رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن
لحظاتٍ غاب فيها قلبه عن تلك الفوضى المؤلمة و الأضواء الخاطفة للأبصار في ظلام الليل من حوله، وهو يضم بين ذراعيه أهم ما استطاع انقاذه، كيف ومتى أصبحت بمثل هذه الأهمية بالنسبة له، هو حقا لا يعرف و لا يملك الاجابة، الشيء الوحيد الذي يعرفه أن شعر بأنه يفقد جزءا من قلبه كل ثانية احتاجها وصوله الى بيتها قبل أن يطمئن عليها...
شعر بها فجأة تدفعه بقوةٍ بكفيها في صدره و هي تقول بصلابة (ابتعد).
ابتعد عنها تاركا اياها مذهولا مما كان تائها فيه للتو و هو ينظر اليها تعيد لف الشال حول رأسها كيفما اتفق وخصلة حريرية تلامس جبهتها الملساء، بينما تعقد رابطة عبائتها المنزلية...
لم يتبين ملامحها التي تجمدت خلف قناعٍ بلا تعبير، همس مترددا (صبا)
رفعت عينيها اليه بشراسةٍ وهي ترفع له اصبعا محذرا و هي تقول بكل عنف (ابتعد عني، هل فهمت؟، ابتعد عني).
ثم استدارت الى بيتها الذي خبت منه ألسنة النيران و تعالت منه الأدخنة السوداء، توقفت خطواتها قليلا وهي تنظر اليه دون تعبير وكأنها تقسم و تتوعد بداخلها، ثم خطت عدة خطوات، فصرخ عاصم يناديها بغضب (صبا)
التفتت اليه دون أن تقترب و قالت بكل بأس (ماذا تريد؟، الم تكتفي بعد؟)
صدمه كلامها وهو ينظر اليها بغضب ليقول مستفهما (هل تتهمينني بما حدث؟).
ابتسمت استهزاءا بوضوح وهي تهز رأسها ثم التفتت تنوي الابتعاد عنه فصرخ مرة أخرى يتبعها (صبا، توقفي عندك حالا)
توقفت الا أنها لم تلتفت اليه بل وقفت مسمرة في مكانها الى أن شعرت به واقفا خلفها تماما و أنفاسه تهدر غضبا وهو يقول مكررا (هل تتخيلين أن لي يدا فيما حدث؟).
التفتت اليه بسرعةٍ طيرت الخصلة الناعمةِ فوق حاجبها حتى شعر بيديه تتوسلانه أن يلمسها لكنه حاول جاهد التركيز فيما تقوله (انظر في عيني وقل انها لم تكن مدبرة)
لم يرد للحظات و عيناها تتحديانه أن ينكر و لم ينكر وهو يقول مدققا في عينيها بكل وضوح (بل كانت مدبرة)
ابتسمت بقساوة بينما عيناها تلمعانِ مرارة، ترفضان الدموع وهي تقول (أشكرك على الصدق، لقد فقتم الوصف حقا).
ثم استدارت تبتعد الا انه أمسك ذراعها لتلفت اليه بعنف نافضة ذراعه بوحشية فقال محاولا الهدوء قدر الإمكان (اسمعيني جيدا، ستأتين معي)
انعقد حاجبيها قليلا وهي تقول بعدم فهم (آتي معك؟، الى أين تحديدا؟)
لم يرمش وهو يقول بهدوء (ستأتين أنتِ و فتحية الى بيتي، لن أطمئن عليكما الا هناك).
ظلت تنظر اليه بذهول وكأنه قد جن تماما ثم همست وكأنها تحدث نفسها (يالهي، لقد جننت بالفعل، أما أنك قد جننت أو أنك من الحماقة بحيث تظن أنني سأصدق تلك المسرحية الحمقاء التي تمثلها لتبعد عنك شبهة ما حدث)
لم يرد عليها وعيناه تزدادانِ قسوة وهو يراها تقترب منه رافعة اصبعها لتقول بعزمٍ ينضح الما (لكن أعدك أن ما حدث لن يمر بسهولة، سأفتح عليكم أبواب الجحيم و ستتمنون من أكبركم لأصغركم لو لم تعبثو معي).
مد يده ليمسك بكفها المرفوع يتأمله، لكنها سحبته صارخة بغضب (ابتعد عني، لقد حذرتك كثيرا)
قال لها بقلق (يدك مصابة بحروق)
نظرت الى يدها وكأنها لم تشعر بالألم من قبل ولم تلاحظها ثم قالت بمرارة (ان كان هذا سيسعدك فسأخبرك أنني كنت أحاول أن انقذ أشياء والدي الخاصة، ولم أفلح و رجلك يحملني حملا خارج البيت).
ابتلع ريقه وقال بغضب. يقترب منها خطوة (هل أذاكِ؟، أنا الذي أعطيت اليهم الامر لكي يخرجوكم سالمين من البيت، لكن إن كان قد تسبب لكِ في أي شيء ممكن أقتله)
نظرت اليه بجنون لتقول بكل احتقار (أنت حقا ميؤسا منك)
رد عاصم يقاطعها قبل أن تستفيض (وفري كلامك و اتهاماتك، ستأتين معي حتى لو اضررت لحملك مقيدة أنا الآخر الى هناك، أنت لا تدركين خطورة من تلعبين معهم).
ألجمها جنون الغضب لعدة لحظات ثم هتفت ما أن وجدت قدرتها على الكلام وهي تشير الى البوابة (أخرج، أخرج من هنا حالا، هذه أرضى و لا أريدك فوقها)
نقل نظره منها الى رجاله الواقفين على بعدٍ يراقبون ما يحدث بارتباك فصرخ بهم (الي ماذا تنظرون؟، اخرجوا جميعا الى خارج البوابة ولا أريدكم أن تغفلو النظر عن المكان).
اندفعوا خارجين من المكان فالتفت اليها بغضبٍ شرس وهو يقول بصوتٍ لا يقبل الجدل (اسمعي، أنا مقدرللحالة التي أنتِ فيها الآن، لكن لا تدفعيني أكثر من اللازم، لآخر مرة أخبرك، ستأتين معي، كما أن يدك بحاجةٍ الى عناية و الا ستلتهب حروقك).
ظلت واقفة تنظر اليه بلا تعبير الى أن تساقطت دمعة من عينيها الجامدتين الناظرتين اليه، هزته الى الأعماق و شعر بطعمٍ مؤلمٍ للغاية في حلقه، قالت بهدوء وهي تمسح دمعتيها الحزينتين (لقد أحرقتم بيتي، أحرقتم كتب أبي و رائحته داخل هذه الجدران، لكن أقسم أنني لن أترككم أبدا و لو كلفني آخر نفس).
التفتت تريد الذهاب ولم يستطع منعها تلك المرة وهي تتجه الى البيت الذي تحول طابقه العلوي الى لونٍ أسودٍ أخبره عن مدى قبحهم
استدار غير قادرا على النظر اليها أكثر وهو يرفع يديه غارزا أصابعه في خصلات شعره نافثا نفسا عميقا غاضبا وهو يشعر بالعجز، أن كانو قد بدأو قبل أن يقطع صلته بعثمان الراجي فكيف أذا عرف الآن و لا بد وأن يكون قد علم...
صرخ بصوتٍ عالٍ كالمجنون (منصووور).
وصل رجله مهرولا اليه فقال عاصم بغضب (إياكم أن تبرحوا هذا المكان، سنبيت ليلتنا هنا)
نظر منصور اليه بعدم فهم فصرخ عاصم (اجلب لي كرسيا هنا، حالاااا).
هرول منصور إلى كراسيهم في منطقة استراحة العمال في الخارج ليكون الكرسي الخشبي عند عاصم خلال دقيقة فتناوله بعنفٍ ليقوم بضربه في الأرض بكل قوته ثم ارتمى جالسا عليه مستندا برمفقيه الى ركبتيه ناظرا حوله في غضب وكأنه يتمنى من داخله أن يمسك بأحدٍ من أولئك المجرمين ليفرغ فيه كل شحنة الغضب التي تحرقه الآن.
كل تعجل في فك ارتباطه بدانا؟، إن كان هذا هو التصرف وهو حليفهم فكيف بعد أن ينقطع الرابط بينهم؟..
كم جبهة الآن عليه أن يحارب؟، ومن أجلها، من أجل عيون القطط، تأفف بنفاذ صبر وهو يفكر في نفسه بغضب أن حياته كانت مثالية قبل أن يلتقيها ومنذ أن رآها قلبت كل موازينه...
كم سيخسر بسببها الآن و كم ستتضرر علاقاته و أعماله، تأفف مرة أخرى وهو يرجع ظهره الى الخلف مستندا الى ظهر الكرسي، ليتابع تفكيره بوجوم وهو يقول لنفسه
لكن على الرغم من كل ذلك تبدو كل تلك الخسائر لا تقارن بما سيخسره، إن خسرها هي...
أغمض عينيه يشعر بالتعب ضاغطا بأصابعه بين عينيه المرهقتين، فجأة رن هاتفه فالتقطه لينظر الى الرقم ثم همس بغضب هادىءخطير (كنت أنتظرك)
رد على المكالمة بهدوءٍ لا يتناسب مع ما يشعر به حاليا، ليسمع السؤال الهادىء هو الآخر و الذي يحمل بين طياته سواد الغل (ماذا تفعل عندك يا عاصم؟)
ابتسم عاصم بشراسة وهو يرد بخطورة (احمي نطاقي، الذي تعديته وقد اخبرتك بأن هذا ليس اسلوبي).
سمع الرد الصلف (يبدو أنك قد نسيت نفسك يا عاصم، وأن الأمر قد تخطى مسألة البيت)
تنفس عاصم بشدةٍ وهو يشعر بغضب الأيام القديمة يتسرب اليه (هذا البيت و أصحابه أصبحو تحت حمايتي، و أقسم أنني سأقيم العالم من حولكم لو تكرر المساس بهم)
صوت الصمت من الطرف المقابل أخبره بوضوح أنه قد ألقى قفاز التحدي الى وجنة الجبابرة للتو، لكنه لم يهتم وهو يعرف أن هذا اليوم آتٍ لا محالة...
سمع الصوت القبيح يأتيه بخفوت (سأعتبرها نزوة يا عاصم و سأعطيك فرصة لتتعقل و تراضي دانا و تنسى كل ما يتعلق بهذا البيت الى أن، تتم مساواته بالأرض من حوله، كلنا أخذتنا الفروسية ذات يوم و تعقلنا بعدها لذا لن أحاسبك على ما فعلته).
فتح عاصم فمه ليرد برد متهور الا أنه تفاجأ بأن عثمان الراجي قد أغلق الهاتف دون أن ينتظر الإجابة، و لأول مرة لايشعر عاصم بالغضب من الإهانة، فقد منعه ذلك من التهور في الرد، فلينتظر حماه السابق المهلة و التي ستمكن عاصم من نيل بعض الوقت ليستطيع التصرف مع تلك المجنونة بالأعلى.
كانت تنظر اليه بغضب من نافذة البهو و قلبها يلتاع بنار الألم و الغضب على تحديه السافر، أخذت تحاول التقاط أنفاسها الساخنة الهائجة ثم تركت الستارة تندسل على النافذة بعنف وهي تستدير بسرعة، تلف الشال حول رأسها متجة الى الباب عاقدة العزم وهي تقول بتهور (سأطرده، هو وكل رجاله)
اقتربت فتحية منها بسرعة وهي تمسك بذراعها بقوةٍ قبل أن تتجه الى الباب لتقول بترجي (انتظري يا صبا، انتظري قليلا).
التفتت اليها صبا بجنون وهي تهتف بألم تشير الى النافذة (الا ترين مدى وقاحته، بعد أن فعل ما فعله، يجلس هناك في حديقة بيتي، رغما عني)
قالت فتحية تسعل من رائحة الدخان التي لا تزال مسيطرةٍ على المكان و قد بان عليها الخوف و الارهاق بعد ماحدث (صبا، دون أن تنفعلي، أعتقد أننا في حاجةٍ الى وجوده طالما أنكِ تشكين أن الأمر مدبر، لن نستطيع قضاء الليلة دون حارس).
صرخت صبا بينما عينيها تلمعانِ بدموعٍ حبيسة (هل صدقتِ أن لا دخل له بما حدث؟)
ارتبكت فتحية وهي تشعر بالأسى من ألم صبا لكنها قالت بتردد على أية حال (أعرف أنكِ ستغضبين، لكن قلبي يخبرني أن لا دخل له بالأمر، و أنا قلبي لا يخطئني أبدا)
فتحت صبا فمها تريد أن تصرخ بجنون، لكنها عادت لتغلقه وهي تحاول كتم دموعها التي أخذت تخز عينيها، فأخذتها فتحية بين أحضانها، حينها لم تتمالك نفسها من الإنفجار بكاءا بشدة.
ولم تعلم كم استمر بكاؤها و قد أنهكها كل الضغط الذي تعرضت له على أيديهم الملوثة، نامت أخيرا واضعة رأسها على ركبتي فتحية التي كانت تهدهدها و تلاعب شعرها بحنان هامسة لها عن بعض ذكرياتها حين كانت طفلة تلعب في فناء هذا البيت...
ابتسمت صبا من بين دموعها وهي تحن الى كل ذكرى همست بها فتحية، لتغيب عنها رائحة الدخان و تتوه عن عينيها منظر ألسنة اللهب و تسافر الى أيامٍ بعيدة...
تذكرت والدها حين كان يستيفظ من قبل شروق الشمس، وكانت تستيقظ كذلك على صوت أذاعة القرآن الكريم، تقفز من فراشها وتجري حافية القدمين الصغيرتين على درجات السلم تراه لايزال راكعا على سجادة الصلاة، اتسعت ابتسامتها وهي ترى تلك الطفلة تجري لتعتلي ظهره فيضحك بسرورٍ لينحني بها على السجادة و يستقيم معيدا حركته عدة مرات وهو يؤرجحها، وهي تنفجر ضاحكة ككلِ يوم...
لا يزال صوته في أذنيها قويا وهو يقول متذمرا (أمك الكسولة لا تزال نائمة الى الآن، وقد أوشكت الشمس على الشروق، هذا تسيب لا يُقبل به هيا لنزعجها).
ضحكت ضحكة مختنقة بدموعها تتذكر وهو يحملها ككل ِ صباحِ فوق كتفيه ليتجها الى خارج غرفة نوم والديها دون أن يدخلا ثم يبدآ غنائهما العالي بالنشيد المدرسي الذي تعلمته في الروضة، يعيدانه و يكررانه ولا يتوقفا الى أن يفتح باب الغرفة و تطل عليهم أجمل امرأة رأتها يوما، تقف في اطار الباب بثوبِ نومها الأبيض الهفهاف و شعرها النحاسي الناعم المنسدل على كتفيها وهي تنظر اليهما مبتسمة بغضبٍ زائف، تقول ككل يوم (ألم تنتهيا بعد).
ضحكت صبا وهي تبكي بشدة. مرتمية على حجر فتحية التي شددت من ضمها وهدهددتها أكثر، همست صبا من بين بكائها (لقد اشتقت اليهما، اشتقت اليهما جدا، الوحدة تقتلني بدونهما)
قالت فتحية التي تغالب دموعها بصعوبة (وماذا أفعل أنا هنا؟)
نشجت صبا بضعف وهي تقول (لولا وجودك لما تحملت وحدتي أبدا)
أخذت فتحية تربت على رأسها في رفق الى أن راحت في سباتٍ عميق فوق الأريكة الوثيرة بعد أن تلف معظم الطابق العلوي.
لم تمر سوى بضع ساعات من آخر الليل حتى أشرقت الشمس بعد تلك الليلة العاصفة، ليفاجأ عاصم الذي لم يغمض له جفن بأن باب البيت يفتح و تخرج منه صبا بكلِ عزمٍ لتغلقه خلفها بإحكام نازلة السلالم القليلة وهي تتجاوزه دون حتى أن تنظر اليه وكأنه غير موجود، جميلة، نعم صحيح حمقاء مجنونة عنيدة بشكلٍ غبي، لكن جميلة وهي ترتدي ثوبا أبيض ناعم يتطاير مع كاحليها و حجابا ورديا حتى بدت كحلمٍ ناعم لا يتناسب مع مرارة ما حدث ليلة أمس...
نهض من مقعده بسرعةٍ ليعترض طريقها قائلا بلهجةٍ تهديدية (الى أين؟)
اضطرت للوقوف مكانها بعد أن سد عليها الطريق بضخامته المزعجة وما أن سمعت سؤاله الوقح حتى قالت ببرود (وما شأنك؟)
مد يده يمسح بها صفحة وجهه وقد نال منه التعب و الاستفزاز وهو يقول مغمضا عينيه (استغفر الله العظيم، سألت سؤال و أريد اجابة)
قالت صبا و قد نوت الا تدعه يستفزها (ليس لك دخل و اخرج من هنا).
أخذ نفسا عميقا و قد اوشك على التصرف تصرفا سيندم عليه بعد ذلك، لذا قال بهدوء بعد لحظة (صبا، هلا تكرمتِ و أخبرتني الى أين أنتِ ذاهبة؟، فالوضع ليس آمنا الآن).
رفعت حاجبا متحديا وهي تنظر اليه نظرة أقلقته الى أن سمعها تقول ما كان يخشاه (لا، طمئن نفسك يا سيد عاصم و عد الى بيتك، فالوضع سيكون آمنا منذ اليوم خاصة بعد المحضر الذي سأسجله في قسم الشرطة و لن أسكت حتى أحصل على أمر بعدم التعرض منكم واحد واحد، و خاصة أنني سجلت مكالمات التهديد)
عاد ليغمض عينيه وهو يقول بيأسٍ أوشك على الإنفجار (نعم، نعم، هذا ماكان ينقص في تلك الفترة).
فتح عينيه وهو ينوي بكل الوسائل عن منعها عما تعتزمه، الا أنه فوجىء باختفائها من أمامه، استدار بسرعةٍ ليجدها متجهة بكل عزمٍ إلى البوابة، فقطع المسافة بينهما في خطوتين وهو يقول بصرامة (صبا، صبا انتظري).
ولم يتوقع ان تلتفت اليه بابتسامةٍ سلبت قدرته على التنفس وهي تقول ما أعاد تلك القدرة مرة أخرى بل و الرغبة في ضربها (كما أريد أن أخبرك أنني سأقيم دعوى قضائية ضد شريكك، حوت الساعة عثمان الراجي، و لدي أوراقا سترسله في رحلةٍ طويلة الى غير رجعة، فلتخبره ليبدأ في جمع فريق محاماته منذ الآن).
فتح عينيه على اتساعهما وهو يسمع ما قالت للتو و لعدة لحظات لم يجد ما يرد به أمام ما شعر به من هلع، وهي أيضا لم تنصرف وهي مستمتعة بمظاهر ذهوله المتناقضة مع قساوة ملامحه ثم قالت تسبقه في الكلام متظاهرة بالأسف (أعلم أنك خاطب ابنته، لكن ما باليد حيلة، لقد وصل ليدي ما لن أستطيع كتمانه)
رفع يده بعد عدة لحظات ليظهر لها يده الخالية من الخواتم ثم قال بخفوت (لم يعد يربطني به سوى مدينة القاصمية، و أنتِ).
كانت تنظر لأصابعه المفرودة أمامها الى أن سمعت كلمته الأخيرة فرفعت عينيها إلى عينيه بعدم فهم وهي تقول (أنا؟)
تنهد بتعبٍ وهو يقول (نعم أنتِ، أنتِ الشيء الوحيد الذي يمنعني عن اتخاذ أي خطوة، سواء ضدهم أو في البدء بالمدينة)
ابتسمت بجفاء وهي تخبره بنظرةٍ أبلغ من الكلام عن رأيها به و قد أغضبه هذا بشدة، كم يكره أنه يستطيع قراءة افكارها بكل سهولة و أغلبها أفكار لا يحب قرائتها...
أبعد أفكاره الغاضبة ليقول محاولا التحكم في نبرة صوته (ابتعدي عنهم يا صبا، و بالأخص هو، أنا لن أستطيع أن أمنعه عنكِ طويلا)
هزت كتفيها ساخرة تقول (ومن طلب منك؟)
رفع يديه الى السماء وهو يستشيط غضبا مستديرا عنها حتى لا يتهور عليها، فتابعت سيرها وهي مبتسمة بكلِ الكره الذي تحمله في داخلها مما فعلوه بها.
لكنها تسمرت مكانها حين نادا ها يقول بصوتٍ قوي (أتتزوجيني يا صبا؟).
التفتت اليه وهي تنظر اليه بذهول رافعة و كأنها تنظر الى معتوه، وهي تراقبه يقترب منها متابعا بقوة (تزوجيني و اتركي هذا الأمر لي، سيكون لكِ بيت من أروع ما رايت يوما هنا في المدينة و في نفس المكان إن احببتِ، سأغير التصميم كله إن وافقتِ، ستجدين كل ما حلمتِ به يوما، و ابتعدي عن عثمان الراجي، وافقي، فقط وافقي و سترين ما سأحققه لكِ).
ظلت تنظر اليه و ذهولها يزداد مع كل كلمةٍ ينطق بها و ما أن انتهى حتى ساد الصمت بينهما تماما الى أن قالت بهدوء خافت (أريدك أن تخرج من أملاكي، و لا أرغب في رؤيتك مرة أخرى)
دخل عاصم إلى البيت في ساعات الصباح الأولى يبدو على وجهه علامات الغضب الأحمق، وما أن أغلق الباب خلفه حتى اقترب مالك بسرعة وخلفه حنين التي نادت بصوتٍ عالٍ (لقد وصل عاصم يا عمتي).
وصل مالك الى عاصم وهو ينظر اليه بقلق قائلا بحدة (عاصم، ما الذي جرى منذ أن خرجت دانا من هنا غاضبة ليلة أمس و خرجت خلفها جريا؟، و أين قضيت ليلتك؟، حتى الهاتف كنت تغلقه ما أن نطلبك)
نظر عاصم الى مالك و قد بدت هيئته مجنونة بقميصه الغير مرتب و ذقنه النامية و شعره المشعث و قال بعينين حمراوين من شدة الغضب (ليس هناك دانا بعد الآن لقد أنهيت الخطبة أمس، ولا أريد ذكر الموضوع مجددا، مفهوم؟).
أومأ مالك و حنين برأسيهما بمنتهى الاحترام و الطاعة بعيونٍ متسعة، وما أن استدار عاصم حتى أخذ مالك يرقص رقصة المطاوي الشهيرة عند سكان السواحل، و كذلك حنين ترقص صمتا دون صوت...
لكن عاصم التفت اثناء تأديتهم للإستعراض الصامت ليثبتو تماما عائدين الى الإحترام و الإتزان ليقول عاصم بمنتهى القوة من أعلى السلم (و سأتزوج من فتاة أخرى، حتى لا تفاجؤا بالأمر).
ظلا ناظرين الى أثره بعد أن اختفى بذهول وقد تسمرا مكانهما حتى وصلت الحاجة روعة تلهث من صعوبة هرولتها وهي تقول (أين عاصم؟، و أين قضى ليلته؟)
أفاق مالك من تسمره ليقول بوجوم (افرحي يا روعة، ابنك ترك دانا أخيرا)
رفعت الحاجة روعة يدها الى فمها وهي تزغرد عاليا، وما أن انتهت حتى أكملت حنين بنفس وجوم مالك (وسيتزوج فتاة أخرى قريبا، على ما يبدو أنه قابلها وهو في طريقه الى هنا صباحا).
أنزلت الحاجة روعة يدها وهي تقف الى جوارهم بنفس الوجوم ناظرين الى السلم كالبؤساء...
كانت جالسة جلستها اليومية منذ اسبوع. على الأريكة القديمة ذات الغطاء المزركش المتآكل و الموجدة تحت النافذة، رافعة ركبتيها الى صدرها تنظر إلى البحر بأمواجه و تلاطمها، شعرها يتطاير مع نسماته المحملة اليها بعذوبة وكأنها تواسيها و تربت على كبريائها المهدور بسلاسةٍ على مدى سبع ايام.
لقد طاب وجهها من كدماته و عاد لروعته من جديد، فلماذا تشعر بأنها لازالت مجروحة مهزومة مكسورة النفس إلى هذا الحد؟..
استاذ، استاذ في كسر الخاطر بكل جدارة، ...
كانت تظنه سيثور، سيغضب يوما بعد يوم لتستطيع احتواء ثورته وغضبه و توجيههما الى عاطفةٍ تقربه منها، الأ انه على ما يبدو ليس مهتما حتى...
البرود، ذلك السلاح ذو الحد الغير قاطع و الذي يقتل قتلا بطيئا مؤلما...
منذ تلك الليلة التي طردها فيها من غرفته وهو يتجاهلها تماما وكأنها غير موجودة معه في البيت، و الأدهى أنه يصطحب معتز معه صباحا ليتركه برفقة علية في محل الأسماك الذي تملكه...
تلك الليلة التي طردها فيها من غرفته، لم تنم للحظة وهي تتقلب بجنون على فراشٍ من جمر، نهضت اكثر من مرةٍ تتجه بقدميها الحافيتين الى باب غرفته تريد، ماذا تريد؟، تسال نفسها كل مرةٍ و يدها على مقبض الباب، وحين لا تجد الاجابة تبعد يدها وتبتعد بيأسٍ قاتل الى غرفتها الغارفة لتبقى فيها وحيدة...
فبالبرغم من كلِ جرأتها و حزمها الا أنها ما أن سمعت أمره المهين حتى نظرت اليه مصعوقة فاغرة شفتيها تخرج انفاسا مذهولة، ودون حتى أن تجادله خرجت جريا تعد خطواتها لتصل الى الباب ومنه الى غرفتها لترتمي في سريرها دافنة وجهها بين أغطيته باكية بكلِ مرارة غير آبهة أن يستمع الى بكائها العالي فقد أهانها و ارتاح فما يضيرها أن يسمع بكائها أيضا...
وطبعا لم يهتم، أكثر من مرة تتجه الى غرفته بعينين متورمتين ثم تعود حتى باتت المسافة بين غرفتيهما طريقا مدروسا لقدميها اليائستين وقلبها المثقل...
وحين أشرق الصباح بخجلٍ رمادي شاحب سمعت أصواته وهو يتحرج خارج غرفتها، يأخذه حمامه، يتجه الى غرفته...
تكاد تراه أمام عينيها رغم الأبواب المغلقة، تنهدت يائسة ثم نهضت بجنون من فراشها لتخلع القميص الأحمر الملعون و ترميه أرضا بكل يأس و ترتدي روبها الأبيض الحريري الذي يسترها بالكامل، فهي لن تستطيع تحمل اذلالا كالليلة الماضية ابدا
اتجهت الى غرفته بتردد فوجدت الباب مفتوحا، وقفت به مترددةٍ وكأنه نجح في كسر مغوية الأمس الساحرة الواثقة من سحرها لتحل محلها شابة تتوق اليه مرعوبة من أن يطردها مرة أخرى.
شاهدته يرتدي قميصه ناظرا بلا تعبير الى مرآته، كم هو أمير تماما كما تمنته، حتى في هذا المكان البسيط تتجلى جاذبيته.
التفت بعد أن انتهى ليفاجأ بها واقفة أمامه تنظر اليه شاردة في كل تفصيلةٍ من تفاصيله، حتى أنها لم تنتبه اليه يحدق بها للحظات، وما أن التقت عيناهما حتى رمشت بارتباك جديد عليها فأخفضت نظرها لاعنة نفسها أنها لم تتطلع الى مرآتها قبل القدوم اليه. فأكيد أن عينيها متورمتين تحيط بهما الهالات من عدم النوم. الكدمات ظاهرة على وجهها الشاحب قبل أن يتسنى لها أن تخفيها، وشعرها م تلمسه فرشاة منذ الأمس، لابد أن منظرها عبارة عن كارثة حقيقية الآن...
لم يتكلم وهو ينظر الى عينيها طويلا بلا تعبيير، فترددت تقول بخفوت (هل أنت ذاهب الى عملك؟)
أجاب بفتور بعد لحظات (نعم)
نعم!، فقط، دون أي كلمة ترضية، دون ضمة مواساة على الليلة الماضية، لو يخبرها عذر، اي عذر تتحجج به لترضي قلبها المكسور و كرامتها الجريحة بعد كل فترة البعد بينهما...
لكنه لم يحاول حتى و ظل واقفا متصلبا كتمثالٍ قاسٍ ينتظر ذهابها ليكمل ما يفعل دون رفقتها الغير مرغوب فيها...
ظلت واقفة مكانها، تتعثر و تلوي في أصابع قدميها مطرقة برأسها بينما تعبث أصابعها المرتجفة بعقدة الروب، لماذا لازالت واقفة هنا؟ هي نفسها لا تدري ماذا تنظر، المزيد من الإهانة ربما؟..
سمعت صوت نادر يقول بهدوء (سأغيب اليوم لوقتٍ متأخر، طبعا لا لزوم لأن أخبركِ أن الخروج من باب هذا البيت ممنوع، مفهوم؟)
رفعت نظرها المجهد اليه و همست ترمش بعدم فهم (لماذا، ممنوع خروجي؟).
استدار يجلس على السرير ليرتدي حذاؤه وهو يقول بصوتٍ ازدادت برودته (الخروج هنا له حساب آخر، و السيدات المتزوجات لا يخرجن الا للضروريات فقط)
لم تفهم بعد، طبعا تفهم أن أمها لم تكن تطأ قدمها خارج البيت الا لشراء أغراض البيت أثناء طفولتهم في الحي القديم، لكن هي حور؟، ماذا المفترض بها أن تفعل؟، تنتظره الى أن يأتي؟..
همست بذلك بشرود فتطلع اليها و قال بمنتهى البرود الذي جمد قلبها (لا طبعا، لا تنتظريني، نامي مبكرا)
في لحظةٍ واحدة انتقل بروده اليها لترتدي قناعها الثلجي المعتادة عليه فقالت بتصلب (لا تقلق، لن أفعل)
أومأ لها مبتسما بسخرية لكمت قلبها وهي تراه يتابع ما يفعل دون أي اعتبار ٍ لها، فقالت بتصلف (أريد معتز الآن وقبل أن تذهب الى العمل، وليكن في علمك، هذه آخر مرة سيذهب فيها الى علية تلك).
ابتسم، دون أي أثرٍ للمرح على شفتيه وفي عينيه و انتظر لحظة ليجيب بكل هدوء (بالنسبة للآن، لن أستطيع أن أحضره اليكِ لأنني سأتأخر، لذا ستنتظرين الى أن تبعثه عليةٍ مع أحد رجالها حين تجحد الفرصة).
حاولت الجدال معه و قد ارتسمت العصبية على وجهها فرفع يده مسكتا إياها وهو يقول بصرامةٍ وقد اشتد صوته (لا تجادلي، كان بإمكانك الرفض ليلة أمس لكنك لم تفعلي، أما بالنسبة لعلية فهي سترى معتز كلما أرادت و هي أدرى الناس في التعامل معه وقد تعلق بها، لذا لن أحرمه منها لمجرد أنكِ تصابين بين الحين و الآخر برغبةٍ مهووسة في الاستئثار بأي شيء)
صرخت وقد انتابها الجنون من هولِ ما يقول (لكنه ابني و أنا).
قام من مكانه بحدةٍ و صرخ هو الأخر بصرامةٍ أفزعتها (انتهى الموضوع)
اتسعت عيناها و ارتعشت خوفا وهي تراه بمثل هذه الصرامة، رأتها من قبل عدة مرات قليلة لكنها كانت كفيلة بإعلامها أن نادر حين يصل الى تلك النبرة فليس من الحكمة استفزازه أكثر.
صمتت تبتعد عنه قليلا وقد اهتزت حدقتاها خوفا، لكنه لم يسمح لها بالإبتعاد حين أمسك ذراعها يشدها اليه بعنف حتى ارتطمت به فقال مقربا وجهه من وجهها (إن أردتِ الحق يا حور فأنا سأكون أكثر اطمئنانا عليه معها أكثر منه عندك)
ظل ينظر الى عينيها المشتعلينِ بنارِ الكره له وهما تمتلئانِ في لحظةٍ بالدموع حتى باتت الرؤية مشوشة لديها، لكن دون أن تضعف ملامحها المتصلبة وهي رافعة رأسها اليه رغم ارتجاف جسدها.
ظل يتطلع الى بركتين الدموع وهما تشعانِ قهرا فقال يسأل بتهذيب (هل يمكنك الاعتراض؟، مرة كاد معتز ان يفقد حياته نتيجة هفوة حمقاء من هفواتك، فكيف ائتمنه معكِ بمفردكما؟)
ظلت صامتة تنظر اليه وقد انحدرت الدمعتانِ الثقيلتانِ على وجنتيها، ثم همست بشفاهٍ ترتجف بينما العينان الدامعتانِ صلبتان (معتز ابني، و كل أم تخطىء).
لم يرد عليها للحظات وهو يراقب اهتزازها من بين جمودها ليقول بعدها بهدوء (و أنا وظيفتي أن أحميه، لذا لا تدفعيني كثيرا يا حور، أردت أن تأتِ الى هنا وقد أتيتِ اذن ستبقين بشروطي، لا كلام آخر عندي لأقوله لكِ)
لم تستطع النطق بكلمةٍ وهي تشعر بنفسها مقهورة محطمة، لكنه لم يقبل أن يتركها بعد وهو ينظر الى عنق الروب المفتوح بحرية.
و أطال النظر اليها ثم قال بلامبالاة حطمتها تماما (ماعرضتِه على بالأمس. نلته بالفعل منذ سنوات يا حور، لذا فكري جيدا في ما تملكين و يكون ذا قيمة)
تتابع انحدار الدموع الناعمة بصمت و عينيها تتطلعانِ اليه بعذاب وهي تفكر انها تستحق ذلك تماما، كان يجب ان تتوقع ذلك حين دخلت غرفته هذا الصباح. مستجدية منه نظرة بعد ليلة الأمس التي قضت على كل ما تبقى من احترامها لنفسها.
مد اصبعا ليمسح به خط الدموع من على وجنتها. ليقول بعد فترةٍ (إن كنتِ تتألمين الآن يا حور، فثقي تماما أنكِ قد تتسببتِ في الاذى لكلِ من حولك بأضعاف ما تشعرين به الآن لمجرد أن رغبة من رغباتك لم تحقق)
ثم دون كلمةٍ أخرى انصرف تاركا إياها واقفة تبكي في صمت، وكانت تعتقد أن دموعها قد نضبت كلها ليلة أمس، ...
وها هي بعد اسبوع كامل قد وصلت الى مرحلةٍ من انهيار الاعصاب لم تصل اليها من قبل، وهي تعيش كل يومٍ على نفس المنوال حيث يقابلها نادر بصمتٍ لا يقطعه سوى كلمة أو أخرى حين الضرورة القصوى، يخرج لعمله مبكرا مصطحبا معتز معه ليتركه يلعب تحت أنظار المدعوة علية وحين تجرؤ على معارضته معذبة بيأس تنال منه ما لم تناله من كلامٍ كالسهام النافذة...
حتى أنه أغلب الأيام كان ينام عند علية و بين أحضانها، وفي يومين فقط أعاده نادر لينام بجوار حور، وكانت ليلتين كارثتين حيث ظل معتز يبكي طوال الليل
، يرفض النظر الى حور حتى أنه لا يفهمها وهي تكلمه و تحاول الإشارة بعشوائية دون جدوى الى أن صرخت فيه بهستيرية في النهاية، لحظتها دخل نادر الى الغرفة بكلِ هدوءٍ ليبتسم لمعتز الذي احمر وجهه و تورم من شدة البكاء...
ثم جذب حور من ذراعها الى خارج الغرفة وما أن خرج بها الى الرواق حتى دفعها بقسوةٍ الى الجدار لينفجر فيها صارخا (إياكِ أن تصرخي به مرة أخرى، إياك ِ)
صرخت بجنون بالرغم رعبها من غضبه، لكن شدة الارهاق جعلتها تصرخ بآخر ما كان يجب أن تنطق به (وماذا فيها؟، إن كان لا يسمعني أصلااااا).
صمت تماما و صمتت هي وهي تدرك هول ما نطقت به أمام نادر بالذات و الذي تحولت عيناه الى جمرتي نار، بينما هي متسعة العينين برعب وهي تراه يرفع يده عاليا و كأنه سيصفعها، صرخت صرخة صغيرة وهي تغمض عينيها مرتجفة تنتظر الضربة أن تهبط على وجنتها، لكنها انتفضت حين شعرت بقبضةٍ قوية ضربت الحائط بجانب وجهها...
فتحت عينيها ترتعش بخوف وهي تنظر الى الكره المدفون في عمقِ عينيه، كره أبٍ لشخصٍ أهان ابنه للتو و ضغط على اعاقته، متناسيا أنها أيضا أمه...
نظر الى عينيها وهو يقول بصوتٍ صارم خفت وهو يحوي بعض الألم (لكنه يخاف، تماما كما خفتِ أنتِ للتو)
ثم نفض يده عن ذراعها وكأنها ستلوثه و اتجه الى غرفتها ليحمل معتز الباكي بين أحضانه متجها به الى غرفته...
انزلقت على الحائط وهي مغمضة عينيها تبكي بغارة الى أن وصلت الى الأرض جالسة، تشهق وهي تشعر بألمٍ حادٍ يمزقها.
دقائق معدودة وهي على نفس جلستها الباكية المنهارة، لتدرك فجأة أن معتز توقف عن البكاء، و أنه لابد وأن يكون قد نام في أحضان نادر...
تذكرت مجريات أسبوعها كله في تلك اللحظات و هي جالسة تنظر إلى البحر و المراكب الصغيرة المترامية على شاطئه، زادت من ضم ركبتيها الى صدرها بألم، بدأت تتأكد من أنه يكرهها بالفعل...
لم يضعف مرة، ولم يستسلم لضعفِ النظرة التي يتأملها بها، وكأنه يخبراها أنه يراها بكل ما فيها ليتأمل مواطن جمالها ثم يبتعد مخبرا إيها أنها مواطنٌ لا تكفيه ولا تشبعه، فقط بعض النظرات التي يسلي بها رجولته ثم ينصرف تاركا إياها الى وحدتها و غربتها في ذلك المنفى الشبيه ببيتهم القديم...
مالت برأسها تستند الى حافة النافذة المفتوحة ليطير الهواء خصلاتِ شعرها و يرميها على صفحة وجهها فأغمضت عينيها دون أن تحاول حتى أن ترفع يدها و تزيحها...
عادت الذكرى لتطير بها الى ليلةِ زفافها، ليلة نالت نجمة من نجوم السماء وفي لحظةٍ كالسهم بات اسمها مقترنا باسمه
ابتسمت للذكرى التي لا تملك سواها وهي تدخل غرفة الفندق حاملة طرفي ثوبها الأسطوري وكأنها تدوس بقدميها على سحابة وردية.
وكان هو صامتا معظم حفل الزفاف، لا يظهر عليه علامات البهجة التي تشتعل من حوله و الجميع يتضاربون في زوبعة صارخة هي فرح حور رشوان، و الذي أصرت على تكلفته بكل ما يمكن أن يتخيله انسان من كل أنواع البذخ و الترف.
و طبعا الحاج اسماعيل لم يتأخر وهو يلبي لقرة عينه ما طلبته، بالرغم من أن نادر لم يكن يستطيع ماديا التكفل بهذا العبء المادي الضخم و اصر غاضبا على أن يكون حفل الزفاف على قدر امكانياته المادية و كاد أن يشب خلافا كبيرا بين الجميع لولا ان تمت تسوية الأمر، و استسلم نادر على مضض لذلك الاستعراض الوهمي و الذي تكلف ما يكفي لعلاج عشرات الأطفال المرضى بأمراضٍ خطيرة...
وحين أصبحا وحدهما استسلم نادر لقوقعة الصمت التي تحجب عنها أفكاره، راقبته وهو يتحرك في الغرفة تاركا إياها خلفه بثوبِ زفافها، تلوي قماشه الشفاف البراق بين أصابعها بتوتر، وهي تتحمل تبعات زواجهما السريع، فقد سرقتها الفرحة دون أن تفكر فعليا من خطورة الزواج من شخصٍ تزوج بدافعٍ ليس ما يتمناه حقا...
لعلها متأكدة من أنها ستفوز به كامله يوما، لكنها الآن وحدها معه وهو بالكاد ينظر اليها بالرغم من تهذيبه الشديد، اقتربت ببطءٍ منه وهو يقف محدقا الى أضواء المدينة بالأسفل في ذلك المنظر الخرافي الجمال المطلة عليه غرفة الفندق الفخم...
كم كانت تشعر بالخجل وقتها، على الرغم من كلِ لوعها و خبثها الا أنها تتذكر تماما ارتباكها في تلك اللحظة وهي تقف خلفه وتهمس بصوتٍ لا يسمع (نادر، هل أنت غاضب مني؟).
التفت اليها ببطء لينظر الى جمالها الأخاذ دفعة واحدة وقد بدت كملكة متوجة بكل هذا الكم من الماسات التي تزين ثوبها و ترحة زفافها، ثم رد عليها بهدوء (لماذا تقولين ذلك؟)
رمشت بعينيها الحالمتين والكلمات تضيع منها في لحظةٍ لتعود اليها وهي تهمس بصدقٍ ظهر واضحا في صوتها (لأنك، لأنك لم تكن تريد هذا الزواج، أنت فعلت ذلك من أجلي فقط).
لن تنسى أبدا نظرة عينيه التي رقت و انبعث فيها حنانٌ اشتاقت اليه وهو يهمس مداعبا (ما معنى أن تزوجتك من أجلك فقط؟، وهل يتزوج الرجل لأي سببٍ آخر غير من سيتزوجها؟)
شعرت بالغباء وهي تخطىء تماما في التعبير بالرغم من أنها متأكدة أنه فهمها تماما فأخفضت نظرها أرضا وهي تزداد ارتباكا وهمست بتلعثم (أنت، أنت تدرك، ما أقصده).
لم تجرؤ على النظر اليه، ظلت تنظر أرضا تتأرجح في مكانها بتوتر و قد أوشك قلبها على أن يقفز خارج ضلوعها، الى أن سمعته يقول بهدوء (فلنتفق على أن ننسى هذا الأمر ونبدأ حياة جديدة، فما رأيك؟)
ودون ارادة منها أو تفكير همست وقد امتلأت عينيها بدموعٍ حقيقيةٍ دون تزييف (لكنك، لم تفكر يوما في الزواج، مني).
لم يرد عليها، مرت اللحظات البطيئة بينهما دون أن تستطيع النظر اليه و صمته مزقها بشدةٍ، لكنها فجأة شعرت بيده تلمس ظهرها و تقربها منه الى أن ضمها لصدره، فتوقفت أنفاسها من هولِ ما شعرت به فردت أصابعها المرتجفة على صدره وهي لا تنظر لأبعد من عنقه السمراء، لم يلمسها أبدا طوال فترة عقد القران التي مضت قبل أن تبدأ و بأمر من عاصم الا يتقابلا خلالها الى وقتِ زفافهما، ونادر لم يعترض أبدا...
أغمضت عينيها وهي تشعر بشفتيه تلمسانِ جبهتها بكل نعومة فتتنهد متمنية أن يبقيها في دفء قلبه طويلا، لكنه رفع رأسه ليقول برقة (لنبدأ حياة جديد، اتفقنا؟)
شعرت أن نصل خنجرٍ حادٍ قد نفذ الى قلبها وهو لم يفني ما قالته، رغم علمها به جيدا، لكنها كانت تتمنى لو أنكره، لكانت صدقته بكل جوارحها لكنه لم يفعل، وكأنه لم يرد أن يبدأ حياته الجديدة معها على كذبة، تماما عكس ما فعلت هي.
انحدرت دمعتانِ على وجنتيها دون أن تستطيع منعهما، فأمسك بذقنها يرفع وجهها اليه و حين التقت أعينهما اغروقت عينيها أكثر بالدموع التي تتالت على وجنتيها بصمت
ظل ينظر إلى دموعها الصامتة طويلا وكأنه يشعر بالذنب لأنها أبكاها رغما عنه ليلة زفافهما، لذا همست وهي ترتجف باكية بين ذراعيه (أنا أحبك، أحببتك منذ أول مرة رأيتك فيها).
انعقد حاجباه قليلا وهو ينظر اليها بدهشةٍ وهي تلقي بأسلحتها معترفة بحبه، وحين لم يجد ما يرد به عليها طويلا، أجشت في البكاء بكل عنف، حاولت الابتعاد عنه وهي تدفع صدره باكية
الا أنه لم يسمح لها وهو يقيدها بذراعيه بقوةٍ مكبلا مقاومتها بسهولةٍ ليقول لها بصوتٍ عميق بعد انتخلت عن المقاومةِ دون البكاء (لنعطي أنفسنا فرصة، الوقت كفيلٌ بذلك).
أغمضت عينيها تبكي دون توقف، حاول تهدئتها دون جدوى و نحيبها يتزايد الى أن ضمها اليه بقوةٍ، وهو يلصق فكه بجبهتها هامسا (اريد لهذا الزواج ان ينجح، ثقي في ذلك)
رفعت عينيها الباكيتين اليه وهي تنشج بأسى لكن أهدى قليلا ثم تنهدت بقوةٍ تبتلع باقي بكائها كالأطفال و أومأت برأسها بضعف
حينها شاهدت الحنان يتضاعف في عينيه أنهارا، وكم رغبت في تلك اللحظة في أن تجثو عند قدميه وتترجاه لكي يحبها...
ابتسمت له رغم الدموع بشكلٍ عصف بقلبه فانحنى ليقبل وجنتها بكل رفق و هو يراها تلك الطفلة المهزوزة التي لحقت به لكل مكان و التي أصبحت الآن زوجته.
وحين رفع رأسه قليلا نظر الى عينيها الجميلتين فسمرته طويلا في مكانه، لينحني مرة أخرى و قد أسرت شفتيها المكتنزتين المرتجفتين عينيه، لتجذبه اليهما بتصويرٍ بطىء، مسحورا بهما، ليقبلهما فجأة دون مقدمات وكأنه فقد السيطرة على مقاومته أخيرا...
لازالت تتذكر تلك النار السائلة التي اندفعت في شرايينها كالحمم وهي تتلقى قبلته العنيفة التي تناقضت مع الحنان الظاهر في عينيه منذ لحظات و كأنه رجلا فقد صبره أخيرا ليشبع جوعا اليها.
رفع رأسه مدهوشا، ناظرا الى نظراتها التي تعمقت بعاطفةٍ مجنونةٍ، فهمس وكأنه لا يصدق عمق تلك المشاعر الخفية بينهما (حووور).
لينحني مرة اخرى بقوةٍ اشد ملتهما شفتيها النضرتين بكلِ شوق، لترتفع على اطرافِ اصابعها متعلقةٍ بعنقه تبادله شوقه بكلِ جرأةٍ لم تكن تعلم أنها تملكها من قبل ان تعرفه، تأوهت منتفضة وهي تشعر بيديه الدافئتين على بشرة ظهرها الناعمة...
وحين رفعها بين ذراعيه متجها بها الى الفراش، علمت أنها لن تنسى أبدا نظرته لها، لن تنسى أبدا تلك الليلة التي ذابا فيها عشقا بالرغم من كل الحواجز التي تفصلهما، ولن تنسى مدى حنانه و رقته معها، كل همسةٍ همس بها ملامسا عنقها، و أن عينيها هما أجمل ما رأى...
حينها همست لنفسها انه هو وحده من تريده، وهو سيغنيها عن باقي الناس لو اقتضى الأمر، و لو عاد الزمن لكانت ستعيد ما فعلت.
أغمضت عينيها بألم وهي تتذكر ليلة زفافها التي كانت ربما الليلة الصادقة المشاعر الوحيدة بينهما، المرة الوحيدة التي شعرت أنها جميلة في عينيه، ومن بعدها ضاع هذا الإحساس...
كم تتمنى أن تعود، كم تتمنى، وما أرادته منذ اسبوع هو تمنيا يائسا لتعيش ليلة كتلك الليلة التي احتواها فيها نادر بين ضلوعه.
أفاقت من ذكرياتها الحزينة على صوت جرس الباب القديم الصوت، لا بد أن هذا هو رجل علية يعيد اليها معتز، مسحت دموعها بصمت وهي تتجه الى الباب بحسرةٍ، حتى الطعام تبعثه علية مع رجلها الى حور كل يومٍ وكأنها عاجزة تماما، لكنها بالفعل عاجزة عن فعل مثل هذه الأشياء و لم تكن تتخيل أن الحياة في بيتٍ بمفردها يمكن أن تكون بمثل هذه الصعوبة.
فتحت الباب بتعب و تباطؤ، لتفاجأ بأن من أمامها هي علية بنفسها و اقفة ممسكة بمعتز بيد، وبحقيبة الطعام اليومية باليد الأخرى
لم تستطع حور حتى التظاهر بالابتسام وهي تعلم علم اليقين أن علية بدورها تعرف أنها مفروضة على حياة حور بدافعٍ من نادر نفسه
ابتسمت علية بهدوءٍ مستفزٍ قاتل وهي تقول (مساء الخير يا حور).
أغلقت هاتفها بعنف ثم رمته على السرير بجوارها وهي تبكي بشدةٍ، عاد الهاتف ليرن من جديد فالتقطتته دون أن تنظر إلى الرقم وهي تقول بصوتٍ مختنق من الدموع (نعم، ماذا تريد بعد؟) (آنسة رنيم؟)
وصلها هذا الصوت الهادىء الذي تعرفت اليه جيدا، فألجمتها الصدمة حتى أنها لم تستطع الرد لعدة لحظات تفكر إن كانت قد أخطات الصوت، لابد و أن تكون قد أخطأته إلى أن سمعت السؤال مرة أخرى (آنسة رنيم؟).
نعم، نعم أنه هو، هل يمكن.؟، أم أنهم يتصلون في حالة الرفض كذلك؟، همست بصوتٍ مرتجف و قلبها يخفق بعنف (نعم)
أجابها الصوت الهادىء المتزن و الذي لم تسمع صوتا في مثل عمقه من قبل (أنا المهندس عمر توفيق الذي أجرى معك المقابلة)
أغمضت عينيها وهي تبتهل بداخلها أن تكون قد نالت الوظيفة، و قلبها تزداد خفقاته بشكلٍ عنيف ثم همست (نعم، نعم سيد عمر، مرحبا بك).
وصلها صوته بعد لحظة صمت (أردت أن أخبرك أنه تم قبولك في الوظيفة، أن كنت لازلتِ مهتمة)
تم قبولها؟، حقا تم قبولها؟، يالهي، وإن كانت لاتزال مهتمة؟، هتفت تتلعثم وهي غير مصدقة لما يجري (نعم، نعم، لازلت مهتمة جدا، هل تقصد أنه تم قبولي تماما، أم أنني سأمر بمزيد من الإختبارات؟)
سكت لعدة لحظات غاص فيها قلبها ليقول بعدها بنبرةٍ متزنة ضمت بداخلها بعض الإستهزاء (لقد تم قبولك بالفعل يا آنسة رنيم، منذ مدة).
ابتلعت ريقها وشعرت بأنها في موقف مخزي تماما، العديد من المتقدمي للوظائف يتم قبولهم بنائا على التوصيات المعروفة، فلماذا يشعرها أنها مختلفة، حتى هي نفسها لم تصدق أن التوصية ستفلح مع حالتها المستعصيةهمست بصوتها المعتاد على الترف و الدلال ذو النبرة الجذابة بما فيها من تقطع فطري آسر (شكرا، وأنا، أنا حقا).
قاطعها عمر قائلا بكل حزم (ستبدأين من الغد في تمام الساعة السابعة، و ستكونين متدربة في الفترة الأولى لدي، وأهم شيء عندي هو احترام المواعيد)
السابعة؟، السابعة؟ هل هناك أحياءا في مثل هذا الوقت على سطح الكوكب؟، همست تتلعثم برقةٍ وهي لا تعلم إن كان قد بدا على صوتها الخوف أكثر مما ينبغي (بالتأكيد، سأكون موجودة في تمام السابعة، لا مشكلة على الإطلاق).
قال بصوتٍ حازم جعلها تتسائل إن كان ساخرا أم لا (اذن أراكِ في الغد باذن الله، إلى اللقاء)
همست وهي تكاد تقبل الهاتف (الي اللقاء، إلى اللقاء، و، وشكرا، شكرا).
الا أن الهاتف كان قد أغلق من الطرف الآخر قبل أن يجيبها فنظرت إلى الهاتف بغضب وهي تفكر، لا بد وأنني سأرى أياما لا ملامح لها معك يا عمر توفيقلكنها لم تسمح للخوف أن يسلبها فرحتها وهي تضم الهاتف الى قلبها مغمضة عينيها و قد انسابت دموعها من الفرحة تلك المرة، لكن للأسف فسوء الحظ لم يدعها لتتهنى بفرحتها حين حل الصباح. وكم كانت متعثرة غير واعية بعد وهي تستيقظ في السادسة حتى تتأكد من أنها لن تتأخر، بالفعل و المجهود العالي وصلت أمام المصعد في تمام السابعة، لكن أي حظ الذي يجعل المصعد يتعطل في هذا اليوم وهذا الوقت تحديدا و في شركة ٍ ضخمة كهذه؟، لم تصدق نفسها وهي تتجه هرولة الى حارس الأمن لتسأله فأخبرها أنه متعطل منذ دقائق فقط و أنهم في انتظار الصيانة، لم تنتبه لنظراته المتأملة لجمالها و التي تطاولت الى ملابسها الملفتة للغاية، استدارت تسير على غير هدى وهي تنظر إلى السلم الذي أخذ العاملون يصعدونه دون مناقشة، لا أمل لها اليوم، فهي لن تتحمل الصعود ابدا، هل تحاول؟، أبدا لن تستطيع فالطابق من الأدوار العليا. اتجهت الى من اختارو الانتظار على مقاعد البهو و رمت نفسها متبرمة، غير مدركة للناظرين الى ساقيها الطويلتين و اللتين ظهرتا بوضوحٍ من تحت تنورتها الرمادية القصيرة للغاية، بعد أن مددتهما أمامها بتذمر كالأطفالعلى الرغم من أنها ترتدي جوارب سوداء سميكة التي تخفي الساق تماما، الا أنها حددت معالمها الجذابة لتنتهى بداخل حذاء أسود عالي الساقين يصل الى ركبتيها وذو كعبٍ عالٍ كالعامود الرفيع. ومر الوقت و لم يعمل المصعد الا بعد نصف ساعة، فتنفست الصعداء وهي تظن أن النصف ساعة ليست بوقتٍ طويل كما كانت تتوقع. لكن ما أن قابلها الوجه الصارم حتى ابتلعت ريقها بخوفٍ وهي تنظر بعينين متسعتين الى عمر الذي وقف في الطابق المخصص للمهندسين وهو يتطلع الى ساعة معصمه ثم اليها بنظرةٍ ذات مغزى، همست قبل أن يتكلم (لقد كان المصعد معطلا، أنا هنا منذ السابعة).
قال دون أي مقدمات بصوتٍ جليدي وقد ملأ المكان بحجمه و حضوره الطاغي، (ومع ذلك لقد صعد معظم العاملين على السلالم حرصا منهم على وقت العمل).
ابتلعت ريقها وهي تخفض نظرها الى الأرض بارتباك، فلم تره وهو يتطلع الى ملابسها الملفتة بنظرة غضب وهو يفكر أنه لو اصطحبها معه يوما بهذا الشكل الى موقع بناء حيث العمال من الرجال فهو على الأرجح لن يعود بها سليمة. تنفس بنفاذ صبر وهو يشعر بالحنق لأنه وافق عليها قسرا بعد الحاح صاحب الشركة و اصراره عليها نظرا للتوصية الذهبية من عاصم رشوان، كان من الفترض أن تقوم السكرتيرة بالاتصال بها و تبليغها بأنه تم قبولها، الا أنه ولسببٍ غير معلوم بالنسبة له قرر أن يقوم بالمهمة بنفسه، ويكاد يقسم أنها كانت تبكي قبل أن تجيبه. مما جعله أكثر رقة مما كان ينتوى بعد أن فُرضت عليه فرضارفعت عينيها المحرجتين اليه وهي تهمس ؛ (اعتذر، لن يتكرر مرة أخرى).
للمرة الثانية تاه قليلا في جرح شفتيها، لماذا تبدوانِ جذابتين به على هذا الشكل؟، وكأنها تعمدت وشمهما لتزيد فتنتهماأبعد نظره بسرعةٍ عنها وهو ينهر نفسه عن مثل ذلك التفكير الأحمق ثم قال بصرامة (حسنا، هيا لنبدأ، ستكونين اليوم معي لحظة بلحظة).
أومأت برأسها بطاعةٍ، فتقدمها ليسير مغتاظا منها وهي تتبعه جريا طارقة الأرض بكعبيها المزعجين، لقد تعبت، لقد تعبت للغاية وهي تريد أن تجلس حالا و الا ستقع، منذ الصباح وهي تتبعه كظله و هي ترتدي ذلك الكعب الغبي، ساقها تقتلها الما حتى أن عينيها دمعتا سرا من شدة الألم، لم تعلم أنها من الممكن ان تتألم في العمل لهذه الدرجة، لكن على الرغم من ذلك فهي تشعر بداخلها بسعادة غير مسبوقة هونت عليها الوجع قليلا، ما أن دخلا مكتبه ليريها بعض التصاميم حتى ارتمت على الكرسي تتنهد بتعبٍ مغلقةٍ عينيها للحظة، الى أن فوجئت به يقول؛ (هل تعبتِ؟).
فتحت عينيها بسرعة لتجده يتأملها و لم تفهم عينيه تماما، فقالت بسرعةٍ معتقدة أنه يتذمر منها (لا، لا، أبدا)
أرجع ظهره الى كرسي مكتبه ليقول بعد لحظة (حسنا لقد اكتفينا اليوم، و أعتقد أنه قد أصبح لديك خلفية واضحة الآن عن طبيعة سير العمل هنا)
أومأت برأسها تقول مبتسمة بوداعة (نعم، بالتأكيد، شكرا لك).
أومأ برأسه قليلا ثم انحنى الى الأمام ليقول فجأة (بما أننا سنعمل سويا، أحب أن أخبرك أن مسألة قبولك ليست بالضرورة شيء مفروغ منه، وما سيحدده هي فترة التدريب التي ستقضيها في البداية، لذا، فأنا لن أقبل أي تهاون أي تأخير أي تقصير، كما أنني سأنتظر أن تبذلي مجهودا مضاعفا لتعوضي السنوات التي قضيتها بدون اكتساب خبرة).
ظلت تنظر اليه وقد تحول من الرقة الى الفظاظة في لحظةٍ واحدة، لكنها لم تجد سوى أن تهمس بطاعةٍ عمياء (نعم، بالتأكيد).
تذمر بداخله مرة أخرى وهو لا يعلم لماذا تستفزه بمظهرها المدلل وهو لا يكره في حياته قدر كرهه للدلال الفارغ، و العمل بالنسبة له شيء مقدس و ليس روضة ليرعى فيها طفلة مدللةنظر اليها من طرف عينه متأملا شعرها الناعم المعقود على هيئة ذيل حصان منسدل على كتفٍ واحدة، فقد بدت طفلة فعلا بذيل حصانها و تنورتها الغبية القصيرة التي جذبت الأنظار من حولهما طوال فترة تدربها اليوم، صوت طرقات الباب قطع تفكيره، لتدخل حنين بعد أن سمح بالدخول، تنهد عمر وهو ينظر الى حنين التي بدت أفضل قليلا اليوم، وهي تبتسم له بخجل كعادتها، الا أن الخجل تحول الى صدمةٍ قليلة و دهشة حين قالت بحيرة (رنيم!).
استدارت رنيم اليها بدهشة ثم ابتسمت بسعادة وهي تنهض لتقبلها قائلة بود (كيف حالك حنين؟، ما رأيك في تلك المفاجأة؟، سأعمل هنا معكم منذ اليوم)
ظلت حنين تنظر اليها بحيرةٍ لا تعرف إن كان هذا الخبر قد أسعدها أم أحزنها، أم أنه ببساطةٍ لم يهمها، لكن شعورا غريبا قرص قلبها دون أن تعرف تفسيرابتسمت وهي تقول (مرحبا رنيم، إنها مفاجأة، سعيدة جدا، مباركا لكِ)
قالت رنيم مبتهجة كطفلة (كنت أظن أن حور قد أخبرتكِ).
قالت حنين بفتور (لا، لم تخبرني حور).
كان عمر عاقدا حاجبيه قليلا ثم تذكر في لحظة أن الاثنتين من طرف عاصم رشوان و لابد أنهما تعرفان بعضهمالذا زاد استفزازه وهو يرى مكتبه قد تحول الى مكانٍ للقاء الصديقات و ربما ستطلبانِ بعض المشروبات أيضا لتتحدثا بعدها في أمور الصيحات الحديثة، عند هذه النقطة نهض عمر بعنفٍ جذب أنظارهما اليه، فقال بفظاظة (آنسة رنيم، لقد انتهت فترة تدربك معي اليوم، يمكنك أن تتجهي الى مكتبك الى أن يحين وقت الإنصراف).
ارتبكت بشدةٍ واحمرت وجنتيها، حتى أن حنين أشفقت عليها من هذا الإحراج خاصة حين تابع عمر (تفضلي حنين اجلسي)
ارتبكت رنيم اكثر لكنها همست مودعة ثم انصرفت مغلقة الباب خلفها بهدوء. شعرت حنين بالأسف من أجلها، لكن رغما عنها شعرت بلذةٍ خفية وهي تجد عمر يميزها عن الباقيات، نظرت اليه و ابتسمت بخجل، تراه ينظر بتفكيرٍ في الملف الذي أمامه. ثم قال مبتسما اثناء انشغاله (هل أنتما صديقتين؟).
نظرت اليه بحيرة وهي تفيق من شرودها في ملامحه الجذابة، لتقول (من تقصد؟)
رفع عينيه اليها وهو يقول برقة (انتِ و المهندسة رنيم)
ظلت صامتة لا تستطيع تفسير ما تشعر به من ذلك الشعور الغير ملائم ثم قالت بعد فترة بحيادية (لا، هي صديقة ابنة عمي حور، لكني أعرفها جيدا لأنها كانت تأتي الى بيتنا كثيرا منذ سنين)
سكتت وهي تنظر الى أصابعها تتلاعب بهم ثم همست متابعة وهي تعود لتنظر اليه (إنها لطيفة جدا، وستتزوج قريبا).
لم تتغير ملامح عمر الرقيقة وهو ينظر اليها بشبه ابتسامة ليقول بعد فترة (جيد)
عادت لتطرق برأسها وهي تلعن غبائها الذي جعلها تتفوه بجملةٍ لا تعنيها، ثم حاولت أن تتدارك الأمر فقالت بخفوت (أنا سعيدة من أجلها، إنها تستحق، بعد الحادث الفظيع الذي تعرضت له، سنواتٍ وجراحات لذا)
قاطعها عمر ليقول بكل هدوء بينما في داخله يشعر بإحساسٍ غامض بالصدمة المتوقعة نوعا ما. (حنين، لا أعتقد أنه من المناسب أن أعرف ذلك).
نظرت اليه برعبٍ وهي تدرك أن ما تفوهت به للمرة الثانية كان أغبى و أبشع، أخفضت عينيها وهي تشعر بذنبٍ فظيع مما باحت بهقال عمر بصوتٍ حنون (هوني عليكِ يا حنين، أعرف أنكِ تكلمتِ بعفوية و لم تقصدي).
نظرت اليه بعينين دامعتين و أومات برأسها مبتسمة بحزن وهي تفكر أنها قد قاربت على الإنهيار فعلا، أما بسبب حبه و أما بسبب المجنون الذي يلحقها مهددا بفضح ماضٍ تريد سترهابتسم اليها وهو يفكر أنها تشبه أخته الصغيرة قليلا اليوم، بشعرها المنسدل على غير العادة، وثوبها الأنثوي لكن في نفس الوقت يزيدها طفولة، نظرت إلى ابتسامته و ابتسمت هي الأخرى تفكر أنه الرجل الأكثر رقة وحنانا ممن قابلتهم من قبل، فتحت فمها لتتكلم لكن رنين هاتفها قاطعها، فابتسمت له معتذرة لترد على الهاتف لكنها صدمت حين سمعت صوت المجنون يأتي عابثا بتكاسل (مرحبا يا حكومتنا الموقرة).
أغمضت عينيها وهي تشعر بالدوار و اليأس مما يحل بها، لكنها أرغمت نفسها على الإبتسام و التكلم برقة (مرحبا، لحظة واحدة)
ثم استدارت لعمر لتستأذنه واضعة يدها على الهاتف ثم نهضت لتخرج من مكتبه وما أن أصبحت في الرواق حتى تكلمت بشراسة (ماذا تريد؟، وكيف جلبت رقمي؟، هل سلطك أحد لتخرب حياتي صغيرة و كبيرة)
وصلها صوته مداعبا خافتا (آآه. لقد كبرت الصغيرة، وكم أتوق لأرى ذلك بنفسي).
احمر وجهها بشدةٍ و قد ألجمتها وقاحته عن التفوه بكلمة فعاجلتها ضحكته العميقة التي أشعرتها بالخوف، كيف لها أن تواجه شخصا مثله بمفردها، العند لن يجلب نتيجة، و أثناء تفكيرها سمعت صوته يقول بهدوء (أريد أن أراكِ اليوم)
قالت مباشرة دون تفكير (مستحيل)
قال بنفس الهدوء (بل سأراكِ، سأنتظرك بعد أن تنتهين من عملك).
ابتلعت ريقها وهي تقول بعزمٍ مهزوز (قلت لك لن أستطيع، كما انني لا أريد أن أراك، ألا تملك بعض الكرامة؟)
لم تسمع صوته لعدة لحظات، هل أساءت الأدب جدا؟، يالهي، لابد وأنه يخطط لفعل شيء مروع جدا عقابا لها، لذا همست بعد فترةٍ لم تسمع منه كلمة (جاسر؟).
وصلها صوت الصمت مرة أخرى فشعرت أن قلبها يهوي خوفا الى أن وصلها صوته أكثر عمقا و أدفأ مداعبة (يا روح جاسر، هل كان من الضروري أن تضطريني للتهديد حتى أسمع اسمي من شفتيكِ ال)
قاطعته حانقة بغضب وهي تقول (اصمت، اصمت، أرجوك دعني لحياتي، أرجوك)
قال لها بصوتٍ قاطع شابته بعض الجدية (سأنتظرك اليوم في الطريق الخلفي في سيارتي، وإن لم تأتِ سأكون عندك في العمل غدا منذ الصباح الباكر لأخبر الجميع عمن أكون).
أسندت ظهرها الى الجدار من خلفها و هي تغمض عينيها، لتهمس بتعب (لماذا تفعل بي ذلك؟، لم أؤذك يوما، أنت من تركتني)
ظل صامتا ليقول برقةٍ (لن نستطيع التمتع بالذكريات في الهاتف، سنتابعها ما أن نتقابل)
همست بتأوه وكأنها تبكي ؛ (أرجووووك)
قاطعها وصوته مبتسما (بعد العمل في الطريق الخلفي، هل لديكِ طاقية و نظارة داكنة؟، ستبدين لطيفة بهما).
سكتت وهي تهمس بشفتيها لفظا بذيئا تعرفه منذ أيام سكنى الحارات القديمة دون أن تنطق به فعلا، لتسمعه يتابع (اعرف ما تهمسين به يا حنين، فنحن من نفس الحي، لذا من الأفضل لكِ الا تنطقيها).
أغلقت الهاتف ويدها تهبط إلى جانبها ساقطة بيأس وكتفيها انحنيتا في عزيمةٍ هبطتت قبل أن تعلو، ما العمل الآن؟ هل تذهب اليه أم لا؟، ماذا لو فعلها و أخبر الناس أو عمر، ماذا لو علم عاصم أو مالك؟، هل هو غباء؟، هل هي حماقة أن تذهب اليه بقدميها للمرة الثانية؟، لا تعلم و لا تريد أن تفكر، فقط تريد أن تتصرف التصرف الأخير وتخاطب انسانيته فلربما أفلحتوجدت السيارة السوداء واقفة الى جانب الطريق الضيق، فنظرت يمينها ويسارها خوفا من أن يراها أحدا يعرفها، وما أن وصلت الى الباب حتى فتحته بسرعةٍ لتجلس لكنها وجدت باقة ورد جوري حمراء كبيرة موجودة على المقعد الأمامي، فنظرت اليه بتساؤلقال لها مبتسما بثقةٍ زائدةٍ في النفس (إنها لكِ).
ظلت تظر اليها وكأنما تنظر إلى فأرٍ ميت ثم قالت وهي تحاول أن تكبت غيظها ثم قالت تضغط على أسنانها وهي منحنية تنظر اليه من باب السيارة (لا أريدها، أبعدها من هنا)
هز كتفيه بلامبالاة وهو يقول ببساطة (حسنا).
ثم أمسك بالباقة ليرميها من نافذته الى سلة القمامة الكبيرة الموجودة الى جانب الطريق بجوار سيارته، ركبت ببطءٍ وهي تنظر اليه بذهول، هل رماها حقا؟، لقد كانت رائعة و غالية الثمن أكيد، هل رماها؟، إنها أول باقة ورد تتلقاها، وقد رماها في القمامة قبل أن تشمها حتى، ظلت جالسة في مقعدها بوجوم وهو ينطلق بالسيارة دون كلمة، ظلت تنظر الى الأحياء التي تمر بها من النافذة وهي تفكر أنها على ما يبدو قد اعتادت ركوب سيارته، لكن ما العمل وهو يذلها كل يومٍ تقريبا. بدأت البيوت تتباعد. وتتباعد فيما بينها الى أصبح كل بيتٍ على بعدٍ كبير من الآخر وهما ينطلقان الى المنطقةِ الساحلية البعيدة نسبياالتفتت اليه وهي تتذكر المرة الماضية لتقول له بقلق؛ (الى أين تأخذني؟).
ابتسم وهو يقول بسعادة (سأريكِ بيتنا)
تجمدت تماما وهي تسمعه و عادت الى ذاكرتها جملة شبيه أغراها بها من قبل عشر سنوات، لتتحول الحياة من بعدها الى انكسارٍ دائم هي ليست قادرة على علاجه حتى هذه اللحظة، همست بخوف (لا، لا أريد أن أذهب الى بيتك. أعدني أرجوك)
قال يطمئنها برقة (لا تخافي، أنا فقط لم أرد أن نجلس في مكانٍ عام فلربما رآنا أحد، وأخبر عاصم مثلا).
هي تستحق كل ما ستناله ما دامت قد وصلت إلى هذه الدرجة من التهور، لكنها الآن في النقطة الفاصلة بالنسبةِ اليها بين الحياة والموتلذا لا مجال للتراجع الآن، ستبعده و الى الأبد. هذه المرةوصلا الى بيتٍ رائع، رائع بكل ما للكلمة من معنى، انه بيت احلامها الذي تمنته دائما بالأرض التي تحيطه. والأشجار التي تحاوطها، حتى النباتات المتسلقة التي تغطي سطحه، دخل بالسيارة من البوابة الحديدية الضخمة و التي فتحت له ليدخلها إلى حديقةٍ رائعة الجمال ذات ورودٍ مختلفة الألوان، أوقف جاسر السيارة لينظر اليهما مبتسما وهو يقول (هيا، انزلي).
نزلت تنظر من حولها مشدوهة، حتى المسبح موجود، وعليه صخور تجعله يبدو كبركةٍ طبيعيةابتلعت ريقها وهي تنظر إلى حلمها الذي تجلى أمامها فجأة، لف جاسر حول السيارة ليمسك بيدها و يجذبها خلفه و يصعد بها الدرجات القليلة للمدخل و هي تجري خلفه تقريبا محاولة اللحاق بخطواته الطويلة و ثوبها الناعم يتطاير من حولها ليكمل صورة الحلم. أدخلها إلى بهو البيت الذي بدا لا يقل روعة عن حديقته، بمدى بساطته و ألوانه الهادئة، ظلت تنظر حولها و وجها يبدو عليه الحرمان بوضوح، وهي لا تعلم أنه يراقبها بنظراتٍ متألمة، الى أن اقترب منها يمسك بخصرها و يديرها اليه ليهمس برقة (ماذا بكِ؟، لماذا أنتِ حزينة هكذا؟ ظننت أنه سيعجبك).
نظرت اليه بدهشة و كأنها لا تفقه شيئا مما يقول، فتابع يقول بصوت ٍ حمل الكثير (لقد بنيته جزءا، جزءا، حتى وأنا في السجن كنت أتابع خطوات بناؤه الى أن اكتمل)
ظلت تنظر اليه وهو يتكلم و يقول (؛ لا ينقصه سواكِ).
كانت مشدوهة، تستمع الى كلامه مصعوقة، هذا الشخص يريدها بل على ما يبدو أنه يتمناها حتى و لو كانت نزوة مؤقتة، ولديه بيت أحلامها و الذي ستكون سيدته. ابتسمت قليلا بحزن و هي تطلع الى ملامحه، روعة ما يغريها به تجلب اليها الألم، فلو كان جاء مبكرا قليلا فلربما سامحته على ما دمره فيها، تماما كما لو كانت وافقت على عاصم لو طلب يدها للزواج قديما، لتصبح سيدة نفسها و صاحبة أسرة و بيت و، أطفالٍ كثيرين، كثيرين جدا، تعوض بهم وحدتها رغم وجودها في بيت عمها. لكن للأسف، جاء متأخرا جدا، فلقد عرفت معنى الحب أخيرا، عرفت معنى الرقة و معنى أن يشعر بها شخص و يفهمها أكثر مما تفهم نفسها، عرفت معنى أن تكون ذات قيمة، و ليس مجرد نزوة أو شيءٍ يمتلكه و يزين به هذا البيت الجميلللأسف قلبها عرف الحب، ولو كان جاء مبكرا لكانت رضت بامتلاكه لها، تأخذ ما سيمنحها و تقبل بما سيمنعها عنه، همست وهي تحاول ابتلاع دموعها التي تحرقها للتساقط (جاسر، أنت، أنت حلم أي فتاةٍ عاقلة).
ابتسم جاسر وهو يجذبها اليه أكثر وهي لم تمنعه حقا، لكنها تابعت بصوتٍ أشد همسا (لكنك تأخرت كثيرا)
لمعت عيناه بدهشةٍ تحولت في لحظاتٍ الى نارٍ عاصفة أرعبتها لكنها همست مستجمعة شجاعتها لتقول (لقد تقدم لي شخص مناسب تماما، وأنا قبلت به)
مد يده في لحظةٍ ليقبض على فكها يمنعها عن الكلام و هو يصرخ في وجهها (شخص آخر!، من هو؟، من هو و أقسم أن أحضره اليكِ مشوها قبل أن تصبحين له).
هتفت برعب و قلبها يخفق مذعورا (شخص غريب، لا تعرفه، لا تعرفه)
صرخ وهو يشدد من قبضته (هل كان بينكما شيئا؟، هل لمسك؟، هل)
صرخت بشدة وهي تشعر أنها على وشكِ الإغماء من شدة الرعب (لا، لا، زواج تقليدي)
جذب ذقنها اليه ليقول بصوتٍ جمد الدم في عروقها (من الأفضل أن يكون كلامك صادقا حبيبتي، لأنكِ لا زلتِ زوجتي. أنا لم ألق عليكِ يمين الطلاق أبدا).