انتِ لسه هدوري ع اللي يرضيه و هو رايح يدور على اخوكِ عشان يقتله!؟.. لذا هتفت مؤكدة لمناع:- اه .. حالة ولادة يا مناع .. استعجل الكارتة ..
انتفض مناع منفذا وما هى الا دقائق قليلة حتى كانت العربة في انتظارها خارج الباب الرئيسي لتندفع اليها مسرعة مخافة تراجعها في اخر لحظة وما ان هم سائق العربة بسؤالها عن وجهتها حتى عاجلته هى امرة اياه:- على اقرب نقطة بوليس لو سمحت ..
استدار سائق العربة متطلعا اليها في تعجب لكنه لم يقف ليتساءل كثيرا فقد تذكر امر عفيف له .. ان ينفذ أوامر الدكتورة بالحرف .. فلم يكذب خبرا وانطلق بالعربة في سرعة ..
اغلقا باب الشقة بإحكام و ما ان هما بنزول الدرج حتى تنبها لأحدهم صاعدا و اوشك على الوصول لطابقهما فاندفع نديم ممسكا كف ناهد صاعدا ليستقرا فى الطابق الاعلى .. انتظرا حتى يتأكدا ان القادم قد دخل احدى الشقق فإذا به يقف امام شقة سمير يعبث بسلسلة مفاتيحه باحثا عن مفتاح بابها..
تطلع نديم الى ناهد وما ان تأكدا انه دخل للشقة حتى همس في راحة:- خرجنا ف الوقت المناسب .. ربنا ستر الحمد لله .. ياللاه بينا ..
همست بدورها و هى تتبعه للأسفل:- على فين دلوجت !؟..
هتف نديم:- يا ستي .. اي مكان..
و اندفعا خارج البناية بعد ان سلم نديم مفتاح الشقة للبواب كما اتفق مع سمير سارا معا لا يعلما الى اين سيذهب بهما القدر هذه المرة ..
توقفت الكرتة كما ارادت دلال امام نقطة الشرطة الموجودة بأطراف النجع و نزلت منها مندفعة فى اتجاه بوابتها الخشبية القصيرة .. توقفت امام اول حجرة قابلتها كان يقف على بابها احد العساكر فى تصلب كتمثال شمعي .. هتفت تسأله فى عجالة:- حضرة الظابط موجود !؟
تطلع اليها العسكرى بعيون شاردة هاتفا بلهجة ألية:- موچود سعادتك..
سألت من جديد:- طب ممكن ادخلله ..!؟..
اومأ العسكرى برأسه ايجابا و اشار للباب الذى كان مفتوح بالفعل ..
وطأت اقدامها الحجرة الواسعة و جالت بناظريها فى أنحائها و لكنها لم تجد شخص بها الا انه تناهى الى مسامعها اخيرا صوت رجولي يتغنى بموال للعندليب مترنما فى انسجام تام:- و انا كل ما اجول التوبة يابوي .. ترميني المجادير يا عين .. وحشانى عيونه السودا يا بويا و مدوبني الحنين يا عين ..
لم تكن ترى ذاك الذى كان يجرب صوته الذى لا يستساغ مطلقا وهو غائب خلف مكتبه .. او بالأدق تحت مكتبه وعلى ما يبدو يبحث عن شئ ما قد سقط منه ..
تنحنحت في محاولة لجذب انتباه مطرب الروائع ذاك و الذى اعتدل بالفعل فى سرعة ما ان استشعر وجود شخص ما بالغرفة .. كان يعيد مقاطع الاغنية بلا كلل ولكن ما ان وقع ناظره عليها حتى توقف فجأة فاغرا فاه فى صدمة ..
بدأ عقله فى العمل متسائلا:- من هذه الرائعة !؟.. و ماذا تفعل في قرية كهذه باحضان جبل وعر !؟..
تقدمت هى فى ثقة لتقف قبالة مكتبه مادة كفا للتعارف هاتفة:- دكتورة دلال محمود المصري ..
كان جالسا ولم يسمح له شروده فيها بالنهوض تأدبا ما ان رأها مقبلة للتحية لكنه استدرك ذلك فجأة وهو يرى كفها الرقيق ممدودا بهذا الشكل فانتفض واقفا فى عجالة مادا كفه بدوره مبادلاً إياها التحية هاتفا:- اهلًا يا دكتورة .. نقيب شريف عبدالواحد .. تحت امرك ..
قال كلمته الاخيرة محاولا اسباغ بعض من نبرة رسمية على لهجة حديثه .. جلس و اشار اليها لتجلس بدورها على احد المقاعد امام مكتبه..
أجلت حنجرتها متنحنحة وهتفت:- الصراحة يا حضرة الظابط …
لم يكن هو موجودا ليتجاذب معها أطراف الحديث بل كان في عالم اخر متطلعا اليها كأنها المرة الاولى التى يبصر فيها نساء .. هتف لنفسه مؤنبا .. ايه يا شرشر .. باينك منزلتش اجازة من فترة طووويلة .. والظاهر نسيت شكل الستات وده خطر على عقلك الباطن يابو الظبابيط ..
تنبه لكلماتها الاخيرة اخيرا وهى تقول بحماسة:- وللسبب ده ..
هتف متعجلا فى تهور فاضحا عدم تركيزه في شكواها:- سبب ايه حضرتك !؟..
تطلعت اليه كأنها كانت تحدث اصم وهتفت اخيرا:- واضح ان حضرتك مكنتش مركز معايا ..
هتف بسخرية مقهقها:- لا بالعكس .. ده انا مشكلتى انى كنت مركز معاكِ زيادة عن اللزوم والله ..
هتفت متعجبة:- نعم !؟..
هتف يحاول كظم ضحكاته:- لا متخديش ف بالك يا دكتورة .. انت مشكلتك ايه معلش !؟..
هتفت تعيد كلامها السابق والذى لم يستمع لحرف منه عندما سردته فى المرة الاولى وحاول التركيز على فحوى الكلمات لا صاحبتها:- عايزة اعمل محضر اواقدم بلاغ او شكوى ..شوف حضرتك هتسميه ايه ..
هتف مازحا:- نسميه كريم باذن الله .. انا بحب الاسم ده قووى ..
هتفت تتطلع اليه وشعرت انها تحدث شخصا يعانى من خلل ما:- كريم مين !؟.. انا بتكلم عن محضر عدم التعرض اللى عايزة اعمله ..
هتف محاولا اصطناع الجدية:- اه طبعا واخد بالي .. بس مين اللي يقدر يتعرض لحضرتك !؟.. اللي سمعته انك ضيفة عفيف النعماني .. متهئ لي ده لو حد كح من غير أذنه ف النعمانية .. يودره سعادتك..
لا تعرف لما ساءها حديثه عن عفيف بهذا الشكل .. ووصفه بوصف مبالغ فيه .. ووجدت نفسها دون وعي منها تهتف مدافعة:- عفيف بيه راجل عادل و رحيم و عمره ما ظلم حد ..
اكد شريف بايماءة من رأسه:- طبعا طبعا .. بس برضو انا معرفتش البلاغ حضرتك هتقدميه ضد مين!؟..
هتفت مؤكدة:- انا معرفش اسماءهم الصراحة .. بس هما بابا بنت اسمها نادية جابها عشان اديله شهادة تسنين ليها عشان طبعا يجوزها .. و انا كطبيبة بقول ان ده ممكن يأذي البنت .. البنت صغيرة جدااا .. انا عايزة اعمل لهم محضر عدم تعرض للبنت لان ده مش في مصلحتها ..
تطلع اليها مستشعرا مدى براءة هذه التى تجلس أمامه و مدى جهلها بطبيعة الامور في تلك البلاد البعيدة فهتف غير قادر على وأد نبرة السخرية في تساؤله:- اممم .. بابا البنت !؟.. اسمها ابوها حضرتك .. هو انتِ هنا بقالك قد ايه معلش !؟..
لم تكن تدرك ما علاقة سؤال كهذا بما جاءت من أجله الا انها هتفت مجيبة:- من أسبوعين تقريبا ..
اكد هامسا:- اااه ما انا بقول كده برضو ..
تطلعت اليه غير معقبة على كلامه الغير مفهوم ليهتف هو مستطردا:- يا دكتورة اللي سعادتك بتطلبيه ده غير جائز .. عيزانى ازاى اعمل محضر عدم تعرض لاب وأقوله ملكوش دعوة ببنتك ومحدش يجي جنبها !؟..
هتفت دلال فى حنق:- لكن البنت فعلا ممكن تتأذي .. انا بقول الكلام ده و انا عارفة انا بقول ايه .. ده شغلي ..
هتف شريف مؤكدا:- على عيني و راسى يا دكتورة .. بس ايه المفروض اعمله … مفيش اى قانون يخلينى امنع اب من انه يعمل شهادة تسنين لبنته .. بس حضرتك ممكن تخلي مسؤليتك عن اى حاجة ممكن تحصل للبنت ده لو حابة..
هتفت في ضيق:- انا مش جاية احمي نفسي وأتخلى عن مسؤولية .. انا جاية أدافع عن روح .. هى دي وظيفتي يا حضرة الظابط .. لكن واضح اني كنت غلطانة لما جيت..
هتف شريف معاتبا:- ازاى يا دكتورة تقولي كده !.. كفاية اني اتعرفت على حضرتك .. و يا ريت كان ف أيدي حاجة اقدر اعملها و اساعد بيها .. لكن ما باليد حيلة ..
ساد الصمت للحظات ليستطرد بعدها بنبرة جادة:- بصى يا دكتورة ..انت مبلقيش الا فترة بسيطة هنا .. و فى حاجات كتير غايبة عنك مختلفة تماما ع اللي انت متعودة عليه ف القاهرة … العادات و التقاليد هنا غير .. و تنفيذها ملزم بقوة العرف .. اللي ممكن للاسف تبقى اكبر من قوة الدين نفسه ف بعض الأحيان ..
نظر الي وجهها الذى تعكرت صفحته النقية بفعل كلامه ليستدرك ناصحا:- أرجو انك متتصدميش بالحقايق اللي هتشوفيها بنفسك بس شوية وهتتعودي .. و متقفيش ف وش التيار عشان هايبقى جاامد قوووي عليكِ ..
انتفضت واقفة و مدت كفها من جديد ملقية التحية هاتفة فى اعتزاز:- متشكرة قووي يا حضرة الظابط ع النصيحة الغالية دي .. بس للاسف انا متعودتش اشوف الغلط وأسكت ..
وسارت فى اتجاه الباب راحلة ليهتف خلفها:- يبقى هاتتعبي قووي هنا يا دكتورة .. وانصحك .. لو تقدرى تبعدي عن هنا .. ابعدي بسرعة قبل ما يجرفك تيار البلد دي اكتر من كده ..
ألتفتت اليه وهزت رأسها فى هدوء شاكرة له نصيحته و اندفعت خارج النقطة تكاد تموت قهرا ..
اما هو فتبعها بنظراته حتى غابت عنه فاستدار خارجا من خلف مكتبه فى اتجاه النافذة القريبة متطلعا منها ناظرا اليها و هى تركب الكارتة مبتعدة .. و ارتسمت على شفتيه ابتسامة هو نفسه لا يعرف كيف يصنفها .. هل هى ابتسامة إشفاق ام ابتسامة إعجاب !..
وصل عفيف للموضع الذي حدد خفيره هاتفا بنفسه:- فينه راح المخبل دِه !؟.. انا مش جايل له ما يتحركش من مكانه !؟..
تلفت حوله في ضيق يكاد يرتكب جريمة ما حتى ظهر الخفير اخيرا فهتف به صارخا:- كنت فين يا حزين !؟.. انا مش جايل لك متتعتعش من مطرحك ..!؟..
هتف الخفير مرتبكا بحروف متلجلجة خوفا:- السماح يا عفيف بيه .. معلش .. اصل اني يعني .. رحت اعمل ذي الناس .. الواجفة بالهوا چار البحر ف السجعة دي ..
قاطعه عفيف هاتفا في ضيق:- فين العمارة !؟..
اشار الخفير باتجاه احدى البنايات القريبة:- أهي .. الدور التالت .. شجة صاحبه سمير ..
اندفع عفيف باتجاه البناية و ما ان اصبح قبالتها حتى اخذ نفس عميق و دلف اليها ليطالعه البواب جالسا فى خمول و قد انتفض ما ان ادرك وجود عفيف هاتفا:- خير يا حضرت !؟.. عايز حاجة !؟..
اكد عفيف:- شجة الاستاذ سمير ..
اكد البواب:- اه .. اتفضل الدور التالت اول شقة ع اليمين ..
صعد عفيف في هوادة فى بادئ الامر وما ان اختفى عن ناظريّ البواب حتى اندفع يصعد في عجالة.. توقف امام الشقة المطلوبة ودق بابها في هدوء يتنافي مع ثورته الداخلية .. لحظات مرت كالدهر حتى انفرج الباب عن محيا رجل في العقد السادس من عمره تطلع الى عفيف في تعجب متسائلا:- اي خدمة !؟..
تطلع اليه عفيف فى تعجب مماثل و اخيرا هتف:- انا اسف .. الظاهر غلطت ف الشجة..
هتف والد سمير:- حضرتك عايز مين !؟..
اكد عفيف:- الاستاذ سمير ..
هتف والد سمير:- انا علوي ابوه .. تحت امر...
لم يمهله عفيف لاستكمال كلماته بل اندفع لداخل الشقة مثل العاصفة باحثا داخلها لعله يجد ضالته لكنه لم ينجح الا فى استثارة غضب صاحبها الذي هتف في ثورة:- انت بتعمل ايه يا حضرت .. انا هجيب لك البوليس ..
اندفع عفيف خارج الشقة راحلا و لكن قبل ان يغادر ألتفت لوالد سمير معتذرا:- انا اسف .. الظاهر ده سوء تفاهم ..
هتف والد سمير:- انت تعرف ابني سمير منين !؟..
اكد عفيف:- معرفهوش .. الظاهر انا بدور على سمير تاني .. عن اذنك ..
و اندفع هابطا الدرج في عجالة و منه لخارج البناية متوجها لخفيره الذي شعر انه سينال من عفيف ما يستحق وربما يلق به في البحر و يعود للنجع دونه ..
صرخ عفيف ما ان طالع الخفير:- انت متأكد يا مخبل ان دِه العنوان !؟.. شكلك متوه و منتش واعي ..
اكد الخفير هازا رأسه في تتابع مذعورا:- لاااه .. و عهد الله كانوا هناك يا عفيف بيه .. اني متأكد .. ذي ما اني متأكد اني واعي لچنابك..
استشف عفيف الصدق في حديث خفيره فلزم الصمت وتطلع حوله فى حيرة متسائلا بنفسه:- يا ترى راحوا فين !؟.. لساتهم ف إسكندرية!؟.. و لا نزلوا على مصر!؟..
قرر المرور على عدة فنادق للسؤال ربما يكون قد استقر بهما المقام بأحداها .. فإذا كانا قد فقدا ملاذهما المتثل في شقة صديقه سمير فلابد انهما سيبحثان عن ملاذ جديد وهذه المرة قد يكون احد الفنادق ..
ارتاح للفكرة واندفع في تنفيذها و خلفه خفيره وهو لا يعلم الي اين سينتهي به المطاف ..
للمرة الأولى يكون ممتنا لما فعلته دلال من اجله رغم اعتراضه .. فبالرغم من ان هذا الامر كان دوما مصدرا للشجار بينهما الا انه حمد لها صنيعها حينما ادرك ان ما يحمل من مال بالكاد يكفيهما لوجبة وثمن ليلة في فندق فلقد أصرت على جعل حسابها المصرفي الذى كانت تودع فيه راتبها مع كل ما تتحصل عليه من عملها الإضافي في المستوصف الخيرى و غيره..
بحسابا مشتركا حتى اذا ما احتاج لمال لا يضطر لسؤالها وخاصة بعد تخرجه وبقائه بدون عمل لفترة .. الان ها هو يشكرها ألف مرة على ذلك فلولاه ما كان يعلم أين يمكنهما التوجه وهو يملك بالكاد ثمن عشاءهما هو و المسكينة التي تنتفض بردا بجواره ..
اغلق حافظة نقوده في عجالة قبل ان تنتبه لما يفعل حتى اذا ما ما مرا على مطعم للأكلات السريعة دخلا يبتاع لها ما يسد جوعها مع بعض الشراب الساخن ليمدها بالدفء حتى يقرر أين يمكنهما ان يبيتا ليلتهما .
مد لها كفه بالطعام و الشراب الساخن عبر الطاولة المنزوية في احد أركان المطعم هامسا:- كلي حاجة .. انتِ مكلتيش حاجة من الصبح .. و اشربى الحاجة السخنة تدفيكِ..
هزت رأسها في رفض وهي تحيد بنظراتها الدامعة بعيدا تنظر عبر واجهة المحل الزجاجية للخارج ..
مد كفه لاشعوريا يحتضن كفها في تعاطف وللمرة الأولى لا تنتفض للمساته بل نظرت اليه وسالت دموعها رغما عنها و همست من بين دموعها:- انا بجيت حمل تجيل عليك .. انا عارفة .. آسفة ..
ولم تستطع إكمال كلماتها فقد غلبتها دموعها لتجذب كفيها من بين أحضان كفيه وتداري بهما وجهها محاولة وأد شهقاتها الموجوعة ..
احترم ألمها لبعض الوقت حتى ما ان هدأت حدة شهقاتها عاود امره لها من جديد بحنو:- كلي حاجة بقى .. عشان نلحق نشوف هنعمل ايه قبل ما الليل يدخل اكتر من كده.. و بعدين انتِ عمرك ما كنتِ حمل عليا .. انتِ ملزمة مني لانك قدام ربنا مراتي .. في راجل تبقى مراته حمل عليه برضو !؟
ابتسمت في خجل واومأت برأسها إيجابا و بدأت في تناول طعامها ..و هو يكتم ويداري وجعا مماثل لوجعها .. لكن عليه ان يدع الثبات فالمشوار طويل .. و دلال ربت رجلا .. لم ولن يخزلها ابدا..
كان يتطلع اليها مشفقا فهى ابدا لا تستحق ما تعشه الان وهى ابنة الحسب المرفهة سليلة العائلة العريقة ومدللة اخيها ..
كانت ساهمة تتطلع للخارج عبر زجاج النافذة تأخذها خواطرها بعيدا الا انها توقفت عن تناول طعامها و حملقت بشدة في شبح يقف خارج المطعم .. تنبه لنظرتها المصدومة فوجه نظراته الي حيث تركز نظراتها ليشهق في ذعر و اخيرا يجذبها لينحنيا مختبئين خلف اظهر مقاعدهما العالية ..
كان عفيف يقف على احد الأرصفة يتطلع حوله في ضجر فقد قضى معظم يومه باحثا عنهما بكل فندق قد يتوقع انهما نزلا به لكنه لم يفلح فى العثور عليهما .. شمله اليأس و الضيق وزفر في غضب مكبوت قبل ان يندفع في اتجاه محطة القطار وقد قرر العودة من حيث أتى وقد شمله الإحباط كليا فها قد فقد الخيط الوحيد الذي استطاع الوصول اليه للامساك بهما..
ما ان تأكد نديم من رحيل عفيف بالفعل من امام نافذة المطعم حتى امرها بالظهورلترفع جزعها اخيرا متطلعة اليه في حرج ليهمس نديم و هو يجز على اسنانه غيظا:- انتِ كنتِ شيفاه واقف بره ومقلتيش!؟.. افرضي كان شافنا !؟..
نكست رأسها في اضطراب ولم تعقب ليزفر هو بضيق مشيحا بوجهه عنها .. ساد الصمت بينهما للحظات قبل ان يهمس نديم بنبرة حانية متفهمة متسائلا:- كان واحشك !؟.. مش كده !؟..
اكدت بهزة من رأسها دون ان تفوه بحرف لكن عبرات عينيها التي انسابت متتابعة كانت كافية و زيادة لتخبره ماذا فعل بها الشوق لأخيها الغالي فلاذ بالصمت بدوره و بداخله يتمزق وجعا ..
انتفضت مذعورة عندما تناهى لمسامعها صوت ألة تنبيه سيارته و هى تعبر بوابة البيت الكبير .. اندفعت للنافذة لعلها تستشف امرا ما يجعل خافقها الذي تعدت سرعة دقاته الحد الطبيعي يهدأ قليلا لكنها لم تبصر شيئا بعد ان اختفت العربة حيث موضعها خلف البيت ..
اندفعت تهبط الدرج فى عجالة حتى انها كادت ان تنكفئ عدة مرات على وجهها لسرعتها المفرطة حتى وصلت للمدخل الرئيسي وهى لاهثة تكاد تنقطع انفاسها انفعالا و ما ان طالعت محياه حتى اندفعت اليه هاتفة باسمه:- عفيف بيه !؟.. ايه اللي حصل !؟..
تطلع اليها واجما ولم ينبس بحرف فاقتربت فى توجس هامسة:- أوعى تكون ..
لم تكمل جملتها المتلعثمة و هو بدوره لم ينطق مما دفعها لتهتف صارخة:- عملت فيهم ايه!؟..قتل..
قاطعها هاتفا في هدوء:- اهدي يا داكتورة .. هما بخير .. انا ملحجتهمش ..
هتفت في سعادة:- ملحقتهمش !؟..
هتف مؤكدا بايماءة من رأسه:- ايوه ملحجتهمش .. كانوا مداريين ف شجة زميل اخوكي اللي ف اسكندرية اللي اسميه سمير.. و الله اعلم ايه اللي خلاهم يسيبوها جبل ما أوصل بشوية ..
هتفت متعجبة:- بس انت ايه اللي عرفك بسمير و شقته !؟.. ده انا نفسي كنت نسياها خالص ..
تطلع اليها في حسرة هاتفا:- الحوچة يا داكتورة خلتني ادور ف كل صحاب اخوكِ وكنت حاططهم تحت عيني و بالذات اللي ليهم صلة كبيرة بيه .. و اهااا .. كان عندي حج و لچأ لواحد منيهم .. بس للاسف معرفتش أوصلهم ف الوجت المناسب .. بس ملحوجة ..
هتفت في ذعر:- ملحوقة ازاي!؟..
ابتسم هاتفا:- ما دام حضرتك مشرفانا يبجى اكيد ملحوجة ..
ألقى كلماته الساخرة واندفع صاعدا الدرج تاركا إياها تنظر الى حيث غاب في غيظ لكن رغما عن ذلك شعرت براحة كبيرة تعتريها ما ان اطمأنت ان أخاها بخير .. و كان هذا يكفيها ..
اندفع من الباب المفضي للمطبخ تحت أنظار الخالة وسيلة والتى لم يلق عليها السلام كعادته واكمل اندفاعه المتهور حتى وصل لقلب البهو في منتصف المندرة .. هم برفع صوته يناديها الا انها ظهرت من خلف باب حجرة الكشف التي كانت تغلقها وقد أنهت لتوها كشفها الاخير و رحلت صاحبته ..
تطلعت بدهشة لذاك الذى يقف متحفزا فى قلب المندرة بهذا الشكل الذي ينذر بالسوء ..
هتفت فى تعجب:- عفيف بيه !؟.. خير ..!؟..
هتف جازا على اسنانه فى محاولة للسيطرة على انفعالاته و التي شعرت بشراراتها المتطايرة من حدقتيه الفحميتين اللتان أصبحتا بلون الجمر:- خير منين !؟.. مهواش خير يا داكتورة !؟..
ازدردت ريقها بصعوبة و كل ما تناهى لعقلها هو نديم اخوها فهتفت بصوت متحشرج:- هو في اخبار تاني وصلتك عن نديم وناهد !؟..
هتف بغضب:- لااااه .. انا بتكلم ع اللى عمِلتيه !؟..
تساءلت فى حيرة:- عملت ايه !؟..
هتف صارخا هذه المرة:- ليه روحتى النجطة تبلغي عن ابوا نادية!؟..
هتفت مجيبة:- انا ..
قاطعها فى غضب هادر:- وليه مجلتيش انك هتعملى كِده !؟..
هتفت بغضب مماثل:- عفيف بيه!؟.. اولا ..حضرتك مكنتش موجود وانا مش هاخد رأى حد ف اللي شايفة من وجهة نظري انه صح .. و ثانيا انا حبيت أعفي حضرتك م الحرج و ابقى قدام الكل اتصرفت من نفسي وسيادتك تبقى بعيد عن الموضوع ..
هتف مذهولا:- بعيد كيف يعنى !؟. انتِ واعية لحالك انتِ بتجولي ايه!؟.. كيف ابجى بعيد عن حاچة بتحصل ف النعمانية !؟..
هتفت ساخرة:- يبقى صحيح بقى اللى بيتقال ان مش ممكن حد يعطس ف النعمانية ولا يكح من غير اذنك و الا تودره ..
هتف متعجبا:- انتِ مين جالك الكلام ده !؟..
هتفت بغيظ:- نفس اللي بلغك اني رحت النقطة اقدم بلاغ ..
هتف فى سخرية:- ع العموم اني عارف مين اللي جال لك كِده .. اكيد حضرة الظابط الهمام .. بس كويس انه عِجّل و عرف الدنيا ماشية كيف ..
اكدت فى هدوء:- قصدك حضرة النقيب شريف عبدالواحد !؟.. ايوه هو اللي قال كده وقال لي ان اللي بعمله غلط و مينفعش و ان الدنيا هنا غير القاهرة..
لا يعلم لما نطقها و ذكرها لاسم الضابط بهذا الشكل جعله يغلى غضبا على غضبه المستعر من الاساس ولكن رغم عن ذلك اكد في هدوء وعينيه الصارمة قد ضاقت ملقية اليها بنظرة لم تفهم مدلولها:- مش بجوللك عِجّل .. اصلك اول ما چه النعمانية كان ذي حالاتك كِده.. كان عايز ياخد الدنيا جفش..
اكدت هى فى لهجة متحدية:- يمكن هو عمل كده لانه محكوم بقوة القانون ونصوصه لكن انا مش هبقى كده يا عفيف بيه و اللى هشوفه صح هعمله ..
تساءل فى حذّر:- جصدك ايه !؟..
اكدت بثقة:- قصدي اللي حضرتك فهمته .. انا مش هسكت على حاجة غلط و مش هقف اتفرج وايدي متكتفة و معملش حاجة تمنعها .. عن اذنك ..
و اندفعت فى اتجاه الدرج تعتليه مسرعة تاركة اياه يكاد يحرق المندرة بل البيت الكبير كله بما فيه من شدة استعارغضبه الذى أشعله تحديها له ..