رواية توأم الروح للكاتبة شاهندة الفصل العاشر
تأملت أميرة ملامح ظافر المسالمة جدا وهو نائم، حقا يبدو كطفل صغير، لا ليس طفلا بل رجل جذاب القسمات، أوسم بكثير مما تخيلته يوما، لقد كانت تظن أن ظافر، كاتبها المفضل، فى الخمسينات من عمره، فلم تكن تعتقد ابدا ان هناك كاتب فى مثل سن ووسامة ظافر قد يكتب بذلك الاحساس الرائع، يحملها بكلماته الى عوالم وردية رقيقة المشاعر، مليئة بالحب والتفاؤل، ترى ما عمره، يبدو فى أوائل الثلاثينات على الأرجح، وسيم الى درجة انها لو ظلت عمرا بأكمله تتأمله لن تمل أبدا، أشاحت بنظراتها عنه تتعجب من انحراف مسار أفكارها، لتعود وتنظر اليه بصدمة وهى تسمع نبراته الهامسة باسم سوزان مجددا..
عقدت حاجبيها تتساءل ما سر تلك الفتاة التى أثرت به لدرجة انه ينطق اسمها ليلا ونهارا فى مرضه؟ ليذكرها مرضه فجأة بأن هذا الوقت هو ميعاد دوائه لتتجنب تلك المرة تماما اسناده وتكتفى برفع وجهه، ثم وضع القرص داخل فمه وسكب محتويات كوب الماء على جرعات داخله، ليفتح عينيه مجددا فى تلك اللحظة وينظر اليها نظرة طويلة جعلتها مجددا أسيرة لعينيه، ليغمض عينيه ويبدوا انه قد استسلم للنوم مرة ثانية، لتكتشف أميرة أنها مازالت تحمل رأسه وضعتها على الوسادة ببطئ، ثم ابتعدت قليلا وهى تتأمل ملامحه، لتهز رأسها ترفض أفكارها ونبضات قلبها المتسارعة والتى تخبرها أنها مازالت أسيرة له، لجاذبيته، لعشقه، عشق ظافر المياح.
دلف كل من فرح وأمانى الى المنزل لتجلس فرح على الأريكة على الفور قائلة:
يااه، تعبنا بشكل، بس جبنا حاجات حلوة كتير.
قالت امانى:
واصريتى تدفعى تمن كل حاجة بالكريديت بتاعك، ودى مش حاجة حلوة على فكرة.
قالت فرح:
كفاية اللى جبتهولى قبل كدة ياأمانى، الحمد لله انى لما هربت كانت شنطتى معايا، سبحان الله كنت خارجة اتمشى شوية عشان كنت مخنوقة، وكنت رايحة أستأذنه بس لما سمعت كلامه هربت من غير ما افكر.
جلست امانى بدورها وربتت على يدها فى حنان لتنفض فرح أفكارها الحزينة والتى تسللت اليها فور تذكرها لذلك الموقف، وهى تقول فى مرح:
بتهيألى اللف اللى لفيناه النهاردة يغنينى عن الرياضة اللى بعملها بالليل ولا ايه ياأمانى؟
ابتسمت امانى قائلة:
طبعا يافروحة، هو فيه حد فينا هيقدر يقوم من مكانه النهاردة، كويس ان جبنا أكل جاهز معانا، مش هقدر اقوم أحضر عشا.
هزت فرح فمها يمينا وشمالا وهى تقول:.
عشا؟انتى فاكرة الفرخة المشوية والسلطات دول عشا؟فين ايام المحشى، والبشاميل، والبانيه، ولا الحمام المحشى فريك،
والحلو بقى صينية كنافة بالمانجة أو ترايفل شوكليت، اممممم، تصدقى جعت.
قالت امانى باستنكار:
انتى كتتى بتتعشى بكل ده؟
ضحكت فرح قائلة:.
مش كله كله يعنى، بس العشا ده كان وجبتى المفضلة اللى بطلع فيها غلبى من تجاهل سى بدر لية، تعرفى انا لو مش حرقى كويس كنت بقيت ضعف وزنى اللى كنت فيه ده، الأكل ده عشقى بس الله يهده الوزن حجمنى.
هزت امانى رأسها فى يأس قائلة:
مفيش فايدة، فرح هتفضل فرح، تموتى فى الأكل يافروحة.
اتسعت ابتسامة فرح وهى تقول:
طب مش هنقوم ناكل ياأمانى، أنا حقيقى سيرة الأكل جوعتنى.
قالت أمانى بابتسامة:.
قومى يااختى، انتى أصلا جوعتينى بكلامك عن الأكل، ربنا يسامحك بقى شكلك انتى اللى هتخسى وانا اللى هزيد على ايديكى.
ضحكت فرح بشدة لتتأمل أمانى ضحكتها بابتسامة حانية فضحكتها العذبة الصادرة من القلب تذكرها بضحكة أميرة، ولكن فرح تتميز بشقاوتها المحببة، والتى خففت عنها وحدتها، فوجود فرح معها جعلها تدرك كم كانت وحيدة قبل أن تقابلها، تعيش فقط مع الذكريات، نفضت افكارها وهى تنهض لتحضر العشاء حين اوقفتها يد فرح التى امسكت بيدها قائلة فى امتنان:.
عارفة انى بعيد كلامى كتير بس بجد انا لو هعيش عمرى كله عشان أرد جميلك علية مش هقدر، انتى عوض ربنا لية عن حاجات كتير افتقدتها بحياتى، انتى الأخت اللى اتمنيتها، السند والحماية، الحنان والأمان، انتى بقيتى اغلى حد فى حياتى ياأمانى.
ترقرقت الدموع بعينى أمانى لتقول بمزاح تحاول أن تخرج به من دائرة تأثرها الشديد بكلمات فرح حتى لا تنسكب دموعها بدورها:
اغلى من بدر؟
ابتسمت فرح وهى تمسح الدموع التى سقطت على وجنتيها قائلة وهى تمزح بدورها:
لا يااختى، كله الا بدر، ده اللى فى الحتة الشمال، قاعد ومتربع.
اتسعت عينا أمانى فى صدمة قبل أن تنطلق ضحكتها لتشاركها فيها فرح ثم تقول:
قومى يافرح، قومى ناكل، انتى الجوع بيخليكى واحدة تانية، قومى ياماما، قومى الله يهديكى.
ابتسمت فرح وهى تنهض وتتبع أمانى، تحمد الله، ربما للمرة الألف على وجود امانى بحياتها.
انخفضت حرارة ظافر وأحست انها عادت لطبيعتها، نظرت أميرة الى نفسها، حقا تحتاج الى حمام ساخن وربما تغيير ملابسها أيضا، نظرت الى دولاب ظافر لتخطر تلك الفكرة المجنونة برأسها، لم لا تستحم وتبدل ملابسها لاحدى ملابس ظافر، لقد اعارها منامته من قبل ولا تعتقد انه سيمانع اقتراضها لكنزة أو بنطلونا من دولابه، وهى ستغسل ملابسها وعند جفافهم ستبدلهم على الفور، وربما لن يلاحظ انها اقترضت ملابسه من الأساس، راقت لها الفكرة لتنهض على الفور وتقوم بتنفيذها، وقفت امام دولابه لا تدرى ماذا تختار؟لاحظت تنظيمه الشديد والأنيق لملابسه، اخذت كنزة وبنطلونا وذهبت لتستحم وتبدل ملابسها، عادت بعد فترة فوجدته على حالته التى تركته عليها، تجمعت بعض حبات العرق على جبهته لتزيح الغطاء عنه قليلا، ثم أحضرت منشفة صغيرة وجففت حبات العرق بهدوء، ليفتح عينيه فى تلك اللحظة، لتتصادم مع عينيها، أدركت اميرة من انعقاد حاجبيه فى تلك اللحظة أنه يراها هى ولا يرى والدته كعادته كلما افاق من نومه، رفعت المنشفة بهدوء وهى تبتعد عنه قليلا، ليقول بصوت خفيض:.
كوباية مية.
أسرعت وسكبت كوبا من الماء، ثم ناولته اياه ليرشف منه رشفة صغيرة ثم يعيده اليها، رأته يتأملها للحظات ثم يغمض عينيه يستسلم مجددا للنعاس، لتزفر أنفاسها التى حبستها أثناء تأمله اياها، تكاد تقسم انها رأت اعجابا دفينا فى مقلتيه قبل أن يغمض عينيه ويستسلم للنوم، نفضت افكارها عندما استمعت لصوت معدتها الذى أنبأها انها حقا جائعة فلم تأكل شيئا منذ البارحة لتقرر النزول لترى اى شي يصلح لتأكله على الفور دون تحضير فهى جائعة للغاية، وربما تصنع بعض الشوربة لظافر، هى لم تدخل مطبخا من قبل ولا تدرى كيف تصنع الشوربة ولكنها ليست بالمهمة الصعبة وستحاول على أية حال، فإلى اى مدى قد تكون مهمة اعدادها بتلك الصعوبة؟لتقف فى المطبخ بعد لحظات و تدرك انها بالنسبة اليها مهمة مستحيلة.
دلف بدر الى المنزل فى لهفة حيث وجد والدته فريدة جالسة على الأريكة بالردهة تحتسى الشاى ليسرع اليها قائلا بسرعة:
لقيتها ياماما، لقيتها.
تركت فريدة فنجال الشاى من يدها قائلة بلهفة:
بجد يابدر عرفت عنوانها؟
عقد بدر حاجبيه قائلا:
مش بالظبط ياماما بس...
قاطعته فريدة وقد ظهرت خيبة الامل على ملامحها قائلة:
بس ايه يابدر؟امال لقيتها ازاى لما انت معرفتش عنوانها؟
جلس بدر الى جوارها قائلا:.
صحيح انا معرفتش عنوانها بس كفاية انى اطمنت انها عايشة وبتصرف فلوس كمان.
عقدت فريدة حاجبيها قائلة بسخرية:
وعرفت ازاى يانبيه عصرك؟
تجاهل بدر سخريتها وهو يقول:
المحقق اللى اجرته قاللى انها صرفت مبلغ كبير من الكريديت بتاعها.
ازداد انعقاد حاجبى فريدة قائلة:
فى ايه؟
قال بدر:
فى لبس وشوية رفايع.
قالت فريدة فى صدمة:
لبس وشوية رفايع، وده اللى طمنك يابدر؟، هى فرح بتاعتنا هتصرف فلوس فى الكلام ده؟
انعقد حاجبى بدر قائلا:
تصدقى من فرحتى مفكرتش.
تفحصته فريدة بعينيها قائلة:
وفرحت ليه؟
أشاح بدر بوجهه عن نظرات والدته المتفحصة وهو يقول:
عادى ياماما، مش بنت عمى وكنت عايز اطمن عليها.
صمتت فريدة وظلت تنظر اليه لينهض قائلا بتوتر:
أنا هروح المحلات واشوف مين اللى اديتهم الكريديت، ممكن تكون اتسرقت من فرح.
اومأت فريدة برأسها وهى تدرك محاولة بدر الهرب من مشاعره، فلقد احب ابنة عمه دون أن يدرى ولم يكن لهروبها فائدة سوى ادراكه لمشاعره، لذا قالت بهدوء:
ابقى طمنى يابدر.
اومأ بدر برأسه وهو يتجه لمغادرة المنزل، تتبعه فريدة بعينيها لتمسك فنجال الشاى خاصتها مرة اخرى وترشف منه رشفة لتبعده عن فمها باشمئزاز وقد احست ببرودته لتنادى على الخادمة كى تبدله لها وقلبها يبتهل الى الله ان يجد بدر اى خيط يدله على مكان فرح.
استيقظ ظافر يشعر بالألم فى كل جسده، فتح عينيه يتأمل محيطه بهدوء ليدرك أنه بحجرته، اعتدل ليتأوه بالم، ثم اسند ظهره الى الوسادة، وأغمض عينيه يحاول أن يتذكر ما حدث، فآخر ما يتذكره هو تبديل ملابسه المبتلة ثم صعوده الى حجرته لينام على الفور، ثم استيقاظه فى منتصف الليل يشعر بآلام مبرحة فى كل جسده ليستسلم للنوم مجددا ولم يستيقظ سوى الآن، تذكر الآن لقد كان يحلم حلما غريبا ففى حلمه كان مريضا، وقد كانت أميرة من تعتنى به، تلك العنيدة، كانت فى حلمه حنونة تماما كأمه حتى انه ظنها فى البداية أمه وضمها لتحتويه هى بحنان، وضعت له الدواء وجففت عرقه ليراها كما هى أميرة وليست والدته ابدا، اطعمته شوربة لم يستسغ طعمها، ولكنه كان جائعا فلم يمانع، حقا لقد كان حلما غريبا حتى أنه رآها ترتدى فى حلمه كنزته المفضلة ورغم انها كنزة ذكورية الا انها بدت عليها أنثوية للغاية، جميلة للغاية، مثلها تماما.
أغمض عينيه فمازالت رائحتها العطرة عندما كانت تقترب منه تستقر فى أنفه، حقا كم بدا ذلك الحلم حقيقيا مجسدا، نفض افكاره التى تدور كلها حول اميرة، وتساءل ظافر فى قلق، هل بدأ يضعف مجددا؟هل بدأ يستسلم لمشاعره؟هل نسى ان كل بنات حواء خائنات، هل جن؟
حانت منه التفاتة لساعته ليدرك بكل صدمة مرور يومان، لتضربه الحقيقة مرة واحدة، لم يكن ما راوده حلما بل كان واقعا ملموسا، نعم كان مريضا، وكانت اميرة من اعتنت به، من ضمها وتمسك بها بكل قوة، من جعلت قلبه يدق بتلك الصورة، لينفض أفكاره بعنف.
حينها وجد الباب يفتح لتدلف منه من كانت محور أفكاره، لقد تخلت عن ملابسه وارتدت فستانها مجددا، جميلة هى فى كل الاحوال.
اتسعت عيناها لحظة كمن فوجئ باستيقاظه، تمسك بيديها صينية عليها طبق يبدو انه يحمل تلك الشوربة التى لم تعجبه، اقتربت بخجل قائلة:
مساء الخير.
لم يجيبها ظافر الغارق بأفكاره لتقترب اكثر وهى تجلس على المقعد بجوار سريره قائلة:
انا جيبتلك الشوربة، انت، انت مكلتش حاجة من الصبح.
نظر اليها بجمود فناولته الصينية، أخذها منها بهدوء ولم يأكل شيئا لتدرك انه عاد ذلك الظافر المتجهم الكاره للنساء لتتنحنح قائلة:.
أنا هقوم أخرج برة عشان تبقى براحتك، لو احتجت حاجة ناديلى.
لم يجيبها مجددا فابتلعت ريقها وهى تخرج من الحجرة، لتلقى نظرة أخيرة عليه قبل ان تغلق الباب.
زفر بقوة ثم نظر الى الشوربة، تنهد وهو يدرك طعمها ولكن معدته أنبأته بأن عليه أن يتغاضى عنه، ليمسك الملعقة بهدوء ويرشف رشفة صغيرة ليعقد حاجبيه وهو يجدها طيبة المذاق، هز كتفيه بحيرة ثم عاد لتناولها وبداخله دارت العديد من الأسئلة والتى لن يستطيع الإجابة عليها حتى يستعيد عافيته كاملة، فقط سينتظر.