رواية بين الرذاذ للكاتبة أنستازيا الفصل السادس والثلاثون
كارل: لا ادري كم مرة قمت بهذا حتى الان ولكنني لم اتوقف عن تفقد هاتفي في كل حين لعلني المح اتصالا من أبي بعد انتظار.
رفعت هاتفي مجددا بيمناي وانا اضع أكواب قهوة الأمريكانو المثلجة على الركن ليأتي أحد الزملاء ويأخذها لزبون الذي قام بطلبها، و بينما اقوم بتنظيف البُقع اسفل الة تقطير القهوة سجّلت المزيد من الرسائل بصوتي اخبرنا على الاقل ان كل شيء على ما يرام معك، لازلنا ننتظر اتصالا منك أبي.
ارسلت التسجيل الصوتي قبل اتنهد و الحقه بآخر لقد عاد دانيال الى المنزل برفقة الانسة كتاليا، متى ستمزق وجهه تحديداً كما توعدت؟
ارسلته وابقيت هاتفي على مقربة مني بترقب لعله يجيبني بسرعة، التفتُ لرفوف المفتوحة خلفي لأقوم بترتيب حقائب حبوب القهوة التي انتهيت من تنظيف الغبار أسفلها، استدرت للوراء أزم شفتاي بلا حيلة بينما أنظر من فوق كتفي إلى المقهى المكتظ وانصت إلى أصوات الزبائن المتداخلة.
اكتظاظ المقهى. لا يتراجع منذ أن باشرت العمل اليوم!
اخفت عيناي نحو الهاتف الذي لم أتلقى منه أي إشعار ثم استكملت وضع فناجين القهوة مختلفة الأشكال والتصميم على الرف حتى لمحت مويرا التي اقتربت لتأخذ أكواب قهوة الأمريكانو المثلجة التي انهيتها قبل لحظات، وبينما تلتقط الأكواب كانت تتذمر بصوت خافت بإنزعاج: أين تلك الصبيانية المتوحشة ألا ترى اقبال الزبائن منذ الصباح الباكر بحق الإله!
اعادت خصلات شعرها خلف أذنها وأسرعت نحو الطاولة لتلبي الطلبات ثم التي تليها، نظرت من حولي باستنكار وفضول ولم ألمح سوى زاك الذي نزل على عجالة من الطابق الثاني وبدى منهكاً وهو يتجه نحو المطبخ ممسكاً بصينية الأطباق الفارغة فسألته بسرعة: زاك هل لمحت الآنسة تاتيانا في الأرجاء؟
نفي برأسه يستكمل خطواته الواسعة وهو يقول: ليست في الأعلى، من يدري قد تستغل وقتها في الدراسة!
لا أتذكر أنني رأيتها في غرفة الاستراحة، مع أنها بَدت منهمكة في الصباح في العمل، أنا حتى لم أجد فرصة ملائمة لأعيد لها قسيمة الخصومات الخاصة بالملابس النسائية.
رأيت ويل الذي خرج من زاوية المطبخ يمسك بطبق وجبة الفطور الطازج منزعجاً وهو يقول لأحد زملائنا بشيء من العصبية: سأرمي القمامة في الحاوية لاحقاً ألا ترى كيف ازدحم المقهى! امنحني الرحمة أرجوك، تلك الزبونة في الطابق الثاني لا تتوقف عن التذمر لذا دعني ألقي هذا الطبق في وجهها وسأعود إليك حالاً.
رفعت يدي مهدئاً لويل ما ان مرّ من أمامي ينوي الصعود إلى الأعلى وقلت: تبدو مشغولاً ويل، لقد أنهيت اعداد طلبات القهوة يمكنني رمي القمامة بدلاً منك قبل وصول زبون آخر.
وقف في مكانه وقد تلألأت عينيه بإمتنان: كارل! أنت حقاً الإضافة الألطف في هذا المكان! ستجد أكياس القمامة في المخزن، سأعرفك على أجمل فتاة تعيش في الحي الذي أقطن فيه أعدك!
ابتسمتُ بلا حيلة ونفيت برأسي مهدئاً: لا تقفز بحماسك بعيداً. أستطيع مساعدتك قبل تلقي المزيد من الطلبات.
أومأ بسعادة وقد اتسعت ابتسامته المتأثرة قبل ان تتلاشى تدريجياً وقد سمعته يحدث نفسه بينما يكمل طريقه: لا يشعر بأي حماس تجاه الفتيات رغم محاولاتهن البائسة، هل يعقل أنه. شاذ!
وقفت في مكاني مذهولاً أحدق إليه بينما يسرع ليأخذ الطلبات للأعلى وقد فغرت فمي بعدم استيعاب.
ش. شاذ!؟ أي استنتاج أحمق هذا بحق الإله؟
بدأت أجز على فكي أكبح غيظي و انزعاجي وقد تحركت لأخذ أكياس القمامة الممتلئة وسحبتها نحو الباب الخلفي، مررت بالمطبخ بخطوات سريعة بينما أحاول جاهداً رسم ابتسامة رسمية لأحد الطهاة الذي كان يرمقني بنظرة سريعة مستغربا تواجدي هنا.
فتحت الباب الخلفي الذي كان يؤدي إلى المخزن وبالتالي يؤدي هذا المخزن للزقاق الخارجي الجانبي والضيق للمقهى، تأكدت من احكام اغلاق الأكياس وسحبتها لأخرج وقد لفح نسيم لطيف وجهي.
تحركت نحو الحاوية الكبيرة ورفعت الأكياس لألقيها بالداخل بينما أعقد حاجبياي بحيرة أنصت إلى صوت مألوف بالقرب مني.
نظرت من حولي باستغراب حتى أدركت أن الصوت قادم من الزقاق الخلفي.
هل هذا. صوت تاتيانا؟
أياً يكن.
لا تبدو لي من النوع الذي يتهرب من العمل لربما لديها مكالمة هاتفية مُهمة.
اتجهت نحو الباب لأعود ولكن قبضتي قد توقفت قبل أن أدفعه وبقيت في مكاني أستنكر علو صوتها وقد بدت. غاضبة؟
مهلاً.
طرفت مرارا باستيعاب أتذكر أمر ذلك السكّير وقد وجدت نفسي أتحرك فوراً نحو الزقاق الخلفي.
لحظة. تلك ليست مكالمة هاتفية يبدو لي أن برفقتها شخص ما! هل عاد ذلك الرجل؟! يمكنني سماع صوت رجولي معها لربما يكون قد عاد بالفعل!
أسرعت في خطواتي وقد كان صوتها يتضح أكثر فأكثر حتى توقفت قدماي عن الحركة عند الناصية وقبل أن أستدير جراء قولها الحازم: لذا يمكنني العناية بها لا تقحم نفسك في هذا الشأن! بل لا تدّعي الاهتمام بي وقد اختفيت طوال تلك السنوات دون التفوه بكلمة!
أتى صوت غير مألوف لأدرك أنه ليس ذلك السكّير: لا أدعي الإهتمام تاتيانا، لا تسيئي الفهم.
تنفستُ الصعداء براحة، فوجود ذلك الرجل لن يبشر بالخير أبداً.
في حين يبدو صوت هذا الرجل أصغر سناً وأقل خشونة من ذلك السكير لذا تنهدت بإطئمنان أنوي الاستدارة لأعود أدراجي لولا أن تسمرت بذهول في مكاني إثر وقع كلماته بنبرة متململة تميل إلى التهكم: لقد علمتُ بما حدث قبل عام، إن كنتِ قد غرست تلك السكين في جسده وكاد يفارق الحياة فلا تعتقدي بأنه سيعود طلباً للمغفرة! أكره السذاجة، وما تقومين به يستفزني، هو لا يتوقف عن محاولة الوصول إلى ظناً منه أنكِ برفقتي لذا لا تقحميني في مشاكلك معه. لدي الكثير لأهتم به في الوقت الحالي.
تغرس ماذا!
ما الذي!
بدت منزعجة بشدة وهي تقول بإندفاع واضح: لم أكن لأتهجم عليه دون سبب أيها الوغد وأنت تعلم هذا جيداً، ثم من يعلم. ربما فعلتُ هذا تيمناً بكَ هاه؟ لا أعتقد أن أسبابي تختلف عن أسبابك آنذاك!
اعقبت بصوت مليئ بالتهدج يرتجف بوضوح: حاولت حماية نفسي وحسب! على الاقل. كنت ادافع عن نفسي ولم الحق به اذى يسلب روحه من جسده! انا لم انهي حياة شخصين أيها الملاك البريء!
تفاجأت بصوتها كما لو تتأوه فتساءلت في نفسي إن كان قد حاول إيذائها!
أنا.
ربما على التدخل!
نويت هذا بالفعل لولا ان قالت بصوت يرتجف بوضوح: دعني! متى طلبتُ منك المساعدة أو أقحمتك في شؤوني الخاصة! انت من أظهر نفسه فجأة من العدم! أنت من عاد ليلعب دور المسؤول بعد غياب دام لفترة طويلة! تلك المرأة المُسنة التي تطالبني بالتخلي عنها. إنها.
مال صوتها إلى الخفوت أكثر وقد استنكرت البحة والغصة التي بدت واضحة جداً في نبرتها: لا أحد حولها! لا أحد يمكنه العناية بها! هي حتى تعتقد أنني حفيدتها وقد ساءت حالتها وأصابها الخرف فأنّى لي تركها وشأنها الآن لأجل ذلك السافل مُدمن الممنوعات الذي يحاول الاحتيال عليها!
ومن وكلكِ في مقام ممرضة الرعاية الخاصة بها!
ومن أنتَ تحديداً لتملي على ما أفعله؟! ماذا تريد مني!
أضافت بحزم: خلاصة القول، لا تظهر وجهك أمامي إن كان هذا ما ستقوله بعد غياب! كما لست مكلف بي ولا يوجد من يرغمك على هذا لذا أستطيع تولي شؤوني الخاصة. انتهى اي رابط كان يورطك بشأني لذا دعني واتركني لامضي في طريقي! أنا لم أقم بلومك او أشهد ضدك بعد ما فعلته بأبي لأنني لست ناكرة للجميل ولست نذلة ستضرب كل شيء بعرض الحائط ولكنني أخبرك الآن بكل وضوح أنني. لا أحتاجك في أي جزء من حياتي!
يبدو لي أنه كان يدخن سيجارة فقد كان واضحاً لي أنه ينفث الهواء باتزان من فَمه بينما يتنهد وتمتم بنبرة باردة: لست مكلف ولا أنوي اهدار وقتي، ولكنني أخبرتكِ للتو. لدي الكثير لأهتم به ولا أنوي تشتيت ذهني، سأمهلك فرصة أسبوع لتعثري لتلك المُسنة الخرفة على مأوى مناسب، ابتعدي عنها ولا تحشري أنفكِ في شؤونها.
تراجعتُ بسرعة عندما سمعت صوت خطوات تقترب فخمنت أنه سيغادر، وقبل ان ابتعد تفاجأت بصوتها الجهوري وهي تصرخ: متى كان ذهنك صافٍ أصلاً! متى كنت تنظر إلى الحياة بأريحية! متى كانت عيناك تبصر ما حولك بصورة طبيعية! لا شيء يجمعنا بعد وفاة والدتك لذا ابقى بعيداً عني وحسب! أنا. أكرهك.! كُنت أكرهكَ ولا زلت كذلك!
طرفت مجفلاً لرؤية زوج من العيون الخضراء تحدق إلى لأدرك أنني تأخرت كثيراً في الانسحاب من هذا المكان.
نظر إلى بأعين متفاجئة وبدى لي كما لو. استنكر وجودي للحظة قبل أن أتفاجئ بالنظرات المتمعنة والغريبة في كلتا عينيه بينما يحدق إلى بتركيز وابتسامة هادئة تعلو ثغره.
بقي واقفاً وتلك السيجارة بين شفتيه اللتان ارتجفتا رجفة طفيفة!
وجدت نفسي ابتسم له بهدوء ورسمية بينما رفع يده يمررها في شعره الأشقر لأنتبه لندبة كبيرة بارزة على جبينه لم تبدو لي قديمة.
أبقى السيجارة في فمه يبتسم بخفة وأكمل طريقه حتى التقطت أذني كلماته الخافتة التي بالكاد سمعتها: ياللصدفة، المزيد من العقبات.
عقدت حاجباي باستغراب والتفت برأسي أتابعه بعيناي بينما يبتعد.
ملامح هذا الرجل.
بطريقة ما. يصعب تفسير التعبير الذي كان يعتلي وجهه!
بقيت أتابعه بعيناي حتى وصل إلى نهاية الزقاق، ارتفع حاجباي بتلقائية عندما وجدته يستدير لينظر إلى من فوق كتفه للحظة وقد اتسعت ابتسامته بطريقة ملتوية وهو ينتزع السيجارة من فمه ويلقيها أسفل قدمه اليمني ليدوس عليها ببطء!
بقيت أحدق إليه بهدوء حتى اشاح بوجهه وأكمل طريقه لينعطف يميناً وغادر فأطبقت شفتاي بقوة قبل أن أعود أدراجي إلى الباب، هذا ما فعلته عندما رأيتها تخرج من الزقاق الخلفي مطأطأة الرأس وتتحرك بخطوات بطيئة وملامح باهتة شاحبة جدا!
كانت تمرر يدها على معصم يدها الأخرى وقد تفاجأت بوجود أثر أحمر عليها لأدرك أنها تأوهت بقوة حينها جراء قبضته على معصمها.
نعم لا مجال للشك.
بدت متألمة تحاول تخفيف شعورها بالألم وقد تقوست شفتيها المرتجفة بوضوح بينما تقطيبة صغيرة بين حاجبيها تنم عن ضيق واضح يجتاحها بشدة!
بقيت تحدق إلى الفراغ بشرود فوجدت نفسي أزدرد ريقي بصعوبة، ك. كارل. تجاهل ما يحدث حالاً وإياك والتدخل هذه الفتاة لا تتردد في افتعال أي مشكلة معك.
خيالها واسع و ستسيء الظن بك وتفتري عليك بنوايا لا وجود لها.
لمحتني أقف أمام الباب وسرعان ما تغيرت ملامح وجهها إلى الهدوء في. أقل من لحظة!
انزلت يدها تبعدها عن معصمها فوراً لتقول بإمتعاض وتبرم: م. ما الذي تفعله هنا؟
رفعت كتفاي مشيراً بذقني إلى الحاوية بهدوء: ماذا برأيك!
إنها مهمة ويل وزاك.
قالت ذلك تعقد حاجبيها بإستنكار فأدخلت يدي في جيب بنطالي لأخرج القسيمة وقلت: تفضلي، إنها لكِ.
وصلت حيث أقف ونظرت إلى القسيمة للحظة قبل أن تشهق بخفوت: لقد كنت أبحث عنها في كل مكان! كِدتُ أتسرع في شراء ملابس داخلية على نفقتي الخاصة بالكامل!
تنهدتُ بلا حيلة إثر قولها، ثم ناولتها إيّاها أشيح بوجهي، فتمتمت بتهكم بينما تأخذها مني: تصرف نبيل! نقطة تُحتسب لك.
أخفضت ناظري نحو معصمها حيث أثر قبضة ذلك الرجل، ثم تجاهلت الأمر وقلت: قسائم الخصومات ستكون مفيدة لي، شكراً جزيلاً.
رفعت يدها بلا اكتراث وتبعتني عندما فتحتُ الباب لِتقول بملل: إنها كنزي الثمين لذا كافح لأجلها قبل نهاية العرض، أنصحك بالذهاب إلى المتجر قبل يوم من الخصومات لتدرس المكان جيداً.
آنسة تاتيانا.
ت. تباً كارل لماذا يستمر لسانك في التصرف من تلقاء نفسك!
عليك أن تتجاهل أمرها وحسب! إنها مجرد فتاة غير ناضجة لن تتردد في افتعال المشاكل حتى لو كنت تنوي خيراً!
أحكمت قبضة يدي بقوة عندما التفتت تنظر إلى بترقب بعدم اكتراث.
أعلم أنها سريعة الاشتعال وسيزعجها قولي ولكن. لو كانت لي شقيقة تصغرني سناً لم أكن لأقف مكتوف الأيدي!
ما تعرضت له من قلق جراء ظهور ذلك الرجل وهو يبحث عنها وما تعرضت له اليوم أمام ذلك الشاب، إنها أمور قد أكون مسؤولاً عنها بطريقة غير مباشرة طالما شهدت ما حدث ويحدث ولا يمكنني التهرب من هذه الحقيقة! أقصد. إن حدث لها أي سوء فسأتحمل جزء من المسؤولية لالتزامي الصمت!
وحينها. قد يقتلني حقاً تأنيب الضمير.
أكره فوات الأوان بشدة ولا يمكنني التعامل مع هذا الشعور!
لا أطيق اللحظة التي قد أضطر فيها لقول ليتني !
رفعت حاجبها الأيسر بنفاذ صبر قبل أن تقول ساخرة لتلقي بمزحتها الثقيلة محاولة استفزازي كما اعتادت: ما الأمر أيها الوسيم؟ رأيت المخزن خالياً هنا وتعتقد أنها فرصة مناسبة لتنزع قناعكَ اللطيف؟
تمالكت نفسي وهدأت أعصابي بعد أن انتابني الإنزعاج إثر كلماتها الساخرة!
تنفست بهدوء قدر المستطاع وقلت أتجنب النظر إليها بعد ان استمرت في التحديق إلى بشكل متواصل: الجئي إلى الشرطة أو أي شخص يمكنك الوثوق به، ذلك الرجل السكّير قد لا يتركك وشأنك.
تلاشى التعبير الساخر عن وجهها وحل مكانه التعبير المترع بالجفاء والحزم فاستكملت قولي: لا أنوي التدخل ولن أفعل، ولكنني أقول ما أراه صواباً وحسب.
ساد الصمت المطبق المكان فقررت التحرك بسرعة لأدخل المطبخ ولكنها استوقفتني بقولها بنبرة عدائية: منحتك ما يمكنني تقديمه كامتنان لما فعلته آنذاك، لذا لا أدين لك بشيء وهذا يعني أنه عليك ان تنسى الأمر وتتصرف وكأن شيئاً لم يكن.
تحركت أمامي بخطوات واسعة وسبقتني في الدخول إلى المطبخ وهي تدفع الباب بقوة.
نفيت برأسي بلا حيلة وبقيت في مكاني أضع يدي على خصري.
لا فائدة حقاً.!
زفرت بلا حيلة واسرعت بالعودة إلى الركن وفي طريق عودتي لمحت هيئة مألوفة لامرأة تقف أمام الركن تحدق إلى هاتفها بإنهماك، لم يكن يلزمني رؤيتها دون نظارتها الشمسية أو قبعتها التي حرصت على ان تبقيها على مقربة من وجهها لتخفي جزءاً كبيراً منه، غمرني السرور وقد ابتسمت فوراً واقتربت بسرعة لأدخل حيث مكاني في الركن فانتبهت لوجودي لتبتسم بلطف وأشارت بابهامها للخلف حيث المدخل: صباح الخير كارل، ينتظرني رفاقي في الخارج، مررت هنا وفكرت في رؤيتك وطلب ك.
كوب من الموكا البيضاء؟
أومأت تنزع نظارتها وقد اتسعت ابتسامتها لتتساءل في حين بدأت أعد طلبها أتجاوز تلك الزغزغة الظريفة التي شعرت فيها بين أضلعي: جاهز ليوم الأربعاء؟ هل ستكون متواجداً لتلبية العرض أم أنك بحاجة إلى المزيد من الوقت للتفكير؟
هذا الموضوع.
أدركت للتو فقط أنني تسرعت في منحها اجابتي دون تفكير.!
نفيت برأسي بشيء من التردد: أعلم أنني منحتك موافقة مبدئية، لأصدقك القول آنسة ستيلا لا زلت احتاج إلى المزيد من التفاصيل. ربما. سأفكر بالأمر أكثر!
أمالت برأسها قليلاً نحو اليمين تحدق إلى بتمعن قبل أن تقول ممازحة: مع أنني واثقة أن الفريق القائم على التسويق للمطعم لن يمنحك فرصة التفكير، لا بأس كارل لك كامل الأحقية في التفكير لذا قرر ما تشاء فعله أردت تقديم يد العون وان أساعدك على إدراك توفر الكثير من المعايير التي قد تساعدك على تنويع مصادر الدخل الخاصة بك.
أومأت إيجاباً بتفهم وقد انتابني الإحراج رغماً عني إثر إطرائها الجريء.
رفعت عيناي عن الكوب أرمقها بنظرة سريعة فوجدتها قد أسندت كلا مرفقيها على الركن تحدق إلى ما أقوم به لتعلق: أصبحت أسرع وأكثر مهارة في إعداد القهوة!
أرجو المعذرة
صوت أنثوي قد نادى فرفعت عيناي نحو الزبونة التي دخلت للتو ووقفت بجانب الآنسة ستيلا، بدت في عمر المراهقة وعلى عجالة من أمرها تمسك بحبل حقيبتها التي استقرت على ظهرها لتقول: ماكياتو.
أومأت برسمية: حالاً.
انتهيت من اعداد الموكا البيضاء وقد قدمتها إلى الآنسة ستيلا التي ابتسمت بهدوء تتناولها مني، بقيت تقف في مكانها وهي تخرج هاتفها وتلتقط صورة للكوب فابتسمت برضى بينما أسرع في تجهيز الماكياتو.
شاركتني صديقتي مقطع مصور لك يتناقلنه الفتيات في الجامعة!، هل أستطيع التقاط صورة لك؟
كان هذا ما قالته الفتاة وهي تنظر إلى بترقب فقلت بهدوء منهمك فيما أقوم به: أعتذر منكِ حقاً، كما لا فائدة ستجنيها إحداكن من فعل ذلك.
لمحت الابتسامة المترعة بالحيرة على ثغر الآنسة ستيلا وهي ترمقني بنظرات سريعة قبل أن تنظر إلى الفتاة ورفعت نظارتها الشمسية على عينيها في حين تورد وجه الأخرى لتقول: آ. آه أسفة لإزعاجك.
شعرت بالسوء رغماً عني وقد قلت فوراً أنفي برأسي سلباً: لا بأس، تفضلي.
أخذت الكوب وأسرعت نحو ركن الدفع في حين تمتمت ستيلا ترتشف من الموكا بينما تحدق إلي: هل تنزعج حقاً من فكرة تهافت الفتيات وتجمهرهن عليك كارل؟
قطبت جبيني أنظف المكان بالمنشفة الصغيرة: هل أبدو كمن يقضي وقتاً ممتعاً؟
علي الإطلاق.
أضافت بنبرة استنكار تستمر بالنظر إلى بحيرة: أنتَ. غريب!
غريب؟
م. مهلاً!
ماذا لو كانت هي أيضاً ستلقي باستنتاج مريب كالذي القى به ويل بحق الإله؟!
ازدردت ريقي بصعوبة وقلت فوراً دون شعور: أنا رجل مستقيم! حقاً. أنا أميل إلى الفتيات بالطبع ولكنني فقط. حسناً أقصد. أنا رجل مستقيم وحسب.
بدت الدهشة على وجهها للحظة حتى ارتخت ملامحها بعدم فهم ونفيت برأسها: م. ما مناسبة قولك لهذا فجأة!
زميت شفتاي أشيح بوجهي بل واستدرت لأعطيها ظهري اتمالك نفسي، سحقاً ما الذي أقوله تحديداً!
انتابني الإضطراب لسماع ضحكتها الخافتة وقد همست ممازحة: لا عجب في أنك غريب حقاً!
التفت نحوها بتردد ولم أعلق فابتسمت لي وقالت تشير للوراء: على كل حال أعلمني بقرارك. على المغادرة الآن.
ابتسمت لها بهدوء وقبل أن أعلق على قولها أردفت لتستكمل: إن رفضت العرض ليوم الأربعاء لا بأس لا ترغم نفسك سأبلغ الفريق بالبحث عن شخص آخر، كما كنت أتساءل إن.
صمتت للحظة تردف بينما ترفع الكوب بيدها: إن كنت متفرغاً لنتنزه في الأرجاء. مثلاً؟
هذه المرة.
لا يتعلق الأمر بعرض للعمل وما شابه!
هي تسألني أن نتنزه معاً وبكل وضوح وصراحة!
بقيت أنظر إليها حتى تحرك لساني من تلقاء نفسه: متى؟
لنبقى على تواصل ونقرر، اتفقنا؟
قالت ذلك بينما تستدير بسرعة وتلوح بيدها الأخرى: إلى اللقاء، ينتظرني الرفاق هناك.
واجهت صعوبة نوعاً ما لأرفع يدي وألوح لها بالمقابل فاكتفيت بإيماءة صغيرة برأسي بينما تتابعها كلتا عيناي وهي تهرول مبتعدة.
هذه الزغزغة الظريفة بين أضلعي مجدداً. وهذه الرغبة في رؤيتها أكثر! كيف من المفترض أن أرفض لقائها حتى!
بالطبع أريد تلبية تلك الدعوة!
ارخيت جسدي للوراء وقد اقتربت من الحائط لأرخي ظهري، لا أدري كم مضى من الوقت على شرود ذهني الذي يراجع الحوار السريع الذي دار بيننا للتو.
ولكنني أدرك حقيقة واحدة. أنني أريد رؤيتها أكثر والحصول على المزيد من. الفرص لذلك!
تنهدت بعمق وابقيت ظهري على الحائط بينما اخرج هاتفي من جيبي اتأمل الشاشة بترقب لأعود إلى أرض الواقع ويعود ذهني لينشغل من جديد.
لا اتصال من أبي حتى الآن.
مهما حاولت الاتصال به لا نتيجة!
هل يتجاهلني عمداً؟
أريد الوثوق بقدرته على إدارة الوضع هناك في القرية ولكن لا يمكنني التوقف عن نسجح الكثير من الأحداث الممكنة.
أياً يكن ما يحدث. أرجو أن يعود في أقرب وقت فحسب.
كيفين:.
تجاوزت المارة لانعطف يمينا في تقاطع المشاة ادس يدي اليسرى في جيبي واخرج هاتفي بيمناي لأغير الموسيقى التي استمع اليها الى اخرى أكثر هدوءا. وفي جميع الأحوال قد اختفى صوت المارّة عن أذني، غاب صوت هواتفهم ومكالماتهم وضجيج محادثاتهم وضحكاتهم.
دفعت نظارتي أعلى أنفي بسبابتي وأعدت يدي إلى جيب بنطالي لأكمل طريقي بخطوات بطيئة.
ضاقت عيناي قليلا بينما أمشي جراء انعكاس ضوء الشمس على مرايا السيارات، ولكنها سرعان ما ارتخت عندما مررت بجانب المباني الشاهقة التي ظللت الشارع لتحجب ضوء الشمس.
لا وجهة محددة لدي، عدى أنني أرغب في التنفيس عن الشعور الذي يثقل عاتقي.
لسبب ما، لا زلت غير مستعد للقائها.
تلك التي تدّعي انها. أمي!
تلك التي تعتقد ان كل شيء سيعود كما كان!
عندما طرقَت اليوم باب محل الحلاقة و ولجت لم يكن من الصعب على لاري ان يقتنع بالبقاء معها وهو يرى في جعبتها مجموعة من الهدايا ومجسمات الحشرات التي أفقدته صوابه وجعلته مفعماً بالحماس.
قابلتني عيناها الراجية وبدت مترددة وهي تطلب مني البقاء والانتظار معهما، ومع ذلك لم يكن هذا الرجاء كافياً!
هل أنا.
متحجر القلب حقاً؟! هل هو خطأي أنا؟
هل يحاول كارل ودانيال اقناعي وحسب أم أنها تستحق بالفعل. فرصة!
هل كان من الضروري تركي في تلك الحالة؟ هل كانت تعي خطورة الوضع بينما تغادر وتوصي بالعناية بي وحسب؟ عندما كنت على وشك أن ألفظ آخر أنفاسي ولاري ينام على السرير المجاور لي في الغرفة بسلام؟
هل كان عليها الرحيل في وضع مماثل؟ ألم يكن خيار الانتظار متاح حتى أتحسن؟
أقصد. حتى لو لم تكن تملك المال الكافي ولكنها. غادرت وهي لا تدري إن كانت ستكون آخر لحظة قد تراني فيها؟!
ك. كيف بحق الإله يمكنني تجاوز هذا الأمر؟!
حتى لو كانت قد تعرضت لذلك الحادث بالفعل.
ولكنها. قبل ذلك كانت تملك فرصة الاطمئنان علي! حري بها أن تضمن سلامتي قبل رحيلها لا ان تتعجل في الرحيل!
هل كان مجرد الإتصال للإطئنان بشأني على الأقل. مستحيلاً و صعباً عليها؟ هل حقاً عجزت عن الاتصال بي لمجرد الاطمئنان فقط قبل أن تتعرض لذلك الحادث!
توقفت قدماي عن الحركة عندما اصطدم كتفي بلوحة الاعلانات لأدرك أن أفكاري قد قيدتني ومنعتني من رؤية الطريق بوضوح.
وقفت في مكاني أحدق إلى الفراغ وذلك الألم يعتري صدري مجدداً.
لا أستطيع.
لا يمكنني مسامحتها مهما حاولت! لا أستطيع رؤية موقفها من جانب مختلف مهما ارغمت نفسي!
ب. بحق الإله كيف كانت قادرة على مغادرة المنزل في تلك اللحظة؟!
الحقد والغضب الذي يعتريني كافٍ جداً لتذوب أمامه أي ذكرى سعيدة قد جَمعتني بها، كافٍ ليطفء العاطفة التي قد تجمعني بها مجدداً، بل وأكثر من كافٍ. ليتوقف لساني عن مناداتها ب أمي مجدداً.
تُركت وحيداً وعلى السرير المجاور يرقد لاري بينما لا يزال صغيراً ولم أجدها بينما أناديها! كل ما وجدته أمامي. كان منزل آخر تماماً عندما أفقت!
منزل مختلف.
أجواء جديدة.
أشخاص مختلفين!
وبعد أن.
اعتدت العيش معهم.
ب. بكل بساطة. يحاول كُل منهم اقناعي.
بالرحيل!
ببساطة!
وكأنني مجرد.
قطعة خردة يتم رميها هناك وهناك!
فقط بعد ان استعدت ثقتي بالناس ووثقت بهم وشعرت بأنني جزء منهم. يتم التخلي عني مجدداً ببساطة! فقط بعد أن استقرت الأرض أسفل قدمي ورممتها بالتمسك بالحياة من جديد. ينتابني الآن الشعور بالإنهيار والإنهاك مرة أخرى.
ارتجفت شفتاي بقهر وشعرت بالغضب كما لو استفزني لحن الموسيقى الهادئة التي لم تنجح في تهدئة اعصابي حتى.! انتزعت السماعة من كلتا أذني بغيظ ورفعت كف يدي بحركة تلقائية لأعضها وقد استقرت بين أسناني بينما أكمل طريقي، عقدت حاجباي بحنق وضياع ثم أنزلت يدي وسرعان ما توقفت مجدداً أحدق إلى ثلاثة من الأطفال الذين كانو يتشاجرون بودية ويتجادلون بشيء من المرح وقد كان من السهل تخمين وجود رابطة الدماء بينهم لتشابههم الكبير.
ضرب أحدهم الفتى الأطول والذي بدى الأكبر وقد ضحك وهو يهرب في حين لحق به الآخر وصاح بإنزعاج: سأخبر أمي حالاً! قف مكانك.
بقيت عيناي تتابعهم حتى ركض الثالث الأصغر خلفهما ودخلوا جميعهم إلى متجر المخبوزات الفرنسية المجاور، تسمرت في مكاني أستمر في التحديق إلى مدى استمتاعهم في جدالهم معاً.
حتى بدى الأصغر قد تأذى وعبس بينما يرفع يده ليريها أخاه الأكبر الذي أوقف الشجار مع الآخر.
فليختفي الجميع من أمامي وحسب.
شعرت بغصة شديدة وقد تحركت بإندفاع لأكمل طريقي.
دانيال لم يتردد في محاولة اقناعي بالعودة مع تلك المرأة! كارل يعتقد أنني مجرد. وغد ذو قلب متحجر!
اختفي أبي وعاد إلى القرية دون أن يوضح أسبابه حتى!
أنا ولاري.
دخيلان في عائلتهم!
لا.
غير صحيح!، لاري ينسجم جيداً معهم ربما الخلل بي أنا؟!
ربما. أنا من يأخذ حيزاً كبيراً بينهم؟!
قد يكون. لاري بديلاً مناسباً ليحل مكان دامين، ولا مكان لي! لا مكان لرابع بينهم!
أجفلت ما ان أدركت أن غصتي قد نمت وبلغت أعلى حلقي.
لم أصدق رغبتي في البكاء كالطفل الصغير وقد جعلني ذلك أهرول لأبتعد عن المكان المكتظ بخطوات واسعة.
أردتُ أن أستكمل دراستي بمنحة مرموقة ليفخر أبي! ليشير إلى ويقول أنه فخور بي، أردت أن أعود إليه كطالب متفوق لن يتردد في أن يبوح للجميع أنني. جزء من عائلته!
أن يعلم أنني قادر على الاعتماد على نفسي وليس عليه أن يشعر بالعبء أكثر!
دخلت فوراً إلى زقاق بين متجرين وجلست على الأرض دون تفكير أخفي رأسي بكلتا يداي وأضم نفسي بقوة.
إن لم تكن تلك المتطفلة كتاليا جزءاً من حياتهم. لما كان التخلي عني سهلاً!
حتى ان دانيال قد أصبح يصب جُل اهتمامه عليها فقط! ستة أعوام كنت أبتلع فيها كلماتي جاهدا وأصمت عن حقيقة معاملته إياي كمجرد بديل يمكنه تفريغ طاقته فيه! كنت أعلم جيداً أنه متعلق بمساوئي وحسب!
بأنه لن يتردد في انتقادي ليشعر بالرضى!
عندما صارحني أبي وكارل بأن دانيال يميل إلى انتقاد الجميع من حوله وقد أدمن تحميل نفسه مسؤولية كل شيء. وجدت أن الصمت هو الحل الوحيد!
عندما اختفى دامين من حياته. وجه كل اهتمامه نحوي! أصبح دائم التركيز على تصرفاتي ولا يتغاضى عن أي زلة أرتكبها!
كان ي.
يخنقني!
ولكنه كان يؤكد لي دائماً بنقده إياي أنني لا أزال على قيد الحياة بعد أن ظننت أنني مفارقها!
ولو كان اهتمامه مجرد وسيلة شخصية ولكنه.
كان يهتم!
كنت أشعر بوجودي حقاً!
أنتما جزء من هذه العائلة البائسة، يعلم كل من في القرية أنك تتنفس الكتب لذا ستكون مفيداً لي في نسخ تقارير الجامعة
قالها في لقائي الأول به بنبرة تهكمية فور استيقاظي بعد أن تكفل أبي بإجراء العملية الجراحية.
ثم تلى قوله ابتسامة كانت مُطمئنة وهو يضرب على رأسي بخفة يهمس بصوت هادئ: بالكاد نجوتَ يا فتى، لذا كافح لتحظى بحياة جيدة.
د. دانيال وإن كان قد أدمن ادعاء المثالية منذ صغره ولكن.
لا يمكن أن تكون تلك الابتسامة آنذاك مزيفة!
تلك اللحظة ومضت كلتا عينيه ببريق جعلني أتمسك بهذه العائلة!
لذا لا بأس.
لا بأس أن يستبدلني بدامين ولكن. لا أن يقنعني بالرحيل ببساطة!
هذا.
ظلم!
كارل.
كان أول من غمرني بكلماته المحفزة اللطيفة عندما أفقت بعد العملية ووجدت نفسي في منزلهم! كان أول من أعاد لي الأمل بعد أن سيطر على كياني عجز وإحباط يصعب وصفه!
ولكنه بحق الإله لا يمانع أيضاً رحيلي!
انقشعت العتمة التي قيدت بَصري وجَسدي من كل جهة.
ثقل غريب في صدري! أرغمني على محاولة ابصار ما حولي.
ومع كل حركة. شعرت بالجحيم في صدري!
هل هو الرحيل؟
فلقد ناديت بأمي دون توقف وانا انتزع صوتي من حنجرتي بصعوبة بالغة ولم المحها.! انا. هل مت؟
انتقلت الى عالم آخر؟
لا شك.
وكيف قد تكون نهاية من كافح ساعات طويلة يعجز عن الحركة او التنفس على سريره؟!
ماذا عن لاري؟
ماذا لو. استيقظ وهو يحاول ايقاظي دون جدوى؟
سيبكي ويرتاع بشدة!
الى من سيلجأ؟
انتابني الارتياب والذعر رغما عني ما ان استشعرت لَمسة مفاجئة من انامل. دافئة بجانب عيني!
أعتقد أنه. بدأ يستفيق!
صوت رجولي. غير مألوف البتة!
مهلا. يستفيق؟
أ. أنا؟
ضوء خافت! هل أبصر ضوء خافت؟
ادركت ان كلا جفناي قد انفرجا قليلا في محاولة من حواسي لاثبات كوني على قيد الحياة بعد صراع لا ادري الى ماذا قد آل او كيف ومتى انتهى!
سقف مُختلف عن اخر سقف قد ابصرته.
شيئا فشيئا وببطء شديد. كان من السهل لعيناي ان تعتاد على الضوء وقد بقيت اطرف بهما احدق الى السقف، حتى مالت عيناي قليلاً نحو الأسفل، لألمح بعدم وضوح كافٍ مكتبة صغيرة للكتب والعُلب المعدنية، أمامها طاولة خشبية بدت يدوية الصنع عليها إناء خزفي يحتضن بعض الأزهار والأوراق الخضراء الكبيرة، لتميل عيناي أكثر نحو يساري لألمح كيان قد بدى مصدر تلك اليد الدافئة التي لمست وجهي قبل قليل.
اللحظة التي همستُ بها ب أمي اتضحت الرؤية أكثر وقد تفاجأت بأعين حادة زرقاء اللون تحيط بها بعض التجاعيد قال صاحبها يبعد يده بحزم: استيقظتَ أخيراً.
ما الذي،
هذا الرجل. أين رأيته من قبل!
أغمضت عيناي بإنهاك شديد، ما الذي يحدث.
عقلي لا يسعفني على التفكير بأي شيء، انا فقط عالق بين مزيج من المشاعر الغريبة، وكل ما أفكر فيه هو أمر واحد. هل أنا على قيد الحياة؟
أيكون جسدي عالق في مكان ما؟
عندما أغمضت عيناي منهكاً من الألم الذي اعتصر صدري، أين أنا الآن تحديداً؟
فتحت عيناي لأبصر ما حولي مرة أخرى لعل الرؤية ستأتي بمشهد آخر، ولكنني أبصرت السقف نفسه!
وكل ما أعرفه أنني أحدق إلى تفاصيل الأشياء بتمعن شديد. وكأنني أرغب في التعلق بأي شيء من حولي يمنحني الشعور بالبقاء على قيد الحياة.
علي قيد. الحياة؟
أنا. لم أرحَل عن هذا العالم؟!
تحركت عيناي بتلقائية نحو اليسار مجدداً لأرى هذا الكيان لا يزال يجلس بجانبي!
هذا الرجل.
إنه السيد فريدريك!
ماذا كان اسمه تحديداً.
هاريسون؟!
والد ذلك الشاب المريض الذي يخاف منه معظم سكان القرية! ووالد توأمه الجانح مفتعل المشاكل!
انا. هل انتقلتُ الى الجحيم بحق الاله؟!
هل هذه هي نهايتي؟!
بالكاد ابتلعت ريقي وكم كان ذلك مرهقاً!
أبي هل نعيده إلى المشفى؟
تساءل صوت عميق خشن ارغمني على ان احرك رأسي ببطء جراء ثقل شديد شعرت به في عنقي وأسفل رأسي.
هل قال المشفى؟
صاحب الصوت هو. ذلك الجانح!
كان يقف بجانب الباب ويسند ظهره على الحائط يتكتف بينما يحدق إلي، يطرف بعينيه الزمردية بترقب حتى تنهد قبل ان يمرر يده في شعره ويتساءل باستنكار: هو لا يستجيب! ما رأيك أبي؟
هذا المكان.
هل انا في منزلهم؟
نظرت بتلقائية الى السيد هاريسون الذي بقي يحملق في وجهي بتمعن حتى قال يعقد حاجبيه بجدية: يا فتى، هل أنت بخير؟
لماذا انا معهم هنا؟
أمي.!
صحيح، اغمضت عيناي بينما لا ازال انتظر عودتها حين خرجت فجأة!
هل غادرت حقاً؟ لم تعد؟ كيف انتهى الحال بي هنا؟! ماذا عن لاري!
حاولت تحريك لساني وكم كان هذا مُعجزاً ومستحيلاً حينها، أشعر بجفاف في حلقي وقد فشلت في انتزاع ولو حرف واحد من فمي.
استشعر السيد هاريسون ذلك وهو يميء برأسه ويقول بحزم: لا بأس لا ترغم نفسك. هل تشعر بالعطش؟
العطش!؟
ليته كان مجرد عطش!
ثم لماذا باتت الرؤية ضبابية؟
لم تكن ملامحه واضحة بما يكفي وقد شعرت بحرارة غريبة تسيل من كلتا عيناي مدركاً الى انني.
ابكي!
كنت أذرف الدموع بصمت وقد تحرك لساني اخيرا وانا اشعر بتقطع حلقي إثر الجفاف بينما اهمس بعجز رغما عني: أين هي!
كان من الواضح ان السيد هاريسون قد ادرك مقصدي فوراً وهو يخفض ناظره قليلا قبل ان يقول: ستعود. قريباً.
قال تلك الكلمات بنبرة لم يُخفى عني فيها تردده بما أصاب نفسي بثقل الاحباط أكثر.
ذلك لم يكن من ضرب الخيال!
هي. تخلت عني!
هل رحلت حقاً؟! تلك لم تكن مجرد هلاوس! لم تكن مخاوفي وإنما. رحلت حقاً!
وجدت نفسي أحدق اليه مطولا أعجز عن اقتلاع عيناي عنه! تمنيت أن ينفي ما يجوب في خاطري ولكنه أخفض ناظره قليلاً وقد تمتم بهدوء: ستعود بلا شك.
الرجفة لا تفارق شفتاي، والبرودة قد تمكنت من أطرافي تماماً.
مواساته لم تزدني إلا بؤساً وحسب! أمي قد. رحلت!
انتبهت الى ذلك الشاب الذي ينظر إلى بترقب قبل ان يقول باندفاع وهو يقترب ليجلس على طرف السرير بينما بقي والده يجلس على الكرسي المجاور: هيه انت كيفين، يسرني ان اعلمك بكونك لا زلت على قيد الحياة وهذا الامر كافٍ جدا لتشعر بالسعادة! والاهم. انك في استضافة العائلة الالطف في القرية.
استمرت دموعي بالانهمار وانا اهمس بعجز وضعف: لاري؟
ابتسم بعبث يحدق إلى بتمعن وقال بتهكم: عندما رأى الكثير من ديدان الارض في الفناء الخلفي فقد عقله وبدأ في مصادقتهم! هو مشغول في التعرف عليهم منذ الامس.
منذ الأمس.! منذ متى وانا فاقد لوعيي تحديداً؟
اعقب بتهكم: لا تخبرني ان لك ميول مماثلة لاخاك غريب الاطوار؟!
تدخل والده بهدوء: كفى دانيال قم بتأجيل ثرثرتك لوقت لاحق واحضر له الحساء الذي اعدتُه.
دانيال اذاً.
اومأ وهو يقف بتململ: هل أُعلم باحث الأحياء الصغير الآن بشأن افاقتك؟
تدخلتُ فورا لاقول بغصة: لاحقاً، طالما هو بخير، لا بأس.
رمقني بفهم قبل ان يعيد خصلات شعره الاسود المبعثر للوراء وقال يشير بابهامه الى الباب: سأحضر الحساء.
كان هذا ما قاله وهو يتراجع وعندما وصل الى الباب رأيت من كاد يطرق الباب ليدخل، وقد كان من السهل ان اتذكره فهو اخاه الذي يدرس الطب البيطري ويلقبه الجميع بالشاب الخلوق. ان لم تخني ذاكرتي فهو. كارل.
ضربه دانيال على كتفه بخفة وهو يخرج إلا أن أذني قد التقطت كلماته وهو يقول لأخاه بتبرم: أقنع هذا الفتى أن كونه على قيد الحياة أهم من أي أفكار قد تراوده.
وقف كارل ينظر إليه حتى اختفى عن ناظره ثم دخل واقترب حتى وقف بجانب الكرسي الذي يجلس عليه والده وقال يحدق إلى بهدوء وارتياح قد طُبع على ملامحه: استيقظت أخيراً كيفين، أنت بخير؟
اغمضت عيناي وهمست: يمكنني التنفس. على الأقل.
اجفلت لضربات خفيفة على الوسادة بجانب رأسي، لم يكن سوى السيد هاريسون الذي قال بجدية: استغرقت في النوم ليومين بعد نجاح العملية، لم يكن في استطاعتي تركك في المشفى اكثر، قاموا بفرض المزيد من الرسوم مقابل السماح لنا بمنحك حق الرعاية الى حين استفاقتك، ولكنني لا امانع اخذك حالا ان كنت تشعر بأي إعياء او تعب، لذا أخبرني ان تشعر بأي مضاعفات. اتفقنا؟
يومين! نظرت اليه بإدراك قبل ان اعقد حاجبي وقد تنحنحت قليلا لاتخلص من غصة صوتي: انت من تكفل بالعلاج؟!
ابتسم كارل وتدخل فورا: هذا لا يهم، المهم انك قد أفقت اخيراً، قلقنا من ان تمكث فترة أطول!
نفيت برأسي ورددت بإصرار احدق الى السيد هاريسون: تكفلت بالعلاج؟ ماذا عن. أمي؟ خرجت ولم تعد حتى الان؟ هي لم تمنحك المال؟ هذه العملية مُكلفة جداً من المُحال أنها حصلت على المال! أنت من تولى كافة الرسوم حقاً؟
كان رده هو وقوفه بحزم وقد نهرني بجفاء: كم أنت ثرثار يا فتى!، كارل ابقى معه قليلاً حتى يُقرر التوقف عن ازعاجي.
ارتفع حاجباي بينما أحدق إليه وهو ينسحب من الغرفة بخطوات عصبية واسعة!
هل كان قولي يستدعي. كل هذا الغضب؟!
من حقي أن أفهم تفاصيل ما تساءلت بشأنه! أغمضت عيناي ووجدت نفسي في مكان آخر تماماً فأنّا لي تجاهل ما يحدث!
نظرت إلى كارل بيأس أترقب رده فابتسم بهدوء وجلس على الكرسي ليقول: ربما التقطتَ كلمات دانيال قبل قليل، يقول بأن كونك على قيد الحياة هو الأهم، أتفق معه.
أشحت بوجهي أكور قبضتي بقوة في حين أكمل: كانت حالتك الصحية صعبة جداً، اِعتقد أبي أنه عاجز أمام وضعك، ولكنك بخير الآن. وهذا ما عليك أن تستوعبه وحسب! مُنحت فرصة الولادة من جديد كيفين، هنيئاً لك.
لقد رحَلتْ. دون أن تلتفت أو تنتظر! اعتقدتُ أنها كانت ولا تزال تجلس بجانب سريري بينما أتلوى من الألم، بحق خالق الكون لقد رحَلت وكأنني مجرد. مجرد.
تهدج صوتي رغماً عني وأبقيت وجهي بعيداً عنه بعجز شديد وقد تبخرت الكلمات من فمي تماماً!
سمعته يتنهد بلا حيلة حتى تفاجأت بيده التي ربت بها على رأسي.
مضت ثواني قليلة أعقبها بقوله بهدوء: كيفين، وُلدتُ بمناعة ضعيفة جداً. كنتُ كثيراً ما أقع طريحاً للفراش بعجز تام ولا أقوى على الحركة، لك أن تتخيل ان جُل أمنياتي تنحصر على رغبتي في اللعب مع شقيقاي بصورة طبيعية دون التعرض للإنهاك والمرض ولم أتمنى أكثر من هذا!
زممت شفتاي إثر قوله وقد وجدت نفسي أحرك رأسي ببطء لأنظر إليه بطرف عيني فابتسم ليستكمل وهو يريح جسده للوراء على ظهر الكرسي: سمعتُ انك كنت تعاني لسنوات من المرض لذا لا بد وأن بذل أي مجهود كان يعيقك أيضاً عن فعل الكثير، والآن وقد نجحت العملية أخيراً. عليك أن تغتنم الفرصة وتشعر بالسعادة لتستوعب أن ذلك الألم والإرهاق لن يتمكنا منك مجدداً! لقد تغلبتَ على نقطة ضعفك كيفين.
الألم.
والإرهاق لن يتمكنا مني مجدداً!
حالة الإعياء التي كنت أعاني منها، الإغماء المفاجئ وصعوبة التنفس، اعفائي من المهام الرياضية في المدرسة.
كل هذا.
سيصبح من الماضي؟!
كما لو قرأ على وجهي شيء من الأمل والإدراك وهو يميء برأسه إيجاباً: أرأيت؟ ستستوعب الفرصة والحياة الجديدة التي حظيت بها! هذا ما شعرت به تماماً عندما تحسنت مناعتي تدريجياً وأصبحت قادر على الاعتماد على نفسي تماماً! كانت ضربة واحدة من شقيقاي كفيلة بالقضاء علي، ولكنني الآن أتعارك معهما إن لزم الأمر، يمكنكَ تخيل ذلك؟
أضاف ممازحاً: قبل يومين فقط شاركت في سباق الماراثون الذي أُقيم في البلدة المجاورة، صحيح أنني كنت بعيد عن الفوز ولكنني لم أتوقف ولو للحظة!
الهرولة والركض.
كانا أمران يرهقانني بشدة! لم يكن قلبي يقوى على بذل مجهود مماثل.
فُرصة. جديدة!
اتسعت ابتسامته اللطيفة وقد رفع يده يتباهى بعضلة ذراعه الممشوق وقد غمز لي محفزاً: لم تتحسن مناعتي فقط ولكنني قهرتُ أيضاً جسدي الذي خذلني مراراً وتكراراً.
ابتلعت ريقي بصعوبة أحدق إليه بتشتت قبل أن ينظر كلانا إلى الباب الذي فُتح وقد دفعه دانيال بقدمه ليدخل ممسكاً بصينية طعام انتصفها طبق الحساء الذي غمرت رائحته المكان فوراً ممزوجة برائحة قِطع الخبز الموضوعة في سلة صغيرة بجانب الحساء.
تمالكت نفسي وقد داعبت الرائحة أنفي لتجلب لي حنين رائحة الحساء الذي استمرت أمي في اعداده يومياً وأنا طريح الفراش قبل رحيلها!
كادت تخنقني الغصة فأسرعت احكم كلتا قبضتاي أتمالك نفسي.
بقيت أستلقي على ظهري فين حين بادر كارل في تقريب طاولة الخشبية الصغيرة كانت على جانب السرير، ليتيح لدانيال وضع الصينية عليها، وما ان فعل حتى وضع يده على خصره وبقي واقفاً بجانب كرسي كارل ليقول بشيء من الإنزعاج: ربما يلزم علاج فوري لحالة أخاك.!
استنكرت قوله بقلق وقد عقدت حاجباي بعدم فهم فقال يتأفف: لم يتوقف عن جمع الديدان في العلب التي جمعتها من الأسواق التجارية! هل تعلم كم كلفني مراقبة العلب في كل مرة ينتهي منها الطعام لأنظفها وأخزنها؟! هل جمعتها لأجل حشرات أخاك بحق خالق الجحيم!
أجفلت لنظراته وهو يهددني بكلتا عيناه في حين تدخل كارل ينهره بعدم رضى: توقف دان! إنها مجرد علب فارغة. لا بأس!
لوى شفته بإمتعاض وربت على كتف كارل ليقول: أصمت قليلاً كارل، هيه أنت أجبني!
م. ما هذا فجأة!
ازدردت ريقي لأقول بهدوء: لديه عادة جمع الحشرات واللعب معها.
اشمئز وجهه وزفر ليشيح بوجهه: رائع، كان هذا ما ينقصنا بالفعل!
أغمض كارل عينيه بلا حيلة ينفي برأسه: نعم من الواضح أنها عادة، ولكنه يمضي كل وقته معهم وكأن لا قيمة للبشر في حياته.
أومأت بصمت فهي حقيقة لا مفر منها، لطالما كان لاري يمضي وقته مع الحشرات مهما نهرته أمي أو حاولت ايقافه.
أمي.؟
أتساءل إن كان عقلي سيظل يردد هذه الكلمة كثيراً.
لقد رحلت. تخلت عني في أصعب لحظة، تركتني في أمس الحاجة فلماذا يواصل عقلي بحق الإله ال.
أياً يكن، اشرب الحساء قبل أن يبرد
قالها دانيال وهو يسند مرفقه على كتف كارل بينما أومأ الأخير محفزاً: هيا.
ثم سرعان ما اشار دانيال إلى الخبز ليقول بوعيد: لقد قمتُ بعجنه في الصباح الباكر لذا تناوله كله.
هذا الخبز.
ذو رائحة شهية! داعبت رائحته أنفي وقد أغمضت عيناي قليلاً استمتع بشم هذه الرائحة الطازجة، إنه خبز بيغل ويبدو انه مَحشو بالتوت الأزرق. ، من غير المتوقع ان يقوم هذا العدائي بالخبز بهذه المهارة!
ثم لا أدري حتى كيف أنصعت بسهولة وأنا أحاول أن أجلس على السرير لأعتدل واتناول الحساء والخبز، ولكنني أدرك أنني بينما أفعل ذلك قد بكيت بصمت ولم تتوقف الدموع عن السيل على وجنتي.
اكتفى كلاهما بالتحديق إلى بصمت دون أي تعليق.
وكذلك أنا.
بل أنني نظرت إلى طبق الحساء لأمسك به بيد لا تتوقف عن الارتجاف.
سأتناول حساء حُري بي أن أخذه من بين يديها هي، أن تكون من قدمته لي ولكنها لم تفعل، هي ليست هنا. ليست هنا بعد الآن كيفين! عليك ان تعي هذا جيداً.
رفعت الملعقة نحو فمي والدموع تستمر في جريانها على كلتا وجنتاي، حتى تفاجأت ببكائي يزداد ما ان لامس الحساء لساني لأتذوق لذته فهمست بضعف: أنا على قيد الحياة.
أعقبت أبتلعه بصعوبة: لا شيء آخر يهم.
إنها فرصة جديدة وعلى اغتنامها.!
استمر في العيش كيفين، طالما أنت على قيد الحياة فلا تعد.
لا تنتظر.
ولا تبقى في الخلف!
فلتمضي في طريقك وحسب أنت ولاري.
معاً!
أنتما جزء من هذه العائلة البائسة الآن
توقفت يدي عن الحركة أنصت إلى كلمات تفوه بها دانيال بصوت هادئ يميل إلى الجدية، نظرت إليه من بين دموعي فوجدته يحدق إلى بجدية.
قبل أن تتهكم ملامحه بثقة فوراً: ذلك الرجل المدعو أبي قد تبدو هيئته مخيفة ونظراته مريبة ولكنك لن تجد رجلا بمثل شهامته ولطفه في القرية، لن يترككما لا تقلق! وبالمناسبة يعلم كل من في القرية أنك تتنفس الكتب لذا ستكون مفيداً لي في نسخ تقارير الجامعة. ستكون ضريبة انضمامك الينا، ما رأيك؟
تلى كلماته فجأة ودون سابق انذار ابتسامة بدت لي مُطمئنة وهو يقترب ليضرب على رأسي بخفة ويبعثر شعري ليهمس بصوت هادئ: بالكاد نجوتَ يا فتى، لذا كافح لتحظى بحياة جيدة بدلا من العبوس فوجهك يستفزني بتلك التقطيبة القبيحة بين حاجبيك.
رفعت عيناي نحوه أعجز عن إحالة ناظري فتفاجأت به يبعد يده مشمئزاً ليقول محدثاً كارل بحذر: ل. لماذا ينظر إلى هكذا!
ابتسم كارل بلا حيلة: لأن الشخص الذي كان يهدده للتو تفوه الآن بكلمات محفزة لطيفة، ربما؟
رفع دانيال حاجبيه بحيرة ثم قلّب عينيه بعدم اهتمام وقد شبك كلتا يديه خلف رأسه ليقول مشيراً إلى بذقنه: فلتنهي طعامك حالا!
تنتابني غصة شديدة،
لا اقوى على ابتلاعها!
نظرت الى كارل ثم دانيال قبل ان اتناول المزيد من الحساء والخبز احاول جاهدا الحفاظ على هدوئي،.
لطالما سمعت عن هذه العائلة، التوأم لهما نصيب كبير من الاقاويل السيئة، في حين اسمع دائما اطراء الناس حول التعامل مع كارل! كما كنت اسمع دائما ان السيد هاريسون لا يتردد في مساعدة اي محتاج او مد يد العون، أعلم انه يقوم بحراثة الارض الخاصة بملجأ الأيتام، ويقدم لهم الطعام المجاني بين الحين والآخر اضافة الى الهدايا التي يرسلها.!
ايا تكن الاقاويل.
الواقع، قد يبدو افضل بكثير! تكفل بعلاجي بنفقته الخاصة رغم ان تكاليف العملية الجراحية باهظة جداً وقد عجزت امي عن.
اياً يكن، كلما توغلت في افكاري كلما تبادرت صورتها في ذهني.
لذا هذا يكفي.
.
.
نظرت بهدوء الى لاري انصت الى حماسه وهو يجلس على طرف السرير بجانبي ليكمل قوله بينما يصف ما رآه: ثم فردت جناحيها واصدرت ازيزا قويا وطارت الى علو شاهق! حاولت اصطيادها ولكنني لم افلح! انها رائعة!
اتسعت ابتسامته وهو يقضم من قطعة كعك البرتقال التي اعدها كارل وقال بسعادة: انها نادرة جدا! اريد ان اصطادها كيفين افعل شيئاً.!
سايرته بصوتي المبحوح قليلا: عندما اتحسن، اخبرني لاري. انت.
ولكنه قاطعني بسؤاله الذي فاجأني وأرغمني على تحاشي النظر إليه: كيفين هل ستغيب أمي طويلاً؟ أنا أشتاق إليها!
هذا ما خشيته حقاً.
علي أن أجيبه فوراً لئلا يقلق، فتحت فمي واعدت ناظري إليه أبحث عن كلمات مناسبة ولكنني تلعثمت في كلماتي رغما عني وقد ادركت انني فشلت في العثور على الكلمات التي من شأنها تهدئة الوضع كما ينبغي.
كيف أهدئه والفوضى تعم في داخلي!
تمالك نفسك كيفين ولا تتردد.
ساعده على نسيانها وحسب، وسيبدأ تدريجياً التوقف عن السؤال عنها، اخبرني السيد هاريسون ان لاري لم يتوقف عن البكاء بينما كنت غائبا عن الوعي وهو يطالب برؤية أم. ب. برؤيتها.
هربت من افكاري جاهدا انصت الى لاري الذي ردد سؤاله مجددا.
حاولت جاهداً لأرسم ابتسامة مضمرة وأنا أقول بهدوء: هل تقضي وقتاً ممتعاً هنا؟
نظر إلى للحظات قبل أن يجيبني بحماس: بالطبع!
لم يكن من السهل التملص من سؤاله مع بطؤ تجاوبي، ولكن كان من السهل تغيير الموضوع فوراً!
تنهدت بعمق وأومأت له أحاوره لينسى ما كان يتساءل بشأنه.
اعتقد انه ينبغي لي التحسن بسرعة بجدية بالغة. لا يجب ان اكون عبئاً باستلقائي هنا طوال الوقت!
طُرق الباب فنظرت اليه اترقب من يقوم بطرقه، كان دانيال الذي دخل بوجه متململ وهو ينظر إلى ولاري ثم الى النافذة المفتوحة التي يحرك ستائرها البيضاء الشفافة النسيم الهادئ سامحة لاشعة الشمس باكتساح الغرفة، ثم تنهد ووضع يده على خصره يقف على السجادة التي تنتصف الغرفة ممزوجة ألوانها بين الأحمر الدافئ والأخضر الداكن بينما يهز قدمه اليمني ويقول يغمض عينيه بصبر: انت ايها الحشرة الاكبر في القرية، هل كنت من اخذ عُلبة عدة حلاقتي المعدنية من خزانة ملابسي؟
ارتفع حاجباي انظر الى لاري الذي انتهى من مضغ الكعك وقد بدى متوترا وهو يقول بتلعثم: ا. اردت جمع النمل الذي يبني منزلا في الفناء!
زفر دانيال وفتح عينيه لينظر اليه هامساً: لا أصدق أنك اعترفت بجريمتك دون مراوغة! ستنال عقابك لعبثك بحاجياتي دون اذن!
اجفل لاري في مكانه وقد اقترب مني باعين زائغة في حين رأيت كارل الذي طرق الباب ودخل على عجالة ليقول مهدئا: لا توبخه انه مجرد طفل! دعني اتعامل معه وتوقف عن اخافته كلما سمحت لك الفرصة.
ومع ان كارل كان ينوي التدخل بالفعل ولكنني تفاجأت بدانيال الذي تقدم نحو لاري وحمله على كتفه ليقول بابتسامة عابثة محاولا ترهيبه: ماذا لو حشرت جسدك في العلبة بنفسي لتقضي وقتا ممتعا مع النمل الذي جمعته؟
طرفت بعدم استيعاب ما ان انفجر لاري ليبكي محاولا النزول والابتعاد عنه، خرج دانيال من الغرفة وهو لا يزال يحمله بينما تنهد كارل بانهاك وقال لي: فلتستلقي كيفين واخبرنا حول حاجتك الى اي شيء، اتفقنا؟
عندما خرج هو الاخر وحل الهدوء ارجاء الغرفة لم يكن من الصعب سماع اصواتهم والضجة في الاسفل، حينها تساءلت عن سر الزغزغة الغريبة التي تسللت الى صدري!
هذا الصخب.
ربما. ليس مزعجاً حقاً!
السيد هاريسون، كارل، دانيال.
لم يتردد احدهم في محاولة انتشالي من كآبتي وتقديم يد العون في اي شيء قبل حتى ان اقوم بطلبه!
فلتتحسن كيفين، لا يجب ان تسبب المزيد من المتاعب. حاول ان تعتمد على نفسك ولو قليلاً.
ومع سماع اصواتهم واستمرار الشجار في الاسفل كنت بالفعل احاول الوقوف بنفسي والسيطرة على الالم الذي اجتاح صدري اثر الجراحة بينما عقلي يفكر بحيرة شديدة عن. دامين!
لا زلت لم التقي به شخصياً، لا ادري اين يمكث او في اي غرفة ولكنه لم يكلف نفسه عناء التعرف على او ما شابه!
ومع انني اسمع احيانا صوت دانيال او والده بينما يقومان بمناداة اسمه ولكنني لا اتذكر انني سمعت صوته حتى!
ربما.
لا يُرحب بوجودنا؟
هذا ما كنت أفكر فيه وانا احدق بشرود إلى مجموعة الأطباق المعلقة على الحائط المجاور للباب والتي بدت مصنوعة يدوياً من الخيزران بألوان باهتة جميلة متنوعة، ثم انخفضت عيناي نحو طاولة قد استقرت أسفل أطباق الخيزران المعلقة، عليها مفرش ذهبي داكن من الكتان ومطرز بنقوش بسيطة، فوقه اناء زجاجي صغير بغطاء خشبي مستدير بداخله على ما يبدو بعض الأعشاب والزهور المجففة، بجانبه بعض الأوراق والكُتب.
أتساءل ان كانت هذه الغرفة للسيد هاريسون. فبجانب مكتبة الكتب على يساري يوجد خزانة ملابس، هل تركني أنام على سريره منذ استضافتي هنا يا ترى؟ أم أنها غرفة إضافية؟
.
.
انتظرت هذه اللحظة اخيراً! لقد حلّ صباح اليوم التالي، وصدح صوت صياح الديّكة في الارجاء.
كما تهاوى على مسامعي صوت نقر حوافر الخيول التي تجر عربات المزارعين في بداية الصباح الباكر، ممزوج بصوت المطرقة لمكان قريب ربما لنجّار يضرب بالخشب بشكل متواصل، ثم سرعان ما داعب أنفي رائحة الخبز الطازج من الخارج والذي على الأغلب يعده الجيران، فلم تكن النافذة موصدة بالكامل منذ الأمس.
امتلأت نفسي بالعزيمة بعد ان اقسمت بالامس ان يكون اليوم هو بداية جديدة اعتمد فيها على نفسي بشكل كلي!
وكان هذا ما دفعني للاستيقاظ قبل مجيء السيد هاريسون الى غرفتي ليحضر لي الفطور بوقت مبكر، هذه المرة سأجعله يرى انني تحسنت بالفعل واصبحت قادرا على التحرر من غرفتي قبل أن يأتي بنفسه.
اخذت شهيقا عميقا بينما ابتعد عن سريري وزفرت الهواء من صدري اتجاهل الالم الذي لا انكر انه اقل حدة من الامس فور محاولتي للتحرك بنفسي.
كانت خطوات بطيئة بانفاس متقطعة ولكنني في النهاية تمكنت من الوصول إلى الباب اخيراً.!
أنتَ لها.
وضعت يدي على أكرة الباب وقد ادرتها ببطء لافتحه، خرجت من الغرفة ولم يقابلني سوى هدوء وصمت مطبق في ارجاء المنزل.
استقر تحت قدماي سجادة تشبه التي كانت في الغرفة تمتد على طول الممر، نظرت إلى يميني حيث الممر مدركا الى ان الغرفة التي مكثت فيها هي الاخيرة في الممر، ارى باب على اليسار وواحد على اليمين بجانب غرفتي. لابد وان لاري قد نام في الامس في غرفة كارل بعد ان نفدت دموعه بسبب دانيال.
ربما تلك الغرفة الوحيدة على اليسار هي للسيد هاريسون؟ او انني مكثت في غرفته بالفعل والغرفتين لأبنائه؟! أين كان ينام إذاً؟
علي كل حال سأنزل حيث غرفة الجلوس واستلقي على الاريكة قليلاً حتى يستيقظ السيد هاريسون.
المنزل ليس بصغير جداً كما اعتقدت!
ليس خانقاً او ضيقاً. وربما كان الجيران على حق، السيد هاريسون لديه أملاك بالفعل وإن كان منزله متواضعاً ولكن من السهل رؤية بعض الأشياء يدوية الصنع من حولي والتي تبدو بطريقة ما مكلفة بعض الشيء. فهذه السجادة أسفل قدماي لا تبدو جودتها ضعيفة على الإطلاق.
بينما أتحرك بخطوات بطيئة أعبر الممر لمحتُ على الحائط صورة عائلية كبيرة كان من السهل تخمين هوية الرجل الذي يقف على اليمين، السيد هاريسون!
صورة قديمة والوانها باهتة ولكن اطارها متين وقوي، يبدو في الصورة أصغر سناً ويشبه أبناءه كثيراً آنذاك! وبجانبه تقف امرأة تبتسم بلطف وتحمل على يدها مولود صغير تضمه بلفافته البيضاء، كانت ابتسامتها حالمة وملامحها هادئة جميلة! شعرها داكن قصير مُسرح بأناقة وعيناها واسعة تنضح بالحياة، لم تكن طويلة القامة وانما الفرق واضح في القامة بينها وبين السيد هاريسون.
انها والدتهم بلا شك! فيمكنني رؤية تشابه القليل من الملامح بينها وبين كارل، أيكون المولود الذي تمسك به بين ذراعيها يا تُرى؟ ولكن لماذا هذه الصورة فقط، الا يفترض أن تكون صورة عائلية جماعية لباقي ابنائه أيضاً؟
أكملت طريقي بصعوبة، اسندت يدي على الحائط وقد خطوت بخطوات بطيئة حتى نزلتُ الدرج اتمسك بالحاجز الخشبي جيداً لأتزن.
تأملت تفاصيل المنزل مع كل خطوة، استنكر وجود قطع اسفنجية على كل حافة! فكلما نزلت درجة لمحت قطعة في نهاية الحافة او في الزوايا تحديداً.
التقطت انفاسي عندما وصلت اخيرا الى نهايته لأرى غرفة الجلوس أمامي مباشرة وخمنت ان الباب على يساري هو باب المنزل في حين الرواق على يميني يؤدي ربما الى المطبخ او غرفة اخرى.
بقيت واقفاً في مكاني أتنفس بعمق، أحدق إلى غرفة الجلوس، تحديداً إلى فراش للنوم ووسادة وُضعت على زاوية الأريكة الكبيرة بطريقة مرتبة وقد رجوت في نفسي ألا يكون السيد هاريسون قد قرر النوم هنا بسببي!
وقفتُ أنظر إلى القماش العاجي الذي يغطي الأرائك والوسائد الصغيرة المُلونة، قبل ان يجف حلقي جراء ذعري وقد شعرت بنغزة مؤلمة في صدري اثر شعوري بالفزع وانا اتفاجئ بكيان قد خرج من الرواق الذي كان على يميني.
تعلقت عيناي عليه مدركاً فورا انه لم يكن دانيال او كارل او حتى السيد هاريسون!
التقت عيناي بكلتا عينيه الزرقاء وقد اوجست في نفسي خيفة وتمكن مني الارتياب استنكر بشدة العينان التي اجزم انني لم ارى بمثلها يوماً.!
هل هذا شبح بحق الاله؟!
تسمرت في مكاني وقد انخفضت عيناي نحو قدميه بسرعة.
ولكن الاشباح لا تملك اقداما صحيح؟
ثم لماذا قدمه مليئة بالندوب؟!
هل هذا هو. دامين؟
بحق الاله ان كان بشرياً فما خطب هذه الاعين الميتة التي بالكاد تلمع ببريق الحياة!
لم ارى يوماً انساناً لا تحمل ملامحه ولو تعبير بسيط!
مقلتيه تحدق إلى مباشرة ولو لم يطرف بكلتا عينيه لاقسمت أنه مجرد جثة!
بالكاد ابتلعت ريقي وقد ايقنت انه دامين بلا شك!
تنتابني الرهبة ولا ادري لماذا.!
لديه قامة تشبه قامة دانيال قليلاً، شعره الاسود مُسرح للوراء بشيء من الفوضوية، وقد تناثرت بعض الخصل على جبينه الذي امتد من على يساره حتى اذنه اليسرى ندبة بشكل طولي وقد بدت قديمة!
كما يوجد اثر واضح لندبة اخرى صغيرة بجانب شفته في الجانب الايمن!
م. ملامحه قد تكون مقاربة قليلا لدانيال ولكنه بحق الاله. لا يبدو على قيد الحياة! وهذا ما اصابني بالارتياب مدركاً انه لم يصدر اي رد فعل حتى الان سوى. التحديق إلى بصمت!
م. ماذا الان؟
هل على قول شيء او التوجه الى الاريكة بصمت؟ أو. أعود إلى الأعلى؟
ماذا أفعل؟!
انخفضت عيناي نحو يده اليسرى التي لفت انتباهي تحريكه سبابتها بشكل متواصل وبطريقة دائرية!
هو. هو على قيد الحياة حقاً.!
ما سر هذه الاعين التي تفتقر الى بريق الحياة اذاً.!
ص. صباح الخير!
انا لا اصدق انني كسرت هذا الصمت!
لم اخطط للتفوه بأي كلمة حتى.!
لماذا و كيف تحرك لساني من تلقاء نفسه؟!
ا. انسحب كيفين! انسحب وحسب، لقد سمعت الكثير عن الشائعات التي تدور حوله.
تحاشيت النظر اليه وانا اجر قدمي بصعوبة راغبا في التحرك ولكنني سرعان ما توقفت عندما تهاوى على اذني صوته الذي كان هادئا جداً خاليا من اي تعبير اخر ولم يوحي حتى ولو بشيء من ترحيبه: صباح الخير.
لقد. ردَّ على تحيتي.!
كانت نبرة هادئة فقط ولا شيء اكثر من هذا.!
بحق خالق الجحيم هذا الرجل مُجرد شبح!
استمر في تحديقه إلى بصمت تام حتى استنكرت عيناه التي اتخذت مجراها نحو قميصي؟ أو بالأصح. رفعت يدي بتلقائية نحو أثر الجراحة حيث اعتقد انه يحدق وأخفضت رأسي قليلا قبل أن أبتلع ريقي وقررت أن أتحرك مبتعداً لولا أنني تسمرت بعدم استيعاب وقد اتسعت عيناي انظر إلى السائل الأحمر الذي سال من فمه! لم يبدي اي ردة فعل حتى لاحقت عيناي تلك الدماء وهي تصل الى اسفل شفتيه وكما لو ادرك فجأة ما احدق اليه تحديداً، فأخرج يمناه من جيبه و رفع ظهر كفه الايمن ليمسح فمه!
اخفض مقلتيه الزرقاء الى كفه يحدق الى الدماء للحظة، حتى رأيته يتحرك بعرجة خفيفة نحو طاولة صغيرة في الزاوية أسفل نهاية الدرج واخذ من فوقها بضعة مناديل ليمسح الدماء بكل بساطة!
ما سبب هذه الدماء؟ لم تكن غزيرة ولكنها ملحوظة!
الجُملة التي رد بها على تحيتي كانت كل ما تفوه به وحسب، فبعد ان مسح فمه تحرك ليصعد الدرج دون أن يلتفت أو يكلف نفسه عناء قول أي شيء، وبصراحة اعتقد أن هذا أفضل! فحضور هذا الرجل لم يكن غريبا فقط ولكنه ث. ثقيل جداً!
بقيت أقف وحدي أراجع ما حدث للتو حتى نفيت برأسي بلا حيلة وتنفست الصعداء لأكمل طريقي حيث الأريكة في غرفة المعيشة لأستلقي عليها.
لا زال النشاط ولو كان بسيطاً ينهكني بسرعة! أرجو أن أتحسن بسرعة.
بقيت أستلقي على الأريكة حتى تهاوى على مسامعي صوت خطوات قريبة لم أمضي فترة لأحدد مصدرها حتى وجدت باب المنزل يُفتح بجانبي لأرى السيد هاريسون وكارل يدخلان وبحوزتهما بعض الأكياس.
ماذا؟ اعتقدت انهما لا يزالان نائمان! الوقت مبكر جداً.!
لامست رائحة المخبوزات أنفي بالإضافة إلى رائحة طازجة لم أكلف نفسي عناء توقعها إذ كان من الواضح أن السيد هاريسون يمسك بكيس يضم عدداً من الأسماك الطازجة.
انتبه الاثنان لي وقد وقفا باستغراب شديد وحيرة واضحة قبل أن يعقد السيد هاريسون حاجبيه ليقول بصوته الخشن المليء بالجمود: إن كنت قادر على تحريك مؤخرتك إلى هنا فأنت بخير.
ابتسم كارل إثر قوله بلا حيلة في حين تمتمتُ مُحرجاً على مضض: أ. أستطيع الاعتماد على نفسي.
دخل السيد هاريسون ينزع حذائه بجانب الباب وقال يرمقني بتفحص: ان شعرت بالإعياء أو الارهاق لا تدّعي القوة، سأُعِد الفطور.
ارتفع حاجباي بدهشة لأعلق: سمك!
علق كارل ممازحا: بربك لا بد وأنك تمزح، انه للغداء. مهمة تحضيره ستكون من نصيب دانيال لا تتردد في تقييمه.
أ. أه فهمت.
رمقني السيد هاريسون بتفحص وهو يخلع سترته ليعلقها على علاقة الملابس بجانب الباب، وبعد أن ذهب لإعداد الفطور بقيت في غرفة الجلوس أجلس مكاني أنظر إلى كارل الذي اتجه إلى الفناء الخلفي ومن السهل رؤيته من خلال الجزء العلوي الشفاف من الباب خلف الزجاج بينما يقوم. ربما بحرث التربة؟ لست واثقاً ولكنه بدى مشغولاً.
نظرت حيث الدرج عندما لفت انتباهي خطوات على الدرج، كان دانيال الذي ينزل بوجه ناعس وشعر فوضوي، ارتفع حاجباي أنظر إلى صدره العاري حتى انتبه لي وقال بكسل: أنت هنا، جيّد، فلا أحد متفرغ لأخذ الطعام لك إلى الأعلى في كل حين.
زميت شفتاي قبل أن أقول بهدوء: أنا بخير. عدى أنني لا افهم الغرض من تنزهك في المنزل نصف عاري!
تجاهل قولي وهمس بنعاس عندما انتبه لوجود كارل في الفناء بالخارج: كيف يكون مفعم بالنشاط كل صباح! هذا الكارل يعيش في عالم مليء بالإيجابية والسعادة.
بالنظر إلى وجه دانيال بتمعن. هو يشبه دامين بالفعل عدى أن ذلك الرجل لا يبدو على قيد الحياة حقاً!
ثم ان ملامحه كانت أقل حِدة من دانيال بوضوح، صوته مختلف تماماً. لم يكن عَميقاً خشناً مثل هذا الذي يتمشى بِجسده العاري،.
رؤيته هكذا تستفزني بحق الإله لماذا لا يرتدي قميصه وحسب! أغمضت عيناي بإنزعاج شديد قبل أن أعلق ممتعضاً أرمقه بجفاء: ما الممتع في التجول في أرجاء المنزل هكذا.
تثاءب بنعاس قبل أن يقول متجهاً إلى المطبخ على الأغلب: جرّب بنفسك لاحقاً وستعلم.
يمكنني سماع صوت تذمر السيد هاريسون ما ان اختفى دانيال، لأخمن انه دخل إلى المطبخ بالفعل وقد التقطت اذني كلمات والده وهو ينهره بنبرة عالية: لا أحد يتمنى رؤية تلوث بصري كهذا في كل صباح!
ابتسمت بلا حيلة اثر قوله ولكن سرعان ما محوت ابتسامتي احدق بعدم استيعاب إلى الجسد الصغير الذي نزل الدرج بوجه ناعس ويفرك عينه بيده ليقول: كيفين، صباح الخير.
لماذا لا يرتدي لاري ايضاً قميصه!
ذلك ال. دانيال.! لماذا يقوم أخي بتقليده أصلاً.!
الا يفترض انه يهابه ويخشاه؟!
.
.
يتناول الجميع طعام الفطور ببساطة على المائدة! لماذا أنا الوحيد الذي يشعر بصعوبة ابتلاع لقمته.! يتصرفون وكأن وجوده على نفس الطاولة أمر عادي جداً. أقصد. كما لو يجلس تاركاً مشاعره الإنسانية في مكان آخر تماماً وهو يمضغ طعامه بوجه ميت وأعين بالكاد تلمع ببريق الحياة! هل. اعتاد الجميع هذا؟ فكارل ودانيال يتحدثان ببساطة ويضحكان والسيد هاريسون كذلك ينصت إليهما ويعلق بين الحين والآخر!
نظرت إلى لاري الذي يقوم بتقليد طريقة كارل ودانيال في تناول الطعام وبدى مستمتعاً يتجاهل وجود دامين تماماَ! ر. ربما أنا فقط من يواجه هذه الصعوبة! أو ربما هو. شبح بالفعل وانا الوحيد القادر على رؤيته؟!
تذمر دانيال منزعجا إثر انسكاب القليل من المُربى منزلية الصنع على قميصه الابيض في حين كنت قد اختلست نحو دامين نظرات متقطعة، رأيته يمضع من الخبز الطازج بهدوء تام قبل ان تلتقي عيناه بعيناي فاسرعت اكمل طعامي بصمت.
كيفين
اجفلت رغما عني لسماع اسمي وقد نظرت فوراً إلى كارل الذي نادى بي ليتساءل بحيرة: لم تتناول سوى لُقيمات صغيرة! الم يعجبك الطعام؟
نفيت برأسي بتلقائية وقلت انظر الى طبقي فوراً: انه لذيذ.
لمحتُ دانيال الذي وقف ينحني بجذعه ليجلب قطعة قماش صغيرة وعلبة المناديل متمتماً بهدوء يحدث من يجلس بجانبه: قمتَ بِعضّ لسانك دامين، سأجلب لك مكعب ثلج.
رفعت الملعقة نحو فمي و كذلك رفعت عيناي ارمقه بنظرات فضولية، تماما كما حدث في الصباح الباكر!
مهلا، عضّ لسانه.!؟
ما كان يتم تداوله في الارجاء حول كونه وُلد بمرض نادر. ليس مجرد اشاعة؟ اقصد. المرة الثانية التي ينزف فيها فمه دون ان يدرك ذلك حتى يتم تنبيهه!
تلك القطع الاسفنجية على حواف الدرج وكل زاوية في المنزل.
لئلا يلحق الضرر بنفسه؟
كانت كلتا قدميه مليئة بالندوب.
هذا يعني انه بالفعل. فاقد للاحساس الجسدي كما سمعت!
عقدت حاجباي باستنكار كبير عندما رأيته يمسح الدماء القليلة التي سالت من بين شفتيه وهو يتوقف عن تناول الطعام.
وقد انخفضت عيناي نحو عنقه المح ندبة بشكل عرضي في منتصف عنقه! هذا الدامين. مليئ بالندوب حقاً!
ولكن.
ان كانت الندوب التي تعرض في جسده جراء مرضه ناتجة عن عدم احساسه وتعرضه للحوادث العرضية.
فكيف يكون تعرضه لجرح كهذا في منتصف عنقه أمر ممكن!
اخفضت ناظري مجددا في حين اتجه دانيال نحو الثلاجة يمين طاولة الطعام الصغيرة التي نجلس عليها وهو يمسك برغيف خبز يتناوله على عجالة.
احضر مكعب ثلج وقد عاد نحو دامين وهو يقول يتنهد بعمق: اخبرتك ان ترفع لسانك نحو سقف حلقك قدر الامكان دامين. خذ.
أردف بكلمات قد استنكرتها في نفسي قليلاً: لا بد من طريقة لتتوقف عن جرح لسانك كل مرة دون قصد، على هذا الحال ستعجز لاحقاً عن تحريكه حتى.
لمحتُ كارل الذي أخفض كلتا عينيه وقد اخذ شيء يشبه الانزعاج موقعاً على ملامحه!
اختلست نظرة نحو والده فوجدته كذلك يبدو جامداً منزعجاً ولكنه أكمل طعامه يمضغه بشيء من العجلة.
علي كل حال هل كان عليه أن. يقول هذا مباشرة؟!
اعقب دانيال يجلس مكانه مجدداً ليحدثه مفكراً: مضى على اخر فحص شامل اجريته ثلاثة اشهر، هل نذهب اليوم قبل الظهيرة؟
علّق السيد هاريسون بجمود: والسمك الذي قمتُ بشرائه صباحاً! هل احضرته ليتنعّم في حوض الماء؟! يحين دورك اليوم في اعداد الغداء، سأرافقه أنا.
امتعض دانيال بشدة ليزفر: لا يفوتك تسلسل مهامنا ابداً!
رمقت دامين الذي نظر الى السيد هاريسون بلا تعبير واضح وهو يقول وقد تحركت سبابة يده التي يسندها على الطاولة يحركها بطريقة دائرية: غداً.
ارتفع حاجبا دانيال بحيرة بينما تساءل كارل: لماذا!
اكتفى بكلمة مختصرة وهو يقف تاركا ما تبقى من طعامه دون أن ينهيه: فقط.
تحرك مبتعداً ولكنه سرعان ما توقف عندما تعالى صوت جرس المنزل ويبدو انه لمح من يقف بالخارج من مكانه عبر الجزء الزجاجي الشفاف العلوي للباب، ليقول دون ان يلتفت: مادوكس.
ماذا.! مادوكس؟
لماذا السيد مادوكس هنا بنفسه؟!
وقف السيد هاريسون وخرج من المطبخ واعتقد انه سيذهب ليرحب به!، بينما قال كارل يحدث دانيال بجدية: مادوكس لم يكن على طبيعته في الأمس عندما قابلناه صدفة، بل منذ ان حصل ذلك المستثمر على ارض أبي. اعتقد انه يوجد خلاف بينه وبين ابي منذ ذلك الحين.
عقدت حاجباي بحيرة بينما اومأ دانيال ببرود: فقط لانه كبير عائلة مادوكس يعتقد ان كافة ارجاء ومرافق القرية تحت تصرفه، هذا الرجل الذي تفوح رائحة النتن من فمه لا يجيد سوى التسلط معتقدا انه يملك الحق في التدخل في املاك الناس!
كان دامين لا يزال واقفا وحينها استوعب كارل ودانيال الامر كذلك، التفت كلاهما نحوه بترقب بينما بقي دامين في مكانه حتى نظر اليهما من فوق كتفه للحظات مطولة، قبل ان يقول بصوت عجزت عن تحديد ما تعنيه نبرته او ما يحمله من شعور: سأخرج قليلا.
وقف دانيال فورا ليقول على عجالة: مهلاً سأرافقك.
وقف كارل يتنهد بعمق بينما غادر دانيال ولم أستطع رؤية السيد هاريسون الذي لا يزال في الخارج أمام عتبة الباب، وعندما رأيت كارل يقوم يتنظيف طاولة الطعام استوعبت مغادرة لاري دون ان انتبه فتلفت فوراً من حولي قبل أن أتساءل: أين اختفى لاري!
ابتسم لي ينفي برأسه بلا حيلة: لا بد وأنه ذهب إلى الفناء ليقضي وقته الممتع.
آه الحشرات كالعادة. ولكن على الأقل.
يبدو لي لاري قادر على تخطي. أمرها.
نظرت إلى كارل بعدم استيعاب وكذلك عقد حاجبيه ينظر إلى قبل ان يخفض رأسه بتركيز وسرعان ما أجفلت لرؤيته يغادر المطبخ بخطوات واسعة والقلق باد على وجهه وكذلك وقفتُ حائراً أنصت إلى صوت عالٍ في الخارج!
هل هذا صوت دانيال والسيد هاريسون؟
الم يغادر بعد؟!
تحركتُ بفضول واستغراب لاخرج من المطبخ ولم أستغرق وقتاً لأفهم ما يحدث إذ بقيت واقفاً في مكاني أحدق إلى باب المنزل الذي تجمهر حوله السيد هاريسون وابنائه مع السيد مادوكس الذي كان.
أنفه ينزف!
فغرت فمي وتعلقت عيناي بالسيد هاريسون وكارل، إذ يمسكان بدانيال ليحيلان بينه وبين السيد مادوكس الذي يصرخ بغضب يحاول الوصول إلى دانيال: تعتقد نفسكَ محامي الدفاع الخاص به! من أنت تحديداً لتحشر أنفك! وكيف تجرؤ على ضربي!
ما الذي يحدث تحديداً!
قام بضربه؟! ك. كيف تجرأ على هذا!
هذا الرجل الذي وصل الآن ويحاول تهدئة الوضع، السيد ستانلي؟! بل ولم تكن سوى لحظات حتى عقدت حاجباي أنظر إلى السيد راف مالِكُ متجر الخضروات والفواكه المجاور للمشفى، وشيئاً فشيئاً باقي الجيران.!
لطالما سمعت عن الشجارات الشبه يومية التي يفتعلها دانيال ولكنها المرة الأولى التي أشهدها فيها مباشرة.
مهلاً.
أين هو؟ أين دامين!
اقتربت بخطوات بطيئة نحو الباب أبحث بعيناي عنه من بين المتجمهرين ولكنني لم ألمحه.
كنتُ مستمراً في الاقتراب من باب المنزل حتى رأيت ذلك الجسد الواقف بعيداً عنهم قليلاً قُرب السياج الذي يحيط بالمنزل.
يبدو انه قبل خروجه وضع سُترة فضفاضة خفيفة بقلنسوة قد استقرت على رأسه، هذا ما خمنته وانا أرى على يسار باب المنزل علاقة الملابس التي كانت تفتقد بالفعل للسترة التي لمحتها صباحاً ومكانها الآن فارغ.
كان يقف بلا حركة يحدق إليهم بفم مطبق.
احتد الشجار بينهم وقد انشغل الجميع حتى رأيتُ دامين يلتفتُ ليغادر يضع كلتا يديه في جيب سترته!
سوف يغادر ببساطة وكأن شيئاً لم يكن. لا يمكنه أن يكون جاداً! ببساطة؟
زميت شفتي بضيق وعدم استيعاب أعجز عن طرد شعور عدم الارتياح الذي يراودني.
بينما شقيقه يتشاجر مع السيد مادوكس فهو يغادر ليتمشى ولم يبدي أي اهتم.
م.
من هذا؟!
شاب يقف أمامه في طريقه بثبات ويحدق إليه ببرود.
مهلا أنا أعرفه! أعتقد أنه ابن السيد ستالني ان لم تخني الذاكرة.
تعلقت عيناه الداكنة بوجه دامين لِلحظات مطوّلة قبل ان يتحرك الاثنان باتجاه معاكس ليكمل كل منهما طريقه، تقدم الشاب ليدخل من بين المتجمهرين بسرعة ويحاول ابعاد دانيال وتهدئته.
علا صوت دانيال وهو يعترض بغضب: هُو من تجاوز حدوده لذا فليذهب فارق السن إلى الجحيم!
صَرخ السيد هاريسون عليه بسخط: لا بد وأنك فقدتّ عقلك دانيال! قلتُ توقف حالاً واعتذر عن ضربك إياه لا أصدق مدى وقاحتك!
الشجار لم يستغرق لحظات أخرى.
ولم يكن لدقائق قليلة!
طال الوضع حتى التفت للساعة على الحائط لأجدها تصرّح عن مرور ما يقارب النصف ساعة ولا يزال دانيال والسيد مادوكس يتشاجران!
أنا لم أفهم حَتى الأن مَا حدث وما يحدث. كل ما يمكنني استنتاجه هو استفزاز السيد مادوكس بطريقة ما لدانيال الذي تمادى وقد لكمه لينزف أنفه!
هو يَرفض الاعتذار ويصر على محاولة استكمال ضربه! يبدو غاضباً منفعلاً بشدة ولم يتضح السبب بعد!
ولكن صِدقاً. ك. كيف تجرأ على ضرب كبير عائلة مادوكس!
تنهدتُ أشعر بالاضطراب وقد انتابني شيء من الانهاك، ربما على أن أجلس بدلاً من الوقوف هكذا، أعتقد أنني أطلت الوقوف واحتاج إلى الراحة.
استدرتُ لأتجه إلى الأريكة، كانت خطوتين فقط حتى توقفتُ مجدداً اقطب جبيني بعدم استيعاب وتوتر أنصت إلى صوت غريب قد صدح في الأرجاء في الخارج! حتى أنني وجدت نفسي أقترب فوراً نحو الباب ولا سيما عندما توقف الشجار ليحدق الجميع إلى اتجاه واحد نحو اليمين!
ما الذي.
يحدث!
تعلقت عيناي بدهشة برعيل الخيل التي لا أدري من أين تحديداً قد أتت ولكن صوت صهيلها كان كفيلاً بأن يلتزم الجميع الصمت تماماً! كانت سريعة الى درجة ان عبورها من الطريق بدى كلحظة من حلم لم يستغرق سوى لحظة! تاركة خلفها نقعاً تلاه سكون تام!
رأيت السيد مادوكس الذي ارتجفت شفتيه بوضوح وهو يحاول قول شيء ما حتى التفت نحوه الجميع، بدى مذهولاً منفعلاً قبل ان يلتزم الصمت مجدداً وكذلك الجميع لتلاحق الأعين قطيع الأبقار الذي يسلك الطريق نفسه تاركاً خلفه غبار قد جعل بعضهم يسعل وقد علت أصواتهم المستنكرة باستغراب واضطراب ليسود التوتر المكان!
من أين خرجت هذه الحيوا.
اجفلنا جميعنا لصراخ السيد مادوكس بانفعال وهو ينزل الدرجات القليلة مبتعدا عن منزل السيد هاريسون حتى تمسك بالسياج وهو يقول بسخط: ح. حظيرتي! انها حظيرتي! كيف هربت الحيوانات بحق خالق الجحيم!
اقتربت أكثر لأفتح الباب وأنظر إليه بدهشة كما كان حال الجميع!
بقي يَصرخ بهلع كما لو فقد صوابه بل انه صاح منهاراً وهو يتبع القطيع الذي اختفى في لحظات ثم تبعه بعض الرجال وعمت الفوضى المكان.
ولكن.
لم يكن هلع السيد مادوكس في تلك اللحظة هو نهاية الأمر، فما سمعته في اليوم نفسه في وقت لاحق كان من شأنه ان يصيبني شخصيباً بالهلع!
فبرحيل الجيران المتجمهرين عن منزل السيد هاريسون وانشغالهم بما حدث، كان السيد ستانلي و ابنه والسيد راف فقط من لا يزالون أمام باب المنزل، رأيت دانيال يلوي شفته بقوة والغضب يحافظ على موقعه على ملامحه، بينما تنهد كارل بعمق ونفي برأسه وبدى لي يعاتبه قبل ان يصرخ السيد هاريسون بسخط: دانيال، هل تعلم ما قمت به!
جادله دانيال بحزم: قمتُ بإيقافه عند حده! أتى بنفسه إلى هنا تاركاً عرشه المزيف فقط ليلقي بكلمات مستفزة ويتجاوز حدوده!
هل سمعتَ يوماً عن ضبط النفس؟! هل من الصعب التوقف عن إثارة المتاعب! حتى لو القى تلك الكلمات على دامين لم يكن عليك تهويل الأمر وإنما تجاهله أو التصرف ب.
فقط لأنه كبير تلك العائلة ستسمح له بالسخرية من ابنك!
احتدت ملامح دانيال وقد اكمل بحنق شديد وصوته يرتجف بوضوح: ما تفوه به لم يكن يشبه الكلمات التي اعتاد دامين سماعها! لقد كان بحق الإله يتمادى و.
استمر صوته في التهدج حتى صرخ والده بسخط: أخبرتك مراراً وتكراراً أنه لا يفترض أن تنفعل لأي اهانة قد تزعجك! ليس كل ما يقال حقيقة فلماذا ترهق نفسك بالصراخ والغضب والشجار هنا وهناك!
تدخل كارل مهدئاً بجدية: هذا يكفي! دانيال ينتابني الفضول والحيرة ما الذي قاله لتنفعل!
أجابه دانيال فوراً دون تردد بحدة: توفيت زوجتك أثناء ولادة شيْطان قد سلب منها روحها!
فجّر دانيال تلك الكلمات وانفاسه المتقطعة تتلاحق دون توقف!
كيف قد يقول السيد مادوكس أمر بهذه القسوة!
نظرت إلى السيد هاريسون باستنكار لأحدق إلى ملامحه وهو يشيح بوجهه بعيداً، وكم كان من الواضح أن شيء في كلتا عينيه قد انطفأ بوضوح!
كما لو.
خمدت روحه فجأة!
عقد كارل حاجبيه بعدم رضى وازدراء وقد انزعج بشدة ليعلق متمالكاً نفسه: كيف يجرؤ!
نفي دانيال برأسه وقال بإقتضاب ولوم يحدث والده: لم يصف ابنك بالشيطان فقط ولكنه تمادى ليذكر أمر أمي! هل حقاً. لا بأس؟!
تدخل ذلك الشاب يحدثهم بجدية: بأي حق قد نصّب مادوكس ذاك نفسه زعيماً هنا؟! هو حتى يحشر أنفه كلما حاول أحد الناس بيع أرضه أو جزء من املاكه الخاصة! لماذا لا يلتفت إلى شؤونه الخاصة وحسب؟!
نظر إليه السيد ستانلي وقال بهدوء يمرر يده في شعره الداكن الممزوج بالخصل البيضاء بلا حيلة: لا تحاول ان تحتك به كيدمان، على كل حال اعتادت عائلته توارث التغطرس وجنون العظمة هنا.
علق كارل وبدى بمزاج سيء: أبي. هو مضطرب ومنزعج بوضوح منذ أن قمتَ ببيع أرضك قبل أيام، ولكن حدث ما حدث فلماذا أتى بنفسه إلى هنا اليوم في هذا الوقت الباكر! ما الذي كان ينوي. قوله؟!
لا يبدو السيد هاريسون بخير منذ أن تفوه مادوكس بكلماته، هذا الرجل من الواضح انه قد جُرِحَ بشدة!
ومع ذلك بدى ينتزع الكلمات من جوفه وهو يقول لكارل بجمود: لا أدري، ربما ينوي محاولة اقناعي باستعادتها بطريقة ما، على كل حال هذا يكفي.
لحظة.
قام ببيع أرضه قبل أيام!
لماذا قد يبيع أملاكه فجأة!
اتسعت عيناي بذهول أحدق إليه وهو يتراجع ليدخل، وعندما التقت عيناه بعيناي تحرك فمي لأتساءل بتشتت: تكاليف الجراحة! هل كانت.
تلعثمت عاجزاً أحاول ترتيب الكلمات على لساني لأردف: قمت ببيعها. لتسدد التكاليف!
ومضت عيناه الزرقاء ببريق مترع بالحِدة وهو يقول بجفاء: لا تلعب دور محور هذا الكون كيفين، كنت بحاجة إلى بيعها والآن اصمت ولا تزعجني أنت أيضاً.
رغم أنه انهى كلماته ودخل منزعجاً ولكنني بقيت في مكاني مدركاً إلى منطقية ما حدث! لقد كانت التكاليف باهظة ومن الصعب تسديدها للمشفى!
لقد غادرت وتركتني خلفها عاجزة عن جمع المبلغ واختارت ان تتخلى عني لألقى حتفي عندما فقدت الأمل، في حين قام ببيع أملاكه و. سدد التكاليف، لم يكن مرغماً ولكنه فعل هذا!
عندما بدت ملامح كارل الذي يدخل غير واضحة علمت أن الدموع قد هاجمت كلتا مقلتاي دون سابق انذار لتغشى الرؤية. بل أنني أطبقت شفتي بقوة بالغة أتمالك نفسي عندما وضع كارل يده على كتفي ليربت عليها ملطفاً الأجواء وهو يهمس لي بنبرة حانية: فعل هذا من تلقاء نفسه، ليس فضلاً ولا جميلاً وإنما دوره الذي اختاره لذا ابدأ من جديد كيفين ولا تفكر بالأمر.
تهدج صوتي وابتلعت الغصة بصعوبة لأقول احكم قلتا قبضتاي بقوة: لم يكن عليه فعل هذا. كان الجميع يتحدث عن أرضه الكبيرة ورغبته في استغلالها مستقبلاً فكيف قام ببيعها ببساطة! انها الأرض الوحيدة المطلة على الجسر البحري المؤدي إلى خارج القرية هذا. ظُلم!
خانتني قدرتي على تمالك نفسي وقد بكيت بصمت رغماً عني، حتى اقترب أكثر وربت على رأسي يجذبني إليه مهدئاً.
وكما لو كنت أنتظر عناق مماثل إذ انفجرت باكياً عاجزاً عن تمالك نفسي وضعفي اهمس بلا حيلة: لا يملك سبباً واحداً لينقذني مقابل أملاكه، ولكنه فعل ذلك وأخذ دورها بالكامل بعد ان تخلت عني، ليس مكلفاً بي ولكنها اضطر ل.
إنه خياره.
لم تكن تهدئتي أمر سهل، فلقد بقيت أبكي مليئاً بالضيق والحسرة! ولكنني سرعان ما بدأت أسترد قوتي ما ان دخل لاري عائداً من الفناء لأحاول التوقف عن البكاء اتجاوز تساؤلاته مدعيا اصابتي بألم في معدتي وانا استلقي على الاريكة لأكون أكثر اقناعا.
مضت الدقائق بطيئة ولكنها كانت كفيلة بتهدئتي وترميم جزء ولو صغير مما كُسر بداخلي لسماع حقيقة تخلي السيد هاريسون عن أملاكه مقابل ان أكون متواجداً هنا الآن. بكامل عافيتي!
ولا اعتقد انني شعرت بالمعنى الحرفي للخذلان سوى الآن.
أيا يكن عذرها. لن أسامحها طالما حييت.
حتى وان عادت يوما ما. لن يكون أمامي سوى خيار واحد.
أن أخذلها وحسب.
انتشلني من عتمة مشاعري صوت المدعو كيدمان وهو يتحدث مع دانيال واقفا امامه بينما الاخر يجلس على الدرج المؤدي الى الدور العلوي: لا أصدق أن الخيول والأبقار الخاصة به قد هربت من الحظيرة! هناك خطب ما بلا شك فلم يسبق وان حدث هذا مع أي أحد هنا!
أعقب بلا حيلة وهو يتكتف ويسند جذعه للوراء نحو الحائط: على كل حال دانيال ربما كان لديك طريقة أفضل لتنفس فيها عن غضبك منه، لا أن تلكمه في وجهه مباشرة وينزف أنفه!
رفع دانيال كلتا عينيه نحوه بحدة وتساءل: ما هي الطريقة الأنسب برأيك؟
تمتم وهو يفكر: ان تركل ساقه مثلاً أو تلوي ذراعه حتى يتراجع في كلماته!
يا لها من طريقة مثالية!
هذا ما كنت أفكر فيه بتهكم قبل ان يهمس دانيال يخفض كلتا عينيه: بدت الخيول مذعورة بشدة.
ايده كيدمان بصمت بينما اكمل دانيال بجدية وهدوء: لم يعد دامين بعد.
زفر كيدمان يمرر يمناه خلف عنقه بضجر: مجدداً!
أعقب بإنزعاج: هو ليس فتى صغير يعجز عن العودة إلى المنزل بنفسه لذا توقف وامنحه فرصة ليخرج بنفسه دان، على كل حال من النادر أن يفعل هذا.
ساد الصمت لثواني قبل ان يتساءل كيدمان بحيرة: أخبرني. كيف بدأ الأمر! هل تفوه بتلك الاهانات دون سابق انذار؟!
أومأ دانيال ليقول على مضض: خرج دامين وتبعته وقد كان ذلك المادوكس في الخارج أمام الباب يتحدث مع أبي، ما ان نزل دامين الدرج حتى تفوه بتلك الوقاحة دون مقدمات.
أخفض كيدمان رأسه يفكر بصمت بينما وقف دانيال وقال: سأخرج لأطمئن بشأنه.
علق الآخر يزفر بإمتعاض: أنت لا تنصت إلى ما يقوله أحدنا بالفعل، افعل ما شئت.
أضاف يسبقه ويستوقفه في مكانه: سأغادر أولاً، لا يمكنني ترك كلوي وحدها.
ولكن فُتح الباب فالتفتنا جميعنا نحوه.
ل. للقد عاد.
دخل وقلنسوة سترته الخفيفة لا زالت تستقر على رأسه، بدى وجهه الخالي من أي تعبير يضع كلتا يديه في جيب سترته ينظر إلى كيدمان قبل أن يكمل طريقه ولكنه سرعان ما توقف عندما تقدم دانيال نحوه ليتساءل بإندفاع: أنت بخير؟
استغربت أمر كيدمان الذي زفر بعدم رضى وهو يتحرك ليغادر!، اعتدلت لأجلس على الأريكة أحاول أن ألهي نفسي وألا تلتقي عيناي بعينيه الزرقاء الميتّة ولكن. حدث هذا وقد تسمرت تحت تأثير عيناه التي تحدق إلى وقد تفاجأت به يقول: لا يبدو سعيداً ممتناً لكونه على قيد الحياة.
وجه ناظره نحو دانيال واردف: لا معنى لكل هذا.
هاه!؟ لا معنى لِماذا تحديدا! ما الذي يقصده؟
عقدت حاجباي بعدم فهم ولكنني سرعان ما جف حلقي عندما اعاد ناظره الي.
بل تقدم بخطوات بطيئة، حتى وصل حيث اجلس وبقي على مقربة مني، رفعت رأسي انظر اليه احافظ على هدوئي في حين تقدم دانيال نحوه وتساءل بهدوء: ما الذي تعنيه؟
لماذا يحدق دامين إلى بهذه الطريقة! ما الذي يريده مني؟!
خرج صوتي متهدجا قليل بينما اتظاهر بالحزم بصعوبة: ما الذي تقصده!
انخفض ناظره الى الارض للحظة قبل ان يعيدها الي، ابقي يديه في جيب سترته وهو يتحرك لاتفاجئ به يجلس على الطاولة العريضة الموضوعة امام الأريكة التي اجلس عليها ليقول بتعبيره الميّت وكلتا مقلتيه لا تفارقني: نجوت من الموت بأعجوبة، ولكنك لا تبدو سعيداً.
و على أي اساس قد حكمت بأنني.
ما هو الموت، كيف كانت تجربتك.
لو لم يقل كيف لما علمت انه يوجه لي سؤالا! بحق الاله حتى الرجل الالي قادر على التعبير اكثر! لا يعقل ان نبرته خالية من اي مشاعر هو حتى لا يبدو وكأنه يتساءل!
تقدم دانيال وقال بهدوء: هو منزعج من موضوع أسري يخصه، الامر ليس بأنه لا يبدو سعيداً ولكنه في مزاج سيء.
اجفلت لقول دامين ببساطة: أعلم، تخلت عنه والدته!
انقبض صدري بشدة إثر قوله وقد داهمني شعور مريع!
كيف يجرؤ على قولها ببساطة أمام وجهي!
عقد دانيال حاجبيه ونهره منبهاً: لا تكن مباشراً الى هذه الدرجة!
التفت دامين نحوه ينظر اليه من فوق كتفه، انزل القلنسوة يبعدها عن رأسه وقال: لا فائدة من المماطلة.
اومأ له يتنهد بعمق: ومع ذلك تحلى بالمراعاة، كما لا يجب ان تطرح عليه سؤال مماثل فهو لا يزال منهكا وبحاجة الى الراحة.
دانيال. هذا الفتى قد خاض تجربة الموت بالفعل ولكنه ذو حظ جيد. على الأغلب.
اردف بما جعلني اطرف بعيناي بعدم فهم: ليس سعيداً، لا يبدو كذلك مهما حاولت اقناع نفسي. ربما ادرك انه لا يوجد فرق وحسب.
رددت بعدم فهم: لا يوجد. فرق؟
طرف بعينه الزرقاء التي بالكاد تلمع ببريق الحياة وهو يقول: صِف لي الموت.
اقترب دانيال وقد وضع يده على كتفه ليحاول تغيير الموضوع: دامين يكفي!
ولكنه اكمل قوله يحدق إلى وقد تساءلت في نفسي ان رأيت هذه المرة شيء يشبه الاهتمام والفضول في كلتا مقلتيه وهو يردف: او ربما. ان تصف لي الالم الذي انتابك حينها، صِفه لي كما قد تصف الالوان لرجل وُلد كفيفاً، أو الصوت لرجل أصم، ما هو الألم يا فتى، كيف صافحت الموت وعدتً مجدداً.
جف حلقي استنكر عمق سؤاله مدركا أنني انصت الى شخص. لا يعلم ما يعنيه الشعور بالالم!
الشعور بوخزة او حرق او حتى كسرعميق!
بحق الإله كيف قد اصف الالم لشخص وُلد بلا الم في قاموس حياته!
تدخل دانيال بضيق ليستوقفه ممسكاً بذراعه اليسرى يحثه على التحرك: يكفي دامين دعه وشأنه.
عندما سحب ذراعه ليوقفه ويرغمه على التحرك، اضطر لاخراج يده من جيبه، وحينها توقف دانيال دون استيعاب وكذلك وجدت نفسي اقف على كلتا قدماي بسرعة جراء الخوف احدق الى يده ارفع حاجباي لاتساءل بارتياب: ل. لماذا يدك ملطخة بالدماء؟!
ومضت عينا دانيال الزمردية بالاضطراب وهو ينظر الى يده ويمسك برسغه قبل ان يعيد نظره الى دامين مجدداً.
لم استوعب تحرك دامين بخطوات بطيئة دون ان يعلق وهو يسترد يده منه بهدوء! بل وصعد الدرج دون ان ينبس بكلمة في حين بقي دانيال قلقا مذهولا في مكانه.
يده اليسرى كانت ملطخة بالدماء فماذا لو كان الحال سَيان مع يده اليمنى التي لا تزال في جيب سترته!
دماء من هذه! او ربما. قد جرح نفسه دون أن يعي!
ولكنني تلقيت اجابة على سؤالي عندما سمعنا في اليوم نفسه مساءا من السيد ستانلي الذي زار السيد هاريسون وهو يحدثه ليخبره ان الخيول والابقار قد هربت من حظيرة مادوكس اثر كسر في قفل باب السور!
لم يعلم اي شخص حتى الان المسؤول عن كسر القفل ولا يزال مادوكس يتوعد الفاعل ولكن لم يكن هذا السبب الوحيد الكفيل بجعل مادوكس يستلقي اليوم في المشفى جراء ارتفاع ضغط دمه الشديد الذي نزف أنفه على إثره.
فلقد كانت الخيول والأبقار مذعورة جراء سقوط احد الابقار مضجرة بدمائها غارقة فيها ملطخة المكان المحيط بها.
ربما هذا ما يعنيه وقوف شعر الجسد حرفياً! فبسماع حوار السيد ستانلي وهاريسون في غرفة الجلوس حيث نجلس جميعنا باستثناء دامين في الاعلى وجدت نفسي ارتعد وأطرافي ترتجف رغماً عني.
وبينما يتساءلان يفكران بالامر وبهوية الفاعل كان كارل كذلك يحاورهما بارتياب و حيرة. لمحت دانيال الذي اجلس بجانبه يحدق الى الفراغ بما جعلني اغرق في حيرة من امري.
الرضى!
هذا ما رأيته في كلتا عينيه بلا شك!
لماذا قد أرى الرضى على ملامح دانيال؟ لماذا لم أرى ولو جزءاً من الاستنكار والغضب!
لا احد سواي انا وهو قد رأينا تلطخ يد دامين بالدماء! هو الوحيد الذي غادر صباحاً واثناء غيابه هربت الحيوانات من الحظيرة. لذا. يصعب التفكير بتورط شخص اخر! لا بد وان قول مادوكس واهانته التي وجهها له قد أثارت في نفسه رغبة الانتقام بطريقته الخاصة!
كما أراهن على ان يده الاخرى ايضا كانت كحال اليسرى!
جمدت ملامحي انصت الى صوت دانيال الهامس بصوت منخفض متهكماً بينما يحدق الى الفراغ يعود بظهره للوراء ليسنده بفتور: هكذا تنتقم الشياطين.
بالكاد طرفت انظر اليه بتعجب شديد قبل ان يرمقني بتدارك ثم سرعان ما وجدته يبتسم لي بهدوء يربت على ظهري بخفة.!
هذا كل شيء؟!
هل هذا يعني انه.
يخبرني أن أتصرف وكأنني لم أرى ما رأيته؟
وكأن شيئاً لم يكن!
عدت للوراء بقوة ليرتطم رأسي للوراء وقد تأوهت رغما عني بعد ان انقشع كل ما حولي بعيداً و دوى في اذني صوت السيارات والحافلات الى جانب ضحكات و احاديث الناس، رفعت رأسي استوعب غطاء السماء الصافية فوقي مباشرة!
قبل أن تلتقي عيناي بالأعين الحائرة التي تحدق إلى بتعجب!
شهقت برعب وبقيت متسمراً في مكاني دون حركة.
وعندما شعرت بشيء من الرطوبة حول كلتا عيناي أسرعت أشيح بوجهي باضطراب ليأتيني الإدراك شيئاً فشيئاً.
أنا. لا زلت هنا؟! هل اخذتني الذكريات والأفكار إلى هذا الحد من البُعد لأنسلخ عن الواقع؟!
نعم. ذلك الألم الذي كان يعتري صدري جراء الجراحة قد. اختفى تماماً!
هل كنت. تبكي!
امتعضت بشدة وقد وقفتُ فوراً لأقول بحدة: أصمت، لا شأن لك.
ضاقت عيناه بتفكير وهو يزم شفتيه، ثم سرعان ما اخرج يمناه من جيبه لأتفاجئ به يقول بتوتر واضح: أ. أنصت، لا زلت عدوي ولكن هذا لا يمنع أن. أشاركك إياها، طالما تشعر بالحزن ستتحسن حالاً!
عقدت حاجباي بإنزعاج واستغراب، أخفضت ناظري حيث يده بفضول قبل أن أقول على مضض وانا اتحرك انوي المغادرة: أنا لا أتعاطى الممنوعات أيها الأرعن.
هذا الآرنولد لن يهدأ باله حتى يُلقى القبض عليه.
اعترض بصوت خافت حذر: هيه أصمت واخفض صوتك! هي ليست ممنوعات وإنما سجائر روحية! أ. أياً يكن أنت حر، ولكن لا تختبئ في الأزقة لتغرقها بالدموع ثم تتظاهر وكأن شيئاً لم يكن.
كم هو مزعج!
زفرتُ اتمالك نفسي وابتعدت عن مكانه لأغادر ولكن سؤاله قد استوقفني وهو يقول بجدية: كيفين، أنا لا أقوم بمضايقتك ولكنني منزعج من نرجسيتك وانت تستمع برؤية إيما تحاول لفت انتباهك.
هي لا تحاول لفت انتباهي أنا أيها الغبي.
قلتها بفتور وبرود وأكملت طريقي.
هو وجماعته مجرد. حمقى.
مهلاً. تلك الآنسة، كتاليا! ما قصة ذلك البث الذي يجمعها بأخاك الهمجي! هل حقاً يتواعدان؟!
وقفت بضجر ورمقته من فوق كتفي لأحدق إليه بتمعن، أشاح بناظره بعيداً وقال يحرك يديه مُفسراً: انهما يتصرفان بغرابة وانتابني الفضول فقط، ما طبيعة علاقتهما تحديداً؟ ليست مجرد مستأجرة عندكم؟
دانيال وكتاليا!
ربط اسميهما معاً أمر غريب و. مزعج!
هل دانيال حقاً. يسعى إليها أم أنه اعتاد وحسب على وجود شخص يُعلق عليه آماله في تحمل مسؤوليته للفت الانتباه ليبرز نفسه فقط؟!
زممت شفتي ونظرت إلى الطريق أمامي بينما أتمتم على مضض: لا أعلم و. لا أهتم.
قلتها ببرود سرعان ما انقشع جراء رؤية من يبتسم بسعادة وحماس في الشارع المقابل المكتظ، يمسك بيده كيس مشتريات وبجانبه من ترافقه تضاحكه وتمازحه. ببساطة!
لاري.
وقفتُ مشتتاً عاجزاً وقد ارتخى كِلا كتفاي قبل ان يرتجفا رغماً عني.
يصعب تقبل الأمر! تعتقد أنها قادرة على العودة ببساطة، لا زالت ترغب في التودد! انها تستغل كل فرصة أمامها دون تردد، ترافق لاري وتقوم بتلبية طلباته لتكسب وده وثقته وحسب!
ولاري يبدو. مستمتعاً بسهولة وكأنه لم يكن عدائياً مع أي شخص من قبل!
بحق الإله لماذا أنا الوحيد الذي يُواجه صعوبة في تقبل عودتها!
ازدردت ريقي وبالكاد فعلت إزاء جفاف حلقي، التفتُ فوراً نحو آرنولد وقلت بصوت متهدج: أعطني إياها.
عقد حاجببيه بعدم فهم: ما هي!
اقتربت منه بإضطراب أتحرك بأقدام مهزوزة وقلت بحزم: ما تخفيه في جيبك.
اتسعت عيناه بحيرة وقد ارتفع حاجبيه بإدراك ليخرجها ويناولني إياها فانتزعتها منه وهمستُ أشيح بوجهي: قداحة.
ابتسم بسخرية وغمز بتهكم: يالسرعة رضوخك! على كل حال ان كانت المرة الأولى لك كن حذراً وحسب، لنذهب خلف المنتزه.