قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

كان الظلام لا يزال محيطا بها. تحيط بها أصواتٍ خافتة الا أنها تهدر في أذنها كالصراخ، أخذت تخفت و تخفت الى أن استطاعت تمييز صوت قوي النبرات يهمس في أذنها مصاحبا لأنفاسٍ دافئة تلامس ذقنها (ستكونين بخير حنين، لا تقلقي، أنتِ معي)
شعرت بجسدها الضئيل يسحب أكثر وأكثر الى حصنٍ دافىء و ذراعين قويتين تحيطانها و تخبئانها عن العالم بأسرهِ...

دون وعيٍ منها أرادت الا تفيق، أرادت أن تظل مختبئة في هذا الحصن للأبد، لم تشعر سوى بالألم و التخاذل في حياتها القصيرة حتى الآن، وكل ما تبتغيه الآن هو أن تضيع بين أحضانِ من يحميها، فأدارت وجهها الى مكانٍ دافء دست به أنفها تستمتع بذلك الأمان المجهول، وبين أشعة الظلام التي تحيط بعقلها شعرت بالذراعين تشتدانِ من حولها ومن تحتِ ركبتيها حتى شعرت بالألم في أضلعها من شدة الضغط، وظنت للحظةٍ أنها عادت طفلة في الخامسة يحملها والدها...

غابت عنها الأصوات بعد أن تداخلت في ارتباك، و شعرت بالبرد و الرجفةِ بعد أن هجرها الحصن الدافىء، ثم جاء صوتا آخر متسللا الى عالمها المظلم ليجرها جرا الى عالم الواقع، يقول لها بحزمٍ حنون (حنين، أفيقي، هيا أفيقي)
ووصل أنفاسها عطره القوي الحبيب المألوف لأحسيسها، لينتشلها من أحلامها الضائعة فخفق قلبها بقوةٍ و هي ترمش بعينيها أكثر من مرة، تفتحهما ببطءٍ ليطالعها الوجه الذي ملك قلبها طويلا.

ابتسمت بضعفٍ وهي تهمس بتنهد (عمر)
ابتسم هو الآخر مرتاحا وهو يجلس القرفصاء بجانبها ووجه قريبا من وجهها، فأدركت فجأة أنها ممددة على أريكة مكتبه
استقامت جالسة بسرعةٍ وهي تنظر حولها باحثة عن شيءٍ ما، أو شخصٍ ما...
ثم التقت عيناها بعيني عمر المدققتين لها، همست بعد لحظة (كان كابوس، لقد رأيت كابوسا للتو)
رد عليها عمر بعد لحظة وهو يقول (ماذا رأيت؟).

أخفضت رأسها و رفعت يديها بإعياءٍ لجبهتها، ثم همست (لا، لا أتذكر تماما)
رفعت عينيها اليه من جديد وهمست مبتسمة بضعف (المهم أنه انتهى)
قال لها عمر بجديةٍ (لكن لماذا أصبتِ بالإغماء ما أن رأيتِ العميل الجديد؟، هل تعرفينه؟)
اتسعت عيناها ارتياعا، عميل؟، أي أن شخصا ما كان هنا؟، لم يكن كابوس. بل كان واقعا
فتحت شفتيها لتتكلم ثم عادت لتغلقهما وعيناها على حالهما من الاتساع، وهي تفكر، هل كان هنا فعلا؟، ومع عمر؟

لا، لا، قد يكون مجرد شخص يشبهه، لذلك أصابها الهلع...
ارجعت شعرها المتناثر خلف أذنها وهي ترنو اليها بنظراتها المرتبكة، وهي تقول بصوتٍ دعت الله أن يكون طبيعيا (من، من هو ذلك العميل؟)
سكت عمر لحظة قبل أن يجاوب ثم قال بوضوح (جاسر رشيد، رجل أعمال عاد حديثا من الخارج، أتعرفينه؟)
لا رد، إن كان ينتظر ردا فسينتظر طويلا، تحولت أمامه إلى تمثالٍ من شمع، شفتيها منفرجتين و عينيها متسعتين شاردتين في البعيد...

كانت تبدو هشة للغاية بشعرها الناعم المنسدل خلف أذنيها على جانبي وجهها الشاحب، عيناها ازداتا كبرا بلونهما الزيتوني...
شعرعمر بالغضب يغلي في داخله، منذ أن وصاه جاسر على أن يرعاها من بعيد وهو بالفعل يشعر أنها كأخته الصغيرة.

تماما كواحدةٍ من شقيقاته، خاصة بعد أن عرف قصتها بأكملها، و لولا أن جاسر أصبح أعز أصدقاؤه بعد أن دافع عنه بحياته ذات مرةٍ في الغربة، لم يكن ليقبل أبدا أن يراقبها حتى و لو من باب الاهتمام والحماية، لكنه كان أيضا يتعاطف مع وضع جاسر نوعا ما...
لذا قبل أن يقوم برعايتها و لو من بعيد، ليطمئنه عليها دائما، الى أن يحين الوقت و يأتي جاسر بنفسه...

لكن المرعب له في الفترة الأخيرة، هي نظرات حنين له!، أي رجلٍ لن يلحظ هيامها الواضح؟، وهذا ما يقتله توترا من هول الأيام القادمة...
فقط يدعو الله أن يكون مجرد اهتماما كمراهقةٍ متأخرة و سيذهب فيما بعد، فحنين لم تحيا كمراهقةٍ أبدا في بداية شبابها، لذا هو يعذرها على هذا الإهتمام البريء، لكن أيعذرها جاسر؟..
قال برفقٍ بعد فترة (حنين، ماذا بكِ؟، الازلتِ تعانين من الدوار؟).

أومأت برأسها بينما انسابت دمعتانِ حائرتانِ على وجنتيها الشاحبتين كأوراقِ الورد الأبيض، انسابتا بنعومةٍ دون أن يصدر عنها صوت، ودون حتى أن ترمش عيناها، فابتلع عمر غضبه الذي يتزايد من هذا الوضع المزري الذي وُضِع فيه...

نهضت حنين تتعثر من مكانها و كادت تسقط لولا أن أسندها عمر بيده بعد أن نهض هو الآخر، ظلت مطرقة أمامه قليلا دون حراك ثم رفعت رأسها تنظر إلى عينيه الحنونتين لتهمس فجأة و بإبتسامة ضعيفة (لا أعرفه، اعتقدت فقط أنه يشبه شخصا ما)
تصاعد الغضب بداخل عمر أكثر، كان يتمنى لو تعترف بأنها تعرف جاسر فلربما استطاع مساعدتها، لكن ها هي تختار الهروب من جديد...

مشت ببطءٍ الى باب مكتبه لتخرج منه بتثاقل، وهو ينظر الى رأسها المحنى بوجوم، كان يريد بالطبع أن يقلها الى منزلها لولا أنه تلقى أمرا من الأحمق الا يفعل...
كانت تسير و تسير، تنهب الأرض بحذائيها الأرضيين، لم تشعر بالمسافات و لا بالإعياء، عيناها شاردتانِ في البعيد، عقلها يأخذها الى عمرٍ مضى عليه أكثر من عشر سنوات...

حين كانت تجلس أمام عمها الحاج اسماعيل رشوان وكانت لا تزال في الرابعة عشر، حيث مرت ثلاث سنوات على فراق نوار، ثلاث سنوات من الجحيم، ضرب و معارك يدويةٍ ضارية...
تسفر عن اصاباتٍ عديدة و حتى تطاول الأمر وصار المشاغبين يستغلون الأمر و يحرقون العديد من ممتلكاتِ العائلتين، عائلة رشوان و عائلة رشيد...

وعاصم كاد أن يُقبض عليه أكثر من مرةٍ بسبب الشغب المرتكب من قبله هو وعصبته، تجاه أبناء العائلة الأخرى و الذين يقومون بالمثل، وعلى رأسهم جاسر...
جاسر رشيد...
عادت لذاكرتها تلك الجلسة مع عمها على إنفراد، تتقاطع ساقيها كالأطفال و قبضتيها تفركانِ بعضهما بارتباك، عيناها زائغتانِ خائفتانِ لكن ينبعث الرفض من بين ثنايا الخوف.

همست بإستجداءٍ يمزق القلب وعيناها نديتانِ بدموعٍ حبيسة (لماذا أنا يا عمي؟، حور أكبر مني)
لن تنسى أبدا نظرة عمها الهاربة من عينيها وهو يتطلع بعيدا بما يشبه الذنب، طبعا لم تتفهمه وقتها، لكنها الآن استطاعت فهم الأمر جيدا، حور منذ البداية كانت أميرة والدها، حتى أنها تعلمت في مدرسةِ لغاتٍ حية من أرقى مدارس البلد...

بخلافِ عاصم و مالك اللذين التحقا بالمدارسِ المحلية، و بالرغم من قدرة الحاج اسماعيل رشوان المادية الا إنه فضل المدارس الحكومية للبنين حتى لا يتعودوا الرفاهية، و تبعتهم حنين...

أما حور فكانت مختلفة، قرة عين والدها، الذي كان يريد لها الأفضل، و بالطبع لم يكن الزواج من أحد أبناء الحي الشعبي في سن مبكر هو الأفضل بالنسبةِ لحور، لذا ادخرها والدها للأفضل و عرض حنين على رجال مجلس الصلح في سبيل إنهاء تلك الخصومة القديمة و التي اشتعلت بضراوة أكثر بعد موت، نوار...

نوار التي كانت ممنوعة تماما من الذهاب الى بيت عائلة رشوان بسبب الخلافات القائمة، لكنها كانت تتشاقى و تتسلل كل يومٍ الى سطح البيت لتلعب معها هي وحور، ومالك بالطبع...

الى أن جاء اليوم المشؤوم الذي لم تعد فيه نوار الى بيتِ أسرتها على قدميها، بل عادت محمولة على ذراعي أخاها غير الشقيق يتبعه رجال الحي مرددين الشهادة بينما تتعالى أصوات النساء بكاءا على زهرة عائلة رشيد الصغيرة التي سُرق منها عمرها وهي في بيت اسماعيل رشوان، وتحت أنظار ابنه الناضج مالك، والذي حمله الجميع المسؤولية.

لم تدري حنين أثناء سيرها الطويل أنها كانت تشهق باكية و الدموع تغرق وجهها جاذبة أنظار المارة من حولها...
همست من بينِ شهقاتها الباكية (اشتقت اليكِ نوار، اشتقت اليكِ جدا، لو تعلمين ماذا حدث لي من بعدك)
غطت فمها بظاهر يدها وهي تغمض عينيها و يزداد نحيبها، توقفت تماما عن السير وكأنها فقدت القدرة على المتابعة...

صوت نفير سيارةٍ عالٍ من جوارها صدمها و جعلها تفتح عينيها المشوشتين بالدموع لتجد سيارة فارهة سوداء تتباطأ بمحاذاتها بإلحاح، وحين سارعت الخطوات لاحقتها السيارة بإصرار مصدرة نفس النفير و كأنها تناديها...

نظرت بطرفِ عينيها المتورمتين، فرأته، للحظاتٍ تسمرت مكانها بعينين متسعتين ثم عادت لتسرع الخطى متعثرة في حجراتِ الرصيف الضيق، عاد النفير بشكلٍ ملحٍ أعلى حتى بات منظرهما أكثر الفاتا للمارة، وكاد قلبها أن يتوقف من شدة التوتر
لم تجد سوى أن تتوقف و تنظر اليه لعله يخجل من نفسه و ينصرف، لتجده ينحنى عبر زجاج النافذة المفتوح قائلا بصرامة (ادخلي).

تسمرت كالبلهاء تماما و شفتيها مفتوحتانِ قليلا تتنفس بتسارع دون أن تجد القدرة على النطق بكلمة، لذا أعاد بلهجةٍ أشد و أقسى (ادخلي حنين، حالا)
وكأن كلماته قد سيرتها كالمنومة فاتهجت ببطءٍ إلى باب السيارة الذي فتحه لها، وما أن جلست بجواره متجمدة حتى انحنى فوقها فشهقت مبتعدة عنه، الا انه ابتسم بسخريةٍ و شيطنة وهو يقول (ها قد بدرت عنكٍ بادرةٍ تدل على أنك حية).

ثم أغلق بابها الذي تركته مفتوحا بعد أن جلست الى جواره، لينطلق بالسيارة ناهبا الأرض وكأنه لصٌ هارب نجح في اختطاف الأميرة...
وصل بها الى منطقةٍ خاليةٍ تماما خارج المدينة بقليل، حيث البحر على امتداد الطريق السريع، فأوقف السيارة على جانبه...

كانت حنين طوال تلك الفترة جالسة ملتصقة بباب السيارة لاتملك سوى أن تنظر إلى يديه الخشنتين المتعاملتين مع المقود و قد ظهرت عليهما علاماتٍ قديمة من قطبٍ اثر معاركٍ هي تعرفها جيدا لتتوقف بصدمةٍ على الخاتم الفضي المنقوش و الذي تعرفت عليه جيدا، اتسعت عيناها و همست لنفسها بهوس، المجنون لا يزال يضعه في إصبعه...

عند هذه النقطة توقفت عن التفكير تماما وهي تحاول التقاطِ أنفاسها، الى أن توقفت السيارة، و عمها الصمت الخانق فاضطرت الى رفعِ رأسها بارتعاشٍ لتصطدم عيناها بعينيه وهو ملتفتا اليها يراقبها كما يراقب فريسة يستعد للإنقضاض عليها...
عيناه لم تتغيرا أبدا، نفس العينانِ اللامعتانِ بشكلٍ غريب، فيهما شراسةٍ و انحرافٍ فطري...

لكن ملامحه تغيرت، هو بأكمله قد تغير، نمت عضلاته بشكلٍ واضح، نضجت ملامحه و تصلبت و صار رجلا، لا شابا متهورا في مقتبل حياته، كم أصبح عمره الآن؟، إنه من عمر عاصم، أي أنه تقريبا في الثالثة و الثلاثين...

تذكرت الأيام البعيدة التي أحبته فيها بمشاعر الطفولة البريئة، و السبب عيناه البراقتين، لكن كل ذلك انقلب الى الضد بعد موت نوار، و شُحنت القلوب البريئة بالكره، و الحلم الذي خطته بأصابعها على ورقةٍ من أوراقِ دفترها هي ونوار، انقلب الى كابوسٍ أُجبرت عليه...

كان ملتفا ناحيتها ممسكا المقود بيد بينما مد ذراعه الأخرى على مقعدها، خلف رأسها، قريبا منها للغاية، يكاد أن ينقض عليها وشفتيه تشتعلانِ لهوا و جوعا، جوعا يحاكي ذلك الظاهر في عينيه، قال دون مقدمات (لقد كبرتِ)
رمشت بعينيها مرة و كأنه بصوته أعادها الى الحياة، فهمست بعد عدة لحظات محاولة التحلي بالشجاعة لتواجهه (مالذي أعادك؟).

قست عيناه دون أن تتحرك عضلة في وجهه المتصلب، لكنه قال بهدوء (وهل هناك ما يمنع عودتي؟، يا زوجتي العزيزة)
هذا اللقب كان له الفضل في اخراج روحها المحاربة بشراسة بعد فترة الإنهيار و الصدمة التي أصابتها منذ أن رأته، فصرخت بهياج (إياك أن تعيد تلك الكلمة مرة أخرى)
مالت شفتيه الشهوانيتين في ابتسامةٍ متسليةٍ شرسة ثم قال ببطءٍ متعمد باعثا رعشة في عمودها الفقري (زوجتي).

لم تشعر بنفسها الا وهي تضرب صدره بقبضتها الصغيرة بكلِ قوتها صارخة بعنفٍ مجنون (قلت لك لا تقل تلك الكلمة)
وقتها فقدت ملامحه التسلية وتحركت يداه في سرعة البرق ليحيط خصرها بذراعيه الحديديتين كفكي الكماشةِ بينما صرخت هي وهي تتلوى بعنفٍ دون جدوى بين أضلعه، قال لها هامسا فوق وجنتها و هي تصارعه بخوف (لا زلتِ متوحشة برية، لم تخدعني هالة الطيبة الخادعة الحديثة المحيطة بكِ).

كانت تتصارع معه دافعة كتفيه بكفيها الصغيرين و هي لا تعلم أن صراعها خطيرا للغاية، وخاصة مع مجنون...
صرخت وهي تبتعد بوجهها عن وجهه قدر الإمكان (ابتعد عني، ماذا تريد مني؟)
للحظة التقت أعينهما، عينيه مشتعلتين مجنونتين، عينيها عاصفتين متعذبتين بذكرى بعيدة تأبى أن تتركها، مرت لحظة، لحظتانِ، ثلاث، قبل أن يهمس على بعدٍ غير مرئي من شفتيها المكتنزتين المرتجفتين و ارتجافهما أثار جنونه أكثر. (أريد أن أستردك).

توقف الزمن بينهما لتنظر الى أفظع كابوسٍ ممكن أن تحياه، ففغرت شفتيها مصدومة و قد توقفت أنفاسها وقبل أن تهمس، ماذا...
كان قد انقض عليها كاتما همستها المرتاعة بشوقٍ محموم ينهل من نبعٍ غاب عنه لعشرِ سنواتٍ كاملة.

تجلس بجواره تطير معه الى حيث يخطفها لعشه. لكن أهو الذي خطفها أم أنها هي التي تعاود الى خطفه كل مرة، رنت بنظراتها الى اليه لتجد أن ملامحه تزداد قساوة مع كل مترٍ يتجاوزاه، قبضتيه على عجلة القيادة مشتدتانِ وكأنه يقوام تحطيم شيئٍ ما...

ما أقسى هذا الشعور الذي تحياه الآن، قلبها القافز فرحا بالتحليق الى جواره، ينزف ألما لما يراه الآن من شدة الضغط الذي يكابده الهذا الحد هو مرغما، مضطرا لتحملها؟، ما كلِ تلك المعاناة التي تظلل ملامحه، أيخشاها أم يبغضها، لماذا لا يستطيع فقط الشعور ببعضٍ مما تكنه له...
حين طال الصمت بينهما حتى صار خانقا لا يحتمل، همست بحنان العالم لعلها تسمع لمحة منه يحملها صوته (اعتذر عن ذلك الموقف الذي وضعتك فيه).

اشتد ضغط شفتيه بغضبٍ دون أن ينظر اليها، الا أن عينيه ازدادتا قسوة، ابتلعت ريقها وهي تحاول التقرب منه فمدت يدها لتلمس ساعده القوي الأسمر الممتد أمامه، لكن ما أن فعلت حتى انتفض ليجذب يدها معتصرا أصابعها بين أصابعه حتى تأوهت فسحبت أصابعها من بين يده التي سمحت لها بالهروب بعد أن آلمها.

نظر اليها بغضب وهي تدعك أصابعها عاقدة حاجبيها بأسى، فشعر رغما عنه بذلك الشعور البغيض الذي تثيره حور بداخله دائما، لم يكن يوما بمثلِ هذه القسوة، وهو يكره أنها الوحيدة التي تحرك قسوته تجاه الإنسانة التي من الفترض أن يراعيها بصفتها أم ابنه الوحيد، سمعها تهمس بألم و عيناها مجروحتان (كنت أحاول الاعتذار فقط)
زفر بحنقٍ قليلا، ثم قال أخيرا بجفاء (لا عليك، أنت تعلمين أني لا أحب أن يلمسني أحد اثناء القيادة).

نظرت أمامها دون أن تجد ما تقوله، أي أحد أم لمستها هي على وجه الخصوص، شرد بها التفكير قليلا وهي تتسائل إن كان يحبها بالفعل فهل ستكون تلك هي نفس ردة فعله، وهل هذا هو اعترافها لنفسها بأنه لا يحبها بالفعل...
ابتسمت بمرارة وهي تنظر الى الأمام بنظراتٍ غائمة، من تخدعين يا حور، هل تصورتِ يوما بأنه قد شعر تجاهك بما يشبه الحب، (لماذا تبتسمين بهذه المرارة؟، لم أقصد ايذائك حور).

قاطعها صوته العميق فالتفتت اليه تلتمع عيناها بنجومٍ خفية، في لحظةٍ نسيت ما كانت تفكر به، لم تسمع سوى صوته يسترضيها
فابتسمت بنعومةٍ تهمس (لم تؤذني).

عاد لينظر أمام والغضب يأبى أن يغادره، لن ينجحا معا أبدا، لأنهما لم يكونا لبعض من البداية، يستطيع أن يسامحها على أن يذهب كلا منهما الى طريقه، يفترقا بتحضر واحترام، الا أن وجود معتز جعل من تشبث حور به أمرا ملزما، مما يجعله دائما يتناسى التحضر في معاملتها، ما العمل الآن في هذا الوضع الذي يتعقد كل يوم الى أن صارت الأيام المتعاقبة عامين كاملين...

نظر في مرآه السيارة الى معتز المحتجز في مقعده الخاص وقد راح في سباتٍ عميق، هل من العدل أن يفكر في نفسه و يتناسى ذلك المسكين الذي احضروه الى العالم في خضم علاقتهما المهتزة، لكنه أبدا غير نادم فمعتز هو الشيء الأروع في حياته، وجوده يشعره بأن القدر قد أهداه نقاءا يخصه هو وحده، لم يندم للحظةٍ واحدة حتى بعد معرفته بحالة معتز، معتز هو الرابط الذي سيربطه بحور للأبد، وهذا هو أسوأ ما في الموضوع، وما يرغمه على منحها مكانة في حياته لن تنالها غيرها، حتى و إن تزوج و انجب، لن تكون زوجته أبدا هي أم معتز، لأن معتز هو ابن حور وهي من أهدته هذه الهدية النقية...

نظرت حور من نافذة السيارة التي أرتها تدرج البيوت، من البسيط الى الأبسط، يدخلانِ من حيٍ الى حي، الى أين سيأخذها...
لم تستطع منع السؤال من القفز الى شفتيها، فنظر اليها بجمود ليعاود النظر إلى الطريق قائلا (الى بيتي، لقد انتقلت للمكان الذي أعمل به)
ارتفع حاجباها قليلا و بهتت ملامحها، همست بشرود (انتقلت الى مكان عملك؟، هل هو نفسه المكان الذي تعمل به من البداية؟).

ابتسم بقسوةٍ دون أي أثرٍ للمرح وهو يجيب بوضوح (هو بعينه)
عادت لتبتلع ريقها وتنظر أمامها بوجومٍ و صدمة، إنه يعمل في اكثر الأحياء الشعبية المعروفة على حسب علمها، فهي لم تذهب الى مقر عمله أبدا من قبل...

استمرت السيارة في الدخول الى ذلك الحي البحري، حيث الميناء و القوارب المتناثرة على الرمال، حيث رائحة يود البحر القوية، ثم التفت ليدخل من طريقٍ جانبيٍ ضيق، سار به قليلا الى أن وصل الى حيٍ بسيط غير مزدحم كما كانت تتوقع، به مقهاً ضخم بكراسٍ خشبية، تفوح منه رائحة البن مختلطة برائحة يود البحر المحملة مع النسيم من البعيد، كيف لم ترى هذا المكان من قبل، بيتهم القديم أيضا يرى البحر من بعيد، لكنه في الجانب المقابل أي بعيدا عن هنا على ما تتذكر، أوقف نادر سيارته التي تناقض المكان قليلا بالرغم من أنها ليست الأحدث طرازا، ترجلت حور منها بتردد، وما أن خرجت حتى امتلا صدرها بذلك الهواء المحمل برائحة البن و البحر، تطايرت خصلاتِ شعرها مع النسيم الذي ضرب وجهها بلطف مخففا من كدماته...

نظارتها الداكنة تحجب عينيها بينما شفتاها ترتجفان قليلا، أبفعل الهواء أم أن شيئا قديما قد جذبها الى ذلك المكان، أخرج نادر حقيبيتهما من السيارة ثم أخرج معتز من كرسيه ليحمله بهدوءٍ بين ذراعيه...
أمسكت بذراعيها تتطلع حولها، ترافق الخصلات الحريريةِ التفاتها، قال نادر الذي كان يتطلع اليها منذ لحظات (هيا يا حور).

التفتت اليه بسرعةٍ تنظر اليه بقربها، ومادام بقربها فقد بدأت الطريق الصحيح، اقتربت منه خطوة لتتبعه لكن صوتا شجيا نادى عليه قائلا بهدوء يريح القلب (لقد تأخرت يا حضرة الطبيب المحترم)
التفتت حور بشراسةٍ خفية ٍ لم يلحظها أحد لتنظر لصاحبة الصوت الشجي، ثم توقفت تطالعها امرأة تبدو في الأربعينات من عمرها.

جذابة للغاية، لا تزال معالم الجمال تحيط وجهها ذو العظام النافرة، بعباءةٍ سوداء أنيقة تتطاير قليلا مع نسماتِ الهواء و شالٍ ملفوفا حول شعرها لم يمنع تساقط الخصلاتِ الناعمة حول وجهها الآسر، عينيها عميقتي السواد شديدتي الذكاء...
توقف كلامها لترمق حور بنظراتٍ مدققة، وكأنها تعرفها منذ زمن، قطع تلك اللحظة من الصمت صوت نادر الواجم وهو يقول بهدوء (صباح الخير يا علية، حدث ما أخرني).

لم ترى انحناءة رأسه من خلفها بمغزى وهو يشير اليهما، فقالت علية وهي لازالت تتطلع الى حور (الن تعرفني يا حضرة الطبيب على رفقتك؟، ها قد عاد معتز الصغير ليكمل معنا اليوم، فمن تكون تلك الجميلة؟)
أجاب نادر مضطرا على مضض (أعرفك على حور، زوجتي).

للحظاتٍ ظلت علية ساكنة لم تتكلم ولم تفقد شفتيها ابتسامتها الصلبة و الجذابة في آنٍ واحد، ثم انفرجتا شفتيها عن ابتسامةٍ أوسع وهي تقول بهدوء (اذن ها هي أم معتز الغائبة، أخيرا قد حظينا بمقابلتها)
لم ترد حور ولم تبتسم حتى، بل ظلت تراقبها و تتلقى مراقبة مماثلة منها، وحين شعرت حور بأن نادر ليست لديه النيةِ ليكمل التعارف فقالت باستعلاءِ حور رشوان دون أن تلتفت اليه (الن تكمل تعارفك يا نادر؟).

كلمة واحدة خرجت من فم نادر باقتضاب (علية)
اذن فلا نية لديه ليسهب في الكلام، لا بأس، لن يطول الأمر قبل أن تعرف من هي تلك العلية، والتي اقتربت بأريحيةٍ من نادر لتلتقط معتز الذي بدأ يفتح عينيه و ابتسمت بحنانٍ له وهي تقول (حبيبي الذي اشتقنا اليه ولم يكد يبتعد عنا أكثر من ساعاتٍ قليلة).

ثم التفتت الى حور التي تنظر اليها رافضة أن تبدي دهشتها من تلك الغريبة التي حملت ابنها بمنتهى البساطة و الجرأة من أبيه أمام ناظريها، أخذت تداعبه بأنفها في وجنته الناعمة حتى انفجر ضاحكا فعبست حور بشدة، هل أصبح معتز متكيفا مع الجميع الا هي
قاطعت علية أفكارها وهي تقترب منها مادة يدها الحرة بينما الأخرى تحمل معتز قائلة بالصوت الجميل الواضح (تشرفنا حور).

للحظة أرادت حور الا تمد يدها الى تلك المرأة التي تحمل ابنها و تمد يدها وكأنها صاحبة الدار، وحور الضيفة...
لكن تصرفا كهذا سيقلل من نقاطها عند نادر وهي لم تدخل بيته بعد، اهدئي يا حور، اهدئي...
مدت يدها لتصافح تلك السيدة علية، بهدوء متمتمة بشيءٍ ما، فلمعت عينا علية قليلا ومالت ابتسامتها الى زاوية شفتيها، لكنها لم تتكلم، بل طافت عيناها على الألوان المظللة لوجنتي حور...

وقتها تذكرت حور وجنتها ذات الكدمات الزرقاء فانتابها على الفور شعورا من الخزي و المذلة، لابد وأن أصابع عاصم قد تحول لونها الآن الى الأزرق، وهي التي صافحتها بتعالي حور رشوان المعتاد!، كم كانت غبية تلك الفكرة التي أذلتها بهذا الشكل المخزي...

رفعت يدها ببطءٍ لتغطي وجنتها وهي تستدير الى نادر مخفضة رأسها قليلا، ولدهشتها، بل لصعقتها، امتدت ذراع نادر إلى ظهرها ليجذبها الى صدره قليلا، لم تصدق نفسها وهي تميل برأسها لتستند بضعفٍ على كتفه...
. دمعت عيناها دون أن تعرف سببا، هل هو الخجل من منظرها؟، هل هو الندم لخطتها؟، أم هو التأثر والشوق لكتفه التي تلقت رأسها دون طلبٍ منها...

أيا كان الجواب، فكل ما تعرفه هو أنها شعرت بكلِ شيءٍ يختفي من حولها ولا يبقى الا هو وهي مستندة اليه فقط، لكن اللحظات الرائعة رفضت أن تطول حين تكلمت علية مرة اخرى بصوتٍ خافت قليلا (يبدو أن زوجتك متعبة يا نادر، لما لا تصحبها لشقتك و أنا سأرسل أحدا اليكما بالحقيبتين).

أومأ نادر برأسه واجما وهو لا يزال يحيط ظهرها بذراعه ضاغطا قليلا عليه ليحثها للتحرك، رفعت رأسها بعينين كسيرتين مختبئتين بالنظارة السوداء، لكن الملامح البيضاء الشاحبة الساكنة أخبرته بما تشعر به من رغبةٍ في الهروب، همست باسم معتز متسائلة...
فقال نادر (لا تقلقي، اصعدي الآن لترتاحي قليلا بينما هو سيلعب مع علية، إنها تجيد الإعتناء به).

أرادت الصراخ بها وقد هب بداخلها الجنون المعتاد، من تلك التي تجيد الإعتناء بابنها، هل هي من يترك لها معتز كلما أخذه؟، وما هي درجة الصلة بينهما ليترك لها ابنه، اشتعلت النار الحمقاء بداخلها، تلك النار الجينية المشتركة بينها وبين عاصم والتي جعلته يفعل ما فعل بالأمس، وهي نفسها التي تهدد بجعلها تتصرف تصرفا أهوجا الآن، لكن البقية الباقية من سيطرتها الواهية على نفسها جعلتها تبتسم قليلا وهي تومىء برأسها مرغمة...

تركته يقودها الى البيت القديم المواجه لهما، بيت يتحدى معالم الزمن البادية بوضوحٍ عليه، يكاد أن يكون كل ما به حجريا رخاميا، بسلالمه الممتدة الى مالانهاية، فلاوجود للمصاعد هنا بالتأكيد، أخذت تصعد خلف نادر، درجاتٍ، درجات. وصوتِ رناتِ خلخالها وأسوارها الذهبية يتبعانها، لكن مع كل طابقٍ تصعده كان صدرها يضيق و تنفسها يزداد صعوبة، الى أن أمسكت بسور السلم الحديدي تتشبث به غير قادرة على المواصلة وهي تهبط ببطءٍ لتجلس على إحدى الدرجات الرخامية الباردة، وهي تهمس اسمه بضعف، مجرد همسة مخنوقة الا أن أذنه الحساسة قد التقطتتها فاستدار لينظر اليها فهاله ما رأى، حيث تبدو على وشكِ الإغماء جالسة على الدرج متشبثة بالسور الحديدي مستندة برأسها اليه، بينما جفنيها مضمومينِ بشدةٍ...

هتف باسمها وهو يسرع ليهبط الدرجاتِ الفاصلة بينهما حتى وصل اليها وهبط ليجلس القرفصاء أمامها ممسكا بذراعيها وهو يقول بقلق (حور، ماذا بك؟، خذي نفسا عميقا و ارجعي رأسك للخلف).

نفذت حور ما قاله لكن بشرتها لازالت على نفس الشحوب وابيضت شفتيها المرتجفتين الى درجةٍ فظيعة، فعبس بشدةٍ وهو يضغط أعلى أنفها بين عينيها بإصبعيه السبابة و الإبهام، مرجعا رأسها الى الخلف، بعد عدة لحظات همس بقلق (حور، هل أنتِ أفضل الآن؟)
أومأت حور بعد أن تركها، فسألها بعد لحظةٍ (ماذا أصابك؟، هل شعرتِ بالدوار؟ متى كانت آخر مرة أكلتِ فيها؟)
سكتت قليلا ثم همست بضعف (لا تقلق، أخاف أحيانا من السلالم).

قضب جبينه وهو يقول بحيرة (السلالم؟، اعرف من يخافون المصاعد، لكن أول مرةٍ أرى من يخشى السلالم).

أخفضت نظرها، لكم ما يجهله عنها، ولو كان عرف عنها القليل لكان أدرك بأنها لا تحب الصعود على السلالم في البيوت، وخاصة القديمة منها، تشعر بالرغم من طوابقها قليلة العدد الا أنها ممتدة الى مالا نهاية، وفي نفس الوقت تشعر بأن الجدران القديمة تطبق على أنفاسها، لتهاجم أذنيها صرخة قديمة تبتعد حتى تتلاشى بالدوار الذي يلفها في لحظتها...

لم يلح نادر عليها في السؤال وهو ينظر بعبوس الى شفتيها اللتين تبدوانِ كشفاه الأموات، ووجهها الذي لازال شاحبا كالقطن الأبيض، فحزم أمره ورفعها من تحت ذراعيها حتى وقفت على قدميها بصعوبةٍ فترنحت قليلا، أمسك بها بين ذراعيه لكن دون أن يضمها بينما تاهت هي عطره الأخاذ الذي تسلل عبر شبكات العنكبوت المحيطة بعقلها، (هل ستستطيعين الصعود أم أحملك؟).

أغمضت عينيها والدوار الذي كانت تشعر به طار بفعل الأدرنالين المندفع في جسدها، خوفا وتشوقا، لذا لم تمنح نفسها فرصة الصدق حين همست باعياء (لا أعتقد أنني سأستطيع المتابعة).

أومأ نادر ثم رفعها بين ذراعيه بحركةٍ واحدة، ليصعد بها درجاتِ الطابقين المتبقيين دون مجهودٍ جسدي يذكر، لكن المجهود العصبي كان قويا، ملامحه جامدة بخلاف ما يعتمل في صدره، فهو يعرف من لونِ شفتيها ووجهها بأنها لم تتظاهر بالاعياء، لكن تلك النظرات المغوية بفطرتها و المنطلقة كالسهامِ من طرفِ عينيها، و جسدها الدافىء و الذي يشعر بكلِ جزءٍ منه عبر قماشِ ثوبها الصيفي الخفيف، كل هذا يستفز بداخله رغباتِ رجلٍ مبتعدٍ عن زوجتهِ لفترةٍ طويلة، فقط رجلا وزوجة، لكن وجه حور ليس في الصورةِ أبدا، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعره بالذنب تجاهها، أن حور لا تشغل جزئا ولو يسيرا من عقله، أو قلبه.

حين وصل أخيرا أمام بابٍ خشبيٍ قديم ذو نافذتين زجاجيتين، أنزلها على قدميها وظل ممسكا بها للحظة متنهدا براحةٍ بعد أن أوشكت أعصابه على الإحتراق...
قال بجفاء (هل تستطيعين الوقوف حتى أحضر الحقيبتين؟)
همست بأسى وهي تتلمس كتفيه بتضرع (نعم).

أبعد نادر يديها ببعض الجفاء وهو يعاود النزول، بينما ارتطمت حور بظهرها على الجدار البارد بعد نزوله مغمضة عينيها ضامة قبضتيها بشدة، تتنفس بصعوبة، كل هذا ولم تدخل بيته بعد، فكيف ستتحمل الأيام المقبلة الى أن يضعف أمامها...

حين دخلا معا الى تلك الشقة القديمة ذات السقف العالي، عالي جدا ليست كالشقق الحديثة. حتى الأثاث قديم يبدو وكأنه مقتبسا عن فيلم أبيض وأسود قديم، والنافذة يظهر منها البحر و المراكب، لم تعرف إن كان أعجبها أم لا، لكن لا مجال للتراجع الآن، فهو ترك شقتهما ليمكث هنا بقرب مرضاه من هذا الحي المتواضع، لذا من الحماقة أن تتذمر في هذه المرحلة بعد أن وصلت اليها، لذا فليكن تواجدها معه هنا مؤقتا، الى أن يصبح أسيرا بحبها، يتمنى رضاها، وقتها سيتبعها هو لآخر العالم...

خطت بتردد وهي تتطلع الى المكان من حولها، ولحقها نادر واضعا الحقيبتين أرضا، فالتفتت اليه، وقفا أمام بعضهما صامتين ينظرانِ منتظرانِ أن يبدأ أيا منهما الكلام، الى أن قال نادر أخيرا بنفس صوته الذي لا تعبير له سوى الجمود (استلقي على الفراش قليلا، فلازلتِ شاحبة).

عاد ليقفز قلبها بين أضلعها لكنها أومأت بوداعة متجهة الى غرفة النوم الظاهرة من الباب المفتوح، ذلك الفراش، يذكرها بفراش والديها الضخم الموجود في بيتهم القديم، وللحظة أحبت بصدق الإستلقاء فيه...
وما أن استلقت عليه حتى أغمضت عينيها مبتسمة قليلا، ما أشد تعبها، بالفعل تحتاج الى راحة، تشعر بأنها مهزومة منكسرة، بالرغم من تصميمها الغير قابل للتراجع، بعض الراحة ستعالج الأمر...

غفت في لحظةٍ خاطفة لولا أن أتاها صوت نادر من باب الغرفة يقول (اجلسي قليلا)
شهقت بصوتٍ منخفض وهي تفتح عينيها، فقال نادر بصوتٍ به لمحة رقة صدرت دون إرادة عنه (هل غفوتِ؟)
استوت جالسة دون أن تهتم متعمدة بتعديل ثوبها الذي انحسر عن ساقيها الناعمتين البيضاوين، ابتسمت وبداخلها طوفان من الانتصار وهي تلمح عيناه تجريانِ على ساقيها في لمحةٍ خاطفة، ها هو ضعف رجولته يتحدث عن نفسه...

اقترب منها ولاحظت أنه يحمل طبقا يحتوي على منشفة صغيرة وقطعا من الثلج، جلس بجوارها على حافة الفراش وفتح المنشفة ليضع عليها قطع الثلج ثم أغلقها من جديد، ليرفعها الى وجهها المكدوم...
لا تعرف لماذا شعرت بوجعٍ في قلبها المصدوم من تصرفه ذاك وهو يدلك كدماتها بالمنشفة، لم يكن ينظر الى عينيها، فقط ينظر الى ما يفعل وعبوسه يزداد لحظة بعد أخرى...

بعد أن أنهى وجهها ومر على ذراعها ذو العلامات الزرقاء ثم قال لها (هل هناك المزيد؟، في جسدك)
قال الكلمة الأخيرة بصوتٍ أخفت درجة واحدة فقط الا أنها قد لاحظتها، فمالت شفتيها ابتسامة حالمة وهي تتطلع لعينيه ناسية العالم بأكمله...
نظر لإبتسامتها بغضبٍ وقال (مالذي يدعو للابتسام حين اسألك عن إصاباتك؟، ما تلك الأسرة الغريبة؟).

أخفضت عينيها على الفور خوفا من افتضاح ما بداخلها وهمست بضعف (لا، لا يوجد المزيد فقط وجهي، عاصم ليس بمثل، هذه القسوة عادة)
صرخ نادر غير قادرا على السيطرة على انفعاله وهو يمسك بذقنها بقوة (ليس بمثل هذه القسوة؟، انظري الى وجهك. كيف مكنته نفسه من ضربك بهذا الشكل اللا انساني، أخبريني دون مقدمات هل فعلها سابقا؟).

أطرقت برأسها تفكر. هل تكذب؟، كم ترغب في استدرار عطفه، لطالما تجاذبت هي وعاصم حتى أنه ثنى ذراعها عدة مرات وجذبها من شعرها كعادة الأشقاء دائما، فالأشقاء الذكور غاية السخافة و الغلظة عادة، فهل تومىء برأسها؟، فقط ايمائة تجعله يثق في قراره بأن يستعيدها اليه ليحميها من البيئة القاسية التي تحياها؟، اليست في حرب؟، وفي الحرب كل الوسائل متاحة...

لكنها لم تطل التفكير حين اعتبر نادر صمتها موافقة على كلامه فاستشاط غضبا وهو يقول دون تفكير (لولا كدماتك التي أراها الآن و تأكدي من أن عاصم هو من فعلها لقلت أنكِ قد خدعتني للمرة الثانية بمنتهى الحقارة).

اتسعت عينا حور من هجومه الغير مباشر و عودته للماضي الذي قد يخرب كل خطتها الآن، بينما تابع نادر بوحشية مواجها عينيها المهتزتين (أذكر جيدا خداعك السابق حين اتصلت بي صديقتك التافهة الأخرى، باكية وهي تخبرني بصوتٍ يمزق نياط القلب بأن عاصم يحتجزك، اعتدى عليكِ بالضرب أكثر من مرة، الى أن يزوجك من رجل أعمال متقدم في السن من عملائه).

أخفضت حور رأسها خزيا من تلك البقعة السوداء في تاريخهما معا، و عادت بها الذكرى الى الفترة التي تلت رؤيتها له في زفاف صديقتها و التي تجلت فيه بذلك العرض الفاضح من أجل عيون ذلك الغريب الذي يقف مراقبا دون تعبير، لعلها تحظى بنظرة اعجاب لكن دون جدوى...

و بالرغم من أنها لم تقوم بهذا التصرف العلني من قبل، لكن حين تصل حور لدرجة الاحتراق رغبة في شيء. تتوه منها كل الأصول و القوانين و تصبح كفرسةٍ جامحةٍ غير مروضة.
بعدها راهنت نفسها و رنيم أن هذا الشخص لن يكون الا لها، حتى ولو رغما عنه، تعقبته في كل مكان، عرفت حياته و عمله وبيته، تعرفت اليه في أحد الأماكن العامة و عرفته اليها، فما كان منه الا أن أومأ برأسه دون ترحيبٍ حقيقي...

من بعدها كانت حياتها شديدة الإجهاد وهي تحاول التوفيق بين معارفٍ وصدفٍ لتجمعهما، مواقف عديدة، ينصرف فيها البعض ليبقيا بمفردهما، ويبقى هو صامتا غير مرحبا كعادته، تجتذبه برموشها المسبلة أكثر من كلماتها، تستخلص كل سحرها بمنتهى الصبر وإن كان رجلا غيره في مكانه لكان سقط صريعا لسحرها منذ فترةٍ بعيدة...

وحين فشل اغراؤها. لجأت الى الحديث عن نفسها، قصص تلت قصص عن حياةٍ وهميةٍ صعبة بالرغم من ترفها، حينها لدهشتها بدأ نادر في التجاوب معها على مضض، كان يسدي اليها النصح بصبرٍ يتزايد كل مرة...
حتى أصبح مهتما بحق أن يخرجها من حالة الضياع التي تكرهها و لا تعرف سبيلا للخروج منها، صحيح أنه لم يظهر لها أي مشاعر عاطفية خاصة، لكنها شعرت بداخلها أنه أحب هذا الدور، من نظرة عينيه...

لذا منحته الرضا وهي تلتزم تدريجيا بنصائحه، كل هذا وفق خطة مدروسةٍ في رأسها...
كانت ترى نظرة سعادة صافية حقيقية وهو يرى كل تقدم ولو معنويا أو بسيطا قامت به، وكأنه يرعى أحد الحيوانات الضالة الشريدة.
بينها وبين نفسها شعرت مع مرور الأيام بإحساسٍ جارف من الحنان تجاهه، فبالرغم من صلابته وقوة شخصيته الا أنه انساق تماما بمنتهى الطيبة وهو يحاول مساعدة تلك الأنثى الضائعة في الحياة...

حتى ولو كان كل هذا عبارة عن دورٍ مسرحيٍ رسمته من البداية للنهاية.
وقتها عرفت أنه لم يكن مجرد بريقا ذلك الذي جذبها اليه، بل هو ما يسمى بالحب، وهو ما لم تعرفه أبدا من قبله...

لكن بمرور الوقت، وحين أتعبتها الصداقة البريئة قررت البدء في مخططها، فحانت لحظة الصفر، ليأتي يوما كانت تجلس معه في أحد الأماكن العامة بعد أن اتفقا على المقابلة ككلِ مرة، وأمرت رنيم أن تتصل بعاصم في شيٍ ما و تزل بلسانها أمامه عن وجود حور برفقة رجلا ما اعتادت على مقابلته...

قد تكون المقابلة و الصداقة بين شابٍ وفتاة أمرا عاديا في الأوساط المنفتحة، أما عند أصحاب الأصول الشعبية فالأمر يختلف و خاصة عاصم، لذا لم تكد تمر دقائق حتى وجدت عاصم يدخل المكان و نظرات عينيه شديدة الإجرام كالثورِ الهائج...

لكنه لم يفتعل الفضائح فقط نظر اليهما و تجاهل كف نادر الممدودة ليقول بمنتهى الهدوء الخطير ذو الهمس الشرس (اتبعيني دون كلمة واحدة، وأنت أحمد ربك أنك في مكانٍ عام و الا لكان لي تصرفا آخر معك، لكن حسابك معي سيكون عسيرا)
و بعدها تلت فترة الانقطاع المدروسة و التي امتنعت حور فيها عن الاتصال بأيا من أصدقائها حتى لا يستطيع نادر الوصول لها و الإطمئنان عليها...

و بالفعل كان عاصم قد منعها من الخروج و احتجزها في البيت و سحب منها هاتفها، لم تكذب في ذلك...
لكنه لم يضربها حقا، لمعرفتة بأن هذه الأمور خطيرة، وشخصية كحور قد تلجأ لتصرفٍ متهور بعد الضغط عليها أكثر من اللازم...

بالإضافة الى أن الحاج اسماعيل كان على قيد الحياة فعمل عاصم كل ما في وسعه حتى يتكتم الأمر عنه، لذا لم يلجأ الى الفضائح و بقى منتظرا عدة أيام لعل هذا الرجل يدخل البيت من بابه و يتقدم لخطبة حور قبل أن يتصرف معه شخصيا...
أعادت حور نفسها من تلك الذكريات المخزية، فمدت يدها برقةٍ تلمس يده وهي تهمس بإستجداءٍ متألم (كنت صديقي يوما، اتذكر ذلك؟).

أطبقت كفه على يدها بقسوةٍ وهو يقول بقوةٍ غاضبة مقتربا بوجهه من وجهها (كانت صداقة مبنية كلها على أوهام، أي صداقةٍ تلك؟، يصعب على قول ذلك لكنني سأقوله، سيدتي أنتِ تستطيعين سحق كبرياء رجل بمنتهى البساطة ودون أن تطرف عينك)
ثم قذف يدها بخشونةٍ بالرغم من أنه لا يريد أن يؤلمها الآن بعد الذي تعرضت له على يد عاصم.

همست حور بما يشبه الهوس وعيناها تعرفانِ طعم الدموع الحبيسة بصدقٍ هذه المرة (سامحني، سامحني أرجوك، لم أفعل ما فعلته الا حبا لك، عشقا فيك)
التفت اليها بسرعةٍ وغضب ممسكا بذراعيها وهو يقول (هل من المفترض أن يحسن ذلك صورتي التي هززتها في نظري، كل يومٍ أنظر الى ذلك الرجل الذي سقط بمنتهى الغباء في فخك).

فتحت شفتيها لتجيب بعجز، لكنها عادت وأغلقتهما أمام القسوة البادية على ملامحه فأخفضت نظراتها، حينها قال نادر بصوتٍ لا تعبير له (حاولي النوم قليلا، ولا تقلقي على معتز أعتقد أنه سيلعب مع علية لبعض الوقت، لذا بإمكانك الراحة).

ثم تركها ليتجه الى النافذة مغلقا اياها لتغرق الغرفة في الظلام الجزئي، بينما اتجهت حور بقلبٍ مهموم الى الفراش وهي غير قادرة على مقاومته، فالتعب قد أخذ منها مأخذه خلال اليومين الماضيين، وفكرة أنها تنام على فراش نادر جذبت النوم سريعا الى عينيها المتعبتين، وآخر ما فكرت به قبل الاستسلام للسلطان النوم، هما اسمان ظلا يطوفانِ في ذهنها المرهق، نادر، و علية...

بعد أن غفت في لحظةٍ واحدة، استسلم نادر لضعفه وترك مقاومته القاسية، فسمح لعينيه بالتحرك عليها جيئة وذهابا على ذلك الجسد الغض الذي ذاب بين ذرعيه مراتٍ قليلةٍ كالعسل الدافىء...

جميلة ولا ينكر، وكيف سينكر، وجمالها ليس فقط جسديا بل لها سحر البحر، ذلك السحر القديم الذي يسبغه على فتياته، حتى أنه يكاد يشعر بها هاربة من لوحةٍ قديمة كان قد رآها من قبل، يكاد يتخيلها بالملائة السوداء و اليشمك الذي يظهر عينيها الكحيلتين.

تلك العينين اللتين تظهرانِ أعماقها المخادعة، لم يرى من هي أكثر لوعا وخداعا منها من قبل، لذا لم تستطع أبدا أن تحتل قلبه رغم كل محاولاتها، لم تنجح سوى في اجتذاب رجولته الى فخ سحرها، وكم كان فخا واهيا انقضى بسرعةٍ ليبقى لوعها حاجزا بينهما لا يستطيع تجاوزه، لا يستطيع الراحة معها و السكينة اليها، دائما يحيا على نارٍ حتى كادت أعصابه أن تحترق...

الى أن سلم في موقفٍ قاطع بأنه وحور لا حياة بينهما، وذلك هو الأفضل لهما معا...
تنهد بحنقٍ ونفاذ صبر مبعدا عينيه بصعوبةٍ عن جسدها واتجه اليها ليلقي الغطاء الخفيف عليها باعثا نسمةٍ خفيفة طيرت خصلة ناعمةٍ لتستقر فوق عينيها، ظل ينظر معجبا بتلك الخصلة الى أن انحنى مبعدا إياها بنعومة...
ثم استقام وهو يهمس لنفسه، فلتخرج من هنا حالا يا نادر والا علقت في شباكها وللأبد هذه المرة...
قبل عدة أيام...

تنهدت وهي تضرب عجلة القيادة بنفاذ صبر، الطريق مزدحما للغاية، الى اين يتجه الجميع في مثل هذا الوقت، هي لديها مقابلة عمل، بعد مواعيد بدء العمل بقليل، فأين يذهب الجميع؟، سيكون رائعا أن تتجه الى مقابلة العمل متأخرة...

ما أن خف الزحام قليلا و تحركت السيارات حتى تنفست الصعداء و انطلقت بسيارتها دون أن تلمح السيارة أمامها والتي هدأت من سرعتها تفاديا لصبيٍ يعبر الطريق، لذا لم تتمكن رنيم من السيطرة على المكابح في اللحظة الأخيرة فارتطمت سيارتها بقوةٍ بظهرِ السيارة التي تتقدمها، فارتطم رأسها هو الآخر بعجلة القيادة بقوة، ثم توقفت السيارة.

توقف الطريق تماما وتعالت الأبواقِ المحتجة، ارتاعت رنيم و توقف قلبها وهي تهمس برعب، لا، لا، ليس الآن...
فقد رأت قائد السيارة أمامها يترجل من سيارته، يالهي سيصب جام غضبه عليها، ماذا تفعل الآن، ربما لن ينتهى الأمر الا في قسم الشرطة، وستضيع فرصة العمل الوحيدة التي كانت تعقد عليها الآمال...

لم تجد بدا من النزول اليه و أعصابها على وشكِ الانهيار، لتجد شابا جذابا يبدو في منتصف الثلاثينات يقترب منها بملامحٍ قاسيةٍ كالحجر، حاولت الكلام عبثا وهي تتطلع الى الضرار التي سببتها الى سيارته لكنها لم تستطع النطق، الآن سينفجر بها، فلتتحمل انفجاره بكل هدوء ثم تعرض عليه التكفل بكل الأضرار التي الحقتها بسيارته، (هل أنتِ بخير؟).

رفعت نظرها اليه مدهوشة من السؤال الأول فقد كانت تتوقع الأسوأ، لذا لم تترك الفرصة فقالت بسرعة (لقد كان خطئي بالكامل، وأنا سأتكفل بكل تكاليف التصليح، إن أردت أن تأخذ رقمي لتتأكد من)
قاطعها بجمود (هل تعرضين رقم هاتفك على الغرباء هكذا بمنتهى السهولة ِ عادة؟).

ذهلت من تلك الجرأة و الوقاحة التي تحدث بها هذا الأحمق للتو، حتى أنها ظلت للحظات تنظر اليه فاغرة شفتيها غير مصدقة الى أن تمكنت من القول أخيرا بغضب (كيف تجرؤ؟)
لم يجبها ولم يهتز لغضبها بل انشغل بالنظر الى الاحمرار الذي يعلو جبهتها ثم قال بهدوء (هناك كدمة على جبهتك ستتحول الى اللون الازرق قريبا، هل تشعرين بدوار أو ما شبه؟).

لم تتنازل للرد على شهامته المفتعلة فلا وقت لديها، لذا قالت بمنتهى العنجهية (هل تخبرني بالمبلغ الذي تريده لننهي هذا الأمر. فلا وقت لدي)
للحظةٍ مجنونة رغب في أن يصفعها، متناسيا كلِ أصول التحضر، يعرف مثيلاتها من فارغات العقول. بتلك السيارة الفارهة التي لم تتعب يوما في كسب قرشا واحدا من ثمنها...

وملابسها الغريبة. من بنطالٍ جينز أسود ضيق لا يترك شيئا للمخيلة يدخل في حذاءٍ عالي الساقين الى أعلى من ركبتيها أسود جلدي ذو كعبين عاليين، جدا، بالنسبةِ لهذا الوقت من النهار، لتكمل الصورة بسترةٍ غريبةٍ من الجينز يصل طولها، إلى تحت صدرها، فقط!، تحتها قميصٍ قطنيٍ أبيض تحدث بمنتهى البلاغة عما يخفيه...

الوقحة، لم تقل تكاليف الارتطام، بل ببساطة ما يريده ليتركها ترحل، ولولا أنه كان متأخرا عن موعده وهو يقدس احترام المواعيد عادة لكان علمها الأدب، لذا لم يفعل سوى أن نظر اليها بازدراء قائلا (فلتحتفظي بمالك، لكن حاولى تعلم القيادة فربما تدقين عنق أحدهم يوما، وقتها لن يكفي مال والدك كله ليصلح خطؤك).

ثم دون كلمة أخرى استدار الى سيارته يركبها صافقا الباب لينطلق تاركا إياها للأبواقِ نافذة الصبر، بينما هي تتطلع في أثره شاعرة بالغضب الأحمق، من شدة خجلها...
كان عاصم جالسا أمام حماه المستقبلي في مكتبه الفخم، ينفث من دخان سيكاره، يبدو عليه عدم الرضا مما سمعه للتو، يعلم عاصم جيدا تلك النظرة، والتي تعني أن أحدهم أصبح مهددا من قبل حماه، عثمان الراجي...

وذلك لم يعجب عاصم، فقد علم تحديدا من هو المهدد هنا، حيث ظهرت أمام عينيه صورة لعيني قطةٍ كبيرتين تتحديانه ببراءة و شجاعة، ومهما كان غضبه منها فإنه لن يسمح أبدا أن تدخل الحرب الضروس في مواجه الطوفان المتجه اليها...
نظر اليه عثمان الراجي بصلابة ثم قال بهدوءٍ خطير (لقد فعلت ما عليك يا عاصم، فاترك لنا الباقي).

ها قد سمع ما لم يرد سماعه، حينها مال في مقعده الى الأمام مستندا بمرفقيه الى ركبتيه ليرسل نظره بمنتهى القوة الى عثمان الراجي قائلا بلهجة هادئة توازي لهجة حماه خطرا (اعذرني سيد عثمان، الموضوع يخصني، وأنا وحدي من سأتعامل فيه، بطريقتي التي لن أقبل بغيرها).

للحظةٍ تواجهت القوتان، تتحدى كلا منهما الأخرى في مفترقٍ للنظريات، ليرى كلا منهما من سيخضع للآخر، فقال عثمان الراجي (لم أرى نتيجة لطريقتك الخاصة حتى الآن، لذا أرى أن نسلك طريقا آخر)
لم يرمش عاصم بعينه بل ظل محدقا في عيني حماه بصلابةٍ ليقول (دون أية مقدمات يا سيد عثمان، أخبرتك من قبل أن هناك شعرة تفصلني عن طريقٍ لا أسلكه أبدا).

ابتسم عثمان الراجي قليلا وهو يننفث دخان سيكاره بهدوءٍ ظاهر، ثم قال بعد لحظة صمت (ولهذا أخبرتك بأن مهمتك قد انتهت، فلتترك لنا الطريق من هذه النقطة)
أرجع عاصم ظهره الى الوراء ليقول بقوةٍ غير متنازل عن هدوؤه (الأمر يخصني ولن أقبل بأيٍ من تلك الوسائل، الأمر غير قابل للنقاش بالنسبةِ لي، سأنهيه وثق في كلمة عاصم رشوان).

ثم قام من مقعده مستأذنا ليخرج، لكن عند الباب وصله صوت عثمان الراجي قائلا بخطورة (عاصم، لا أريد أن أذكرك من ينتظر تلك الأرض)
لم يجب عاصم، بل أومأ برأسه مودعا ليغادر، متجها للحمقاء التي تتلاعب في عدادِ عمرها...

ظلت رنيم جالسة في مكانها تفرك يديها بقلق، لقد تأخرت بالطبع على موعد مقابلة العمل، و تلك كانت فرصتها الأخيرة في الحصول على عملٍ، فهي وصلت الى سن السادسة والعشرين دون أن تعمل أي أنها لا تملك أية خبرة بعد تخرجها منذ ست سنوات من كلية الهندسة، وذلك بسبب الظروف التي ألمت بها في تلك السنوات، لكن الآن تشعر بأن العمل هو حلها الوحيد في ما تعانيه حاليا، لكن بالطبع مع كل تلك السنوات الضائعة بلا خبرةٍ في حقل الهندسة المعمارية، كان الأمر ضربا من المستحيل.

لذا كان الحل الوحيد لتعمل الآن هو أن تحصل على توصية، وكان الأمر ليكون سهلا للغاية بتوصيةٍ من والدها، الا أن والدها رفض، فهو ذو مبادىءٍ عفا عليها الزمن، إن أرادت العمل فلتحصل على فرصةٍ بمنتهى النزاهة مثل أقرانها...
لذا لم تجد بدا من الحصول على توصيةٍ من عاصم رشوان بناءا على الحاحِ حور ودون علم والدها، وها هي تفشل حتى قبل أن تدخل الى مقابلة العمل...

أخبرتها السكرتيرة بأنها ستبلغ المهندس الذي كان في انتظارها، أخذت تدعو الله أن يوافق على مقابلتها...
لحظاتٍ وخرجت السكرتيرة مبتسمة وهي تنظر اليها لتخبرها بأنه في انتظارها، تنفست رنيم الصعداء ونهضت لتدخل المكتب المقابل مبتسمة ابتسامتها الدبلوماسية التي ورثتها عن والدها للظروف الصعبة...

لكن ما أن دخلت حتى غابت الإبتسامة عن شفتيها حين وجدت أن الشخص الذي نهض عن مكتبه ليصفاحها هو نفسه الذي ضربت سيارته منذ ساعة و الذي عرضت عليه بمنتهى الصفاقة المبلغ الذي يريده ليدعها ترحل، لقد فشل الأمر قبل أن يبدأ...
بهت هو الآخر حين رآها، وظل صامتا تتلاعب ابتسامة تسليةٍ متحديةٍ على شفتيه منتظرا أن تبدأ الكلام، فقالت بخفوتٍ يائس دون أن تظهر بؤسها (هل أرحل و اعتبر الأمر مفروغا منه؟).

لم يتكلم لعدة لحظات، ثم مد يده ليقول بهدوء (المهندس عمر توفيق و الذي سيجري معك المقابلة يا آنسة رنيم).

اقتربت منه ببطءٍوهي تخشى أن يفترسها بين لحظةٍ و أخرى، ثم رفعت يدها لتمسك بيده الممتدة، تحاول الابتسام، بينما نظرته تخبرها بأنها قد أتته بقدميها، أخذت نفسا عميقا وهي تدعو الله أن يكون معها، لكن هل ينفع الدعاء وهي آتية ٍ بتوصية؟، الن يكون هذا منتهى النفاق؟، و بالتأكيد هو يعرف الآن أنها الفتاة صاحبة توصية عاصم رشوان، يالهي الأمر يزداد سوءا...

كانت خارجة من المحكمة تحمل معها ملفاتٍ عتيقة استطاعت الحصول عليها أخيرا من الأرشيف، قضايا تبلغ من العمر ما يفوق عمرها هي شخصيا و تلك هي القضايا الوحيدة التي تحصل عليها و بالرغم من ذلك فهي سعيدة بعملها لا تبتغي غيره...

فالمحكمة القديمة العريقة تذكرها بصوتِ والدها الجهور الذي كان يرجرج جنباتها، أثناء خروجها الى موقف السيارات سمعت رنين هاتفها فالتقطته بصعوبةٍ وهي تحاول وزن ما تحمله من تلك الملفات القديمة، ردت بهدوء على الرقم الغريب (السلام عليكم؟)
وصلها صوت عميق أرسل رعشة الغضب الى أوصالها (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، صبا).

اشتعلت غضبا و هي تسمع تلك النبرة المتسلية التي تعرفت عليها جيدا. فقالت بصرامة (كيف حصلت على رقم هاتفي؟)
سمعت ضحكة خفيفة ثم صوته متشدقا (ها أنتِ تقللين من قدراتي مرة أخرى)
لم تستطع السيطرة على غضبها هذه المرة و عوضا عن أن تغلق الهاتف بعد السلام بمنتهى الهدوء، صرخت بغضب (لا تهمني قدراتك مثقال ذرة، لما لا تستطيع أن تتقبل الرفض ببساطة. ).

سمعت صوته مرة أخرى يقول مستفزا (لم أقل شيئا بعد يا صبا فلماذا تستبقين الأحداث)
زفرت بغضب، السمج، اللزج، مجنون السيطرة، لكنها استطاعت أخيرا أن تقول بهدوء بعد أن أخذت نفسا عميقا (سيد عاصم سأغلق الخط، ومن فضلك لا تتكلم على هذا الرقم مرة أخرى)
وصلها صوته سريعا قبل أن تغلق الخط وهو يقول، (انتظري قليلا فقد تحتاجين مساعدة فيما تحملينه).

اتسعت عيناها للحظة بذهول ثم رفعت رأسها تلتفت حولها في كل اتجاه، الى أن أبصرته، هناك، واقفا مستندا على سيارته السوداء الضخمة. مشبكا ساقيه واضعا يده في جيب بنطاله، بينما الأخرى ممسكة بالهاتف الى أذنه
نفس النظارة السوداء التي تخفي عينيه، بينما الابتسامة المستفزة ظاهرة على شفتيه، أخرج يده من جيبه ليلوح لها دون أن يتزحزح من مكانه...

حينها لم تستطع سوى أن تغلق الهاتف وتضعه في حقيبتها بهدوء وهي توازن ما تحمله ثم دون اي تردد اتجهت ناحيته بمنتهى العنفوان و الثقة...

وكان هو ينظر اليها قادمة نحوه، هيفاء كمهرٍ جامح، مشيتها تقطع الأرض إباءا، ما أجملها، حتى هذه اللحظة لا يعرف ما الذي أتى به الى هنا تحديدا و بنفسه، ليس هذا اسلوب عمله، فهو لا يتعامل بنفسه الا في الضروريات، ومنذ أن رآها حدد عقله أنها تصنف تحت مسمى الضروريات، خاصة حين سمع التهديد المبطن لعثمان الراجي
لافتة مضيئة أنارت بداخله، كتب عليها، ممنوع أذيتها فهي تحت حماية عاصم رشوان...

وصلت اليه في تلك اللحظة وعيناها الذهبيتانِ تلمعانِ بشرارات الغضب و الانفعال، ودون مقدمات قالتِ بصوتٍ مهدد (هل تراقبني؟، أستطيع أن أحصل على أمر لتوقيفك بسبب الإزعاج)
اتسعت ابتسامته اكثر، كم تبدو شهية، ولذيذة الى حدٍ لا يصدق، أخفض نظره قليلا وهو يقوام اغراء تأملها، لذا قال بهدوء ٍ ليلهي نفسه عن النظر الى ملامحها الجميلة (لكم أود رؤية هذا الأمر، وهنا في مدينتي؟، سيكون شيئا جديدا يبدد الملل).

نظرت اليه صبا قليلا دون أن تحيد عن عيناه اللتانِ تحاولانِ جاهدتان الا تطيلان النظر اليها، ثم همست باستفسار (مدينتك؟، هل تقصد ما فهمته أم أنني أتوهم فقط؟)
بنفس الابتسامةِ قال (قصدت تماما ما فهمته؟، اسم رشوان تقريبا يعلو نصف أراضي المدينة)
زمت شفتيها و صدرها يعلو ويهبط انفعالا ثم قالت (وهل تظن أن هذا يجعلك فوق القانون؟).

اتسعت عيناه قليلا وهو يدعى الدهشة ثم قال متسليا (من قال هذا؟، لم أكن يوما فوق القانون يا أستاذة فلتسألي عن عاصم رشوان، لتعرفي جيدا سمعته التي لا غبار عليها)
قالت بصلابةٍ وتحدي (أعرف تماما سمعتك يا سيد عاصم، أنت لست فوق القانون، أنتم فقط تدورون من حوله أنت ومن معك)
اختفت التسلية من ملامحه، واشتد ضغط شفتيه واستطاعت رؤية عينيه بالرغم من العدستين السوداوين...

وعرفت حين تطلعت اليه أنه يحاول احكام السيطرة على انفعالاته، تماما كما تصورته، شخصا لا يستطيع التحكم بلحظة غضبه بالرغم من كل تظاهره بالعكس، فقدانه السلطة على من أمامه يفقده السيطرة على نفسه.
لم تشعر به مصدر تهديدٍ لها أبدا بل على العكس، تحب أن ترى اقصى ما يستطيع مثله فعله بالرغم من تهديدها له الا أن فضولا من نبع شخصيتها يحثها لتتمهل وترى ما يظن أنه يستطيع فعله، لتريه وقتها مقداره الحقيقي...

استطاع عاصم النطق أخيرا وهو يقول بجدية ؛ (لما لا نجلس في مكانٍ ما لنتحدث)
نظرت اليه بدهشةٍ وهمست رغم غضبها الشديد من اقتراحه الوقح (نجلس في مكانٍ ما؟، كيف تجرؤ؟، اعتقد أن تلك السبحة في يدك تستخدمها للعد و الحساب ليس أكثر).

ها قد ظهر الغضب الأهوج في عينيه كما توقعت تماما، ونهض من استناده ليطل عليها كماردٍ عيناه تشعانِ شررا أسودا، ليقول بتصلب (لقد تجاوزتِ حدودك، وأنا حتى هذه اللحظة أحاول أن أكون مهذبا لمصلحتك، تعقلي و تعالي معي فهناك ما أريد أن أحادثك بشأنه).

ردت بصوتٍ صارمٍ لا يتناسب مع نعومة ملامحها (ابتعد عني يا، سيد عاصم، أنا أحذرك من التعرض لي مرة أخرى، هل فهمت أم سأضطر للتصرف معك تصرفا سيضر بسمعتك التي تفخر بها دائما)
في لحظةٍ لم تتداركها انقض وجذب الملفات الثقيلة من بين يديها ليلقي بها على مقدمة سيارته بعنفٍ كاد أن يسقطها أرضا بينما هي تصرخ بعد لحظة الذهول الأولى (كيف تجرؤ؟)
لم يتنازل ليرد عليها سوى أن قال ضاغطا على أسنانه (يجب أن نتكلم يا صبا).

فتحت فمها لترد عليه بأفظع اللهجات الا أن فضولها المتوارث جعلها تتريث قليلا، من المفيد أن تستمع للخصم دائما فلا تدع الغضب الأحمق يسيطر عليها لتغمض عينيها و تسد آذانها، أيا كان ما سيقوله بالتأكيد سيفيدها الأيام القادمة، لذا بعد فترة صمت استطاعت القول بعملية (خمسة عشر دقيقة، خمسة عشر دقيقة هي كل ما سأمنحك إياه).

أمال رأسه بعجرفةٍ موافقا ثم أشار بيده داعيا اياها لركوبِ سيارته، لكنها لم تتزحزح من مكانها وهي ترمي السيارة السوداء الرائعة بنظرة استهانة واضحة، ثم قالت مبتسمة بغيظ (لا سيدي، ستأتي معي في سيارتي)
رفع حاجبيه باستهجان وهو لا يصدق ما يسمع، يجلس بجوار امرأة تقوده إلى مكان؟، هز رأسه نفيا وهو يقول قاطعا (لا آنستي، ستأتين معي ثم سأعيدك الى هنا لتأخذي سيارتك).

هزت كتفيها بلامبالاة ثم اتجهت الى السيارة لتلم ملفاتها المبعثرة عليها، وما أن انتهت حتى نظرت اليه مبتسمة تقول (كما تحب)
ثم استدارت لتتركه وترحل، فما كان منه الا أن تبعها ليقول بغضب (كفي عن العناد، كيف يتحملك من يعرفك؟، اركبي السيارة ولا تجادلي).

لم تتنازل للرد متابعة سيرها دون توقف الى أن وصلت الى سيارةٍ بيضاء صغيرة فتحت بابها بصعوبةٍ الى أن وضعت الملفات على المقعد الخلفي ثم أغلقت الباب لتستقيم ناظرة بتسليةٍ الى نظرته التي لم تفقد ذهولها الى الآن بعد أن خلع نظارته السوداء من مرأى ذلك المكعب الصغير المطلق عليه اسم سيارة، ولولا أنها ذات أربع عجلات لكان ظنها وسيلة المواصلات الجديدة المتطفلة على الشوارع ذات الثلاث عجلات، والتي أصبحت منتشرة كالوباء...

كادت صبا أن تضحك من نظرة الريبة التي يوجهها الى سيارتها، لكنها أمسكت نفسها بصعوبةٍ لتقول بتحدي (أراهن أنك لم تركب مثلها يوما اليس كذلك؟، لا تخف لن تعضك).

عقد حاجبيه بشدةٍ وهو ينظر الى وجهها ليقول بصرامة (لا تخدعي نفسك يا استاذة، إن لم تعرفي فأنا ابن اسماعيل رشوان و لقد نشأت في حيٍ لا أعتقد أن تكوني قد سمعتِ باسمه من قبل، لا تدعي تلك المظاهر تخدعك فقد كنت يوما أذهب إلى المدرسةِ متشبثا بباب الحافلة المفتوح من شدة ازدحامها).

للحظة. للحظةٍ يتيمة رق قلبها وهي ترى ذلك الضخم المتعالي ينفي صفة الرفاهية عنه، بدا كطفلٍ مدافع، لكن الشراسة في ملامحه نفت البراءة اللحظية، فقالت ببرود (أولا أشك أن يكون هناك حيا من المدينة لا أعرف اسمه، ثانيا مادام الأمر كذلك فلما لا تدخل السيارة وكفى تضيعا لوقتينا)
زفر بحنقٍ سلاها أكثر و أكثر ثم قال بامتعاض وهو يشير بغضبٍ بكلتا يديه الى السيارة (لن تتسع لنا معا، أشك أن تصطف ساقي بداخلها).

لم تستطع منع ضحكة صغيرة من الخروج، فسكت عن التذمر ليرفع عينيه اليها متأملا ضحكتها اللطيفة، كم هي نسمةٍ منعشة، لطيفة، لطيفةٍ للغاية بضحكتها وجمال عينيها، مابالك يا عاصم، الم ترى فتياتٍ جميلاتٍ من قبل، صحيح أن العمل يشغل وقتك ليل نهار لا تتعامل مع الجنس الناعم، باستثناء دانا!

الا أن هذا ليس عذرا للاستسلام لمثل هذا التحديق الأحمق لها، لمجرد أنها ابتسمت فأنارت الدنيا بوهجِ اشراقِ ضحكتها، تبا، إنه خاطب وعلى وشكِ الزواج فلماذا رآها في هذه المرحلة الحرجة من حياته، مرتين!، لم يرها سوى مرتين حتى تشبثت بمخيلته بمثلِ هذا العنف...

نسي نفسه شاردا في ملامحها، حتى بهتت ابتسامتها تدريجيا لتختفي و يحل احمرارٌ خائنٌ ليحتل وجنتيها بينما ظهر الضيق جليا على ملامحها وهي تفكر، الا يخجل من تحديقه الوقح هذا، وتسائلت إن كان من المناسب أن تذهب معه الى أي مكان، بالطبع هي تستطيع التصرف مع أي شخصٍ لزج يحاول التجرؤ عليها لكنها في غنى الآن عن أيا من حركاتٍ حقيرة...

لكنها عادت واستبعدت أن يقوم بأي تصرفٍ يسيء إلى سمعته، فهو لا يسعى الا لشيء واحد وهي بشوقٍ لترى ما خطوته التالية...
استقلت سيارتها مغلقة الباب دون أن توجه اليه دعوة أخرى، فما كان منه الا أن زفر غضبا و استقل المقعد المجاور لها وهو يشعر بحرجٍ لا مثيل له من الجلوس الى جانب امرأة تقود السيارة، لم يفعلها من قبل...

لحظاتٍ وعرف لماذا تحديدا كان من الحماقة الجلوس بجوارها، حيث استدارت ناحيته قليلا وهي تضع يدها على ظهر مقعده، الا أنها لم تكن تنظر اليه بل كان جسدها الممشوق كله ملتفا كغصنِ وردةٍ ناحيته وهي تنظر الى الزجاج الخلفي و يدها الأخرى تدير المقود لترجع بالسيارة الى الخلف...

فصلت سانتيمترات قليلة بينهما، شعر خلالها في ثانيةٍ واحدة بكلٍ عصبٍ يحترق في جسده، كانت قريبة للغاية، ملفوفة للغاية، ويدها خلف رأسه، هل تفعل هذا عادة حين يجلس أحد بجوارها؟، وهل يجلس بجوارها الكثيرون؟، ماهذه الحماقة التي تدر برأسه، يجب أن يعجل بزواجه، هذا هو كل الأمر...

القى عليها نظرة بطرفِ عينه، تلك الوجنتين الحمراوين كتفاحتين، عينيها تحدق الى الخلف بصلابة لا بد و أنه هو السبب فيها، لمح بضعة شعراتٍ عسليةٍ كالحرير ظاهرةٍ من طرفِ حجابها الوردي و الذي لم يرى بروعته مع ذلك الزي الرسمي الرمادي اللون، وكأنها تركز جمالها كله لينظر المرء الى وجهها دون غيره، لكن ذلك لم يفلح فهي كلها تبدو كقطعة حلوى وردية جميلة ذات حبة كرزٍ شهيةٍ تزينها، شهيةٍ جدا، انقبضت كفه بقوة...

ما الأمر الن ينتهي رجوعها الغبي هذا الى الخلف، يبدو وكأنها ساعاتٍ تمر ببطء وهي تخرج بالسيارة من موقفها...
الحمد لله، ها قد خرجت وانتهى الأمر وها هي تلتفت وتنظر أمامها، ليس تماما. فقربها منه لازال يثير فيه شعورا غريبا، زفر بحنقٍ وهو ينظر من النافذة، فسمعته ونظرت اليهِ بنفسِ البرودة والصلابة وهي تقول (هل هناك ما يزعجك؟، هل تريد أن أوصلك إلى سيارتك و ننتهي من هذا اللقاء الذي لا لزوم له؟).

تأفف مرة أخرى وهو يقول بغضب دون أن ينظر اليها (فلتتجهي الى المكان اللعين ولننهي الأمر)
عقدت حاجبيها بشدةٍ و أوشكت أن توقف السيارة لتنزله منها على قارعة الطريق، لكنها زمت شفتيها لتضغط دواسة الوقود أكثر متمنية أن تقذف به من السيارة، لكن صوته أتى باردا (لا تزيدي السرعة).

ارتفع حاجبيها وهي تنظر اليه بدهشةٍ هذه المرة، إنه شخصٌ ميؤسٌ منه، ثم تابعت القيادة بصمت، تشعر به يهز قدمه بعصبية، لا تعلم كيف نجح في حياته بهذا الشكل بالرغم من توتره البادي عليه باستمرار...

كان طريقا قصيرا الا أن ذلك التشنج العصبي كان سائدا تلك المساحة الصغيرة التي تجمعهما، الى أن توقفت أخيرا أمام مقهى محلي يرتاده المثقفين، أطباء و محامين ممن لديهم فواصل في يومهم المتعب، يأتون الى هنا ومعهم حواسبهم ليقضون بعض الوقت...
صفت سيارتها وخرجت دون كلمة، فتبعها مذهولا وهو ينظر حوله ليتأكد من عدم وجود أحدا يعرفه هنا، هل سيجلس في هذا المقهى؟، ومعها؟..

جلست الى طاولة من الواضح أنها تعرفها جيدا ومعتادة على الجلوس اليها، بل ومن الواضح أيضا أنها تأتي الى هنا كثيرا، حيث حياها أكثر من شخص بعد جلوسها، ياللروعة...
جلس عاصم أمامها، مرجعا ظهره للخلف واضعا ساقا فوق الأخرى، وهو يرمقها بنظراتٍ قاتلة من تحت نظارته السوداء، بينما هي تلوح للنادل مبتسمة له أن يأتي، دون ان تهتز فيها شعرة، حتى وصل النادل مبتسما فقالت صبا بحلاوة (كيف حالك يا علي).

رد عليها النادل الشاب مبتسما بينما احمرت اذنيه وهو ينظر أرضا، فشعر عاصم برغبة في ضرب ذلك المراهق الأحمق الذي يبدو وكأنه وقع تحت تأثير سحرها الناعم...
ثم سمعها بدهشةٍ تسأله (ماذا تحب أن تشرب؟)
لم يصدق، ستطلب من أجله أيضا، سيكون رائعا لو اكتملت الصورة بأن يراه أحد عملاؤه في هذا الموقف، وللمرةِ العاشرة يسأل نفسه عن سبب وجوده معها الآن دون أن يتصرف كما اعتاد من قبل...
همس من بين أسنانه (قهوة).

ابتسمت صبا ببرود وهي تقول للنادل (نعم، قهوة قوية بدون سكر، أما أنا فسأشرب مشروبي المعتاد)
ابتسم لها النادل ثم ابتعد دون حتى أن يهتم بالنظر الى عاصم، و الذي أخذ نفسا محاولا السيطرة على غضبه المتصاعد، ثم نظر اليها نظرة جليدية وهو يقول ببرود (مقهى محلي؟، هل هذا هو المكان المثالي الذي تفتق ذهنك عنه؟).

شعرت بأنها تريد سكبِ الماء الباد فوق رأسه لكن عوضا عن ذلك قالت بمنتهى البرود (لم أختر شيئا خاصا، انه المكان الذي اعتدت الراحة فيه بين المرافعات)
فجأة ودون مقدمات قال بوضوحٍ وقح (صبا، اذكري الرقم الذي تحلمين به، و افتحي مكتبك الخاص، و استبدلي صندوق البريد الذي جئنا به هذا و الملقب بسيارة، بأخرى تليق بكِ، يا ابنة المستشار).

توقعت أن يكون وقحا، بل كانت متأكدة، لكنها لم تتوقع أن يظهر وقاحته بمثل هذه السرعة، والآن هي تريد السماع على عكس المرة الماضية، لذا لم تهتز ابتسامتها وهي تطلع اليه بثقة قائلة (أكمل كلامك، تفضل).

للحظاتٍ لم يستطع أن يتبين شيئا من ملامحها الواثقة، لكنها على الأقل مستعدة للسماع لذا حاول جهده أن يصل إلى أفضل اسلوب اقناع لديه بالرغم من عدم اعتياده على ذلك، فقال بهدوء (رقمٌ يضمن لكِ كلِ ما تريدين تحقيقه، وليس مجرد ايجاد سكنا بديلا).

مالت ابتسامتها جانبيا قليلا فعرف أنها لم تهتز لهذا العرض المذهل وتأكد من ذلك حين سمعها تقول ببساطة تخفي الكثير (لا أظن أن هذا هو الأسلوب المتبع في العالم التجاري أو المعماري، والا لما كنت نجحت بهذه الصورة و أنت تخسر أكثر مما تحصل عليه).

سكت قليلا، ممتعا نظره بهالة الشجاعة والكبرياء المتوهجة من حولها، تبدو كشيءٍ نادر لم يره منذ زمنٍ بعيد، لكنه لم يظهر أيا مما اعتمله بداخله ممتنا للعدستين الداكنتين...
لكن الشجاعة تضم براءة جميلة، إنها لا تعلم الكثير لذا فقد قال بمنتهى البساطة (المكسب المتوقع أكبر من أي رقم خيالي يخطر ببالك، و من يريدون هذه الأرض يعلمون هذا جيدا).

أرجعت ظهرها الى الخلف مكتفة ذراعيها، هاقد أصبح الكلام أكثر وضوحا، مجرد جملة بسيطة شرحت الموقف، قالت تستتبع الحوار الشيق (لكن الا ترى أن من الظلم، أن يبيع كل من حولي بأثمانٍ لا تقارن بذلك الرقم المجهول الذي انتظرت أنا حتى أنميه أكثر وأكثر بقليلٍ من الصبر؟).

لم ينفعل و لم يظهر على ملامحه الصخريةٍ أي تغيير وهو يقول بعد فترة (لم نظلم أحدا فهذا ليس اسلوبي، كل من باع كان راضيا تماما عما تقاضاه، ولم يبقى غيرك).

الكلمة الأخيرة صدرت عنه بإسلوبٍ خطير، أكثر خطورة مما أراد حقا، وقد لاحظت هي تلك النبرة الخافتة الخطيرة، فاقترب حاجباها قليلا من بعضهما، لكن بقوة إرادة منعت أي ردة فعل وهي تنتظره ليكمل، فتابع بنفس النبرة، (مساحة تكفي لبناء مدينة صغيرة، في أكثر مكان حيوي بالمدينة، صارت كلها ملكا للمشروع، ماعدا جزءا يسيرا يقف حاجزا في وجه هذا الصرح العملاق، جزء لا يتعدى واحد من مئةٍ من كل ما تملكناه، الا أنه في المركز و بدونه يقف كل ما حققناه).

بنفس ابتسامتها المائلة وذراعيها المكتفتين قالت ببرود (وهذا الجزء طبعا هو بيتي. أنا)
سكت للحظةٍ ولم يرد، أخذ يتطلع اليها طويلا بصمت وكم تمنت أن يخلع نظارته، فهي تجيد قراءة الناس من أعينهم...
امتدت لحظة الصمت الى أن قال أخيرا كلمة واحدة (أنتِ).

لم يفتها أنه لم يقل بيتك بل قال قاطعا، أنتِ، أنتِ العقبة التي توقف أعمالنا، ظلا يتطلعانِ الى بعضهما طويلا، مجيء النادل الخجول المبتسم قطع لحظة التهديد الخفي بينهما وهو يضع الطلبات على الطاولة، وقد لاحظ شحنات التوتر بين زبونته المفضلة وذلك الضخم المتشح بالسواد من قمة رأسه وحتى قدميه، والذي يبدو وكأنه خارجا من فيلم حركةٍ أجنبي، لكن لن يستطيع أن يؤذي الأستاذة وهي هنا بينهم، فليحاول فقط، حينها سمع صوت عاصم موجها الكلام له بفظاظة (هل هناك ما تنتظره؟).

ارتبك النادل المسكين فعبست صبا بشدةٍ، لكنها رفضت أن يتطاول ذلك الفظ على صديقها المسكين و الذي تراه كل يوم، لذا ابتسمت برقةٍ تذيب الصخر وهي تتطلع اليه قائلة بنعومة (لا بأس، اذهب الآن يا على فكل شيء على ما يرام).

ظل مترددا لحظة. لكنه اضطر أن يبتعد دون أن ينسى توجيه نظرة احتقار واضحة الى عاصم الذي نظر اليه مذهولا من تلك النماذج الغريبة من البشر و التي التقى بها خلال اليومين الماضيين، ماذا؟، الم يعد هناك من يخشاه؟، أم أن هناك جانبا لم يعرفه بعد؟، حرك رأسه وهو يأخذ نفسا متلمسا به الصبر عن القيام بأي تصرف متهور يجذب به الأنظار اليهما...

بعد لحظةٍ حاول فيها الرجوع الى قناع سيطرته، قال بهدوءٍ متوتر (صبا، الأمر لن يظل تحت سيطرتي طويلا، كنت لأصرف النظر عن بيتِ عمران لو كنت المعني الوحيد بالأمر، لكني لست بمفردي، حاولي فهم ذلك جيدا، من خلفي أسماء ضخمة لن تتخيليها وهم ينتظرون هذه المدينة الصغيرة، لأسبابٍ عديدة لا تهمنى ولا تشغل بالي، فأنا دوري ينتهي عند انشائها ثم القيام ببيع وحداتها، لذا حاولي أن تفهمي أن الأمر غير قابل للرجوع بالنسبةِ لهم).

برودة كالجليد أحاطت بصدرها وهي تقول بعد فترة (هل تتخيل أنك ستخيفني بأسمائك المخيفة المختفية بجبن خلف ظهرك لتظل أنت في الصورة تقوم بأعمالهم القذرة كفتوة، بينما تبقى صورتهم نظيفة لا يشوبها شائبة؟).

عند هذه النقطة لم يستطع الإمساك بفورة غضبه ودون شعورا منه قام بأغبى عملٍ ممكن أن يقوم به في مكانٍ كهاذا، لكن غضب عاصم رشوان قد تمكن منه وقد حدث ما حدث، حيث امتدت يده في لحظةٍ خاطفة لتقبض على يدها الموضوعة فوق الطاولة...
وهو يقول بصوتٍ كالفحيح (كيف تجرؤين؟، أقوم بأعمالهم القذرة؟، هل نسيت الى من تتحدثين أم أريكِ بعضا من تلك الأعمال القذرة التي تتوهميها).

حاولت جذب يدها مرة واحدةٍ فقط، وعيناها تشتعلانِ شراسة وهي تقول بتهديد (اترك يدي، حالا)
وقبل أن تعيد الأمر، لم تمنحه لحظة واحدة أخرى، حيث تناولت كوب ِ العصير الموضوع أمامها ودون تردد ألقت بمحتوياته الباردة في وجهه و على قميصه!..

غضب، نارا هوجاء، نظراته اتسعت ذهولا قبل أن يتسلل اليها الغضب الخطر تدريجيا حتى صارت عيناه متوحشتينن، تكادان أن تزهقا روحها...
اندفع واقفا بعنفٍ أدى إلى سقوط الكرسي الذي كان يجلس عليه أرضا...

أطل عليها بهيئته الشيطانية وهو ينظر اليها بطريقة قد ترعب غيرها، لكن ليست هي، للحظةٍ واحدةٍ هي كل ما تطلبه الأمر قبل انفجاره نظرت اليه بمنتهى البرود فانطلق لحظتها جنونه الأعمى ليمد كلتا يديه قابضا على ذراعيها رافعا إياها عن كرسيها بعنفٍ وهو يصرخ في وجهها (هل جننتِ؟، كيف تجرؤين؟).

لم تجد الوقت لتصرخ به أن يتركها لأن في لحظةٍ واحدة كان كل الجالسين حولهما من تقريبا سبع أو ثماني رجالٍ أشداء قد نهضو لينزعو يديه بقسوةٍ عن ذراعيها. صارخين به دافعين إياه بغضبٍ ومعهم على فتى المقهى، ليشكلو حاجزا بينه و بينها، الا أن وجهها كان ظاهرا اليه من خلفهم، تنظر اليه بازدراء لم تحاول اخفاؤه، رفعت حاجبا واحدا متحديا ثم قالت بمنتهى الهدوء و التحدي (لست وحدي هنا في هذا المكان).

رفع اليها إصبعا واحد، مهددا، لكنه لم يجد حتى ما يهدد به من شدة الغضب المسيطر على أعماقه في تلك اللحظة، بعينين حمراوين اندفعتا الى عينيها الثابتتين، يريد في تلك اللحظة أن يزهق روحها بيديه...

تقدم صاحب المقهى من بين الجمع، فابتعد الناس قليلا ليمر، الى أن وصل الى عاصم، فنظر اليه برباطةِ جأشٍ بينما في داخله يود لو ضربه بصوطه الموروث الذي يحفظه بالداخل، لكنه قال بثبات (فلتغادر هذا المكان على الفور، و غير مسموح لك بدخوله مرة أخرى)
نظر اليه عاصم تتراوح نظراته ما بين الدهشة و الجنون المطبق، ثم هدر في وجهه قائلا بصفاقة (هل جننت؟، الا تعرف الى من تتحدث؟، بإمكاني أن أغلق لك هذا المكان من الغد).

لم تهتز عضلة في الرجل الضخم أمامه ثم قال بصرامة (وحتى تفعل ذلك لا يزال المكان مفتوحا للغد، فأخرج الآن قبل أن يرميك الرجال خارجا)
حدق عاصم في العيون التي تحمل الغضب و العنف تجاهه، بإمكانه الأن باتصال واحد أن يحضر عشرون رجلا من رجاله و عامليه الأشداء ليدمرو هذا المكان بأيديهم العارية في طرفة عين، الا أنه لم يفعل، هو في غنى عن المزيد من كل ذلك...

فليترك اولائك الحمقى ليتمتعون بانتصارهم الضعيف، بينما هي، نظر اليها و هي الأخرى تنظر اليه مبتسمة ببرود مكتفة ذراعيها من خلفهم...

فقال بهدوء مفاجىء حل عليه في لحظةٍ من الجليد الذي غلف غضبه للتو، وهذا الجليد هو أخطر حالات عاصم رشوان، (حسنا يا، أستاذة، سيكون لنا لقاءا آخر، في المكان الذي أختاره أنا حينها، وذلك المشروب الذي سكبتيه على عاصم رشوان، ستدفعين ثمنه الآن، وحينها، لكنه سيكون أضعافا حين نتقابل).

اتسعت ابتسامتها قائلة بتحدي (سأدفع ثمنه الآن لا تقلق، أما المرة المقبلة، فلتتركها للوقت فلربما دفعت ما عليك لكثيرين، يا عاصم رشوان)
ابتسم، حقا ابتسم، ابتسامة شيطانية، جانبية مريعة وهو يحرك عنقه متمهلا، ثم قال أخيرا (أراك لاحقا، يا صبا، راهني على ذلك).

ثم اندفع دافعا الناس من حوله وهو يخرج من المكان كثورٍ على استعدادٍ لنطح من يقابله، التقط هاتفه من جيبه قبل وهو على قمة الطريق وبيده الأخرى يمسح و جهه بمنديل و الذي تحول الى لزج، ما أن أجاب الطرف الثاني حتى هدر عاصم (منصور، سنبدأ في البناء، مشروع مدينة القاصية، اسمع الذي آمرك به فلتعطي الإشارة للجميع بالبدء، أريد المنازل المبنية على أرضنا أن تهدم في ظرفِ طرفة عين، أريدها صحراء خاوية فلتسويها بالأرض، هل تسمعني؟، و الكل يتم هدمه في نفس الساعة معا، اطلب كل الأوناش التي نملكها وإن لم تكفي فاستأجر العدد اللازم لهدمها في نفس الساعة).

صمت ليسمع لحظة ثم قال متشفيا بصوتٍ خطر (لا، لا لم نملك أرض عمران بعد لكنها مسألة أيام لذا فلنبدأ العمل دون تأخير، اريد المبنى القائم الوحيد وسط الركام هو بيت عمران، هل فهمت؟).

ثم أغلق الهاتف بعنفٍ و صدره يعلو و يهبط من شدة ما يشعر به في تلك اللحظة، وضع يديه في جيبه وهو يقف على الرصيف ناظرا الى البحر على الجانب الآخر من الطريق أمامه، ما الذي دهاه، في يومين اثنين فقط ارتكب أفعالا كان قد هذبها على مدى السنوات الفائتة، لتجيء تلك المستفزة صاحبة عيونِ القطط وتخرج كل ما حاول تهذيبه أو اخفاؤه على الأقل...

ما الأمر يا عاصم، الأمر ليس بتلك الصعوبة، لقد وقف في وجهك رجالا أكثر سطوة من قبل، واستطعت أن تهزمهم بكل هدوء ودون أي تجاوز، فما الأمر الآن، حتى مدينة القاصية، لم تكن بمثل هذا التعجل اليها، بل كانو الأسماء العالية هم الطالبين لها في اسرع وقت، وهو يعرف جيدا أنها بالنسبة لهم عبارة عن مخزنا للمهادة و المحاباة، فحين يشترون منه الوحدات حتى يقومون باهدائها لغيرهم لقاء الخدمات السرية و التي يعرفها الجميع لكن يتعامون...

لكنه أقنع نفسه بأن لا دور له في ذلك سوى امتلاك الأرض و بناء مدينة القاصمية، ثم بيع وحداتها، ليتصرفو فيها كما يشاؤون، لكن الأرض ملكه و هذا هو ما يهمه، لذا لم يكن متعجلا مثلهم، دائما في عمله يتبع التأني ليصل الى مبتغاه...
فما الذي حدث الآن؟، كيف تمكنت في لقائين من قلب كيانه الى هذا الحد، نظراتها المتحدية المستفزة تنفذ إلى أعماقه ما أن تلتقي بعينيه، ليجد نفسه يريد أن يخنقها بيديه، ليس تماما...

لكن الآن حين تجرأت و فعلت فعلتها المجنونة للتو على مرأى ومسمع من الرجال شعر بأنه بالفعل على وشك أن يصفعها متخطيا كل الحدود، قد يكون وقوفهم بينهما أفضل فهو حتى الآن لا يدري إن ظل ممسكا بها ما كان ليفعل...
أخذ نفسا عميقا من الهواء المعبأ برائحة البحر، قد تكون العجلة في هذه الحالة خيرا له، ولها، ولو أنها لا تستحق أن يفكر في سلامتها، الغبية المجنونة، صاحبة عيون القطط.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة