رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس
للحظاتِ تجمدت بين ذراعيه الحديديتين من هولِ الهجوم المجنون الذي انصب عليها، لم تستطع سوى أن تأخذ نفسا واحدا مرتجفا قبل أن تراه يهجم عليها مهاجما شفتيها المكتنزتين في اعصارٍ عايشته مرة من قبلِ عشرِ سنوات...
للحظاتٍ قليلة شعرت و كأنه محاربٌ يسترد ملكه الضائع، وهو يقبل كل زاويةٍ من من شفتيها المنفرجتين المبهوتتين الى أن أطبق عليها مانعا إياها من التفكير حتى و قد غابت عنها الدنيا من حولها و لم تشعر سوى بصوتِ البحر يدخل هادرا في أذنيها مختلطا بصوتِ أنفاسه المجنونة و التي تخبرها بما يستشعره في تلك اللحظة...
استمرت الأمواج تطوف بها حاملة إياها إلى الشاطىء لترجعها من جديد و تلقيها في عمقِ بحرٍ مجنون لا قرار له، وهي حتى غير قادرة على الحركة، وقد اختلط الماضي لديها بالحاضر، و تاهت في تلك الدوامة كما تاهت وهي بعد طفلة في الرابعة عشر من عمرها...
فجأة انطلق من جوارهما صوت سيارة نقل بضائع عاليا جعلها تنتفض شاهقة بين ذراعيه وقد رفع رأسه عنها وهو يلهث، لتطالعها عيناه المتسعتانِ المجنونتانِ بجنونِ تلك اللحظات التي غرق فيها للتو، و التي كاد بريقهما أن يغشي عينيها المذهولتين أمامه...
حينها عاد اليها الواقع و صرخت عاليا وهي تتلوي بشراسةٍ بين ذراعيه، الا أنه لم يفك أسرها بل زاد من ضغط ذراعيه حولها حتى كاد أن يحطم أضلعها الهشة، فعادت لتصرخ كالمجنونة و هي تشعر بالعجز (ابتعد عني، ابتعد عني أيها المجنون)
لم تنجح مقاومتها سوى في جلبِ ابتسامة تملكية الى شفتيه ثم همس في اذنها رغم انفاسه الهائجة (أرأيتِ أنكِ لازلتِ تتذكريني، نفس استسلامك الرائع منذ عشر سنوات).
في لحظةٍ امتلأت عينيها بالدموع و ثم تفجرت على وجنتيها وهي تضرب كتفيه بشراسةٍ محاولة التحرر منه، وهي تشهق باكية (كنت طفلة، لم أكن سوى طفلة، وأنت استغليت ذلك)
انطفأ ذلك البريق المجنون في عينيه. وتوترت عضلة في فكه، الا أنه لم يحررها و لم يرخي ذراعيه عنها، وهو يقول بعد لحظةٍ بصوتٍ أجشٍ متصلب (كنتِ زوجتي، و لا زلتِ).
توقفت عن المقاومة وهي تنظر اليه بذهول بينما عيناها الحمراوانِ تتسعانِ وهي تنظر اليه مصدومة، ثم عادت لتصرخ (هل جننت؟، هل جننت بالكامل؟، كان مجرد عقدا و قد فسخه عمي مع أباك و طلقوني منك بعد سفرك).
امتنع عن الرد وهو ينظر إلى عمقِ عينيها الزيتونيتين الحمراوين و التي يلوح من داخلهما بعض الاستجداء تحاول أن تخفيه بشجاعة، حينها لان قلبه قليلا، وحرر أحدى ذراعيه من حولها ليرفع يده و يداعب شعرها المتناثر حول وجهها الشاحب المغرق بالدموع...
الا أنها هزت رأسها بعنف لتنفض يده عن خصلاتِ شعرها، وهي تلهث غضبا و خوفا بعنف بالرغم من دموعها المتفجرة ثم لم تستطع تحمل الصمت فصرخت و هي تدفعه في صدره بقوة الا انها كما لو كانت تضرب حائطا خرسانيا (لماذا لا تتكلم؟، أخبرتك بأن عمي مزق عقد الزواج مع والدك، و مضى كلا منا الى حياته منذ عشر سنوات، فلماذا عدت الآن؟، كنت قد وطنت نفسي على نسيان تلك الفترة السوداء من حياتي، فلماذا عدت الآن؟، لماذااا؟).
عادت لتبكي بعنف و هي تشهق منتحبة و قد فقدت السيطرة على نفسها تماما، فما كان منه الا أن جذبها بين ذراعيه ليدفن وجهها المرتعش بكاءا في صدره بقوة، حاولت دفعه و حاولت المقاومة دون جدوى، فاستسلمت لذراعيه.
ورأسها يرتاح غصبا على صدره القوى اللاهث و الذي من شدة اتساعه شعرت و كأنها تفترش رمال الشاطىء الدافىء تحت أشعة الشمس كما كانت تفعل و هي صغيرة، بكت، بكت كثيرا وهي لا تجد سبيلا للتوقف، فها قد عاد اليها ماضٍ مخزٍ كانت قد اعتقدت أنها دفنته منذ سنين، لكنه عاد الآن بعودة ذلك المجنون الذي يكبلها بين أحضانه و هي لا تجد القدرة على الفكاك منه.
عادت لتشهق حتى بللت قميصه تماما و مع كلِ شهقةٍ كان يشدد من ضمها إلى صدره، بعد دقائق طويلة، استطاعت أن تسحب عدة أنفاس مجهدة وهي تحاول أن تسيطر على نفسها، رفعت وجهها المتورم بشدةٍ وهي تنظر اليه ببطءٍ وقد نال منها التعب بقوة
ظلت تنظر الى عينيه لعلها تجد فيهما أثرا للرحمة، لكن لماذا؟، لماذا تستجدي منه الرحمة؟، فهو لا يملك أي سلطةٍ عليها...
بلى يملك، ظهر وجه عمر جليا أمام عينيها المتورمتين، عمر الذي يمثل بالنسبةِ لها كل الأحلام و الحياة السعيدة التي خططت لها لتبنيها فوق أطلالِ الماضي المؤلم...
ابتلعت ريقها بضعف وهمست بعد فترة (هل أخبرت أحدا؟)
ظل ينظر إلى عينيها و كأنه يسبح فيهما، بعد عشر سنوات ها هي في احضانه من جديد تهمس له بكلِ وداعة، هي ملكه حتى ولو لم تدرك ذلك بعد، رد عليها بعد لحظةٍ بصوته الصلب (أخبرت من؟، بماذا؟).
أخذت نفسا مرتجفا وهي تحاول جاهدة السيطرة على نفسها حتى لا تثير جنونه أكثر، فالحذر مع أمثاله هو التصرف الأمثل لذا همست بخفوت (في محل عملي، هل، أخبرت أحدا عن، أنت تعلم، عن)
لم تستطع أن تكمل لأنها لم تجد وصفا حقيقيا لما كان بينهما فصمتت لا تنظر لأبعد من عنقه، فتطوع هو ليكمل بهيمنه ٍ و شفتيه الشهوانيتين تبتسمانِ بتسليةٍ شرسة (عن زواجنا؟).
عاد اليها جنونها هي الأخرى فهي لا تقل عنه جنونا في الواقع فصرخت بشدة (لا تقل زواجنا، لم يكن هذا زواجا و حتى أنني كنت تحت السن القانوني)
اتسعت ابتسامته الشريرة وهو يتطلع الى ثورتها التي تظهر في لحظةٍ لتخبو في أخرى، قال وهو يبتسم أمام عينيها المتورمتين من الغضب و البكاءِ معا (كان زواجا، وفيه اشهار، كل فتيات الحي كن يتزوجن بنفس الطريقة و في نفس العمر تقريبا، لكن لا تقلقي لم أخبر أحدا، حتى الآن).
صمتت مرعوبة من تشديده على كلمة، حتى الآن، وكأنه يهددها، لكنها رغما عنها شعرت ببعض الإرتياح...
ارتجف قلبها، انه يجادل مصمما، فماذا يريد منها بعد كلِ هذه السنين؟، صحيح أنه لا يملك شيئا الا أنها تخشى أن يهدد بإخبار كل من تعرفه، و إن أرادت الحق فهي لا تهتم الا لشخصٍ واحد، عمر، ستقتل نفسها لو علم عمر بذلك الأمر، كانت لتستسلم من قبل، أما الآن وبعد أن شعرت بل و شبه تيقنت من اهتمام عمر بها فالأمل تولد بداخلها، وهي ستدافع عنه و لو كلفها ذلك حياتها...
أخذت نفسا مرتجفا ثم دفعته قليلا في صدره لكن بدونِ عنف وهي تهمس بضعفٍ و تعقل (اتركني، أرجوك)
لوهلةٍ تأكدت من نظراته التملكية بأنه لن يرضخ لطلبها و سيبقيها في أحضانه للأبد، لكنها شاهدت للعجب بعض الرقة تطفو على سطح ملامحه، قبل أن تشعر بنفسها حرة أخيرا و قد سحب ذراعيه من حولها ببطء، مبقيا عينيها أسيرتي عينيه.
أخذت نفسا آخر وهي لا تصدق أنه تركها أخيرا بعد هجومه الفاحش تجاهها لكنها لم تسمح لنفسها بضربه الآن، فهي ستكون خاسرة في كل الأحوال و قد يفعل هذا المجنون ما لا تحمد عقباه، لذا تابعت همسها و هي تنظر بثباتٍ زائف الى عينيه القاتلتين المجرمتين (جاسر، ماذا تريد مني؟، من الواضح أن أمورك أصبحت مبهرة و أغنى و اجمل فتاة ستتمناك، فلماذا تذكرتني بعد كل تلك السنوات؟).
كان طوال تلك اللحظات أثناء همسها المرتجف و عيناه لا تفارقانِ شفتيها الهامستين، حتى شعرت بالدماء الحارة تعود لتندفع في شرايينها، الوقح، الوغد الوقح، لكنها ألزمت نفسها الصمت حتى تتجنب أذاه، و انتظرت أن يجيبها
و بالفعل قال بهدوء بعد فترة (من قال أنني نسيتك؟، لقد تركتك خمس سنوات، وعدت بعدها لأراكِ ومن يومها و أنتِ تحت أنظاري).
كان يتكلم بمنتهى الهدوء و كأنه يحكي عن الطقس، حتى أن هناك طيف ابتسامةٍ تعلو شفتيه المفترستين، يتكلم عن حياتها و كأنه تملكها، يحددى متى يراها و متى يقرر الوقت ليعود فيستعيدها...
وهنا تزايد شعورها بالخوف، إنه يبدو واثقا تماما، لكنها أخفت خوفها لتقول بحزمٍ زائف (كل ما تنطق به جنونا مطلقا، هل تعرف ما ستكون عليه ردة فعل عاصم ما أن أخبره عن ظهورك بهذا الشكل في حياتي؟).
توحشت ابتسامته و ازداد بريق عينيه العابثتين، بينما لم تهتز فيه شعرة للتهديد المبطن في كلامها، فقال بخطورةٍ تعرفها جيدا (اهااا، عاصم رشوان، كم شوقتيني لأيام الشقاوة القديمة، وكم سأستمتع بردة فعله التي ستعيدنا للماضي، خاصة حين تخبريه بأنني قبلتك للتو، هنا عند البحر، لكن لماذا ركبتِ معي حنين؟، الا تعلمين خطورة الركوب مع مجنون).
لم تجب، لم تفتح شفتيها بحرفٍ واحد، تجمدت تنظر اليه دون تعبير، دقائق أم ثوانٍ مرت؟، لا تعرف حقا، لكنها في النهاية قالت وهي تضغط الحروف (أنت أحقر انسان قد أكون)
لم تستطع ان تكمل حين أمسك بذقنها ليكتم كل الألفاظ التي كانت تنوي رميها في وجهه و التي تتذكرها من أيام الحارات...
تلوت ما بين أحضانه الخشنة بشراسة الى أن تركها دون أن يتمادى كما فعل من قبل، لكنه عاد ليقبض على ذقنها بقوةٍ كادت أن تخلعه و هو يحذرها بهدوء (إياكِ و تلك الألفاظ، الزوجة المحترمة لا تنعت زوجها بألفاظ غير محترمة، مفهوم؟).
دفعت يده بقسوةٍ فتركها برضاه و هو يبتسم لعينيها الغاضبتين بجنون، فلم تتمالك نفسها و هي تمد يدها الى الباب تحاول فتحه بجنون لتخرج من سيارته، الا أن الباب كان مغلقا فصرخت وهي تطرق على مقبض الباب (افتحه، افتح هذا الباب حالا و الا صرخت و فضحتك)
وما لم تتوقعه هو أنه قال بمنتهى الهدوء (رغباتك أوامر).
لحظة و سمعت صوت تكة قفل الباب يفتح، بل و لم يكتفي بذلك فانحنى بجذعه عليها ليمد يده و يفتح الباب على اقصى اتساعه و هو يقول (تفضلي)
نظرت اليه و إلى الباب المفتوح و الذي اندفع منه هواء البحر ليبعثر شعرها بجنون، ثم خرجت بتعثر الى الطريق السريع و لم تكد تتزن في و قفتها حتى انحنى ليصفق الباب ثم ينطلق بسيارته محدثا صريرا عاليا...
اتسعت عيناها المتورمتين رعبا و هي تنظر الى طيفِ سيارته المبتعدة كالسهم، ثم نظرت يمينها و يسارها بهلع، لا تمر بها الا سيارات النقل الضخمة، فهل يمكن ان تثق بإحدى سائقيها و تركب معه؟، انها اصلا على الجهة المقابلة أي أن السيارات متجهة الى سفر خارج المدينة، فمن ذلك الذي سيقبل بالعودة ليرجعها، وهي لن تستطيع عبور الطريق السريع...
للحظاتٍ انتابها رعب غير مسبوق، مالك، ستتصل بمالك ليأتي و يأخذها، لكنها ستكون كارثة و وأطبقت على رأسها...
فكيف تتواجد فتاة هنا بمفردها؟، ارتعش قلبها من مجرد تخيل الأمر، و لم تجد سوى أن غطت وجهها بكفيها و هي تنتحب بشدةٍ و قد انهارت أعصابها بعد كل هذا الضغط العصبي الذي تعرضت له الساعات الماضية...
و أثناء انهيارها الفظيع سمعت صوت مكابح سيارة توقفت أمامها بشدةٍ فقفزت رعبا، لتطالعها صورة المجنون الذي تركها في الصحراء منذ دقائق، انحنى اليها من النافذة ليقول بتسلية (هل ستركبين أم ألف لفة أخرى لتأخذى و قتك في التفكير؟)
ظلت ترتجف بشدةٍ مع نسيم البحر، و هي تشعر بأنها لم تكره انسان في حياتها كما كرهته هو، لكنها لم تستطع سوى أن تركب بكلِ ذلٍ و استسلام.
و ما أن دخلت و اغلقت الباب حتى أسندت رأسها اليه بتعبٍ أوشك أن يقتلها و قد وهن جسدها و نفذت طاقتها تماما، لذا لم تتحرك حين مد يده و ثبت لها حزام الأمان، شاعرة بقبضته المتملكة على خصرها دون أن تجد القدرة على القيام بأي حركة من شدة التعب...
وما ان انطلق بالسيارة حتى أخذت عيناها تتابعانِ حركة أعمدة النور التي تجري و البحر يجري ممتدا من خلفها، لتعود بها الذكرى الى ذلك اليوم، تسير فيه منهزمة كعادتها منذ أن وقعوا عقد بيعها بتلك الطريقة الى أن يتم الزفاف...
تسير هائمة على وجهها في شارع حيهم الضيق، تفكر بأن حلم طفولتها قد تحقق بأبشع صوره، تقترب من الخامسة عشر، لا تعلم إن كانت طفلة أم امراءة، لكنها بالتأكيد ستزف قريبا كما أراد عمها، سمعت من خلفها صوته الساخر يناديها (حنين).
التفتت ببطءٍ لتنظر اليه برهبةٍ كما اعتادت دائما، انه ضخم، طويل، وسيم بشكلٍ غير عادل لغيره من الشباب، لكن وسامته تحمل طابعا اجراميا منبعثا من نظراته البراقة، و التي لم تنطفىء كما انطفأت نظرات مالك بعد موت نوار...
توقفت تشعر بالتقزم أمامه كالعادة و هي تفرك أصابعها بارتباك، لا تجد القدرة على النظر الى عينيه و هي تهمس (نعم).
اقترب منها بطلته المخيفة في بنطاله الجينز الذي يبرز عضلات ساقيه، وقميصه المفتوح لمنتصف صدره مظهرا عضلاته الضخمة بالنسبةِ الى عمره الذي لم يتجاوز الثالثة و العشرين...
وقف يطل عليها من علوه مدخنا سيجارته بعبث مدققا النظر الى أهدابها المسبلة و وجنتيها المتوردتين، و طال نظره عند شفتيها المائلتينِ في استسلامٍ حزين، قال لها بإيجاز بعد فترة صمت (كيف حالك؟)
فردت عليه بنفس الأختصار (الحمد لله).
سألها نافثا دخان سيجارته في وجهها (أين كنتِ؟)
رمشت بعينيها في ارتباك وخجل و هي تدرب نفسها على تقبل حقه في السؤال منذ اليوم، فأجابت بضعف و هي ترفع الحقيبة التي تحتوى بعض الخضر (كنت أشتري بعض الأغراض لعمتى من السوق)
قال لها بعد فترة صمت (كيف حال دراستك؟، أتحتاجين مساعدة فيها؟)
همست دون تفكير (شكرا، مالك يساعدني فيما أحتاجه).
لم تسمع رده، و لم ترى ردة فعله، لكن كل ما شعرت به هو هسيس أنفاسه، ليقول بعد فترة بصوتٍ غريب (أريد أن أريكِ شيئا، جلبته من أجل بيتنا)
بيتنا!، كم كانت تلك الكلمة غريبة على مسامعها، و تشعرها بانقباضٍ في قلبها لا تعلم سببه، همست تتلعثم بأسى (لا، لا أستطيع، زوجة عمي تنتظرني)
لم تنظر اليه لكنها استشعرت غضبه، و كم أخافها هذا، عاد ليقول بتملق مخيف قليلا (لن أؤخرك، ثقي بي).
هل تذهب؟، هل هذا من حقه؟، أم ماذا تفعل؟، همست بتردد بعد فترة و هي تنقل ثقلها الذي تحمله من يدها الى اليد الأخرى (حسنا، لكن أرجوك لن أستطيع البقاء طويلا)
أومأ برأسه دون أن يجيبها، ثم دون مقدمات اخذ حقيبة الخضروات من يدها، ليلتقط يدها بيده الحرة قابضا على كفها الصغيرة
ارتعشت و حاولت جذب يدها من يده الا أنه لم يتركها و لم يسمح لها بالتحرر منه، وهو يجرها خلفه إلى بيتهم القديم...
صعدت خلفه الدرجات الحجرية المتهالكة و هي تشعر بالرعب في كل درجة تصعدها، لكنه كان يشدد على يدها ليجذبها خلفه الى أن توقفا أمام غرفةٍ قرب السطح ذات بابٍ خشبي قديم، همست حنين و هي تراه يفتح باب الغرفة (ما هذه الغرفة؟، ولماذا أتينا الى هنا؟)
فتح الباب لتطالعها غرفة بسيطة كل ما فيها متآكل ثم استدار اليها وهو يقول بغموض (إنها غرفتي الخاصة، أعيش هنا تقريبا و ليس في شقة أبي).
ارتجفت ثانية و هي تهمس بخوفٍ مبتعدة قليلا (و لماذا أحضرتني الى هنا؟)
شد يدها لتقترب كثيرا منه حتى ضاعت أنفاسها اللاهثة و هو يهمس بالقرب من أذنها (ما أريد أن أريك، وضعته هنا في غرفتي الخاصة، هيا ادخلي)
جذبها خلفه ليدخلا الغرفة، فوضع حقيبة السوق أرضا و أغلق الباب، فاستدارت اليه وهي تهمس (أين هو ما تريد أن تريني؟).
لم يرد عليها بل انقضت ذراعاه الحديديتين من حولها وهو يرفعها من خصرها اليه مهاجما مشاعرها التي لم تجتاح يوما بهذا الشكل الهادر...
حاولت مقاومته تماما مثلما حاولت اليوم و هي ناضجة في الرابعة و العشرين، لكنها لم تفلح كما لم تفلح اليوم وهو يدور بها اثناء طوفانه الهادر الذي سلبها عقلها الى أن وقع بها على الفراش الصلب و الذي زأر من تحتهما...
عادت اليها ذكرى فضلت أن تموت من بعدها كل يومٍ تلاها، حين فتح الباب الخشبي بقوةٍ و صوت والدة جاسر الصارخة ترعد فيهما...
تذكرت جيدا جاسر و هو ينهض بهدوءٍ يغلق أزرار قميصه وكأن شيئا لم يحدث بينما، لم يقل سوى (إنها زوجتي، أم نسيتم ذلك؟).
تعالى صوت والدته تصرخ و تشتم، وما أن حاولت حنين مناشدتها أن تخفض صوتها وهي تشهق باكية حتى رفعت يدها التي تشبه المطرقة لتصفعها بشدةٍ ناعتة إياها بعدة ألفاظ اقترنت كلها بابنة رشوان، هربت بعدها مذعورة تنزل السلالم جريا و صوت جاسر الصارخ يهز السلم مجلجلا في مواجهة والدته...
انسابت دموعها غزيرة على وجنتيها الشاحبتين و هي تستند برأسها الى زجاج نافذته اليوم بعد عشرِ سنواتٍ من ذلك اليوم المشؤوم...
كانت تظن أن الدنيا قد تصالحت معها بعد كل ما عاشته في بداية حياتها، لكنها على ما يبدو كانت مخطئة، اخذت تنشج بضعفٍ دون صوتٍ أو نفس، حتى ثقل جفناها و راحت في سباتٍ عميق...
ولم ترى قبضتيه اللتين اشتدتا على المقود وهو يزيد من سرعة السيارة، و لم ترى ملامحه المتجهمة و هو ينظر اليها نائمة باكية، و بالتأكيد لم ترى ما بقلبه و هو مضطرا في هذه اللحظة لإعادتها الى منزل عمها، مع وعده لنفسه أنها قريبا جدا ستعود الى بيتها الحقيقي...
المحتوى الان غير مخفيكان يتطلع اليها وهي تنطق بكلِ إجابة بأعصابٍ محروقة، مرت الدقائق ببطءٍ وهو يستجوبها في ما يشبه التحقيق الرسمي، يكرة التوصيات و العلاقات النافعة، وحين يخبره رئيسه المباشر أن من سيقوم بعمل المقابلة معه لديه توصيتة ليتهاون معه قليلا، وقتها يشعر بالاستفزاز و يقرر أن يفصل كل جزءٍ في حامل التوصية...
وهي لم تكن استثناءا، ما يقارب الساعة الآن وهو يسألها أسئلة عامة تضم ما يرغبه من معلوماتٍ هندسية، هذا دون ذكر الأختبار الذي ستجتازه إن سمح لها بالمرور المرحلة الثانية...
فرصتها شبه معدومة مع هذا العدد من السنوات المفقودة دون خبرة، لكن من حقها على الأقل الحصول على فرصة متساوية مع من تقدموا للعمل، ولم يملك نفسه من التساؤل عن السبب الذي جعلها لا تستخدم معارفها في وقتٍ ابكر قليلا من ست سنوات...
يجلس أمامها مسترخيا في مقعده، طارقا الى سطح المكتب بإصبعه في نغمةٍ رتيبة تثير القلق أكثر، إنها تسرد على ما يبدو وكأنها ظلت تدرسه لفترة طويلة ماضية...
ما لفت انتباهه هو ارتباكها المثير للعطف قليلا و الذي يتناقض مع الثقة التي كانت من المفترض أن تتحلى بها من وجهة نظرها المتعالية كما صنفها، لكن الآن ينظر الى قبضتيها اللتين تفركانِ بعضهما، وأصابعها التي ابيضت مفاصلها من شدة الضغط عليها...
ساقها المهتزة بعنفٍ لم ترتح منذ أن جلست، حتى أوشك أن ينبهها الى التعب الذي لابد و أن يكون قد أصابها من هذا الارهاق العصبي الذي يفترسها...
عاد بنظره الى ما جذبه من البداية، منذ أن عرضت عرضها الوقح صباحا، شفتيها، وهي تتحدث دون أن تنظر اليه وكأنها تلميذةٍ صغيرة ٍ في اختبارٍ شفوي...
منذ أن بدأت الحديث و نظره كان شاردا في ذلك القطع الطولي الذي يقطع شفتيها الاثنتين معا بقسوة، يبدو من لونه و كأنه جرحا قديما بالرغم من عمقه، قسوته تتناقض مع نعومة ملامحها، أيا كان الحادث الذي أصابها فهو بالتأكيد مخيفا مؤذيا...
رفعت نظرها في لحظةٍ خاطفةٍ وهي تتكلم فصدمتها نظرته الصريحة الى جرحِ شفتيها، وقتها تلعثمت في ما كانت تقوله بل ونسيت أين توقفت، فحاولت المتابعة عدة مرات وهي ترفع يدا مرتجفة لتغطي بها شفتيها في حركةٍ حاولت أن تجعلها عفوية...
بقعةٍ بنيةٍ وكأنها حرق كانت ظاهرة جزئيا على رسغ يدها من تحت كم سترتها الطويل، لكن يبدو أنها لم تنتبه وهي تهتم بتغطية شفتيها أثناء كلامها، الى أن خفتت كلماتها أخيرا وصمتت ما أن انتهت...
أخفضت يدها، عينيها، رأسها، أريد هذا العمل بشدة، يا الله أحتاجه للغاية، أكثر ما أحتاجه في هذه الفترة، فقدره لي يا الله...
ظل هو ينظر الى ملامحها الشفافة التي عكست كل صراعها و قلقها، ثم عاد ليسألها (آنسة رنيم، لابد وأنك تعلمين أن ست سنوات دون عمل أو خبرة بعد التخرج، هو شيء صعب للغاية، اليس كذلك؟، هل بإمكاني أن أعرف ما الذي منع عملك بالرغم من أن فرصة الحصول على عمل من ست سنوات كانت أسهل بالتأكيد)
يالهي، ها قد أتى السؤال الذي كانت تخشاه، وكانت تعلم أنه السؤال البديهي الوحيد الذي يسأل في مقابلات العمل...
أخذت نفسا عميقا ثم همست بصوتٍ حاولت جعله هادئا قدر الإمكان، (ظروف خاصة)
اجابةٍ دبلوماسية تعلمتها من والدها لتقطع الخوض في الموضوع
لم تتحرك ملامحه التي لا تعبر عن شيء، الى أن قال بهدوء (اعذريني لكن الا تجدين افتقادك الخبرة سنواتٍ طويلة يمثل عائقا لمثل تلك الوظيفة؟).
ابتلعت ريقها و ازداد اهتزاز ساقها، لن تنجح، لن تنجح أبدا، لكن ليس هناك ماهو ليس بهينٍ على الله، لذا طمأنت نفسها قليلا فليحدث ما يحدث، وهمست (يكفيني شرف المحاولة، وبالتأكيد إن حصلت على الفرصة فسأبذل المستحيل من أجل استحقاقها).
لم تتحرك عضلة واحدة في وجهه الصلب، بل ظل ينظر اليها في صمت، تشعر بنظراته تنفذ الى أعماقها، هل كل مقابلات العمل مرهقة عصبيا الى تلك الدرجة المضنية، أم أنها هي فقط الحساسة أكثر من اللازم...
قال أخيرا (آنسة رنيم أنتِ آتية من طرف عاصم رشوان اليس كذلك؟).
أغمضت عينيها برعب، يالهي، يالهي، إن الأمر يزداد سوءا، كيف تخيلت أنه لن يتطرق الى الأمر من باب اللياقة، كيف يظن البعض أن المحسوبيات غير محرجة، أنها تتمنى في تلك اللحظة أن تبتلعها الأرض من شدة خزيها...
بالطبع ترى ما يراه هو الآن من مقعده، فتاة تافهة لم تعمل يوما، لم تكتسب خبرة أبدا، و تأتي بمنتهى التبجح ببطاقة من عاصم رشوان صاحب الخدمات الكريمة في المدينة...
لن تجيب، لن ترد عليه، الأمر فشل قبل أن يبدأ، لذا كل ما تتمناه هو أن تخرج من هذا المكان في الحال والا انفجرت في البكاء أمامه، (آنسة رنيم؟)
ظلت ناظرة الى الأرض أمامها بعناد، دافنة كفيها المثلجتين في حضنها، لن ترد، لن ترد، فليخاطب نفسه، المهم أن تنتهي تلك اللحظة العصيبة...
قال بصوتٍ هادىء تشوبه بعض الفظاظة (يبدو أن السؤال قد أحرجك، هل كنتِ تفضلين الا نتطرق اليه مدعين أنكِ هنا بجهودك الذاتية؟).
الوغد، الأحمق، الذي لا يعرف أبسط أصول اللياقة، لم تستطع منع نفسها من رفع رأسها و النظر إلى عينيه علها توصل اليه رأيها الصريح به، لكن ما أن التقت عيناها بعينيه حتى صعقتهما نظرته القاسية و التي سبقتها لتعلمها برأيه الصريح في أمثالها...
أخفضت عينيها يغشاهما ألمٌ مؤذي، نظرة الاحتقار كانت بادية في عينيه، ولا تعرف لماذا آلمها هذا بشدة...
كان ينظر الى رأسها المنحني بضعف، لم يستطع منع ذلك الشعور بالذنب الذي تسلل اليه من نظرته غير العملية التي رماها بها للتو، إن كان سيرفضها فليفعل، دون الحاجة الى إهانتها حتى ولو بنظرة...
لذا رجع الى التحدث بعمليةٍ وهو يتطرق الى الأسئلة الشخصية و التي تسأل عادة في المقابلات بغرض اختبار مدى استعداد المتقدم (أرى أنكِ تضعين خاتم خطبة، فهل سيؤثر زواجك القريب على عملك في حين نلتِ الوظيفة؟).
لو أنها تلقت لكمة لكانت أهون من ذلك السؤال، هل هو تحديدا الفظ. أم أن هذا هو المعتاد في مقابلات العمل، إنها لم تتقدم الى أيا منها من قبل لذا لا تستطيع الحكم على ذلك، بالرغم من تحضرها لبعض الاسئلة الشخصية، لكن السؤال عن زواجها الوشيك، كان فوق تصورها...
ماذا سيكون ردة فعله ان أجابته بصدقٍ، أنها هنا دون علم خطيبها، والذي سيحيل حياتها جحيما إن عرف بنيتها في العمل...
لم تفكر فيه حين تقدمت لهذه الوظيفة، حين قررت أن تتهور ضاربة بكل ما يعتمل في نفسها من خوفٍ عرض الحائط...
حياتها في الآونة الأخيرة أرهقتها للغاية، و نائل له أروع الفضل في ذلك، لذا قررت أن تعمل ما تتمناه بمنتهى الشجاعة، حتى وإن كانت هذه الشجاعة مرتبطة بإخفاء الأمر عن، خطيبها، لا يهم ستترك التفكير في العواقب لما بعد، الخطوة الأولى كانت الحصول على هذه الوظيفة، لكن يبدو أن ليس كل ما يتمناه الانسان يدركه...
نسيت نفسها شاردة أمامه، ملامحها الشفافة تعبر عن الصراع الدائر بداخلها، و عيناها تائهتانِ بعيدا، لذا سأل مباشرة حين لم ترد عليه في الحال (ماذا يعمل خطيبك؟)
رفعت رأسها مجفلة من شرودها، ثم قالت دون تفكير (يتولى منصبا في السلك الدبلوماسي).
رفع حاجبا لم ترتح له أبدا، هل أخطأت الإجابة؟، و جائها الرد حين قال باستفزاز (أي أنه منصبا يتطلب السفر كثيرا، و بالتأكيد لك أيضا، فهل فكرتِ في ذلك أم أنك ستعتمدين على الأجازات الطويلة سلفا).
زمت شفتيها بغضبٍ أحمقٍ منه، لكن الجزء الأكبر من نفسها، لو تتمكن فقط من التفكير قليلا قبل أن تتكلم، لكنها مجبرة الآن على المتابعة فقالت تتلعثم قليلا (هذا سابق لأوانه، زواجي ليس وشيكا، وحتى، وإن كان فهو لن يؤثر على عملي أبدا، أنا و، خطيبي متفقان على هذا تماما).
رمشت بعينيها وهي تدعو الله أن يسامحها على تلك الكذبة، لكن الوسيلة مشروعة مادام الغرض نافعا، وهي ترغب في هذا العمل ليس أكثر، بالتأكيد ليس أمرا سيئا للغاية، لو كانت حور مكانها لما ترددت، كانت لتنال ما تريد بكافة الوسائل دون أن تتردد مثل ترددها الآن، لكم تحتاج شجاعة و قوة حور في تلك الللحظة.
صمت عدة لحظات وهو يراها تتلاعب بخاتمها دون وعيا منها تقريبا، نظر الى ساعة معصمه فأدرك أنه تجاوز الوقت المحدد للمقابلة، أكثر ممن سبقوها، لا يعلم لماذا شعر هذه اللذة الشيطانية في استفزاز سيطرتها الهشة، مع ذلك العطف المتسلل رغما عنه تجاهها، من حقها أن تحلم بشيءٍ تريد تحقيقه، لكن من حقه ومن ما يمليه عليه منصبه في العمل أن يكون منصفا مع الباقين و الا ينخدع بهشاشتها البادية، العمل عمل، وهي لم تثر حتى ولو ذرة من اقتناعه بإستحقاقها الوظيفة...
لذا استقام في مقعده وهو يقول بلهجةٍ مفهومة (حسنا آنسة رنيم، لقد تشرفت بمقابلتك، وسنبلغك بالنتيجة في خلال يومين بعد اجتيازك الاختبار الأخير)
رفعت عينيها اليه وهو يصرفها بهدوء، كان من المفترض أن تتنفس الصعداء، لكن لسببٍ ما ظلت تنظر الى عينيه لحظتين، فقط لحظتين، مر استجداءا رقيق في عينيها دون قصدٍ منها، تود لو طلبت منه ابقاؤها، تود لو تشرح له حاجتها للعمل، وليست كل حاجة للعمل هي حاجة مادية...
بعد تلكؤها الشارد للحظتين تداركت نفسها فانتفضت واقفة و هي متشبثة بحقيبتها الصغيرة. اخفضت رأسها للحظةٍ فغطى شعرها الناعم جانب وجهها وهي تهمس مترددة (أشكرك، سأنتظر).
لكن قبل أن تتحرك لمحت يده تمتد اليها دون كلام، فنظرت الى كفه القوية وهي تشعر بتوتر غير مفهوم لكنها رفعت يدها اليه والتي اختفت تماما بداخل كفه السمراء، صدمة. صدمة أصابتها من تلامس كفيهما عضت على شفتيها تنظر الى كفيهما معا، تعقلي يا رنيم، تعقلي، فسحبت يدها سريعا قبل أن يلاحظ حماقتها اللحظية...
أومأت بارتباك واضعة شعرها خلف أذنها، ثم استدارت لتغادر مكتبه غير مدركة لنظراته النافذة الى ظهرها تراقب انصرافها...
أكمل عمله خلال اليوم. تلح عليه صورة جرحٍ عميق يقطع شفتين ناعمتين، لا تريد أن تغادر تفكيره، دون أن يعلم السبب...
أوقف سيارته بعد أن وجد المنزل، ها هو أخيرا. بيت القاسم، بيتٍ قديم كما توقع في مكانٍ متوسط الحال لا بأس به، لكن بالتأكيد سترتفع قيمتها الى عنان السماء ما أن يتم تنفيذ مشروع عاصم، فعقلية عاصم لا تخطىء التصويب أبدا...
اتجه إلى باب المنزل وهو يدق الجرس، ظل واقفا فترة الى أن ضغط الجرس مرة أخرى دون مجيب، الم تقل أن والدها موجود؟، حين يأس من وجود أحدا في المنزل استدار ليغادر، فوجد سيدة في منتصف العمر تقف أمام بوابة المنزل تنظر اليه بريبة ثم قالت (من تريد يا سيد؟)
اقترب منها مالك بخفة وهو يقول (السلام عليكم، أسأل عن الآنسة أثير أو والدها).
أجابته المرأة (أثير في عملها، أما والدها فهو في المشفى منذ فترة، اتريد أن تترك لها رسالة؟)
عقد حاجبيه قليلا الا أنه قال (أشكرك سيدتي لكن أيمكنك أن تخبريني بمكان عملها؟)
تردد المرأة قليلا وهي غير متأكدة من شخصيته فقال مالك يطمئنها (أنا مالك رشوان، المالك الحالي للمنزل، وكنت أريدها من أجل ذلك).
في لحظةٍ واحدةٍ انقلبت ملامحها الى الشراسة وهي تتقدم منه متوعدة هاتفة (اذن أنت عديم القلب و الإحساس، والذي أحلت حياتها الى جحيمٍ الفترة الماضية؟، وكأن المسكينة كان ينقصها المزيد)
ارتفع حاجباه وهو يرفع يديه علامة التهدئة، قائلا (لحظة، لحظة سيدتي، في الأمر سوء تفاهم، كنت أريد أن).
الا أنها ظلت تتقدم منه بجسدها الضخم وهي تتابع هتافها الغاضب (لم تتأخر سوى بضعة شهور في الخروج من المنزل، الا تمتلك بعض الرحمة، كيف تطردها ووالدها، بينما والدتها متوفية منذ وقتٍ قريب، كيف ستستطيع ايجاد مكان بهذه السرعة، خاصة وهي خاصة وهي تجري من عمل الصباح الى عمل المساء، هل ستتوقف الدنيا ان لم تستلمو المنزل في التو).
حاول مالك الكلام مرة أخرى لكنها لم تدعه ليتكلم (الا تشعرون بمن هم أقل منكم؟، لكن بالطبع كيف ستشعرون، وقد ولدتم وفي فمكم معلقة من ذهب، انظر اليك طفل مدلل حتى لست كبير السن بما يكفي لأستطيع الهوادة معك، حسبي الله ونعم الوكيل. حسبي الله ونعم الوكيل)
قال مالك (سيدتي)
قاطعته هاتفة تدفعه في ذراعه ؛ (حسبي الله ونعم الوكيل).
قال مالك بنبرةٍ أعلى قليلا وقد بدأ يفقد صبره (سيدتي، أنا هنا لأناقش معها الفترة التي تحتاجحها الى أن تدبر أمورها، أي أن ليس في نيتي إخراجها من المنزل في وقتٍ قريبٍ أبدا، فهلا تكرمتِ و أخبرتني أين أجدها؟).
صمتت المرأة قليلا وهي تستوعب كلامه، ثم ترددت قليلا ومدت يدها تعدل من كم قميصه وهي تقول بتهذيبٍ مفاجىء (نعم، هذا هو الكلام، اعذرني، يبدو أن الحماس قد دفعني قليلا، أرجو الا تحمل شيئا ضد أثير بسبب لساني)
عدل مالك قميصه بضيقٍ وهو ينظر إلى وجهها الذي ارتسمت عليه مظاهر البراءة فجأة، بعد ذلك الفاصل الذي أمطرته به منذ لحظات...
وقال بغيظ مكبوت (أين أجدها سيدتي من فضلك، لأني إن لم أرها اليوم سأنسى الأمر تماما فليس لدي وقت لأضيعه)
قالت بسرعةٍ (لا، لا، اليوم أفضل، إنها تعمل نادلة في أحد المقاهي، ذلك الذي اسمه، أو شيءٍ كهذا لكن أستطيع أن أصف لك عنوانه جيدا)
بالطبع نطقت اسمه بشكلٍ مشوهٍ تماما، الا أنه استطاع استنتاج الإسم الصحيح بالتقريب وعرفه ولم يكن بحاجةٍ لسماع العنوان، لذا قال بجفاء (عرفته سيدة).
قاطعته بابتسامة طريفة وهي تحاول الظهور بافضل ما عندها (أم صابر)
أخذ نفسا وهو يتطلع من طوله الفارع الى السيدة القصيرة الممتلئة التي تنظر اليه بطرافة بينما كانت على وشكِ أن تصفعه منذ لحظة، ثم قال بخشونة (حسنا يا أم صابر، أنا ذاهب اليها، القي التحية على صابر، كان الله في عونه).
ضحكت السيدة الغريبة الاطوار بخجل و احمر وجهها من دعابة ذلك الوسيم الغاضب، ثم استدار مالك لينصرف متجها اليها، متأففا من ذلك الموقف الذي أخذ منه وقتا أكثر من اللازم...
بعد فترة كان يقف أمام ذلك المكان الذي جلس فيه مرة واحدة منذ سنتين او ثلاثة ولم يوافق هواه، فهو يفتح أبوابه أربعٍ وعشرين ساعة، صباحا يكون مكانا للعاطلين أو المدللين أو الطلبة الفارين من مدارسهم وجامعاتهم، أما مساءا فيكون مكانا لضم معظم العابثين، حيث تتقدم مطربةٍ ذات صوتٍ مريع لتغني بشكلٍ منفر وهي ترتدي ما يشبه زي الراقصات...
حتى أن المشروبات الروحية تقدم ليلا في الخفاء، نظرا لعدم امتلاك المكان تصريحا بتقديمها، الا أنها موجودة...
تعجب من عمل فتاةٍ كأثير في مكانٍ كهذا، أكثر من مرةٍ سمع عن تحرير مخالفاتٍ ضده بسبب المناظر الخادشة للحياء...
نزل الى المكان و اختار طاولة منه و جلس منتظرا، لا يريد أن يسأل عنها أحدا حتى لا يسيء الى منظرها خاصة في مكانٍ كهذا...
كانت هناك عدة فتيات تتنقلن بين الطاولات، يرتدين زيا موحدا، من تنورةٍ سوداء قصيرة تعلوها سترة حمراء بلا أكمام فوق قميصٍ أبيض...
كان زيا رسميا من المفترض، بالرغم من أن تلك الرسمية لا تناسب المكان أطلاقا، فهو زيٍ خادع الغرض منه اجتذاب المارين الى المكان أكثر، خاصة و أن اثنتين من الفتيات تمرانِ على الطريق أمام باب المقهى وكأنهما تعلمان الزبون عن جمال البضاعة المعروضة بالداخل، حيث أن ذلك الزي الرسمي الضيق القصير شديد الإغراء اكثر من أي ملابس فاضحة.
ظل ينظر من حوله باحثا عنها بضيقٍ من المكان الذي لا يرقى الى ذوقه ولا الى مستواه الى أن رآها من على بعد، تحمل صينية عليها بعض المشروبات الى طاولة مجموعة ٍ من الشباب تبدو عليهم مظاعر العبثِ و الحماقة، وحين انحنت قليلا لتضع المشروبات على الطاولة لمح مالك أحد الشباب و هو ينظر إلى جسدها وهي منحنية بينما يغمز بعينه الى صديقه المقابل ليرى ما يراه...
أصاب مالك اشمئزاز من تلك الحقارة البادية عليهما بينما أثير غير مدركة بالمرةِ لما حولها وعيناها الزرقاوين شاردتان في عالمٍ آخر، تلك الحمقاء هل هي عمياء تماما غير واعية لغمزاتهما القذرة، كم من الوقت ستظل منحنية بهذا الوضع، وكأنها سمعته فاستقامت أخيرا وهي تحمل الصينية الفارغة لتستدير مبتعدة، لكن ليس قبل أن يقول لها أحد الشابين شيئا لم يتبينه مالك، لكنه رأى أثير وهي تبتسم له معتذرة ثم تبتعد تحت أنظارهما الفجة...
خطوتين ابتعدتهما ثم رفعت رأسها، لتلتقي عينيها بعينيه مباشرة، للحظةٍ تجمدت في مكانها، ثم لاحت الدهشة على ملامحها الشفافة، الى أن اختلطت بها بعض مظاهر السعادة الرقيقة، فرق قلب مالك اليها وهو يفكر أنها لا تتلائم مع هذا المكان إطلاقا وهو لا يخطىء في نظرته الى البشرِ عادة...
شاهدها وهي تقترب منه بسرعةٍ الى أن وقفت أمامه محتضنة الصينية ببراءةٍ وكأنها طالبة تحمل كتبها، رأى الإبتسامة الجميلة تتسع لتشمل وجهها كله بينما عينيها تحملانِ بعض القلق فلربما غير رأيه عن آخر مرة...
أشفق على ذلك القلق المختلط بابتسامتها، فقال مبتسما هو الآخر قبل أن تبادر للسؤال (صباح الخير يا أثير).
ابتسمت أكثر وارتبكت بينما احمرت وجنتيها، لكنها أجابت برقة متلعثمة مثرثرة (صباح الخير يا سيد مالك، ماذا تفعل هنا؟ هل أتيت بالصدفة؟ لم أرك هنا من قبل، أم أنك أتيت الى، كيف عرفت مكان عملي؟، أم أنك هنا بالصدفة؟)
ضحك مالك برقة وهو يقول (لربما لو أعطيتِ لنفسك فرصة للتنفس، أستطيع حينها الرد على أحد تلك الأسئلة المنهالة علي).
ارتبكت للغاية و أخفضت نظرها لكن ابتسامتها لم تختفي بل أظهرت غمازة عميقة على أحد وجنتيها دون الأخرى، تسائل مالك في نفسه، اليس من المفترض أن تكونا اثنتين؟، الا أنها واحدة فقط تحفر إحدى وجنتيها...
أفاق من سؤاله عليها وهي تقول بخفوت (أنت متفوق على نفسك في في إحراج الآخرين سيد مالك)
ضحك اعلى قليلا وهو يقول (ليس الأمر بيدي، احراجك ممتع).
عادت لتطرق برأسها مبتسمة ثم قالت (اذن يسعدني أنك استمتعت، هل تخبرني الآن كيف عرفت مكان عملي؟، فمن الواضح أنها ليست صدفة)
قال مالك هادئا (لا ليست صدفة، لقد ذهبت الى بيتك أولا وهناك تطوعت سيدة لطيفة لتدلني على مكان عملك)
قالت أثير بسرعةٍ ؛ (أكيد تقصد أم صابر، ليس هناك غيرها، هل أحسنت الكلام معك؟، أنا أعرفها جيدا).
رفع مالك حاجبا مستفزا وهو يقول (يكفي أن أعرف بأنكِ قد تطوعتِ مشكورة بتصييت اسم رشوان في الأوساط المحيطة بك، والحمد لله أنني لم أخرج من هناك مسكوبا على رأسي دلو ماء بارد)
تأوهت أثير مغمضة عينيها، بينما ضحك مالك وهو يتابع (نعم، بإمكانك الخجل من نفسك الآن).
فتحت أثير عينيها وعضت شفتها وهي تنظر اليه معتذرة ثم قالت (صدقني لم أقصد ما حدث، كل ما في الأمر أن أم صابر تعتبر والدتي، وكنت كثيرا ما كنت أجري اليها باكية، ومع الوقت اعتدت الأمر)
نظر مالك نظرة جانبية، وهو يلاحظ تهامس الشابين نفسهما، وهما لا يرفعانِ أعينهم عنهما، فنظر الى أثير قائلا بهدوء (كنت أود لو طلبت منكِ الجلوس، لكن في مكانٍ كهذا، لا أعتقد أنها فكرة سليمة).
احمر وجه أثير للغاية، وهي تفهم كلمة، مكان كهذا، تفهمها جيدا، لا بد أن شخصا كمالك رشوان سيكون مشمئزا للغاية من تواجده بمكانٍ كهذا، حتى وإن كان يبدو عليه بعض الترف الا أن سمعته ليست جيدة على الإطلاق، وهي تعرف ذلك...
انتابها غضبٌ عير مبرر للحظة، ماذا يهمها من رأيه، ومن هو لتهتم بنظرته، الا أن تلك اللحظة لم تطل فقد نهرت نفسها على ذلك الخزي اللحظي الذي أصابها، ليس هناك ما هو مخزي في عملها طالما أنها تستطيع الدفاع عن نفسها و البقاء باحترامها...
كما أن مالك رشوان لم ينطق بكلمةٍ تعيبها، لا داعي لمثل تلك الحساسية
همست لتطرد تلك الأفكار المخجلة بعيدا (لا، هذا ليس مسموحا هنا).
ضحك مالك ضحكة استياء و عينيه لا تحملانِ أي بادرة مرح قائلا كلمة واحدة قاطعة (أشك بهذا)
عقدت حاجبيها، نظرت اليه بألمِ الإحراج، فآلمته بنظرتها، لقد جرحها دون عمد و أوقع ذلك في نفسه شعورا سيئا...
لذا حاول أن يحسن من لهجته الساخرة القاسية وهو يتابع (عموما الأمر لن يطول، لقد جئت فقط لأخبرك بأن المهلةِ التي طلبتها، صارت لكِ).
ارتفع حاجباها ذهولا، ثم تحول الذهول الى ابتسامة مذهلة لتظهر الغمازة الوحيدة لتغازل عينيه من جديد...
قالت وهي لازالت قيد الذهول (كيف أستطيع أن أشكرك، ماذا بإمكاني أن أقدم لك في المقابل، فقط أخبرني، أي شيء، أي شيء، أنا تحت أمرك)
اختفت ابتسامته و قست ملامحه للحظة، ثم قال بجمود (يوما ما سيقودك لسانك للهلاك، لما لا تفكرين أولا قليلا قبل أن تطلقي العنان لأحصنة لسانك).
صدمة ضاربة قضت على ابتسامتها في التو، لم تجرؤ على سؤاله عن معنى كلامه، طبعا من أغبى ما تتميز به هو أنها لا تفكر قبل أن تنطق، لكن الطريقة التي قال بها ملاحظته الآن أشعرتها بأنها قد تهورت كالعادة...
ابتعدت بعينيها عن عينيه، فشعر للمرةِ الثانية بأنه جرحها، لكنها تبدو له هشة للغاية و بالرغم من أنها غريبة عنه الا أن مجرد ضميرٍ بداخله يشعره بأنه لا يجب أن يتركها هنا و يرحل، لكن ما العمل...
قال لها بهدوء مخففا لهجته (قصدت أن تنتبهي لنفسك جيدا يا أثير، فقد يفهمك الناس بطريقة مخالفة لك)
أومأت برأسها دون أن تسأل عن سبب تنبيهه، المهم أن نيته طيبة، إنه شخص صالح و هي تستطيع رؤية ذلك بوضوح...
لذا همست برقة بلهجةٍ أكثر اعتدالا، (أشكرك يا سيد مالك، أعدك أن أحاول جاهدة في تلك الفترة أن)
قاطعها قائلا ؛ (انسي الأمر حاليا، ما هي حالة والدك الآن؟).
رمشت بعينيها وهي تنظر اليه بحرج وهي تسأل (هل تطوعت أم صابر بنقل الخبر اليك أيضا؟)
ابتسم بجفاء قائلا (لم ينقص سوى أن تخبرني بقصص باقي أبناء الحي، أنها، فلنقل مميزة للغاية)
ضحكت برقة ضحكة حزينة ثم أجابت (الأمر كما هو، لكن يزداد سوءا مع مرور الوقت، أنها حالة نادرة، تزداد تدريجيا حتى تسبب فشلا في جميع الوظائف الحيوية حتى بات لا يتعرف اليا منذ زمن، الأمر محتوم، ولا علاج له سوى الرعاية الخاصة).
قضب جبينه لم يكن يظن الأمر كذلك، كان يظن أن والدها حتى و إن كان مريضا الا إنه كان يعتقده موجودا معها، لكن من الواضح أن وجوده أصبح صوريا مؤلما منذ سنواتٍ حسب فهمه لهذا المرض طويل الأمد، و تلك الرعاية الخاصة لابد و أنها تكلفها الكثير...
قال مالك بهدوء (لا بد وأن الأمر صعبا عليكِ).
هزت كتفيها تقول باستسلام (لقد تعودت، كانت وفاة أمي هي الاصعب، لأنها أتت مفاجئة، كانت هي من تعاونني تساعدني، كنا وحدنا لسنواتٍ عديدة، وفجأة بدأ قلبها يرهق الى أن احتاجت لجراحةٍ مفاجئة، وفي عدة شهور قليلة كنت قد فقدتها وأنا في حالة ذهول، لا أصدق للآن سرعة ما حدث، كنت دائما اتوقع أن أبي، كنت أنتظر هذا الخبر بين كل لحظةٍ وأخرى، لكن أتت وفاة أمي ضاربة كل ما، أستغفر الله العظيم).
أطرقت برأسها تبتلع غصة الدموع الحارقة، وهي ترفع إصبعيها لتمسح دمعة تعلقت بزاوية عينها، لمح مالك باستياء الشابين وهما يطلقانِ تعليقاتٍ لم يسمعها، لكنه كان متأكدا من قذارتها...
بالطبع وقفت أمامه عدة دقائق، استطاعت أن تبتسم، تضحك، ثم تبكي، و أمامهم، لا بد أن هذا استفز دنائتهم أكثر وأكثر، لقد أساء اليها تماما بالمجيء الى هنا، وهؤلاء الشباب لن يدعونها لحالها بعد هذا العرض المجاني الذي قدمته للتو لأحد الزبائن دون الآخرين، ما العمل الآن، كيف سيرحل ببساطةٍ و يتركها لهم، لا يثق بمنظرهم أبدا ولا بنظراتهم التي يفهمها جيدا كشاب، نظراتٍ متوعدة بالقادم، (أثير، أنا يجب أن أذهب الآن).
فتحت عينيها بدهشةٍ، لقد أصابه الملل من حديثها، بالطبع، ماذا كانت تظن لتحكي له عما لا يهمه، فأومأت برأسها سريعا و هي تبتسم له متحرجة مرتبكة...
نهض مالك من مكانه و عيناه ترمقانِ الشباب المهتمين بمنظرهما بين حينٍ وآخر، ثم قال لأثير (أين صاحب هذا المكان؟)
نظرت اليه بغباء و هي تقول (لماذا؟)
أجابها مبتسما (أين هو و كفى؟، أريده في شيءٍ خاص).
ظلت واقفة لعدة لحظات، ثم أشارت بيدها ليتقدمها دون أن تعرف قصده، فاتجه مباشرة الى الغرفة التي قادته اليها، لكن قبل أن يطرقها، لم تستطع أن تمنع نفسها من لمس معصمه، فنظر إلى يدها فوقه في الحال، صعقت من تصرفها فانتزعت يدها و كأن ملمس ساعده الأسمر قد أحرقها، ما هذا الغباء الذي فعلته، لكنها لم تطل لتبين تصرفها المتهور وهي تقول بهمسٍ مرتجف (سيد مالك، أخبرني من فضلك ما الأمر؟، أنا لن أتحمل أن أفقد عملي لأي شيءٍ، أرجوك الأمر حياةٍ أو موت بالنسبةِ لي).
ابتسم برفق و هو يقول (لا تخافي، لن تفقدي عملك الا حين تقررين تركه بنفسك)
ابتسمت بخوفٍ ظاهر على محياها، ثم ابتعدت قليلا لتدعه يطرق الباب طرقة واحدة ثم يدخل...
ابتعدت بظهرها تنظر إلى الباب الذي دلف منه، وهي تتسائل عما سيفعله ذلك المجنون، لا، ليس مجنونا، بل هو، لم تدري أن شفتيها تشكلتا لتهمسانِ بصوتٍ مسموع، رائع...
رفعت يدا إلى وجنتها الساخنة، ثم التفتت لتعود الى عملها، محبطة. تشعر بوجعٍ لا تعرف له سببا...
اثناء تحضيرها للكؤوس على طاولة البار الطويل أبصرته خارجا يلحقه مدير المكان مهرولا يكاد يتعثر احتراما لذلك الشاب الذي يفوقه طولا بكثير يكاد يغطيه بقامته، فالتفت اليه مالك متحدثا بصوتٍ منخفض مشيرا له بأن يعود الى مكتبه، فأومأ الرجل الذي يرعبهم دائما بينما هو الآن يبدو خادم طاولة أمام مالك رشوان...
اتجه مالك اليها مباشرة، ودون كلام قال لها (الديكِ هاتف؟)
اتسعت عينيها قليلا ثم أومأت برأسها فقال لها (جيد، لكان الأمر أسهل لو أخذت رقم هاتفك المرة الماضية، اعطني هاتفك)
انحنت لتلتقطه من جيب سترتها و تناوله لمالك دون تفكير يذكر، فأخذه على غير رضى خفي من ثقتها المخزية بالبشر...
طلب منه رقمه، ثم سجل اسمه ليناوله اياه، وهي تنظر بغباء لا تدري ما الذي يحدث من حولها...
مال اليها مالك مسندا إلى البار الذي تقف خلفه ليقول (أن تعرضت لأي مشكلة فقط هاتفيني)
رمشت بعينيها وهي تهمس بقلق ؛ (أي نوعٍ من المشاكل؟)
صمت مالك ينظر اليها ثم قال بهدوء (مشاكل عادة تصاحب العمل في مكانٍ كهذا، بالتأكيد لم تسلمي منها).
اسبلت جفتيها خجلا، احراجا، بل اكثر مما تظن في الواقع، فجسدها لم يسلم في كثير الأحيان من لمسات القذرين، وذلك البغيض الذي خرج مهرولا مطيعا للتو خلف مالك، يعلم بذلك ويغض عنه الطرف لقاء كثافة المترددين على مكانه الحقير، ومن لا يعجبها الوضع فلترحل وهناك الكثيرات غيرها يتمنين ما سيدره المكان من اكرامياتٍ سخيةٍ لهن، مع أن ما يتقاضاه هو أكثر بمراحل (لا تخجلي أثير، لم أقل ذلك لإحراجك، لكني أعرف هذا المكان جيدا).
همست باختناق (أحتاج للعمل به)
أجاب بهدوء (أعرف)
و لم يزد...
ثم قال لها (تلك الطاولة التي كنتِ تخديمنها قبلي، لا تتجهي اليها مرة أخرى، و تحاشي النظر اليهم، فهمت؟)
أومأت برأسها، مبتسمة بمرارةٍ بداخلها، أتراه يظن أنها لم تفهم نظراتهم، لم تلمح ما يريدونه وما سيعودون اليه ليلا على الأغلب؟، مالك رشوان بالرغم من هيبته المبهرة الا أنه يمتلك براءة قلب لم ترها من قبل...
حينها اعتدل مالك ليودعها برقة، ثم قال (لا تنسي، إن احتجتِ لأي شيءٍ فلا تترددي في مهاتفتي)
أومأت برأسها تحاول الابتسام بضعف، فانصرف مالك تحت نظراتها التي غشيتها الدموع من تلك المعاملة التي لم تجدها من شخصٍ غريب مثله أبدا من قبل...
فتحت عينيها اللوزتتين، طرفت بهما و هي تستنشق هواء البحر من جديد، للحظةٍ لم تتذكر أين هي، ما هذا المكان وذالك السرير، القاسي بشكلٍ رائع، تغطيه رائحةِ عطرٍ تخللت أنفاسها مع البحر في وقت الغروب، هذا العطر ستظل تحيا عليه مهما طال بها الزمن، عطره هو، حينها اندفعت اليها فكرة أنها أخيرا عادت الى مكانها الطبيعي، الى فراشه، ابتسمت شفتيها المكتنزتين وهي تغمض عينيها من جديد، تتمرغ بدلالٍ وسط أغطية الفراش، قريبا، قريبا جدا سينضم اليها على هذا الفراش، بين أحضانها، أخذ قلبها يخفق بعنفٍ والصور القديمة تتلاحق أمام جفنيها المطبقين، لتفغر شفتيها اللاهثتين قليلا...
اشتقت اليك يا قاسي القلب، يا عديم الإحساس، لكن انتهى زمن الإحساس الميت، فقد عادت ملكة الأحاسيس إلى حياتك المظلمة الكئيبة...
فتحت عينيها من جديد لتقفز من الفراش و ثوبها الخفيف يتطاير حول ساقيها مع رشاقة حركتها النابعة من روعة ما تشعر به...
اتجهت الى النافذة لتزيح ستائرها الخفيفة برقة وهي تنظر للبحر الظاهر أمامها متلاطما بأمواجه، لتطير النسمات شعرها مع الستائر الخفيفة...
حنينٍ قديم شدها الى ذلك السحر، منظر الغروب من بين ورش المراكب، لم تكن يوما حالمة أو عاطفية، الا فيما يخص نادر وحده...
لكن رغما عنها يلفها الحنين لحياة طفولتها في حي يشبه هذا الحي كثيرا، في بيت رائحة جدرانه تحمل عبقا مخدرا يتخلل أنفاسها...
انها تحيا كل يوم من حياتها تتمتع بمباهج الحياة المرفهة و الحديثة، لكن أيا منها لم يستطع أن يثير فيها هذا الحنين المفاجىء لأيام طفولتها، لأيام البراءة، صحيح انها كانت مريعة في خبثها وهي طفلة، الا ان هذا لا يمنع انها كانت بريئة و طفلة نوعا ما...
ابتسمت برقةٍ وهي تتذكر المقالب التي كانت توقع فيها حنين كل يومٍ تقريبا، لكن مع ذلك كانت أياما سعيدة...
المحتوى الان غير مخفيكان هو واقفا في باب الغرفة، مكتفا ذراعيه مستندا بكتفه الى إطار الباب، ينظر اليها وهي تقف اليه بظهرها، ناظرة الى النافذة بينما شعرها الطويل يتطاير من خلفها مع الستائر على جانبيها...
ها هو يسمح لعينيه بالتجول على جسدها الطويل مرة أخرى، وشعرها، أكثر ما يثيره فيها هو شعرها، يحب الشعور السوداء الطويلة كالليل، وللأسف تمتعت بهذه الميزة التي لا تزال تجذب نظره الى الآن، (هل ارتحتِ قليلا الآن؟)
التفتت اليه بسرعةٍ ما أن سمعت صوته، ها هي تنظر اليه بنظراتها التي يعرفها جيدا، تلك النظرات التي تلتهم كل جزءٍ صغيرٍ منه، و تشعره بشعورٍ لعين، لعينٍ ينعش كبرياء رجولته رغما عنه...
ما أن صعدت عيناها إلى عينيه الصلبتين حتى رق اشتعالهما، وظهر فيهما رجاءا، أو ربما املا، برؤية نظرة جديدة قد تحيي ذاك الأمل...
لكن ذلك لم يحدث، وظلت عيناه متجمدتان، فاقربت منه بمشيتها التي يعرفها جيدا، مشية انتهى طرازها منذ زمن، مشيةِ دلالٍ و كانها ترقص على أطراف أصابعها، ليتحرك جانبيها بميوعةٍ معاكسة لتقاطع ساقيها، وما أفضل من رنين خلخالها و أساورها ليكملا الصورة بنغمة الأغواء المستترة...
اقتربت منه دون أن تبتعد بعينيها عن عينيه، الى أن وصلت اليه، فرفعت وجهها ووضعت يديه على كتفيه تلامسهما بتردد وهي تهمس (نادر الم يحن الوقت؟، على ماذا تحاكمني؟، على حبي لك، على سعيي خلف باستمرار، أنت زوجي، ووالد ابني، لما لا تتقبل هذا ببساطة، ما الصعب في الأمر الى تلك الدرجة؟، هل تجدني منفرة الى هذا الحد؟).
ابتسم شبه ابتسامة جافة ثم قال بعد لحظة (هل تريدين الإطراء؟، أعرف أن خلف تلك النبرة المنكسرة رغبة متعطشة في سماع الإطراء، لذا لن أخذلك، أنتِ لست منفرة أبدا يا حور، وأنتِ تعلمين ذلك جيدا، بل أن مجرد الكلمة لا تصلح للاقتران باسمك و لو من قبيل التحدي).
اتسعت عيناها قليلا، صدمها كلامه، لا تذكر أبدا أنها سمعت منه كلاما مشابها، لم يهنها قبلا لكنه بالتأكيد لم يسمعها مثل هذا الكلام والذي لا يحوي نبرة سخرية، بل يبدو صادقا تماما على الرغم من النبرة المتجمدة المغلفة له...
همست بتردد و بصوتٍ مجوف (هل هذا حقا ما تراه؟)
أجابها قاطعا (أنتِ تعرفين ذلك جيدا يا حور فكفي عن التلاعب لسماع ما تريدين، فها قد سمعتيه).
لم تحاول الإنكار وهي تجيب بوقاحةٍ لم تفلح في اخفائها (أعرف، من الجميع تقريبا، الا أنت، لم تشعرني بهذا من قبل)
أجابها وهو يمسك بيديها على كتفيه ليبعدهما برفق لكن ممتزجا ببعض الحزم (لأن هذا لم يكن من أولوياتي يا حور).
لم تترك يديه وهي تقبض عليهما بكفيها ترفض ان يتركها، ثم قالت بنبرةٍ قاسية هي الأخرى (وما هي أولوياتك يا نادر؟، ماذا تطلب من هذه الحياة أكثر من زوجةٍ تريدك أكثر من أي شيءٍ آخر في هذه الدنيا و هي أيضا أم ابنك، ما هي الأولويات التي تفوق ذلك؟)
ظل ينظر إلى عينيها بجموده ليقول في النهاية (ألم تلاحظي أن المساء قد حل دون أن تسألي عن معتز؟).
ارتبكت قليلا ورمشت بعينيها حينها حاولت سحب يديها لكنه وللغرابة شد عليهما لا يسمح لهما بالافلات، فقالت متلعثمة (لقد نمت من شدة التعب لم أشعر بمرور الوقت، أنت أخبرتني أنه مع صديقتك في أمان).
شد أكثر على قبضتيها لدرجةٍ آلمتها قليلا، وهو يقول بصلابة (صديقتي، هي انسانة غريبة عنكِ تماما، لم تعرفيها الا منذ ساعاتٍ قليلةٍ ولمدة لم تتجاوز دقائق، صديقتي، من المفترض أن تكون اهتمت بطعامه، بذهابه الى الحمام، بمراقبته كل لحظةٍ في الساعات الفائتة، فهل إئتمنتها على ذلك من مجرد الدقيقة التي رأيتها فيها).
ابتلعت ريقها وهي تقول بغضبٍ بدأ في الظهور (أنت قلت لي لا تقلقي و ارتاحي، فماذا اذن؟، لا أحب أسلوب الفخ هذا)
شد أكثر و أكثر على قبضتيها ليقول بصلابة أكبر (أنا أقل هذا نعم، لكن أنتِ، أين اندفاعك، أين لهفتك، معتز له حالة خاصة وأنتِ تدركين ذلك، لكن إجابة للسؤال الذي لم تسأليه الى الآن، فاطمئنك أن معتز في أيدٍ أمينةٍ تماما، علية، هي أكثر الناس قدرة على الإعتناء به، فلا تقلقي).
عبست بشدةٍ من تلك السخرية التي صاحبت كلمته الأخيرة، لكنها لم تتكلم بل نظرت إلى بعتابٍ غاضب...
فتابع نادر بهدوء وهو يترك يدها بعد أن نال مبتغاه (حضري نفسك لتنزلي معي، سنتناول الطعام عند علية، لقد أصرت على هذا، و سأعرفك بجيراني هنا).
نظرت اليه بتدقيق شرس و قد بدأت شعيرات الاستشعار عندها تلتقط الذبذبات من جديد، فقالت دون أن تستطيع السيطرة على نفسها (اذن ربما حان الوقت لأعرف ماذا تمثل علية بالظبط بالنسبة لك؟، وأنت تتحدث عنها بمثل هذه الأريحية)
رمقها بنظرةٍ مطولة من أولها لآخرها دون أن يجيب للحظات، ثم قال بنبرته التي عادت إلى خطورتها (وهل تعتقدين بأن من حقك السؤال؟).
اجابته دون أن يرف لها جفن (لا أعتقد، بل من حقي تماما أن أسأل من تلك التي تصر على دعوتنا و التي على ما يبدو أنها معتادة على التعامل مع ابني تماما، ها أنا أسأل بعد أن اتهمتني منذ قليل، وأنا أنتظر إجابة)
ابتسم بقسوةٍ وهو يقول ببطءٍ متعمد (منذ قليل كنت أتكلم عن ابنك، أما عني فلا تملكين الحق في سؤالي عمن أعرفهم أو المقربين لي).
المقربين له، المقربين له، اشتعل بداخلها الجنون وظهر في عينيها البراقتين، فهتفت بما يعتمل في صدرها (بل أملك كل الحق، أنا لا زلت زوجتك، تخيل إن انقلبت الأدوار و أخبرتك بأنك لا تملك الحق في سؤالي عن المقربين لي، فهل سيكون ردك وقتها مماثلا).
ظل ينظر اليها، ومن سيغلب حور في فن الحوار، انها موهبة متوارثة لكل انثى تتصف بصفاتها، ماهرة في قلب الحقائق، عيناها تلمعان شراسة و امتلاك، كان يلومها منذ دقائق يريد أن يحي هذا الامتلاك تجاه طفلها، لكنه لا يراه الا موجها اليه هو، وها هي تشعره بالغرور الذكوري من جديد، لكن بالرغم من كل هذا فمن حقها أن تعلم تدريجيا، لقد آن الأوان لتعلم فهذا من حقها، لذا قال بهدوء (حسنا حور، علية هي أخت الجميع هنا، ذات كلمة يحترمها الكل، وهي تملك محل الأسماك الكبير في أول الحي).
فتحت حور عينيها بدهشةٍ واستنكار، لم تفدها المعلومات كثيرا و شعرت بأن هنالك المزيد لكن كل ما استطاعت قوله (بائعة أسماك؟، هل ابني الآن موجود لدى بائعة أسماك؟، وبالطبع هي من تراعيه كل مرةٍ تأتي به الى هنا؟، اليس كذلك؟، كيف تفعل ذلك؟، أنسيت أنك طبيب).
كانت تصرخ بكلمتها الأخيرة تقريبا، فسكت لحظة أمام غضبها الأحمق ولم ينفعل، بل عاد الجليد ليغلف عينيه ثم قال بمنتهى البرود (نعم أنا طبيب، ما الغريب في الأمر؟، والدك مثلا رحمه الله كان عطار)
بهتت من كلامه و اتسعت عيناها، وهي تهمس (أتعايرني بوالدي يا نادر؟).
لم يتأثر بنبرة الظلم الظاهرة في صوتها اللعوب، بل قال بهدوؤه المستفز (ما عاذ الله، والدك رحمه الله كان من اكثر الناس اللذين احترمتهم في حياتي، لكن أنت ِ، يجب أن تكون عقليتك أرقى من هذا يا حور)
هل وصل الأمر لهذا الحد، أصبحت هي من لا تمتلك الرقي، لقد وصل الى عقدتها الوحيدة لم تشعر يوما بأنها تكره أصلها الشعبي الا من ناحيته هو...
الكل أحب ألفاظها التي لم تستطع تطويعها مع مرور السنين قد يكون بسبب أمها. وحتى عاصم...
الجميع فتن بطلتها و بريقها مما جعلها لا تصر على تغيير شيئا من شخصيتها، الا هو، الوحيد الذي كانت تشعر بالخجل الخفي منه، فبالرغم من أنه لم يكن بمثل ثرائهم، وكان من أسرة متوسطة مستورة الحال، الا أنه كان يمتلك رقيا يحرجها دائما...
أخفضت رأسها بعينين متألمتين، فابتسم نادر دون أن تراه، لقد أوقفها عن كلامها الوقح الذي كانت تنوي التفوه به في حق علية، هذا جيد، ابتسم قليلا أكثر وهو يفكر أن تربية فتاة قد تكون أكثر متعة من تربية صبي...
كان صوت المطارق يضرب قلبها قبل أذنيها، الحياة تحولت من حولها في لحظةٍ واحدة الى جحيمٍ لا يطاق، هدد، هدد يهد كل ما يحيط بها...
أيام معدودة و ستصبح المنطقة من حولها صحراء جرداء، لا تعلم لماذا لا يدوم لا حارس أمن؟، خامس حارس أمن تقوم بتعيينه على بوابة منزلها و لا يمر على عمله يومان الا و يعتذر مغادرا لتبقى هي و فتحية دون حراسة في هذا الفراغ العملاق، فماذا بعد أن يتم هدم كل المباني من حولها؟، الحمد لله على وجود فتحية معها فلولاهما، لا تستطيع حتى التفكير كيف ستكون حياتها بدونها، شعرت فجأة برغبة فظيعة في البكاء، مع أنها لم تكن يوما من النوع الضعيف المستسلم، لكنها لوهلة أحبت شعور الضعف و الدموع، فاستسلمت لها لتنساب دمعتانِ ناعمتانِ على وجنتيها، وهمست لنفسها و هي تجلس على مقعد والدها الوثير المفضل رافعة ركبتيها لتضمهما الى صدرها، (كم اشتقت اليك يا أبي، و كم أحتاجك الآن أكثر من أي وقتٍ مضى).
و بالرغم من كل ذلك الهدم خارج منزلها بتلك الأصوات العنيفة، الا أنها استسلمت لسلطان النوم وهي جالسة في مقعدها...
رأت والدها آتٍ من بعيد، يبتسم ابتسامته التي لم ترى أروع منها يوما يقترب منها مقبلا عليها بحنانه الذي افتقدته جدا، ثم دون كلام مد اليها قبضته وهو يمغلقها على شيءٍ ما، فمدت يدها اليه مفرودة و هي تنتظر مبتسمة بسعادة.
فأسقط في كفها شيئا معدنيا باردا، حين نظرت اليه وجدته قلادة ذهبية مكتوب عليها بحروفٍ مفرغة (ما شاء الله)
أحكمت عليها قبضتها وهي تضمها إلى صدرها شاعرة بسعادةٍ كبيرة وما أن رفعت نظرها حتى لم تجد والدها أمامها فأخذت تناديه دون جدوى...
قامت من نومها مذعورة و هي تفتح قبضة يدها لتجدها فارغة. وكم شعرت وقتها بالكآبة و الحزن، كانت تريد تلك ال (ماشاء الله).
كانت تحتاج اليها جدا، ترقرقت دمعتانِ في عينيها و هي تضم قبضتها الفارغة الى قلبها...
في تلك اللحظة رن هاتفها فالتقطته وهي ترد بصوتٍ متحشرج مختنق بدموعٍ حبيسة، (السلام عليكم).
لم تسمع ردا، فقط سمعت نفسا يسحب و كأنه شخصٌ غاضب من شيءٍ ما، فمسحت دمعتيها لتقول بصرامة (رد يا عديم الرجولة، اتظن أنني لا أعرف من أنتم؟، مكالماتكم أنا سأصل بها اليكم و سأقيم دعوى ضدكم واحد واحد، تلك الأساليب الصبيانية لن تنجح معي)
سمعت نفسا غاضبا آخر ثم جاءها الصوت العميق الذي تعرفه جيدا وهو يقول بغضب مكتوم (هل كلمكِ أحد من قبل؟، منذ متى تأتيكِ تلك المكالمات؟).
اتسعت عيناها قليلا ثم لم يلبث الغضب أن سيطر عليها و هي تهتف (من أي رقمٍ تتكلم؟، هذا ليس رقمك، الم أطلب منك الا تهاتفني مرة أخرى؟)
أجابها بنفس الغضب لكن بصرامة قد ترجف لها القلوب (ولماذا تجيبين على أرقامٍ غريبة مادامت تأتيكِ تلك المعاكسات؟، أم تحبين سماعها؟)
صرخت وقد تملكها الجنون وهي تقفز واقفة ؛ (أيها الوقح، كيف تجرؤ؟، كيف تجرؤ؟).
هتف هو الآخر بقوةٍ أوهنتها قليلا (لا تردي على أرقامٍ غريبة بعد الآن، ولا تفتحي الباب لمخلوق، هل فهمتِ؟)
لم تصدق ما تسمعه، لم تصدق حقا ما تسمعه، لذا و قبل أن تتفوه بما يسيء الى تربيتها قالت بغضب (سأغلق الخط الآن سيد عاصم و من فضلك لا تكلمني على هاتفي مرة أخرى)
ثم أغلقت الهاتف بغضب وهي تعود للارتماء على مقعدها و شعرها الغاضب ينسدل على وجهها المحمر غضبا...
أغلق عاصم الهاتف بغضب هو الآخر وهو يسأل نفسه عما يفعله، وما تلك التصرفات الهوجاء، لم يسبق له أن لاحق أي فتاة على هاتفها من قبل، فما الذي يفعله الآن؟، لكم يشعر بالضيق بسبب قراره المتسرع هي هدم الدنيا من حولها، مهما كان انها مجرد فتاة وحيدة لا ظهر لها في الحياة، هذه النقطة جعلته يهز ساقه بعصبية و ينقر بقلق على سطح مكتبه، فالتقط هاتفه مرة أخرى وطلب رقم و هو يزفر ضيقا، لحظاتٍ ثم قال بصرامة (منصور، اجمعلي اثنين او ثلاثة من رجالنا الأشداء، أريدهم أن يرابضوا عند بيت عمران، يراقبون كل كبيرة و صغيرة، لا أريد أي شائبةٍ تصيب هذا البيت أو أصحابه، لكن دون علمهم، أفهمتني؟، دون أن يشعر بهم أصحاب البيت، سلام).
أغلق الهاتف وهو يشعر بانقباضٍ في صدره، مختلطا بتأنيب الضمير تجاه دانا خطيبته، وهذا الشعور يلاحقه دوما في الآونة الأخيرة...
ثالث مكالمةٍ أجراها كانت لها ليدعوها الى العشاء بعد أن أهملها طويلا، و صمم أن يجعله وقتا مميزا لها، لا بد له أن ينجح في ذلك...
أوقف سيارته عند باب بيتها و نظر اليها مبتسما قدر استطاعته، ليقول بصوتٍ حانٍ قليلا (ألم تستمتعي الليلة؟).
نظرت اليه تزم شفتيها بضيقٍ وهي تقول بصوتها الفظيع من بينِ شفتيها المطوطتين الحمراوين، (لا أصدق أنك أخذتني الى ذلك المكان يا عاصم، لقد، لقد كان فظيعا، وتلك المأكولات و رائحتها، لازلت أشعر بالغثيان الى الآن)
لم يجب للحظات ثم قال أخيرا (أردت أن أشركك المكان الذي أحب التوجه اليه ما أن أجد بعض الوقت لنفسي، ظننته سيعجبك بما انه أسلوب مختلف تماما عما أعتدته).
هتفت بحنق (ومن قال لك أنني أريد أن أغير نمط الأماكن التي تعودت عليها، لا تعيدها ثانية من فضلك، واستشيرني قبلا)
قال عاصم بضيقٍ وهو يحاول جاهدا أن يسعدها على الأقل في آخر الليلة (حسنا، سأعوضك عن ذلك، لقد أحضرت لك هدية)
اتسعت عيناها و برقتا و هي تنظر اليه بلهفةٍ جعلته يبتسم قليلا، وهي تقول بسعادة (ماذا؟، هيا أرني).
مد يده الى جيب سترته الداخلي ليخرج شيئا في قبضته سرعان ما وضعه في كفها، نظرت دانا بذهولٍ الى تلك الحلية الذهبية التي تشكل كلمة ماشاء الله، حاولت الكلام مرة، ثم نجحت في الاخرى وهي تقول بحذر (ماهذه تحديدا؟)
أجابها عاصم مبتسما (انها قلادة والدتي، انها غالية جدا على قلبها لأنها من والدي رحمه الله، وقد أمنتني أن أهديها لمن سأتزوجها).
لم تتكلم للحظات وهي تنظر الى كفها المفتوحة و الراقدة عليه القلادة، لتقول بحرج بعد فترة (عاصم، لن أستطيع أن أضع شيئا كهذا، أنه لا يناسبني أبدا، ممكن أن أحتفظ بها الا أنني لن أستطيع أن اضعها فوق ملابسي، انها ليست عصرية أبدا)
عند تلك النقطة، امتدت يد عاصم لتلتقط القلادة و يعيدها الى جيبه وهو يقول بصوتٍ قوى لكن لا تعبير له (غدا سيكون عندك خاتما ماسيا ستختارينه بنفسك).