قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

كانت تحملق في السماء الزرقاء المنبسطة أمامها و هي مستلقية فوق ذراعه، على الرمال البيضاء...
رأساهما متقاربان، لكن جسديهما كلا في اتجاه...
و كأنها تسمع همس أفكاره، دون حتى أن يتمكن من ضمها اليه، عكازاه ملقيان في مكانٍ ما بجوارهما فوق الرمال، و وشاحها الذي يغطي كتفيها، تركته لتتقاذفه الرياح و تحط به أينما تريد...

كانت تتطلع إلى زرقة السماء بافتتان، مرت سنوات طويلة منذ استلقت على الرمال لتصبح السماء فوقها مباشرة، احساس رائع لا يماثله احساس آخر، النوم تحت السماء، و كأنه الانسان أصبح وحيدا في هذا الكون...
منذ أن كبرت قليلا، و بدأ المتطفلون في النظر اليها، امتنعت من الاستلقاء على الرمال بعد الخروج من البحر، و بعدها امتنعت عن نزول البحر نفسه...

لكن هذه الأيام، لم يكن ليمنعها شيء عن العودة لفعل كل ما تحبه، فهو الى جوارها، و لا ثالث لهما...
عيناها متسعتان قليلا، و ابتسامة براقة تكاد تلاعب شفتيها الفاغرتين، بينما هو كان شاردا ممسكا بخصلة من شعرها الطويل يتلاعب بنعومتها، ليرفعها الى فمه بين حين و آخر، يمتع شفتيه بتلك النعومة و أنفه برائحتها العطرة التي تبدو كنسماتِ الزهور في أول الربيع...
أخيرا قال بصوتٍ خافت أجش (حنين)
ردت عليه حالمة (نعم).

قال بصوتٍ أكثر خشونة و عمقا (هل هناك هدفا منطقيا بحتا من كون كلا منا مستلقٍ في اتجاه مختلف؟، أما أنها ببساطة خطة شريرة لتعذيبي؟)
ابتسمت حنين باشراق و هي تهمس بصوتٍ أكثر خفوتا من صوت الأمواج (ولماذا تتعذب؟)
التفت اليها بوجهه حتى لامست شفتاه أذنها فهمس فيها مباشرة بزمجرة (لأنكِ تعلمين أنني في حالتي البائسة تلك، ما أن أباشر في محاولة الإمساك بك حتى تتعاقب المواسم قبل أن أتمكن من مجرد الاستقامة).

ضحكت حنين بخفة بينما وجهها يزداد اشتعالا ما بين الخجل و فعل اشعة الشمس، ثم همست و هي تلتفت اليه بوجهها حتى اقتربت شفتيها من شفتيه، (و لماذا تريد الإمساك بي؟)
مست شفتاه شفتيها بأرق من النسيم قبل أن يهدر بخفوت (اقتربي مني و أنا سأريكِ السبب)
همست أمام شفتيه بنعومة ذائبة (أكثر من هذا اقتراب؟)
مد يده الحرة بجهد كي يميل و يحيط بوجنتها وهو يهمس بانفعال (بل أقرب و أقرب).

ازداد اشتعال وجنتيها الا أنها نهضت دون رد عن ذراعه و وقفت على ركبتيها فوق الرمال ثم حبت بهما إلى أن الى أن ارتمت على صدره فجأة بقوةٍ فتأوه بصوتٍ مكبوت ليقول من بين أسنانه (بليونة، و ليس كقالب حجر يسقط في قاع البحر)
رفعت رأسها عن كتفه لتقول عابسة (أنا قالب حجر؟، بعد أن كنت وسادتك المفضلة!)
ابتسم لها بمكر و هو يميل اليها بصعوبةٍ ليأسرها بين ذراعيه فجأة هامسا في اذنها (دعيني أجرب و سأخبرك).

ضحكت و هي تتلوى من وزنه، هاتفة (توقف يا جاسر رشيد، توقف و أحترم نفسك)
الا أن كلماتها الضاحكة كانت متقطعة كمن يغرق في موجات الشوق، ثم يطفو برأسه ليلتقط نفسا وحيدا قبل الغرق من جديد...

همس لها بصوتٍ منفعل وهو يلامس وجنتها المشتعلة من تحتها بشرةٍ برونزية لوحتها اشعة الشمس، (أتدرين أنني أعيش الآن أروع شهر عسل!، و أشده عذابا و فظاعة و قد بلغ من السوء بحيث أريد أن أغرقك في الموج كي أمسح عن شفتيك تلك الإبتسامات العابثة)
ضحكت حنين بقوةٍ وهي تعبس عبوس زائف لتقول بصرامة (لم افهم، هل هو رائع أم سيء؟، اثبت على رأيٍ واحد يا متذبذب).

أمسك بيدها بقوةٍ ليضعها فوق صدره ليقول بصوتٍ أجش هامس، لأذنها فقط (نعم أنا متذبذب، هل تشعرين بالذبذبات؟، تكاد تقتلني، ارحميني)
ضحكت بخجل رهيب و هي تعض على شفتها محاولة جذب يدها من تحت يده، الا أنه كان يشد عليها مبتسما دون أن يسمح لها بأن تحرر يدها، فهمست بخجل ضاحكة مرتبكة (نعم، نعم، حسنا يا سيدي، ابتعد أنت و ذبذباتك و احترم نفسك، نحن لسنا في البيت).

ضحك هو الآخر و هو يغرقها بقبلاته (أنا في شهر عسلي، و من حقي أن أتذبذب كما أريد)
ضحكت حنين و هي تقول محاولة التملص منه بخجل، (حسنا حسنا، كفى يا جاسر، أرجوك)
الا انه رفع وجهه فقط ليقول مبتسما بإشراق (أتعلمين، كنت قد أعدت لكِ مفاجأة قبل الحادث، مفاجأة ستبهرك)
الرحلة الى الجزر التي طالما تمنتها، لم يكن يعلم بعد بأنها قد عرفت بأمر الرحلة، و هي لن تخبره بأنها عرفت بها...

فلم تكن في حاجة الى كثير من الإصطناع لتستجلب اللهفة و السعادة الطفولية و هي تهتف برجاء (مفاجأة؟، ما هي؟، ما هي؟)
اتسعت ابتسامته للهفتها الا أنه قال بصرامة (و كيف تكون مفاجأة، سأخبرك ما أن أصبح قادرا عليها)
لكن حنين هتفت بدلالٍ أكثر و هي تقترب منه كقطة تريد الحنان، بينما هو يقبلها بحب و رقة يزداد شوقها (بل أخبرني الآن، أرجووك، أرجوووووك).

ابتعد عنها ليشرف على وجهها الجميل، يتنفس بصعوبة، و يتأمله بكل تفاصيله التي بات يعشقها، ثم همس (حين تهمسين بكلمة أرجوك تلك، تحركين في كل نوايايا الدنيئة، لا مجال لأن أخبرك بالمفاجأة الآن، فلا تحاولي، أريدها أن تكون على أكمل وجه).

ثم تركها ببطء ليرتمي بظهره على الرمال، فرفعت رأسها اليه، لتكتف ذراعيها على صدره و تستند بذقنها اليهما، تنظر اليه و لم تكن قد استعادت ثبات أنفاسها بعد، الا أنها همست مبتسمة (أين ذهبت نواياك الدنيئة؟)
ابتسم عابسا وهو يقول بجدية زائفه، ضاربا رأسها براحته (احترمي نفسك يا وقحة)
ضحكت و احمر وجهها بشدة، و ضحك هو، لكن بعد فترة قال هامسا (لقد تعبت، و آلمني ظهري).

ارتجفت ابتسامة حنين قليلا و انحنت عيناها بحنان، قبل أن تهمس بنعومة (لا بأس، كل هذا سيتحسن مع الوقت، أنت حتى بالفعل قد تحسنت كثيرا و تطورت حركاتك عن قبل)
نظر اليها بطرف عينيه ليقول دون مرح (تطورت حركاتي في الذهاب للمطبخ ربما، و الأروع هو التمكن من الذهاب وحيدا للحمام، ياللسعادة!)
مطت حنين شفتيها بامتعاض، ثم رفعت احدى يديها لتداعب العبوس بين حاجبيه و هي تقول بصرامة (قل الحمد لله).

تنهد جاسر بقوةٍ و كبت وهو يقول (الحمد لله، لكني أرغب بك بدرجةٍ تكاد تقتلني يوما بعد يوم، أرغب بك بكليتك دون أي كوابح)
نظر اليها ليقول بعجز (هل تفهمين ما يسببه ذلك لي؟).

ضحكت بأجمل ضحكة رآها مع لون وجهها الذي أصبح كوردة الجوري الحمراء، فنبض قلبه عذابا، بينما قالت هي بعبث (الن تتوقف عن تلك الصراحة التي تليق باسطبلات الخيول؟، لقد كنت قطيطة مغمضة العينين ذات يوم، و انظر إلى ما آل اليه حالي الآن نتيجة التعايش معك لفترة قصيرة!)
عقد حاجبيه وهو يقول بجدية (فما بالك لو كنت بكامل قدراتي!).

أومأت حنين برأسها و هي تقول بمنتهى الإتزان (نعم، أستطيع التخيل، لربما وقتها لكنت انحرفت على أكمل وجه)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يجذب خصلة من شعرها ليقول بخشونة (الإنحراف مسموح به داخل جدران هذا البيت فقط، مفهوم؟)
تنهدت حنين بإستسلام و هي تقول (و قد أسست قانون الإنحراف الخاص بك أيضا!، كم هذا مبشر بحياة سليمة و أسرة مستقبلية محترمة!).

التوت أحشاؤه بإحساس غريب مع كلمة أسرة مستقبلية، حتى ولو كانت مجرد مزاحا، فقال هامسا متنهدا بلوعة (متى؟، فقط متى؟)
ابتسمت حنين بخجل و هي تقول برقة تذيب الحجر (ليس بعيدا، فقط فترة بسيطة و ستتمكن من متابعة نواياك الدنيئة كلها، فقط تحلى بالقوة)
ابتسم جاسر بجنون بداخله، حين كان يسأل متى؟، بلوعة، كان يقصد تكوين الأسرة المستقبلية بأطفالها الإثني عشر...

الا أن الوقحة استنتجت معنى ملوثا مغايرا تماما، لقد أساء الى أخلاقها بالفعل!، ...
ضحك جاسر بحنان وهو ينظر الى وجهها المشع، فسألته مبتسمة (لماذا تضحك؟)
قال ببساطة (لأنني أحبك)
للحظات لم يظهر عليها أنها استوعبت الكلمة ذات الاربعة أحرف، و هي لاتزال بنفس الملامح الساذجة تنظر اليه، لكن مع مرور اللحظات اكتشف أنها قد تجمدت على هذا الوضع، فقال جاسر بخفوت (حنين!)
فرمشت بعينيها عدة مرات لترد بهدوء خافت (نعم؟).

امتعض جاسر وهو ينظر إلى السماء قائلا بجفاء (لا شيء سلامتك)
سكنت حنين على صدره، الا أنه أحس بقلبها يضرب بعنف فوق صدره بنتهى الوضوح، حين تكلمت أخيرا همست قائلة (انظر، تلك السحابة تشبه شكل سلحفاة، لكن بدون رأس)
لا سلحفاة هنا سواك أنتِ يا بطيئة المشاعر يا عديمة الرأس كذلك.

كبت جاسر تلك العبارة فلم يتفوه بها بينما كان يرغب في ضربها حقا، استمر بينهما الصمت لفترة طويلة قبل أن تقول حنين هامسة في موضوعهما الأول وكأن شيئا لم يكن (عامة، لقد تحسنت حالتك جدا جدا، و ما هي الا أسابيع و أظنك ستعود أفضل من السابق، انظر أين كنت و كيف أصبحت!)
سكتت قليلا قبل أن تتابع بهمسٍ أكثر خفوتا (في لحظةٍ ما ظننت أنك س)
نظر اليها جاسر برقة و قال بخفوت مكملا جملتها (أنني سأموت؟).

همست حنين بتشنج و هي تغمض عينيها (لا تذكر تلك الكلمة مجددا، أرجوك)
مد يده ليلاعب شعرها بنعومة، ثم قال بخفوت واعد حازم (لا بأس، أنا هنا الآن، و أعدك بأنني سأبقى، مادام في صدري نفس يتردد)
انفتحت راحة يدها على صدره، تستشعر قلبه، تلك المضخة القوية التي لا تتخيل اعتلالها ذات يوم...

شردت بعينيها و هي تتذكر مدير أعمال جاسر حين كان يحادث الطبيب بعد الحادث، و يخبره بأن جاسر سبق و أن أصيب بنوبة قلبية حديثة، ليسأله عن خطورة ذلك في الجراحة و التخدير...
أغمضت حنين و هي تتذكر نفسها و قد فغرت شفتيها، و اتسعت عيناها الحمراوان و هي تنظر اليه هامسة بعدم فهم. (أي، أي نوبة قلبية؟، و متى؟).

أجابها بكلماتٍ لا تتذكرها و لم تستوعب منها سوى أنها كانت في نفس الفترة التي كان يأتيها كل يومٍ تحت نافذتها، حدث الأمر و أنتهى و هي ليست على علمٍ به، و كأنه لم يكن شيءٍ ذا أهمية...
حينها استندت على جدار المشفى مغمضة عينيها برعب، لتقضى أقسى لحظات في حياتها، تتخيل في كل لحظةٍ أن يخرج الطبيب معلنا توقف تلك المضخة عن العمل، و فشلها في النجاة، (حنين، فيما شردتِ؟).

اتنبهت حنين على صوت جاسر الخافت و المتسلل الى أفكارها و جسدها المرتعش قليلا، فخفتت ارتعاشتها مع صوته الخشن الذي ينبئها أنه هنا الآن، الى جوارها...
ابتسمت حنين لتغرق وجنتها أكثر في صدره و هي تقول (لا شيء، شردت في هذه الأيام الجميلة التي نحياها الآن، أنا بالفعل أشعر بأنني في شهر عسل طويل)
قال جاسر عاقدا حاجبيه بعدم اقتناع (حقا!).

رفعت عينيها اليه لتبتسم بهما لعينيه قائلة بهدوء بعد فترة تأمل (حين تنظر إلى هكذا، أشعر بأنني عروس في فستان زفافها، كل مرة)
التوت شفتي جاسر بابتسامة غريبة و هو ينظر إلى عينيها حبيبتيه، ثم همس (و ما هي تلك النظرة؟)
همست تبتسم (نظرة، فيها انبهار و كأنني أرتدي شيئا مذهلا كل مرة، على الرغم من أنني دائما لا أرتدي الا الثياب المهترئة)
داعب شعرها بنعومة ليهمس بخفوت (و ماذا أيضا؟).

همست حنين تنظر اليه و لا تحيد بعينيها عن عينيه (حين أنزل من السلم و تكن في انتظاري بالأسفل، تتسع عينيك قليلا، و تلاحقني بنظراتك النهمة، ثم تبتسم شفتيك و كأنني عروس اهبط السلم برفقة والدي لتراني لأول مرة بفستان الزفاف).

ازداد التواء شفتيه و ازدادت حميمية أصابعه العاشقة، بينما تابعت حنين همسا (حين تقبلني، ثم ترفع وجهك، تشع عينيك و ينعقد حاجباك قليلا و كأنك تفعل ذلك لأول مرة، في كل مرة، مع العلم أنني فقدت القدرة على عد تلك المرات).

ازداد عمق عينيه و هو يتطلع إلى عينيها بتعبير غريب قبل أن يميل برأسه ليمس شفتيها بشفتيه، بينما أغمضت هي عينيها بصمت، و حين تمكن من الهمس أخيرا همس بخشونة في اذنها (لم أكن أعلم بأنك قد عرفتني جيدا بتلك الصورة، و في تلك الفترة القصيرة)
ضحكت حنين مرتجفة، قبل أن تهمس مغمضة عينيها على صدره (لم تعطني خيارا آخر، لقد اصبحت مقررا على كمنهج دراسي طويل ممل، بت أعيد و أزيد فيك حتى حفظتك عن ظهر قلب).

مط جاسر شفتيه قبل أن يقول بخشونة (لا فائدة، لا بد لكِ من أن تضيفي لمسة الحماقة الأخيرة كي تفسدين بها اللحظة العاطفية)
ضحكت حنين و هي تهمس (جاسر العاطفي!، الجملة نفسها غير متلائمة)
قال جاسر بخشونة وهو ينظر الى السماء دون أن تترك أصابعه شعرها (متبلدة الإحساس)
ردت حنين بتلقائية (أحمق)
نظر اليها عاقدا حاجبيه ليقول بعجب (يا فتاة أنا زوجك!، زوجك!، لا أعلم لماذا أتحمل لسانك الطويل هذا!).

سكت قليلا ليقول بحسرة (أين أيام زمنٍ ماضٍ حين كانت النساء يضعن أقدام أزواجهن في الماء الساخن!)
رفعت حنين رأسها بسرعة لتهتف بغضب و عيناها تبرقان (يا ناكر الجميل!، و من يلبسك و يحلق لك ذقنك و يساعدك في دخول الحمام و اطعامك أيضا؟)
عقد حاجبيه ليقول بحزنٍ زائف (اتعايريني لأنني مصاب؟)
ابتسمت حنين بشقاوة و هي تقول (و هل حلاقة الذقن و إطعامك ضمن المميزات الملحقة بإصابتك؟).

قال جاسر عاقد الحاجبين بخشونة (نعم بالتأكيد، الحالة النفسية للمريض من أهم عوامل العلاج)
مطت حنين شفتيها بحنان وهي تقول بمداعبة متأوهة (آآه يا مريضي المسكين، حسنا لا بأس من بعض المعاملة المميزة لك حتى تشفى بسرعة)
ثم مالت اليه لتقبل بخفة، الا أنه لم يكن ليفلتها، دون أن يحصل على المزيد و المزيد من المعاملة المميزة حتى غاب عنهما الوقت و المكان...

حين حررها أخيرا لتلتقط أنفاسها من أمواج شوقه. مغمضة مستلقية على شاطىء صدره، همست أخيرا بعد فترةٍ طويلة من الصمت الذي لم يقطعه سوى صوت أنفاسهما (جاسر)
همس لها بانفعال عاطفي بحت (حبيبة جاسر)
ابتسمت بذهول و بريق دون أن ترفع وجهها اليه، أخذت نفسا مرتجفا قبل أن تهمس مرتجفة (شكرا لأنك أحببتني).

صمت جاسر تماما و توقفت أنفاسه للحظات و كأنه يحاول أن يجد ما يرد به، قبل أن يقول بخفوت حذر (و هل يشكل ذلك فارق ضخم بالنسبةِ لكِ؟)
ردت حنين بعد تفكير (أممممممم، نعم أظن، نوعا ما)
سكتت قليلا لتقول بامتعاض هاديء (كي تصدق بعد ذلك أنك أحمق حين أدعوك بها، فسؤالك هو الحماقة بعينها).

بقى جاسر صامتا، يريد اجتذاب الكلمات من بين شفتيها بالقوة، الا أن كبريائه إن ردت عليه بالرفض سيقتله، قلبه يحدثه بأنها أصبحت تبادله الحب، لكن عقله يوقفه متسائلا، كيف و متى؟ ...
كانت خطته في نيل حبها لا تزال في بدايتها، حين سقط فجأة فانقلبت الأدوار و اصبحت هي من ترعاه و تخفف عنه...

هو ليس بأعمى لكي لا يرى تأثرها العاطفي لكلها لامسها أو اقترب منها أو همس لها بكلماته الجريئة، لكن ليس هذا هو كل ما يطلبه، فما يريده أكبر و أقوى، مكوثها معه في فتره ما بعد الحادث تخبره بقوة بأن لا امرأة تفعل ذلك الا بدافع الحب...
لكن يعود عقله الغبي و يخبره أن كل النسان كن ليقفن بجوار أزواجهن في ظروفٍ مشابهه بدافع الواجب و الأصول، فأي دافع من الدافعين يحركها حاليا؟..

مد يده ليتخلل بأصابعه أصابعها المفرودة على صدره، ليقول بعد فترة طويلة، (حنين، هل سامحتني؟)
ردت حنين بهدوء خافت بعد لحظة (نعم)
عقد جاسر حاجبيه ليقول بحذر (حقا!)
ردت حنين بخفوت هادىء (نعم)
فسألها جاسر بعد لحظتين (هل أنتِ سعيدة معي؟)
أجابته حنين بهدوء (نعم)
فسألها بوضوح جاد (سعيدة أم راضية؟)
فأجابته حنين بنفس الهدوء و هي تغمض عينيها مستريحة على صدره (سعيدة).

صمت جاسر لعدة لحظات يقنع نفسه بأنه مرتاح الآن و لا ينقصه شيء، الا أن عفريتا صغيرا دفعه لأن يسأل فجأة بقوة و بصوتٍ عالٍ مندفع قليلا بعد فترة طويلة من الصمت (حنين، هل تحبينني؟)
أغمض عينيه في اللحظة التالية، و هي نفس اللحظة التي سمع فيها همسة ناعمة تسللت إلى اذنه برقة (نعم).

للحظات عم الصمت من جديد، وهو عاقد حاجبيه غير مستوعب لتلك الهمس البسيطة المعنى التي همست بها للتو، الى أن بدأ قلبه فجأة في الضرب كالطبول، فالتفت اليها فجأة ليقول بخفوت (ماذا قلت؟)
ردت حنين و ابتسامة خبيثة خفية تداعب شفتيها (قلت نعم)
الا أن جاسر لم يكن ليصمت عند هذا الحد وهو يقول بخشونة (نعم ماذا؟)
اتسعت ابتسامتها قليلا، الا أنه لم يرها و هي مغرقة وجهها في صدره، لتهمس بهدوء (نعم أحبك يا جاسر).

مالت شفتيها المبتسمتين لتقبل صدره فوق المضخة الجبارة التي ازدادت ضرباتها حتى خافت عليه بالفعل، الا أن قبلتها كانت من الرقة بحيث كانت سرا بينها و بين قلبه، بينما لم يشعر هو بها...
حين لم يرد عليها جاسر لفترة طويلة، رفعت وجهها اليه مبتسمة اليه لتهمس الى ملامحه المعقدة (ماذا؟، هل نفذ منك الكلام؟، هل عرفت الآن أن الأمر يصيب بالصدمة لعدة دقائق، فيصاب اللسان بشلل مؤقت تماما كما حدث معي بعد اعترافك).

أغمض جاسر عينيه و هو يتنهد بتعب قائلا بعد سباق طويل، متلمسا وجنتها بكفه (اخرسي يا حنين، اخرسي ولا أنا من سأصيبك بشللٍ مؤقت في تلك اللحظة)
صمت قليلا، ثم قال بخفوت دون أن يفتح عينيه (لماذا أحببتيني؟)
فغرت حنين شفتييها قليلا قبل أن تهمس بينهما بهدوء (أعتقد لأنك أجبرتني على ذلك)
فتح عينيه لينظر اليها طويلا، ثم همس بخفوت (و هل هذا يضايقك؟).

ابتسمت حنين و هي تنظر إلى عينيه قبل أن تهمس (نعم، قليلا، لم يكن الوقوع في حبك من مخططاتي)
ابتلع جاسر ريقه، ثم قال عابسا بعد فترة (من الانهيار السابق بسبب الرغبة في تعذيبي، الى مجرد المضايقة من وقوعك في حبي، أعتقد أن هناك تطورا ما بين المرحلتين)
افترت شفتيها عن ابتسامة في روعتها في مثل روعة عينيها، وهي تهمس متنهدة بمرح (نعم، أعتقد).

صمت جاسر مرة أخرى لفترة ٍ أطول، متطلعا لعينيها، يتنفس بصعوبةٍ تحت كفها الصغيرة و كأنه يجد صعوبةٍ في الكلام، الى أن تمكن من القول أخيرا بخشونة (هلا ساعدتني في النهوض و الذهاب الى غرفتنا؟، ارغب في بعض الخصوصية لأتمكن من متابعة ذلك الحوار معك).

كانت تعلم تماما طبيعة الحوار الذي ينشده، فاحمر وجهها و ازدادت خفقات قلبها و تدافعت، لكنها ابتسمت بإتزان قائلة بهدوء (نوبة احترام مفاجىء، ياللسعادة، حافظ عليها فربما تتزايد)
صرخ جاسر بخشونة (الآن يا حنين)
ضحكت حنين و هي تنهض من مكانها كي تساعده حركة حركة، الى أن استقام أخيرا متثاقلا فوق كتفها المسكينة، ثم تركته للحظةٍ قبل أن تنحني لتتناول عكازيه...

و ما أن خطا عدة خطوات بصعوبة. حتى همست عابسة (لا يجب أن تسير طويلا فوق الرمال، فمجهود السير عليها أعلى من المجهود الذي تتطلبه الأرض المستوية و هذا إرهاق أكبر لظهرك و ساقيك)
مد يده فجأة ليقبض على فكها يرفعه اليه فأنهى كل كلماتها بقبلةٍ أسكنتها تماما، و حين رفع وجهه، همس بانفعال (اصمتي يا حنين الى أن نصل، رجاءا)
كانت حنين تنظر متسعة العينين إلى عينيه المصممتين قبل أن تومىء برأسها دون أن ترد.

فإن كان السكوت علامة الرضا، فقد سكتت...
أوقف سيارته أمام مدخل البيت، ثم أمسك بهاتفه، يطلب رقمها كي يخبرها بأنه وصل بمعتز كما يفعل كل اسبوع...
لكنها كالعادة لا ترد، فقط يفتح الباب الضخم لتخرج أم رضا أو ابنتها أو حتى فتحية الجديدة، فتأخذ منه معتز شاكرة لتدخل به الى أمه، قبل أن يعود في نهاية اليوم ليأخذه...
مرت فترة طويلة منذ آخر مرةٍ رآها فيها، الا أنه كانت يقتفي أخبراها من أي لمحة، عبر أي شخص...

و من معتز نفسه، فقد كان يستفهم منه على قدر إمكانه عن أحوال أمه، فيرد بالإشارة سعيدا مبتهجا بمختلف الأشياء الطفولية البريئة السعيدة، و يريه بعض الرسوم التي رسماها سويا...
فيبتسم نادر مداعبا شعره بشرود، شيء ما يوجعه، يجرح قلبه، ليست حور هذه المرة، صحيح أن الموضوع يخصها الا أنها ليست المتسببة في جرحه على غير العادة...

شيء ما هو المتسبب به، تخليه عنها في تلك الفترة الحرجة من حياتها، منذ آخر مرة رآها فيها وهو ابتعد عنها تماما، لم يحاول رؤيتها أو زيارتها...
لكن كيف؟، فقط كيف؟، هل هذا وضع يسمح بزايارات اجتماعية ودية؟، لينصرف بعده كالأغراب؟..

و كيف يمكنه التعامل معها بعد كل ما كان بينهما؟، وهو غير قادر على تناسيه حتى الآن...
الا أن كل ذلك ل يمنع شعوره بالدناءة لتخليه عنها، يشعر بالرعب من أن تعود لمثل تلك الاشياء التي تتعاطاها، وهو لا يثق بها أبدا، فهي قادرة على خداع العفاريت نفسها...

ماذا لو غافلتهم من جديد؟، و كيف سيتمكن من مراقبتها؟، من سيسمح له بعد تخليه عنها بتلك الصورة، على الرغم من تخلي الجميع عنها فيما يخص معتز، الا أنهم بالتأكيد رافضين لما فعله معها...
زفر بضيق، حين لمح الباب يفتح، فخرجت ام رضا و التي ما أن رآها معتز حتى فتح الباب مسرعا و حقيبته الصغيرة فوق ظهره ليجري اليها مبتسما، حتى قبل أن يتمكن نادر من تقبيله...

ظل مكانه الى أن رآها تحمل معتز بحقيبته و تلوح له ثم تدخل و تغلق الباب!..

زفر نادر بضيق و أوشك على أن ينطلق بسيارته بوجوم، الا أن سيارة سوداء أخرى اعترضت طريقه أمام المدخل، لحظات و نزلت منها حنين قبل أن تصرف السائق، لكن و قبل أن تدخل من البوابة، كان نادر قد قفز من سيارته لينادي عليه (حنين، حنين)
توقفت حنين و استدارت تنظر اليه ثم ابتسمت، و ما أن وصل اليها حتى قالت بود (مرحبا دكتور نادر، كيف حالك؟)
ابتسم نادر بمودة حقيقية و هو يقول (بخير الحمد لله، كيف حالك أنت؟).

ابتسمت حنين أكثر و هي تظلل عينيها من أشعة الشمس لتقول (أنا الحمد لله بألف خير، هل معتز بالداخل؟، لقد أتيت اليه على أجنحة الطير كي أجد الوقت الكافي لألعب معه)
ابتسم نادر بحرج و هو يقول بهدوء (نعم، انه بالداخل، لقد دخل للتو)
ابتسمت حنين بمحبة و قالت بمرح (أذن سأدخل اليه، لكن احذر فقد اعيده اليك ناقص قضمة).

ابتسم نادر بدون تركيز، الا أنه لم يبد استعداد على التحرك من أمامها، فوقفت حنين قليلا تنتظر، لكنه لم يتحرك فرفعت حاجبيها، تتطلع بتأمل حولها، تتأرجح قليلا في مكانها، تنظر منه الى ما حوله، ثم تنظر اليه مجددا
هل سبضيع الساعتين اللتين سأقضيهما هنا وهو يقف هنا محاولا اتخاذ القرار بالبدء في الكلام؟، أو بالأحرى السؤال؟

الا أن ملامحها المبتسمة البريئة لم تظهر شيئا مما تفكر به، إلى أن تنحنح أخيرا قائلا باتزان (كيف حال الحاجة روعة؟)
ابتسمت حنين و هي تهتف (بخير الحمد لله، لما لا تدخل اليها قليلا و ربما تتناول الإفطار معنا؟)
رد بسرعة قاطعا وهو ينظر الى ساعته متعمدا (لن أستطيع للاسف، لدي عمل حالا حتى أنني قد تأخرت عليه بالفعل)
أظهرت حنين ملامح الأسف الودية المجاملة المعتادة وهي تقول (آه ياللأسف، ربما مرة أخرى اذن).

رد نادر بهدوء (نعم، أكيد)
ثم بقى صامتا قليلا قبل أن يسألها مبتسما (كيف حال زوجك الآن؟)
ظلت حنين مبتسمة، الا أن بداخلها يهتف
الصبر يا رب، هما ساعتان يتيمتان ستقضيهما مع أهلها
الا أنها أجابته مبتسمة (انه يتحسن يوما بعد يوم، وهو يسلم عليك بالمناسبة)
رد نادر بشرود (فليسلمه الله، سآتي اليه بنفسي)
ابتسمت حنين لترد برقة (بالتأكيد، ستشرفنا و سيهاتفك جاسر بنفسه).

ابتسم نادر مجاملا، ثم حانت منه التفاتة شاردة الى البيت قبل أن يأخذ نفسا و يسأل بطريقة أكثر حزما تلقائيا وبلا وعي (كيف حال حور؟)
تعجبت حنين من تبدل لهجته الى ذلك الحزم الذي لم يعيه تقريبا، الا أنها همست منتصرة لنفسها
ها قد وصلنا.
فردت بهدوء و دون تأخر (في خير حال، إنها تتعافى و تتأقلم مع الجو المحيط بها بمنتهى السرعة)
عقد نادر حاجبيه ليقول بحيرة (حقا!).

أومأت حنين بلهفة قائلة (نعم، لقد أصبح معتز كل عالمها حاليا و هي تكتشف به شيء جديد كل يوم حتى أنها لا تكف عن الكلام عنه و الضحك من تصرفاته، انها تبدو مشعة بأمومتها و بدأت في تناسي مأساتها الأخيرة تماما)
علي الرغم من اللون القاتم الذي انتشر على وجهه من ذكر مأساتها الأخيرة و التي تمس رجولته و كرامته، الا أنها صممت على أن تنطقها بوضوح أمامه، مظهرة أن حالة حور حاليا هي الأهم من كرامته الجريحة...

فقال نادر بعد لحظات (هل تغلق الغرفة على نفسها طويلا؟)
أسرعت حنين بالرد (إطلاقا، إنها دائما معنا و تحت أعيننا، لا تقلق، هي نفسها أصبحت لا طيق الوحدة و تكاد لا تشبع من الإندماج مع كل ما حولها، بل أنها حتى لا تجد الوقت لأي شيء آخر سوى معتز و التحضير للمشروع الجديد)
ازداد انعقاد حاجبي نادر وهو يتسائل بعبوس (اي مشروع؟).

ابتسمت حنين بإشراق و هي تقول (آآآه، ألم أخبرك؟، أنا وحور تشاركنا في مشروع روضة أطفال و سنبدأ به قريبا)
اتسعت عينا نادر و ارتفع حاجباه، و انتظر قليلا حتى خافت عليه حنين من هول الصدمة، الى أن تمكن أخيرا من النطق بصعوبة (هل ستعمل حور؟، إنها لم تعمل في حياتها من قبل)
قالت حنين (لذلك هي في أشد حالات تحمسها الآن).

لم تخبره حنين أن الموضوع لا يزال خططا على ورق حتى الآن، لكن نادر قال بعبوس (روضة أطفال مسؤولية ضخمة، و حور لم تجيد التعامل مع معتز الا مؤخرا، أرجو الا يكون الأمر مجرد نزوة، و يتضرر منها أناس آخرين بعد ان تفقد حماسها المفاجىء).

سكتت حنين عدة لحظات قبل أن تقول بهدوء يحمل في طياته تحذير حازم جاد (نحن فقط سنشرف على العمل، بينما هناك مختصين مدربين للعمل، انه مشروع ضخم نوعا، حتى لو فتر حماسها في بعض المراحل كأي شخص في مكانها، فالمشروع سيظل قائما)
ثم ابتسمت لتقول بمرح (لا تسخر من شريكتي في العمل، فشريكتها صارمة ولن تقبل بالتقليل من شأنها)
ارتبك نادر من رسالة حنين الصامتة، لا تسخر من زوجتك أمام أحد، مهما بلغت مساؤها.

أو هكذا رغب في فهمها، ليطرق برأسه في صمت، ثم ابتسم اخيرا ليقول بخفوت (اتمنى لكما التوفيق، أراك لاحقا يا حنين)
ثم دون كلمة أخرى اندفع مبتعدا بقوةٍ وهو ينتزع نظارته الداكنة المعلقة في فتحة قميصه ليضعها، و لحظاتٍ و كان يندفع بالسيارة بسرعةٍ مرسلا الغبار في وجه حنين المسكينة و التي نساها عند البوابة الضخمة...

أخذت تلوح لتبعد الغبار عابسة و هي تردد مثل زوجة عمها الشهير ( انتهت حاجتي من عند جارتي، أنها غلطتي أنا حين ضيعت رُبع الوقت الثمين لزيارتي كامرأة متزوجة مسؤولة)
ثم دخلت بغضب و هي تغلق البوابة خلفها بعنف...
دخلت حنين الى المطبخ مع حور لتعد معها طعام الإفطار بسرعة، بعد أن سلمت على الجميع و اشبعت معتز أحضانا و قبلات...

كانت حور هادئة راضية، و هي تطعم معتز الجالس على طاولة المطبخ أمامها من كل ما تعده، لتقبله بين كل قضمة و أخرى...
نظرت اليها حور ما أن دخلت المطبخ لتقول بخفوت (ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت المبكر؟)
ابتسمت حنين وهي تفرد ذراعيها هاتفة بسعادة (سأتناول الإفطار معكم اليوم)
لم تظر الحماسة على وجه حور الهادىء جدا مؤخرا، باستثناء حين تتعامل مع معتز، حينها تشرق ملامحها بوضوح...

قالت حور بهدوء (وهل ستتركين زوجك يتناول إفطاره وحيدا؟)
لم تفقد حنين ابتسامتها المشعة و هي تجيب ببساطة (لقد تناولت الإفطار معه بالفعل قبل أن آتي، هذا إفطاري الثاني)
رفعت حور حاجبيها و هي تستدير مجددا الى معتز قائلة بهدوء (اللهم لا اعتراض).

عبست حنين و هي تجهز الصينية و تضع فوقها الأكواب لتقول مستاءة، (أنا هنا ضيفة لدى عمتى، و لست ضيفتك بالمناسبة، و عمتى تحب أن ترانا نجهز الإفطار مجتمعين كي تسعد بجمعتنا، فمن فضلك ابعدي احقادك الدفينة عن مجال المطبخ كي لا يتسمم الفطور).

لم ترد حور وهي تلتقط شريط دواء لتأخذ منه قرصا، لكن و قبل أن يصل إلى فمها كانت حنين قد هجمت عليها من خلفها لتكمم فمها و تنتزع القرص من يدها بشراسة قبل أن تقول بصرامة (ماذا تأخذين؟)
كانت حور تنظر اليها بذهول. لترد مبهوتة (انها أقراص لمعدتي، لأن الإلتهاب بها يؤلمني).

قلبت حنين الشريط لتتأكد بملامح صارمة، وما أن تأكدت حتى أعادت الشريط لحور وهي تقول بهدوء (توقفي عن أكل نفسك من شدة الغل، لقد قاربتِ على الإختفاء، و حينها ستصبح معدتك على خير حال)
ثم حملت الصينية لتخرج بها دون أن تنتظر ردا، بينما حور كانت واقفة مكانها تنظر بذهول إلى الباب وهي تهمس (فليشفيك الله!، يا حنين يا ابنة أم حنين! )
و بعد لحظات عادت حنين الى المطبخ و هي تقول (أين شقراء البيت الفاخرة؟).

مطت حور شفتيها بإمتعاض لتقول (على الأرجح لن ينزلا لتناول الإفطار معنا، فمنذ زواجهما لم يفعلاها سوى مرات قليلة، بينما الإفطار يصعد اليهما معززين مكرمين)
ثم استدارت لحنين بشراسة لتقول رافعة اصبعها في وجه حنين، (حتى أنني و بأمرٍ من أمي صعدت اليهما بصينية الإفطار ذات صباح، أنا!، أنا حور رشوان حملت لهما صينية الطعام، أنا أتعامل في هذا البيت أسوأ معاملة).

أسوأ معاملة لأنك حملتِ صينية الطعام و صعدتِ عدة درجات!
الا أن حنين احتفظت بجملتها لنفسها و هي تقول بوداعة (إنها عروس في شهر عسلها، دعيها تتدلل قليلا، و حين تأتي للعمل معنا ستكون حينها في ملعبنا)
صمتت حنين قليلا و هي تقطع الخبز الى أرباع، ثم قالت فجأة بهدوء (لقد رأيت زوجك اليوم، وسألني عنكِ)
رفعت حور وجهها الى حنين ببطء وهي غير مستوعبة، لتقول (زوجي من؟).

استمرت حنين في عملها دون أن تنظر ليها و هي تجيب بهدوء (تعدد الأزواج تهمة خطيرة)
همست حور بخفوت (أين رأيته؟، و ماذا قال لكِ؟)
اجابتها حنين، (عند البوابة بعد أن دخل معتز، و سأل عنك و عن أحوالك و إن كنتِ تبقين بمفردك طويلا)
ظلت حور صامتة قليلا تفكر فيما سمعته، ثم استدارت الى معتز وهي تقول بخفوت (به الخير).

نظرت اليها حنين بطرفِ عينيها، ثم عادت الى عملها، لا تنكر أنها تشعر بتعاطف غريب معها، صحيح انها جلبت كل ما حدث لنفسها، لكن لا امرأة تستحق أن تتألم كل هذا الألم، فقد جربت كل أنواع الآلام من قبل...
لكنها لم تخبرها بذلك، فآخر ما تحتاجه حور حاليا هو التعاطف، لا تحتاج سوى نفسها و الا فستركن الى من يتعاطف معها من جديد، و ستنام منها في الخط...

جلس عاصم و روعة، و حور و بجوارها حنين و معتز الى مائدة الإفطار...
بينما اتجهت صبا سريعا و هي بزيها العملي الكلاسيكي الى المطبخ لتحضر آخر شيء متبقي...
بينما تركت وشاحهها الوردي منسدلا حول عنقها لتنساب خصلات شعرها الناعم على جانبي وجهها متسللة من ربطة شعرها خلف عنقها...
جاءت أم رضا الى الحاجة روعة، و همست لها بشيء.

فأومأت لها روعة مسبلة جفنيها بأهمية و إتزان، ثم قالت بجدية دون أن تنظر للجالسين (هيا ابدأا أنتم، مالك و أثير لن يفطرا الآن)
احمر وجه حور غضبا و استيائا، و ارتبك عاصم ضيقا، فالوضح محرج للغاية...

بينما احمر وجه حنين خجلا بشدة و هي تكتم فمها بيدها كي لا تضحك ناظرة الى طبقها، و حين أوشكت على الفشل، قضمت قطعة خبز كبيرة علها تساعدها، الا أنها لم تستطع في النهاية من شدة احمرار وجهها و سعالها فكتفت ذراعيها فوق المائدة لتدفن وجهها بهما و تهتز بضحكاتٍ مكتومة...
قالت روعة بصرامة (ارفعي وجهك يا حنين و تناولي فطورك و كفي عن العبث).

لم تستطع حنين امساك نفسها أكثر و تحول الضحك المكتوم الى صوتٍ أعلى قليلا محاولةٍ إيقافه بشتى الطرق، نظرت اليها حور و ابتسمت و هي تنظر الى عاصم المرتبك إحراجا، ثم نظرت إلى أمها قائلة بيأس (حقا يا امي الوضع أصبح محرجا لغاية، اسمحي لهما بالذهاب لبيتنا القديم طالما أن مالك يرغب في ذلك).

استائت روعة أكثر و هي تحتج قائلة (هنا و هناك بيتا والده، فليقضي هنا بعض الوقت و هنا بعض الوقت، بنت يا حنين ارفعي وجهك و تناولي طعامك)
ازدادت ضحكات حنين و هي نائمة بين ذراعيها المكتفتين لا تملك الجرأة على رفع رأسها...
فقالت روعة تدافع (عاصم حبيبي، ها هو هنا إلى جواري و لم يشكو أحد منه).

نظرت حور بابتسامة من الأذن الى الأذن، بينما ترى وجهه محمر من هذا الكلام في جمعٍ من النساء فقالت حور بمكر (عاصم متزن و يجيد اخفاء أفعاله)
انفجرت حنين ضحكا بين ذراعيها و هي تسعل بينما صرخ عاصم بغضب (حور، احترمي نفسك، إياك أن تسمع صبا مثل تلك الملاحظات، إياك)
وصلت صبا و هي تقول مبتسمة. حاملة طبقين كبيرين من البيض بالبسطرمة، ثم قالت (ماذا بها صبا؟).

وضعت الطبقين على المائدة و هي تنقل نظرها بين حور الشريرة المبتسمة و عاصم الغاضب، و حنين المدفونة بين ذراعيها تضحك و هي تكاد تسقط تحت الطاولة...
اختفت ابتسامة صبا و هي تقول ببراءة (هل كنتما تتكلمان عني؟، هل تضحكان علي؟)
مدت روعة يدها لتحيط بها وجنة صبا و تقبلها، قائلة (لا عليكِ منهما، إنهما قليلتي الأدب، تناولي فطورك).

قضمت صبا قطعة خبز بقوة، و هي تنظر اليهما بعدم فهم، بينما رمق عاصم حور شزرا، ثم قال بصرامة (آنسة حنين، هلا صعدتِ الى هنا معنا، كي نتخلص من ذلك الفطور و منكن ايضا)
رفعت حنين أخيرا بأدب وجها محمرا متورما و عينين دامعتين بغزارة، ثم أخذت تلتقط عدة أنفاس، الى أن هدأت دون أن تنظر الى عاصم الغاضب، ثم أخذت تأكل بصمت و هي تدعو الله الا تضحك مرة أخرى...

انها الصفة الشرقية الأصيلة في أي أنثى، حين يكون هناك كلاما خارجا او حتى مشهدا رومانسيا في التلفاز
في وجود أخاها، فإنها تتصرف التصرف الأمثل، تنفجر ضاحكة!، ...
نظر عاصم الى صبا أخيرا، ليقول بعبوس (هل ستتأخرين اليوم؟)
هزت صبا رأسها نفيا و هي تنظر اليه مبتسمة قائلة بهدوء (لدي محكمة صباحا، ثم سأمر سريعا إلى المكتب و أعود من فوري)
قال عاصم بجفاء (و طبعا سيجلجل صوتك في القاعة).

رفعت صبا اصبعيها علامة مقدار قليل و هي تقول بدلال تسترضيه (فقط قليلا)
ابتسم عاصم رغم جفاء ملامحه، ثم مد يده ليطير طرف الوشاح الوردي الداكن قائلا بصرامة (لكن ليس بالحجاب الوردي الداكن)
ابتسمت صبا بحب و عيناها ترسمان قلوب و قوس قزح، هامسة (ليس بالحجاب الوردي).

كانت حنين و حور تنظران اليهما متابعتان بدقة، فمالت حور و هي تهمس لحنين بعجب (يغار عليها بسبب الحجاب الوردي!، هل نحن عديمات الدم، أم هو و أخاه قد أصابتهما نوبة عشق قضت على البقية الباقية من سيطرتهما على نفسيهما؟)
امتعضت حنين وهي تهمس لها بخفوت (رحم الله أيام نوبات عشقك، كان صوت صراخك و عويلك يوقظنا من النوم ليلا لنصعد جميعا صاغرين الى غرفتك نهدئك، بعضنا يحتضنك و بعضنا يهاتف زوجك ليأتي و يسترضيك).

شردت حور في تلك الأيام، و بهت مرحها، هل كانت فعلا بمثل تلك الشخصية المنفرة؟..

لماذا هي بهذا الشكل؟، لماذا هي بتلك الشخصية؟..
أفاقت على صوت همس حنين (لم أقصد أن أجرحك، حور، حور)
نظرت حور اليها، قبل أن ترسم ابتسامة سخيفة هامسة باستفزاز (الشيء الوحيد الذي ندمت عليه هو أنني لم أطردك من غرفتي حينها، امرأة تبكي لماذا تتدخلين فيما لا يعنيك!)
ضاقت عينا حنين بشر قبل أن تهمس من بين أسنانها، (أنه خطأي أن عبرتك، كلي و أنتى صامتة)
ابتسمت حور بصدق و هي تلتفت الى معتز لتطعمه مجددا...

الفت عاصم لصبا و مد يده يمسك بكفها المستريحة على المائدة ليداعبها بإبهامه قائلا بحب (لقد بدأ العمل في بناء بيت والدك من جديد)
ابتسمت له صبا بحنان و هي تتشبث بأصابعه، مستندة بوجنتها الى كفها الأخرى و تنظر اليه بهيام فقدت القدرة على إخفاؤه...
فتابع عاصم قائلا بإبتسامة (و حوله اشتريت حصص من عدة مساحات خصصتها الحكومة للبيع، سأنشىء مجمع سكني صغير خاص و اسمه، صبا).

فغرت صبا شفتيها، و برقت عيناها بدموع حبيسة، و هي غير قادرة على الهمس بكلمة...
و مع أول دمعة انسابت على وجنتها، اقترب منها ليجذب وجهها اليه و يقبل وجنتها بحب...
فأغمضت عينيها و هي تضع يدها على كفه الممسكة بوجنتها...
بينما كانت حور تنظر اليهما بصمت، لم تدري أن دموعها قد تساقطت هي الأخرى، شاردة بعيدا، في سنوات قضتها تركض خلف سراب، انقضى في لحظة وصولها اليه و توهمها بأنها أمسكت به...

ما أن ابتعد عاصم عن صبا و التفت ليلمح دموع حور الصامتة و امها تنظر اليها بحزن، حتى همس برفق و هو يمد لها ذراعه (تعالي)
اقتربت منه حور بكرسيها و هي تستريح بوجنتها على صدره فضمها اليه و هو يربت على وجنتها قائلا (لا بأس لا تبكي، سيكون كل شيء على ما يرام)
همست حور و هي تمسح دموعها مبتسمة بشجاعة (ان شاء الله).

ربت عاصم على وجنتها قائلا بهدوء (اليوم سأذهب لنادر و أحاول التفاهم معه ليترك معتز معك، لن اتركه الا أن يوافق و لو رغما عنه)
قالت حور بسرعة و هي تستقيم في كرسيها، تمسح دموعها، (لا يا عاصم، ليس الآن، ربما كان معه حق، ابني سأحصل عليه لكن بعد أن أفيق لنفسي قليلا، كي لا يتضرر بسببي مجددا، و حينها أنا من سأطالب به، دون أن يرغمه أحد على ذلك)
ظل عاصم ينظر اليها قليلا، قبل أن يقول بخفوت (حسنا لا بأس).

كانت حنين في تلك اللحظة قد أخرجت مفكرتها الصغيرة لتسجل عليها بصوت عال تحادث نفسها (سيكون اسم روضة الأطفال، حنين )
نظرت اليها حور بشراسة و هي تهتف مستنكرة (ماذا؟، حنين لأي شيء تحديدا!، يجب أن يرتبط الأسم بالمضمون، أتريدين لصق اسمك و السلام؟)
رفعت حنين وجها متذمرا اليها و هي تشير الى صبا مدافعة (المجمع السكني، سيسميه عاصم صبا، فما المضمون منه؟).

هتفت حور بتعجب (و من قال انه مرتبط بالمضمون؟، من سيرى اسمه سيظنه منتجح صحي يحتوى على ساونا و تقشير بشرة)
زمت صبا شفتيها، بينما زفر عاصم و هو يرمي منديل المائدة بحنق، و قالت حنين رافعة كفها بإستسلام (العفو منكما، أنا السبب في استجلاب نوبة العكننة تلك الى مائدتنا السعيدة، ستظل كئيبة طوال عمرها)
قالت حور بحزم (بدلا من أن تشغلين نفسك بالأسم، فكري في المكان).

قال عاصم بهدوء (المكان سأتكفل أنا به، و لن يكون هناك أنسب من بيت ضخم بحديقة كبيرة في المجمع السكنى، حيث انه في ارقى مكان في المدينة)
صمتت حور و حنين تماما و هما تنظران الى بعضهما، ثم ابتسمتا في وقتٍ واحد، بينما قالت صبا بغضب (هلا هدأتما الآن و تركتماني اسعد باسمي قليلا؟، أفسدتما أجمل لحظات حياتي)
قالت حور بهدوء (دعك منها، و هيا نتفاهم في باقي التفاصيل).

نظرت حنين خلفها، لتعود و تنظر إلى حور مبتسمة برقة قائلا بعيني براقتين (لن أتمكن الآن، فبوق السيارة يستدعيني بالخارج لأعود الى جاسر حالا)
فتح عينيه صباحا باحساس من الخمول و السعادة بات مألوفا لديه مؤخرا، هل هي الرائحة الوردية التي تسللت إلى أنفه أم شعوره بها قبل حتى أن يفتح عينيه و هي مستلقية الى جواره تنظر اليه في نومه مبتسمة برقتها التي لا يصدقها حتى الآن.

رمش بعينيه عدة مرات قبل أن يفتحهما على مرأى وجهها الوردي الحالم بشرود، فابتسم برقة ليقول بنعومة (كيف تكونين وردية هكذا طوال الوقت؟)
تحول الوردي إلى داكن قليلا تحت عمق نظراته النافذة تحت بشرتها الشفافة...
فابتسم وهو يقول عابثا يجذبها اليه ببطء (و بدرجاته أيضا!، تعالي يا بتلات الورد)
ابتسمت برقة و هي تقاوم ذراعيه اللتان تجذبانها اليه و تهمس محتجة (ألن نخرج اليوم؟).

همس مالك برقته الصلبة عن رقتها (سنخرج، بعد قليل)
ثم جذبها لتسقط في أحضانه ضاحكة بهمس ليهمس هو الآخر في أذنها (! نعومتك لا تصدق!، لا تصدق أبدا)
بعد فترة طويلة كانت تجلس أمامه على أحد المقعدين المتقابلين في غرفتهما تحت النافذة، تمسك بكوب شاي ساخن بين يديها، تهدىء به أطرافها المرتجفة
تنظر اليه من تحت حافة كوبها و قد فقدت القدرة على أيقاف تأملها له.

أصبح بالنسبة اليها الشخص الوحيد الذي تملكه في هذه الحياة، و الذي تصادف أن تعشقه في نفس الوقت، علمها العشق بفنونه، و أذاقها اكتمال الحب كالبدر في ليلة تمامه...
ترتعب في كل لحظة من لحظات يومها من أن يدرك خطأوه في أي يوم ليلفظها من حياته معتذرا بكل تهذيب
رفع عينيه اليها فجأة ليضبطها متلبسة تتأمله، فابتسم بخبث لها و هو يقول بخفوت (هل أُعجبك؟).

احمر وجهها الأ أنها همست بجدية (منذ اللحظة الأولى التي رأيتك بها)
اتسعت ابتسامته وهو يطرق بوجهه قبل أن يرفعه لها مجددا مبتهجا، ينظر اليها ملتهما ملامحها الوردية
ثم همس لها بسعادة (و أنت كذلك، بهجة للنظر، انت كشمس ذهبيه و عيناك، عيناك شفافتان بلون السماء، و و جنتيك بلون بتلات الورد)
ابتسمت و أطرقت بوجهها، ثم سألته دون أن ترفعه مجددا (هل أنا فتاة أحلامك يا مالك؟).

انتظرت اجابته بقلق و ترقب و حين ظل صامتا وقع قلبها منها و شعرت بألم كبير، الا أنها سمعت صوته أخيرا يهمس (و لماذا لا تنظرين إلى و انت تسألينني؟)
هزت رأسها نفيا دون أن تتكلم أو أن تنظر اليه
فاتسعت ابتسامته ليمد يده عبر الطاولة بينهما كي يرفع لها ذقنها لكنها أسبلت جفنيها بصمت، فلم يجد بدا من النطق و هو يتحسس نعومة بشرتها المخملية (لم تكن لدي فتاة أحلام).

رفعت جفنيها تنظر اليه بصمت عاتب فتابع هامسا دون أن يتخلى عن وجهها (لا مواصفات محددة أبدا، و الآن)
انتظر قليلا الى أن همست بترقب و لهفة (الآن ماذا؟)
ابتسم مالك ليجذب و جهها اليه هامسا (الآن استمتع باستكشاف كل صفة من صفاتك، كل تفصيلة صغيرة من تفاصيلك، أنت زوجتي، هل تفهمين ذلك؟، زوجتي، أحيا معك الحلم من بدايته، حلم لم أحلم به من قبلك).

تنهدت أثير بقوة من كلماته التي تصهر دمها عسلا متدفقا في عروقها، بينما استسلمت له وهو يميل اليها، يجذبها اليه، يقبل وجنتها، فكها، زاوية شفتيها، يتنعم بنعومة بتلات الورد و رائحتها و لونها
انبعثت ألحان الصباح الغربية المبكرة من المذياع، فهمست و هي تستقبل قبلاته التي تنهمر عليها كرفرفة أجنحة لفراشات (هل ترقص؟).

توقف قليلا ليهمس مبتسما (على تلك الألحان؟، يؤسفني أن أخذلك تماما، لو لحن مطاوى لربما نجح الأمر)
فتحت عينيها مبتسمة له بحب، هامسة (سأعلمك)
ثم قفزت من كرسيها واقفة تمد يديها لتجذبه بقوة الى أن وقف ضاحكا...
وقفت متواجهة معه، تشد ظهرها بأناقة، ترفع ذقنها بكبرياء أنيق، ثم مدت ذراعها مفرودة لتستريح على كتفه، و بكفها الأخرى رفعت كفه ثم همست مبتسمة (شد ظهرك مثلي و ضع يدك على خصري).

مد يده تتجول قليلا على خصرها هامسا بعبث (هكذا؟)
عقدت أثير حاجبيها لتقول مبتسمة بحزم (بإحترام، مجرد لمسة رقيقة)
لم يكن يريد أي لمسات رقيقة، بل كان يريد المزيد و المزيد، لكنه امتثل لأوامرها كي لا يغضبها
فابتسمت بسعادة هامسة ( (نعم هكذا، و الآن اتبع خطواتي، حين تبدأ ساقي اليمنى في أن تخطو خطوة للأمام، تتناغم معها ساقك اليسرى مباشرة لترجعها للخلف قبل أن أرتطم بها، و العكس، هيا).

بدآ في التحرك سويا لكنها قالت سريعا ( (لا، لا تنظر للأرض، اشعر بخطوتي دون أن تنظر اليها، نعم هكذا ارفع ذقنك بإباء و تحرك بخيلاء)
نجحت خطواتهما معا بمهارة بالنسبة للمرة الأولى، ثم همست أثير مبتسمة (و الآن تلك الرقصة تعتمد على الرشاقة، سنتحرك في محيط دائرة الغرفة، مستعد؟، هيا)
عادا ليتحركا معا برشاقة، و قد كان رشيقا نحيفا بالرغم من قوة جسده.

فتنت به تماما، لكنه كان هو من همس مبهورا (أين تعلمت تلك الرقصة؟).

أبتسمت بحزن و شرود لتهمس بتتاوه (آه يا مالك، كنت في وقت ما أميرة صغيرة في نظر والدي، على الرغم أننا كنا من الأسر المستورة، او يمكن أقل قليلا، لكن والدي كان يصر على البحث لي عن بعض الدروس في أماكن بسيطة قديمة غير مكلفة، هنا أو هناك، تعلمت تلك الرقصات في مدرسة قديمة مالكتها يونانية الأصل، و أخذت دروس البيانو مع مدرسة انجليزية متقدمة في العمر كانت جارتنا قديما قبل أن تسافر منذ سنوات طويلة).

كان مالك يستمع الى كلماتها الحزينة التي تجذب اليه مرآى طفلة صغيرة شقراء، ترتدي فستان منتفخ أنثوى، منقوش بورود وردية اللون، منمقة المظهر بالرغم من عدم تكلفه الكثير، يحاول والدها أن يجعل منها شابة منمقة مهذبة، علها تعوض عن ضيق الحال المادي
انتبه الى أنها توقفت عن الكلام لتهمس له شيئا ما بفرنسية رقيقة
ابتسم ليسألها بهدوء (ماذا قلت؟).

اتسعت ابتسامتها لتشرح له ما قالته بالمزيد من الفرنسية، فأغمض عينيه ضاحكا وهو يتحرك معها برشاقة حين تهمس باللغة الفرنسية، يشعر بروحه تهفو إلى معرفة ما تنطق به...
يعلم أنها كانت ملتحقة بمدرسة الراهبات الفرنسية، مدرسة عريقة، قديمة قدم الزمن، غير مكلفة، شديدة الحزم و التربية قبل التعليم، لا يعلم لماذا يحزنه كل هذا و يؤثر في قلبه، ربما بسبب ما آل اليه حالها فيما بعد من شقاء و هوان، ...

بعد أن انتهت، كان يدور بها في دائرة الغرفة هو يقول (حين تتحدثين الفرنسية، تشعريني بأنني ابن حارات بالفعل، فوالدي أصر على أن يدخلني أنا و عاصم و حنين مدارس حكومية عربية كي لا نتعود الرفاهية، بعكس حور، و آخر معلوماتي عن الفرنسية كانت في بضع جمل تمكنني بالكاد من إجتياز اختبار الثانوية العامة).

ضحكت بمرح و هي تدور معه بخفة الفراشة، ووجدت نفسها تحدثه بالمزيد و المزيد، كانت تهمس بلهجة مؤثرة، تومىء برأسها أحيانا بنفي، و احيانا بالإيجاب، و هو مبهورا ينظر إلى شفتيها الورديتين، لا يستطيع تمييز أي كلمةٍ سوى (أنا أحبك)
بالفرنسية
و التي كررتها عدة مرات في حديثها الرقيق الهامس، الى أن حملها بين ذراعيه ليدور بها بسرعةٍ ضاحكا وثوبها الوردي و ساقيها تدوران من حوله...

صعد الى المكان الذي اعتاد المجيء اليه منذ خمسة عشر عاما متتالية، نظر الى أرجاء السطح...
ذلك السطح الذي شهد ضحكات الطفولة و الصبا، المرح و البراءة...
السطح الذي شهد فقدانه لنوار الصغيرة، لتضيع البراءة و تغيب الضحكات لفترة طويلة...
السطح الذي شهد زواجه من أثير، أثير...
ابتسم مالك وهو يتقدم بإتجاه السطح، ممسكا في يده علبه مستطيلة صغيرة، تحتوى على دمية شقراء رشيقة...

أخذ نفسا عميقا من هواء البحر المشبع باليود، ليهمس بعمق (عيد ميلاد سعيد يا نوار، عيد ميلاد سعيد صغيرتي)
أغمض عينيه قليلا ليهمس مجددا (آسف لأنني سهوت عنك للحظةٍ حبيبتي، آسف جدا، و لو مرت العشرات من السنوات، فلن تمحو أسفي).

فتح عينيه على صوتٍ من خلفه، فاستدار ببطء لينظر إلى الفتاة ذات الثمانية أعوام، و شقيقتها الصغرى ذات الست أعوام، تقفان بخجل و ارتباك عند باب السطح، فابتسم مالك ليقول برقة (تعالي يا سمية، و أنتي يا روان، هل احضرتما صديقاتكما؟).

أومأت سمية مبتسمة و هي تلوي قدمها الصغيرة بإرتباك، لتتبعها طفلة أخرى في التاسعة ربما، و ثانية و ثالثة و رابعة، كلهن في أعمار متقاربة، حوالي عشر أو اثني عشر فتاة صغيرة، قمن بتجميع أنفسهن، بعد لعب طويل...
اتجه مالك الى دولاب خشبي صغير، موجود في ركن السطح، قام بتخزين بعض الأشياء به، و منها علب مرتبة لعدد من الدمى...
التفت مالك اليهن مبتسما و أشار اليهن أن يقتربن، ليقوم بإعطاء دمية لكلا منهن...

كان ينفض كل علبةٍ من الغبار الذي يعلوها، ليعطيها الى طفلة منهن...
أخذن يتقافزن فرحا، لينزلن على السلالم جريا حتى قبل أن يشكرن مالك، و أثناء جريهن اصطدمن بأثير التي كانت صاعدة لمالك، فابتسمت بمرح الى موجة الفتيات الضاحكات التي تطوف جريا من حولها...
وصلت اليه أخيرا، فوجدته يقف عند السور، ينظر إلى البحر من بعيد، فاقتربت منه ببطء حتى لامست ذراعه هامسة (مالك؟).

التفت اليها مبتسما يتطلع الى عينيها الزرقاوين، ثم قال برقةٍ وهو يمسك بكتفيها (هل ينقصك شيء في البيت؟)
هزت أثير رأسها نفيا و هي تبتسم بجمال لتقول برقة (بل هو كامل، حميمي و دافىء، و قد أحببته جدا)
ابتسم مالك أكثر، ليتركها و يتجه الى السور حيث كانت ترقد عليه علبة الدمية الجديدة التي اشتراها اليوم، فالتقطها، ليمدها مبتسما الى أثير قائلا (ما رأيك بها؟، أنها لكِ، لأنها تشبهك).

نظرت أثير بانبهار طفولي الى الدمية الشقراء ذات العينين الزرقاوين لتهتف بسعادة (إنها رائعة، لقد أحببتها للغاية، أريد أختا لها)
عقد مالك حاجبيه ليقول بخشونة (هل سنبدأ في الطمع؟، حسنا، كلما أحسنتِ التصرف سآتيكِ بواحدة)
ضمت أثير الدمية الى صدرها بحب، فضمها مالك اليه بقوة، ليقول هامسا (شكرا يا أثير على البهجة التي جلبتها الى حياتي مؤخرا).

رفعت أثير وجهها اليه بشفتين ترتعشان قليلا، لتهمس (إن كنت قد جلبت البهجة لحياتك، فأنت حياتي نفسها)
برقت عينا مالك قليلا، ليهمس بعبث (اسمعي، لما لا ننزل لنتفقد الأثاث؟، اخشى أن تكون أرجله الخشبية قد اصيبت بحشرة الخشب بفعل القدم)
قالت أثير باهتمام (لا بل الأثاث قوي و متين، سيتحملنا الى أن نأتي بالأثاث الجديد)
عقد مالك حاجبيه بجدية مصطنعة وهو يقول (أتظنين ذلك؟، لن أصدق الا حين أن أجرب بنفسي).

أومأت أثير واثقة و هي تقول (تعال لتجرب بنفسك)
كتم مالك ضحكته بالكاد وهو يقول بجدية (نعم، هيا بنا)
بعد مرور شهرين...
كانت تنظر الى نفسها في المرآة، مبتسمة بشرود. متطلعة الى صورتها التي تحكي الكثير...
تنظر الى عروس صغيرة، في قميص نوم أبيض حريري قصير مزين ببعض الزهور المشغولة أعلاه...
بوجه ساحر ببريقٍ جديد، بريق امرأةٍ عاشقة...
ستون يوم، ستون يوم منذ أن اعترف لها بحبه و اعترفت له بحبها...

ستون يوم لم يتوقف خلالها عن اخبراها بحبه بشتى الطرق، و كلها طرقٌ تذيب عظامها و تصهر مفاصلها و تربطها به أكثر و أكثر...
من كان يظن أن تقف أمام مرآتها اليوم بمثل هذه الصورة و هذا الإحساس، منذ أكثر من عام بقليل لم يكن هناك وجود لمن يدعى بجاسر رشيد في حياتها...
و ها هي اليوم، تقف مترقبة تنتظره، كعروس وجلة محبة، بل عاشقة...

عام كامل و هي تدور في صراعٍ طويل مع نفسها قبل أن يكون معه، تكره أن ترفع راية الإستسلام له، لكن ليس بيدها حيلة، لقد أجبرها على حبه كما أخبرته منذ شهر...
شهران كاملان وهو يجبرها على التفوه بالكلمة السحرية مرة بعد مرة و كأنه يخشى أن تنساها...
شهران كاملان وهو يشد من عزمه، يتابع تدريباته الجسدية بمنتهى الإرادة و القوة، حتى بدا أفضل بكثير...

لا يسمح لها بأن تنساه عاطفيا، و في نفس الوقت يريد أن يعود كما كان و بأسرع ما يمكنه، و هي تراقبه أثناء ذلك مبتسمة بوله، تشفق عليه من المه الذي تراه بين الحين و الآخر، تخاف على قلبه من أي مجهودٍ شاق، تسعد بكل تحسن تراه عليه، و ينبض قلبها انتظارا...

و الليلة تحديدا، كانت موعدا بينهما، همس لها به في اذنها، جعلها تحمر خجلا دون أن تنظر اليه و كأنها عروس صغيرة مرتبكة، لكن مشتاقة، مشتاقة الى أبعد الحدود، على الرغم من أنه لم يبتعد عنها ليومٍ واحد، و هي لم تكن تسمح له بأن يبتعد كلها أصابته نوبة كبتٍ أو إحباط تثير غضبه و جنونه، متابعة مع طبيبه كل تفاصيل حالته الصحية و أدقها، و متابعة معه هو كل دقةٍ من دقات قلبه، تتضاعف كلما اقتربت منه، و نفس يضطرب كلما همست له بحبها...

لكن الليلة غير، الليلة هو يريدها بكليتها كما أخبرها سابقا، عضت على شفتها مبتسمة بحماقة و عيناها تبرقان شقاوة و ترقبا...
انتفضت حين سمعت صوت الباب يفتح من خلفها ليدخل الغرفة فجأة، و دون انذار
عدو اللياقة و الطرق على الأبواب مسبقا
عقدت حاجبيها بغيظ و هي تفكر ماذا لو لم تكن قد استعدت بعد بذلك المظهر المذهل الذي تعد اليه من الصباح!
كان سيفسد كل ذلك لمجرد أنه يرفض أن يطرق الباب أولا قبل دخوله...

الا أن كل تلك الأفكار الغاضبة التي احتلت لحظة واحدة من تفكيرها ماتت حتى قبل أن تبدأ ما أن أطل بهيئته الضخمة الوسيمة الشديدة الجاذبية...
جاسر رشيد، زوجها...
نظرت اليه في المرآة وهو يدخل مستندا الى عصا صغيرة، استبدل العكازين بها منذ فترة، بعد ان تحسن عن حالته الأولى، الا أنه لم يتعاف تماما من آثار الحادث المهول الذي أصابه...
لكنه الآن وهو يدخل مستندا الى تلك العصا و التي أعطته هيبة و جاذبية غريبة...

فغرت شفتيها تتنهد دون صوت، و هي تتابع خطوط بنيته بإنبهار، الى أن وصلت عيناها لعينيه في المرآة، حينها توقف قلبها عن عمله الطبيعي تماما...
يالها من نظرة رماها بها و التي فاقت كل توقعاتها عن انطباعه ما أن يراها، انه الوحيد في هذا العالم الذي يشعرها بأنها أجمل نساء العالم...
أجمل نساء الدنيا في عينيه، تماما ككلمات الأغنية التي تعشقها و لم تكن تتخيل أن تحياها ذات يوم...

حتى حين تقترب منه، ليغمض عينيه مستنشقا رائحة شعرها، تماما كالأغنية!..

إنها تحيا أغنيتها الخاصة، به، به وحده...
احمرت وجنتاها و أسبلت جفنيها بعد أن فقدت القدرة على تحدي نظراته المنفعلة بشوقٍ لم تحتمله...
شعرت به يقترب منها ببطء، ببطء كاد أن يقتلها، الى أن وصل اليها أخيرا، ليمس كتفها برفقٍ كي تستدير اليه، ثم وقف أمامها يتأملها بصمت و هي مطرقة أمامه بحالة يرثى لها من الترقب...
حين وجد صوته أخيرا، سمعته يقول بدون مرح (حنييييين).

ابتسمت من تحت ستار شعرها الناعم الطويل الذي يخفي وجهها الصغير عن عينيه، ثم همست برقة (نعم؟)
سمعته يلتقط نفسا خشنا، مرتجفا، بصعوبة قبل أن يسألها بصوتٍ مكبوت (الى متى سيستمر جمالك في التزايد؟)
عضت على شفتها السفلى المسكينة، و كم ودت لو ترفع يدا تهدىء بها قلبها المرتجف، لكن الجرأة لم تواتيها و هي تهمس بهدوء مرح (الى أن تتوقف عن حبي)
قال بهدوء بدى في اذنها بقوة قصف المدافع (أبدا).

حينها رفعت وجهها اليه، حين شعرت بضرورة رؤية عينيه في تلك اللحظة، و آآآه من عينيه، بهما أشواق سنين طويلة بحاجبين منعقدين كأنه يتعامل بصعوبةٍ مع جمالها، فهمست بنعومة و بعينين تتلألآن (اذن لن يتوقف جمالي عن التزايد).

تأوه قليلا وهو يرفع يده الحرة بارتجاف ليبعد شعرها الطويل عن كتفها الناعمة، لينحني من طوله الفارع، الى طولها القزم بالنسبة له مرتكزا على عصاه، ليطبع شفتيه ببطء على كتفها هامسا بتأوه، (لم أرى من هي أجمل منك من قبل)
كانت مائلة بوجهها اليه، تنظر الى شفتيه و هما تقبلان كتفها، بينما استندت الى طاولة الزينة من خلفها بيديها حين شعرت بأن ساقيها لن تتحملاها طويلا...

و عادت الموسيقى لتعزف من حولها، و كلمات الأغنية تتردد من اللا مكان
أجمل نساء الدنيا في عينيّ أنا، و عد مني لن أحب غيرك في الوجود
أغمضت عينيها وهي تهمس لأذنه بينما شفتيه لا تبارحان كتفها، (وعد مني، لن أحب غيرك في الوجود)
رفع وجهه اليها، ينظر اليها بذهول و بحاجبين منعقدين من روعة كلماتها البسيطة، فمد ذراعه الطليقة ليعتقل بها خصرها، فيجذبها إلى صدره بقوةٍ، مغيبا كلماتها في غمرة أشواقه...

فرفعت ذراعيها تحيط بهما كتفيه و هي تنهل من شوقه الرهيب، و ما أن التقطتت انفاسها حتى همست ترتجف (ما بيني و بينك أكبر من كل الكلام)
تأوه جاسر و زمجر بإنفعال أخافها، يجذبها اليه و هو لا يصدق بأنها تنطق بتلك الكلمات الملتاعة...
لم يكن يعرف بأنها تنشد كلمات أغنيتها المفضلة، ومن المرجح أنه لا يعرف صابر الرباعي من الأساس...

و هي لن تخبره، سيكون سرها و ستجعله يظن بأنها قد ارتجلت الكلمات، فهي لن تجد أروع منها في تلك اللحظة...
جذبها جاسر اليه لينهضها من على طاولة الزينة بذراعه الطليقة، حتى رفعها عن الأرض بها، بينما يستند على عصاه بالأخرى...

فلم تتمكن من متابعة أي كلماتٍ اخرى من كلمات الأغنية وهو يتحرك بها بصعوبة في اتجاه السرير، مغرقا اياها في بحرٍ لا ينتهي و قد بدا أن الطريق بطولٍ أميالٍ و أميال، لكن حنين تمكنت من الهمس بإختناق و بعض ذرات العقل تجبرها على النطق (ظهرك، أنزلني)
الا أنها سمعت كلمة واحدة قبل أن يغرقها في أشواقه من جديد (اخرسي).

و ما أن القاها على السرير بذراعه التي تحملها مطوحا إياها كأنها لا تزن شيئا و استلقى بجوارها، تاركا عصاه تسقط أرضا، حتى اقترب منها، مبعدا شعرها من جديد، ليهمس بإنفعال قوي، يفوق قدرتها على التحمل (اشتقت اليكِ)
رفعت ذراعيها تضمه اليها بقوةٍ و هي تهمس تتأوه (إحساس جميل بداخلي، أكبر من الغرام).

كانت تثير جنونه بمزيد من العبارات التي تنطقها دون نغم، و كأنها تتكلم له وحده، لتعيد من جديد بكل صدق و ثقة في أذنه (وعد مني، لن أحب غيرك في الوجود)
و كان وعدا لليلةٍ طويلة، و بداية عمرٍ أطول، و نهاية كلامها الليلة، فقد ثرثرت أكثر من اللازم في وقتٍ حاسم...
كتفت ذراعيها مبتسمة برقة، و هي تستند بكتفها الى باب المطبخ تراقبه بمحبة...
كم هو طفل و لن يكبر أبدا.

كان يجلس على كرسيه المتحرك على الرغم من عدم حاجته اليه، فعصاه أكثر من كافية حاليا...
ينزلق به من مكانٍ لآخر وهو يحضر لها الإفطار، وهو يدندن بشيءٍ ما لعبد الغني السيد ...
ضحكت بصمت وهي ترفع يدها إلى عينيها، و هي التي كانت تغني لصابر الرباعي بالأمس!..

هناك فارقا ضخما في الحضارات و الحقب التاريخية بينهما...
رفعت يدها أخيرا لتفاجأ به ينظر اليها عابسا، ثم قال بخشونة (هل يمكنني أن أسأل عما يضحك جنابك؟، ألم تري رجلا سعيدا من قبل مع بداية الصباح!).

ابتسمت بشقاوة لتستقيم في وقفتها، وهي تقترب منه، على أرض المطبخ الناعمة و لم تفتها نظراته المشتعلة المحدقة بها من كل الزوايا و كأنه لا يشبع أبدا، ثم قالت بإتزان (اممممم، رجل مشرق و متفائل في الصباح، كم هذا رائع، استمر على تلك العادة)
ابتسم لها بخبث وهو يقول بثقة (سأفعل).

احمر وجهها و استدارت عنه تعطيه ظهرها و هي تحضر أكواب الشاي فوق الرف الرخامي، ثم قالت بهدوء حازم بينما نظراته تحرق ظهرها، (هل يمكنني أن أسأل لماذا تجلس على الكرسي المتحرك؟)
صرخت فجأة حين شعرت بذراع تلتف حول خصرها و تجذبها لتسقط جالسة على ركبتيه، و بعد أن اتزنت نظرت اليه تضحك بغضب و مرح في وقتٍ واحد، لتضربه على صدره، بينما قال هو مبتسما (لأجلسك على ركبتي و نحن نحضر الطعام سويا).

ثم تحرك بالكرسي ليتناول الأكواب و يضعها فوق ركبتيها، ثم يتحرك بالكرسي الى الطاولة فينقل الأكواب عليها، بينما كانت حنين تضحك من حماقته، ثم قالت بحزم و ابتسامةٍ براقة (حسنا، يؤسفني أن أخبرك بأنها ستكون المرة الأخيرة، فنحن سنتبرع بالكرسي لمن يحتاجه و لا يستطيع توفير ثمنه، فأنت لم تعد بحاجةٍ اليه)
عبس جاسر وهو ينظر اليها ليقول (سأشتري واحدا جديدا لنتبرع به، أما هذا فهو ملكي، فأنا أحتاجه صباحا).

برقت ابتسامتها أكثر، لكنها صممت بحزم (اذن سنتبرع بكرسيين لإثنين في حاجةٍ لهما، لا تكن طفلا)
قال باحتجاج (و كيف سأتحرك بك؟، أنتِ لستِ خفيفة الوزن لأحملك من مكان لآخر كل يوم)
رفعت حنين حاجبيها لتقول بهدوء (أستطيع التحرك بنفسي، لكن شكرا جزيلا لوسيلة التنقل، سنتحرك على أقدامنا بدئا من اليوم).

كان ينظر اليها مبتسما و هي تتكلم بحزم، ليقول برفق (كم أحبك في المرات القليلة التي تتحلين فيها ببوادر عقلٍ نما حديثا، لقد خلقت لتكوني أم)
ابتسمت بسعادة من كلمته الأخيرة، فأخفضت وجهها المحمر خجلا، فقال جاسر مستفزا (أتخجلين من مجرد كلمة أم!، بينما)
رفعت حنين وجها بملامح شرسة لتقول بغضب (احترم نفسك).

ضحك جاسر عاليا مرجعا رأسه للخلف، خالى الهموم، مرتاح البال، قبل أن يضم رأسها إلى صدره بقوةٍ، و كأنه يحميها من العالم، فسكنت فوق قلبه مبتسمة تتنعم بقربها منه، فقال أخيرا برقةٍ خافتة وهو يتلمس بطنها المسطحة بحب (ترى أيا من أبنائي الإثني عشر موجودا الآن؟)
ضحكت حنين بحب وهي تضع يدها على يده لتقول بعناد (ستكون طفلة).

لم تقصد أن تؤلمه، لكنه رغما عنه شعر بغصةٍ في حلقه و ذاكرته تلتقط منظرها حين سقطت أرضا في الطريق و هي تنزف، لتفقد طفلتهما بعدها...
أغمض جاسر عينيه عن ذكرى ألمها، في سلسلة آلامٍ طويلةٍ سببها لها...
ثم قال مبتهجا مبعدا حزنه عن عينيها (بل سيكون جاويش)
اختفت ابتسامة حنين فجأة وهي على صدره، لتقول بتوجس رافعة احدى حاجبيها، (من؟)
قال جاسر بسعادة و فخر، (جاويش، على اسم جدي الأكبر).

ظلت حنين صامتة قليلا محاولة ضبط ما ستتفوه به، ثم قالت بهدوء مصطنع (ظننت اسمه رشيد)
قال جاسر مبتسما (نعم، جدي هو رشيد، والده اسمه جاويش)
أغمضت حنين عينيها و هي تفكر، ستكون كنية أطفالي جاسر رشيد جاويش! ...
و أنا الآن، حرم السيد رشيد جاويش!
اما طفلي فسيكون، جاويش جاسر رشيد جاويش!

هزت رأسها قليلا، تبعد الرعب عن تفكيرها لتقول بثقة مربتة على صدره بحزم (ستكون فتاة يا جاسر، و سندع الصبي ليوم مولده، فربما كان اطفالك جميعهن اناث)
ابتسم جاسر ليقول بخبث، (مُحسِنة ستكون مدللتي المفضلة)
أغمضت عينيها بيأس و هي تهمس بداخلها متأوهة
آآآه ياللهي، كنت قد نسيت اسم أُمه تماما!
كالعادة و في اليوم المعتاد، أوصل نادر معتز إلى باب بيت حور...

شهران، شهران مرا دون أن تهاتفه، دون أن تحتاجه، دون أن تطلب سماع صوته...
وقع مرير في حلقه كطعم الصدأ، يحبها، يعلم بأنه يحبها، و حتى الآن لم يمت حبها الحديث في قلبه...
كان يظن بأن قصر فترة التفاهم بينهما ستجعله قادرا على فراقها...
الا ان العكس تماما قد حدث، ليلة بعد ليلة، يتجول في البيت و طيفها من حوله، صوت ضحكاتها ترن في اذنيه، و حتى رنين خلخالها لا يتركه، تشبثها الميؤس منه به...

لكن الأقسى، بعد التفاصيل التي بناها معها مؤخرا، حديثهما الطويل ليلا و هي مستلقية على ذراعه، تحكي و كأنما تحكي لسقف الغرفة، ناظرة لأعلى منطلقة في حديثها الذي لا ينتهي على الرغم من عمله المبكر، طريقة شرحها للكلام و تلويحها بيديها الاثنتين عاليا...
حين يوهمها بأنه قد نام مللا، لتنهض غاضبة مستاءة فيعود ليجذبها اليه ضاحكا، و ما أن تبدا في الكلام مجددا حتى ينام منها بالفعل...

حكاياتها عن نفسها، حقا عن نفسها، و التي تختلف عن حكاياتها المزيفة التي ربطت بينهما في بداية تعارفهما...
كلامها أثناء النوم، لعبها بهاتفها المضيء أسفل الغطاء حتى يضرب الضوء الأزرق عمق عينيه فيصحو من نومه متذمرا غاضبا جاذبا الهاتف منها ليدسه أسفل وسادته و يضع رأسه فوقه...

خف البيت الذي تلقيه من قدميها عشوائيا في كل مكان و دائما ما يتعثر به و هو يحمل كوب شراب ساخن لينسكب بعضا منه عليه، ضحكها عليه حين يحدث ذلك...
لينحني و يمسك الخف و يتظاهر بقذفه عليها بأقصى قوته، و دائما ما تحنى رأسها بذعر حقيقي...
ضحك نادر بصمت دون أن يشعر وهو جالسا في سيارته يضغط أعلى أنفه بأصبعيه بإرهاق...

لا يزال مجروحا منها، مجروحا و مهانا بشدة، يسأل نفسه كل يوم، هل كان ذلك القذر صديقها؟، هل كانت تحكي معه مطولا، هل كانت ترتاح اليه؟، و هل كانت تفعل ذلك بسبب انشغاله؟..
تنهد بقوةٍ و حزن، كم هو صعب فراقها!، و كم آلمته حور رشوان!..

رفع رأسه حين شعر بمعتز يقفز فرحا و يفتح الباب بسرعة، فنظر نادر بوجوم الى باب البيت، ليجد ان من فتحه هي، أم معتز، حور...
بهتت ملامحه وهو ينظر اليها تقترب ببطء فاتحة ذراعيها و ما أن وصل معتز اليها حتى انحنت اليه على ركبتيها لتلتقطه في أحضانها، مغمضة عينيها، تدفن وجهها في شعره الناعم...
كانت متغيرة تماما، لا تزال ضعيفة هشة كما رآها آخر مرة، لكن ليس تماما، اللون بدأ في إنارة وجهها.

وجهها ناعم بطريقة غريبة، ملامحها هادئة مستريحة...
همس نادر لنفس بحنق (هذا غباء، إنها أم ابني، و يجب أن ألقي عليها التحية، نحن أناس متحضرون رغم كل شيء)
فتح بابه الجانبي، ليخرج من السيارة، لكن و قبل أن يتحرك، كانت عيناه قد التقت بعينيها...
توقف مكانه، مستندا بيده إلى سقف السيارة، قبل حتى ان يخطو خطوة تجاهها...

ابتسمت حور له بتهذيب و هي تومىء برأسها في تحية ودودة، قبل أن تستدير لتدخل البيت و تغلق الباب خلفها بهدوء...
وقف نادر مكانه، مصدوما، قاتم الملامح، هل كانت تلك هي حور بالفعل؟..

دخل سيارته ببطء شديد، و ظل لفترة طويلة ممسكا بعجلة القيادة دون أن يتحرك، ثم قام بتشغيل السيارة لينطلق بها بعنف، مخلفا نفس الموجة السابقة من الغبار...
ثاني مرة رآها بها بعد شهرين كانت مصادفة بحتة، كان عائدا من عمله مساءا، و بعد أن خرج من سيارته، فوجىء بها تسير في الطريق الضيق مبتسمة بهدوء، آتية من اتجاه محل علية، هل كانت عندها؟

رأته حور، فسكنت قليلا قبل أن تبتسم و تومىء له من جديد، لم يرد نادر اليها تحيتها وهو يقف مكانه معتصرا مفاتيحه دون أن يشعر، راقبها حتى وصلت إلى سيارة صغيرة، ففتحت بابها لتدخلها أمام عينيه المذهولتين، ليجدها تبدأ في تحريكها، مستندة بذراعها على المقعد المجاور لتستدير اليه و تتحرك بالسيارة للخلف، لا هذا كثير، ماذا كانت تفعل هذه هنا بمنتهى البساطة و كأنه حيها؟، و كيف تجرؤ على أن تتجاهله مجددا؟، هل هي مسرحية جديدة من مسرحياتها؟..

تحرك من مكانه دون تفكير، في اتجاهها ليشير اليها بأن تتوقف، نظرت اليه دون تعبير و هي مستديرة ترجع للخلف، ثم استدارت لتوقف السيارة، و كان هو قد وصل اليها، و ما ان اقترب من بابها حتى فتحه دون اذن، فنزلت بهدوء لتقف امامه تقريبا يحشرها في السيارة دون لياقة و دون أن يتحرك...

تململت حور قليلا، الى أن تراجع خطوة دون أن يتكلم، حينها قالت بهدوء بصوتٍ لم يسمعه منذ أكثر من شهرين و نصف، بالضبط شهرين و تسعة عشر يوما، (مرحبا نادر)
ظل صامتا قليلا يتأمل ملامحها البيضاء الهادئة الى أن قال بخفوت (تبدين في خير حال يا حور)
تبدين بخير، كم هي عبارة باردة بين اثنين من الأغراب كانا في يومٍ ما من أقرب ما يكون لبعضهما، أم تراهما لم يقتربا يوما؟..

ردت حور بهدوء (نعم بالفعل، الحمد لله، أنا في خير حال)
سكتت و حادت بنظراتها عنه قليلا، اين ذهبت نظراتها المترصدة له؟ من أعلاه لأسفله، أين ذهبت لهفتها؟..
قال أخيرا بصوتٍ أكثر خفوتا (ماذا كنتِ تفعلين هنا؟)
ابعدت حور خصلة شعر سوداء متطايرة الى خلف أذنها قبل أن تجيب بهدوء (أتيت لأم مصطفى اريدها في عملٍ ما، لكن في الحقيقة انتهزت الفرصة، لألقي التحية على كل من أعرفهم هنا، و أولهم علية).

هل أتت في هذا الوقت لأنها كانت متأكدة بأنه ليس وقت عودته؟
لكنه لم يتفوه بالسؤال، بل صمت لتقول هي مبتسمة برقة (و قد وجدت معتز عندها، اعذرني لأنني رأيته مرتين هذا الأسبوع)
قال نادر بوجوم (انه ابنك)
اختفت ابتسامتها قليلا دون أن تفقد هدوءها و هي تقول (كنت أظنك ستمنعني من تجاوز حدودي)
اخفض نادر رأسه، وهو يضع كفيه على خصره، مفكرا متباعدا، فقالت حور بعد فترة (سأرحل الآن).

رفع نادر رأسه وقال دون تفكير (لما لا تصعدي لتشربي شيئا؟)
اتسعت عينا حور قليلا بتعجب، قبل أن ترد بعد فترة (لا، شكرا لك، ربما مرة أخرى إن شاء الله، لقد تأخرت بالفعل و لا أحب العودة في الظلام)
أطرق نادر برأسه، ثم قال بخفوت بعد فترة (قودي بحذر، و، مبارك السيارة الجديدة)
أومأت برأسها قبل أن تنزلق بسرعة الى مقعدها، ليبتعد كي تغلق الباب، و ما هي الا لحظات حتى ابتعدت بالسيارة تحت ملامحه الواجمة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة