رواية بأمر الحب للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث
ارتبكت صبا للحظة وهي تسمع ذلك المديح الغير صريح من ذلك البشري الشديد الوسامة المتمثل أمامها بينما عيناه تطوفانِ بعينيها دون أن تتجرآ أكثر من ذلك، حتى أنها في تلك اللحظة البسيطة شعرت به يتوه سابحا في بحورِعينيها فقط، دون أي شيءٍ آخر، ارتبكت، واحمرت خجلا بالرغم من أنها اعتادت على نظرات الإعجاب الهادىء بجمال وجهها، لكن هذا الشخص المفزع بهيبته أثار مشاعرا غريبة من التوتر بداخلها، رفعت يديها مرة أخرى وهي تتأكد من اعتدال حجابها ثم رفعت نظرها تحاول أن تعود لإتزانها المعروفة به ثم قالت بهدوء (السلام عليكم، أية خدمة؟).
أفاق عاصم الذي كان لايزال مسحورا بحلمٍ جميل من النعومة و الدفء، الى أن سمع الصوت الرائع يعيد السؤال مرة أخرى، فهز رأسه هزة غير مرئية ليستعيد نفسه من جديد ثم قال و كأنه يسأل نفسه هامسا (الآنسة، صبا عمران؟).
للحظة أدركت لهجته الشاردة قليلا، هذا الشخص يتسائل إن كانت صبا، والتي يعرفها قبل أن يراها، هذا الشخص جاء خصيصا لها، لهدفٍ محدد، والآن تعتقد أنها بدأت تتعرف هويته، اذن فقد بدأت الحرب الفعلية، وكانت تتسائل متى ستندلع نيرانها، رفعت ذقنها عاليا و ارتدت نظرتها الحازمة، تنظر اليه في عمق عينه وكأنها فتاة أخرى غير تلك الخجولة التي فتحت الباب منذ دقيقة واحدة، ثم قالت مبتسمة بهدوء (أعتقد أنني أتشرف الآن بالنظر الى، السيد عاصم رشوان، إن لم أكن مخطئة).
اتسعت عيناه قليلا، لكن الإندهاش اختفى في لحظة ليعي نظرة التحدي التي ظهرت جلية في عينيها الرائعتين، ارتفع حاجبه قليلا و ظهر طيف ابتسامة ساخرة على زاوية شفيه، القطة الصغيرة أمامه تستعد لإبراز مخالبها، وسيكون أكثر من سعيد لأن يقلمها لها، لا تخلو من الذكاء بحيث أدركت شخصه، وحين أدركته أخفت الخجل والرقة بمهارة تثير الإعجاب، ابنة المستشار ليست سهلة أبدا، إنها خصمٌ، لطيفٌ للغاية، ويبدو أنه سيحب جدا التعامل معها على عكس غضبه منذ ساعاتٍ قليلة، لم تكن تلك الفتاة المستفزة التي توقعها قبل أن يراها بل هي نسمة ما أن فتح الباب أطلت تلامس وجهه بنعومة، للحظةٍ أراد أن ينسى أمر ذلك البيت الذي جاء من أجله، أراد أن يتأملها فقط طويلا الى أن يتشرب كل ذرة من هذا الجمال الملائكي أمامه، أراد أن يتوه أكثر في سحر عيني الغريبة التي لا يعرفها بعد، و ليست تلك التي الفيصل بينهما هذه الأرض التي يقفانِ عليها الآن، والتي تحولت من نسمةٍ إلى ريحٍ عاتية ما أن أدركت شخصه، كله فقط من نظرة عينيهاأخفض نظره قليلا و ابتسامته الجميلة التي عادة تسحر الجنس الناعم به دون قصدٍ منه، تزداد تدريجيا دون أن يعرف سببا وجيها لذلك، تبدو الأيام القادمة مثيرة للإهتمام، رفع رأسه لينظر اليها من جديد محاولا السيطرة على ابتسامته المتسلية، ثم قال بصوته العميق الرخيم (وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته، هل سبق أن تعارفنا يا آنسة، صبا).
ابتسمت هي الأخرى ببرودٍ وتحدي، صامتة تتطلع اليه من طولها الأقصر منه بحوالي الشبرين، ومع ذلك ارتفاع ذقنها المستفز و نظرتها التي ضيقتها بتحدي جعلته يشعر بأنها تفوقه طولا، أجابته بصوتٍ أثار بداخله مشاعرا غريبة لا يستطيع تحديدها (لم أحظى بهذا الشرف، وإن كانت المسألة لا تحتاج الى ذكاء، لكن أخشى أن تكون قد ضيعت وقتك الثمين هباءا بهذه الزيارة، الغير مسبوقة بموعد).
تحركت عضلة صغيرة في فكه و قد بدأ الغضب يتسلل اليه وهو يقف هنا على الباب، تجادله فتاة لا يصل طولها الى كتفه، مهما بلغ جمال محياها، وتنظر اليه أيضا باستعلاءٍ مستفز، إن تجرأ أشد الرجال بأسا النظر اليه بهذه الطريقة لكان له تصرفا آخر لم تكن لتتحمله ابنه المستشار، حاول أن يبتسم بهدوء ثم قال ببرود (هل تصرفينني من على بابك، دون حتى دعوة للدخول أو تقديم ضيافة، لا أعتقد أنك بهذا البخل).
قست عيناها و اشتد بأسها وهي تبادله بنظرة اعتادت أن توقف بها المتطفلين عند حدودهم فلا يتجاوزوها، ثم قالت بحزم لا يقبل النقاش (الضيوف لا بد أن يأتون بموعدٍ مسبق يا سيد عاصم، كما أن دخولك غير مقبول بالمرة فكما تعلم جيدا، أنني أعيش بمفردي، لذا أعتذر منك، خاصة وأنه لا سبب وجيها للزيارة).
قست عيناه حتى بدتا مخيفتان للغاية لكنهما لم ترهباها ولو لمثقال ذرة، ثم قال بصوتٍ خطير (لما لا تدعيني أنا لأقرر إن كان سببا وجيها أم لا، ثم أنني لم آتي الا بمعرفتي أن هناك سيدة تقيم معك، الكذب صفة غير محمودة على فكرة).
اشتدت قسوة شفتيها و اتسعت عيناها وهي تجيب بخفوتٍ خطير (من الواضح أنك قد جمعت المعلومات التي تحتاج اليها، عمل جيد، لكن هذا لا يمنحك الحق في أن تدخل بيوت الناس وقت أن تحب، أنا لا أدخل غرباء الى هنا)
قال بغضبٍ لايزال يسيطر عليه (لم يكن هذا ما أجبت به الوسيط الذي بعثته، فحسب علمي أنه دخل الى البيت أكثر من مرة، ألم يكن رجلا غريبا هو الآخر؟).
لم تصدق فعلا شدة وقاحته، بالتأكيد، وماذا كانت تنتظر من ابن أحد تلك الطبقات الحديثةِ الطافيةِ على السطح و التي اختلطت لديها المفاهيم، فابتعد الدين عن القانون و ارتبطت السياسة بالمال، و أصبح الحال مستعصي الفهم على أمثالها، أصحاب الطراز القديم، ذلك الطراز الذي أنشأها عليه والدها، رجل القانون و الشريعة، ظلت تواجه نظراته بنظراتها المشعة المتحدية لعدة لحظات دون أن يرف لها جفن، بينما بداخلها تشعر بأنها تود رميه بالكثير من آرائها المتعلقة بشخصٍ مثله، لكنها لزمت الصمت فلا جدوى من الجدال معه، فقالت بهدوء (الوسيط الذي أرسلته بالنيابةِ عنك، هو مجرد مأمورا من سيادتك، لذا ليس من العدل أن أرجعه صفر اليدين حتى و إن لم أستسغ عروضه و التي تبدو و كأننا في سوقٍ للبيع و الشراء، لكن كما قلت، هو مجرد رسولا حرصت تماما على تحميله رسالتي لك على أمل الا أتشرف برؤيتك، لكن يبدو أن رسالتي لم تصل، لذا فها أنا أقل بكل وضوح حتى لا نضيع وقت كلانا، عرضك مرفوض، والآن هل تسمح بالإنصراف؟).
أصابتها عيناه بشكلٍ أعنف و أقسى، يبدو أنه لم يعتد الرفض يوما، لكن لسيت مشكلة فلكلِ شيءٍ بداية، لكنها سمعته يقول بصوته الهادىء هدوءا خادعا؛ (ومع ذلك أفضل لو تكلمنا قليلا، لن آخذ من وقتك طويلا، يا ابنة المستشار).
عقدت حاجبيها وهي تسمع كلمته الأخيرة، ابنة المستشار!، لماذا شعرت بأنه ينطقها كإهانة، لم تشعر يوما بالبغض تجاه شخصا تقابله للمرة الأولى و لمجرد عدة دقائق، كما تشعر الآن، ما مشكلته هذا الكائن العضلي الضخم، يبدو أن عقله الرأسمالي قد تحور مع مرور السنين الى كتلة من العضلات لا تعمل الا لحساب الصفقات الرابحة، تماما كمن يعمل بساعده، بل أن من يعمل بساعده يفوقه شرفا و عقلا، لكنها و بالرغم من كلِ ما تشعر به من غضب، الا أن شعورا بالحرج انتابها، لم تعتد أن تترك أحدا على باب بيتها كل هذه الفترة. مهما كان، هي لم تغلق باب بيتها تجاه ضيف أبدا، أخذت نفسا عميقا ثم تنحت وهي تفتح الباب اكثر دون أن تنظر اليه متعمدة وهي تقول بتهذيب مجبرة عليه (تفضل، لكن رجاءا، لا تعقد الآمال، فلن تحصل الا على واجب ضيافتك).
ضحكة رجولية ضاربة، هزت المحيط حولها فجأة، لكنها ظلت مصممة على عدم النظر اليه منتظرة أن ينهي ضحكته المستفزة و يدخل، خفتت ضحكته تدريجيا الى أن صمتت تماما، لكنها لم تشعر بحركة، لحظة، لحظتين، فلم تستطع منع نفسها من النظر اليه بغضب ظاهر، ففوجئت به ينظر اليها بنظرةٍ كالسهم الذي يكاد أن ينفذ الى روحها، يتخلل أعماقها، غابت التسلية عن عينه، وزال المرح عن شفتيه، أخفضت عينيها رغما عنها و زفرت بحنق، ماذا به؟، ألم يرى نساء من قبل، مدت يدها مرغمة في حركة دعوة غير نابعة من القلب، دخل بعد لحظة يتخطاها بصلفٍ و عنجهية، فنظرت الى ظهره العريض بحيرة ثم هزت رأسها متعجبة من ذلك الشخص الغريب المتناقض، ما أن دخل عاصم حتى شمل البهو كله بنظرةٍ واحدة، متمعنا في كل تفصيلة بعينه المسجلة لكل ما حوله بدقةٍ لم تتعد لحظاتٍ من الزمن، ثم اختار مقعدا وثيرا ليجلس عليه مستندا بظهره مرتاحا واضعا ساقا فوق الأخرى، يتصرف و كأنه في بيته، دمدمت في داخلها بغضب، وهي تغلق الباب ثم اتجهت اليه لتقف أمامه، صامتة للحظات ثم قالت بأدب (ماذا تحب أن تشرب؟).
شعرت بقلبها يغلي غضبا وهو يرمقها بنظراته المتفحصة، من جلسته المتعالية، ابتسامته الجانبية المستفزة وو هو يتفحص عبائاتها المنزلية الرقيقة، الوشاح الوردي الذي يغطي شعرها، ها هو يعود لعينيها من جديد، ما باله لا يتركهما، رد بهدوء مبتسما (هل تجيدين صنع القهوة؟، لا أحب أن أتناولها الا إن كانت، ذات وجهٍ،!)
صمت ولم يكمل، ظل محدقا بها الى أن قالت بتهديد (أكمل من فضلك).
اتسعت ابتسامته قليلا، ولم يرد حالا فنظرت إلى عينه رافعة أحد حاجبيها بنفس ذلك التحدي، الى أن قال بتسلية (نعم، الا اذا كانت ذات وجهٍ صبوحٍ كوجهك، يا ابنة المستشار).
لم تستطع هذه المرة أن تسيطر على الغضب الأسود الذي عصف بداخلها تجاه ذلك الوقح الذي يغازلها وهو ممسكا بسبحة في يده فقالت بنبرةٍ خطيرة اعتادت أن تستعيدها لحظات اللزوم (سيد عاصم، إن كنت قد سمحت لك بأن تدخل من باب الأدب فهذا لا يعني أن تتجاوز حدودك و تستخدم تلك عبارات الغزل السخيفة تلك).
ارتفع حاجباه في دهشة مصطنعة ثم قال بهدوء (غزل؟ ّ!، اعذريني لا أقصد الإهانة لكن ما الذي يدعوني لأغازلك، وجهك الصبوح كلمة أستخدمها عادة كل صباح لأدلل بها ابنة مدبرة المنزل، رضا الصغيرة، عفوا يبدو أنني قد اعتدت الكلمة).
شعرت صبا فجأة كمن سكب عليها دلوا من الماء البارد، ماذا بها؟، لماذا يخرجها عن طورها الى هذا الحد الأحمق باهانته المخفية المتعمدة، ولكي تداري احراجها قالت بعصبية (سأذهب لأعد القهوة، فأنا أجيد صنعها تماما).
ثم سارت مبتعدة شاعرة بنظراته النافذة كالسهم في ظهرها، لم يضيع عاصم الفرصة، بل قام من مكانه ليتجول في أنحاء هذا البهو و الذي يغلب عليه طابعا مميزا، عتيقا، محملا بعبق ماضٍ راقي، أثاثه البسيط ذو اللون الدافىء المخملي، يتناقض مع ذلك المذهب بزخرفةٍ ضخمة والذي يحتل منزله، تلك المكتبة العريضة التي تحتل عرض حائطا بأكمله، اتجه اليها. أرففٌ من كتبٍ في القانون، الكثير منها خط عليه اسم محمود عمران، كتبا في القانون و الشريعة، هل عاش عمره كله ليكتب هذه الكتب؟، الم يكن لديه ما يشغله غير كتابة هذه الكتب؟، صحيح أنه يعتبر نفسه مثقفا للغاية و خاصة سياسيا و اقتصاديا بما يلائم أعماله و يفيدها، لكن غير هذا لم يفكر يوما في قراءة الأدب مثلا، أو تلك المدعوة فلسفة، أو، القانون، فلديه فريقا قانونيا كاملا يزوده بما يريده، عجبا لهذه الدنيا، بعض الناس يفني عمره بين الكتب و المبادىء، فقط ليقوم الآخر باختراقِ ثغراتها، كلا يقوم بدوره في هذه الحياة، انتقل الى تلك المدفأة الحجرية، والتي تعلوها صورا عديدة في إطاراتٍ ذهبية و فضية مزخرفة، لرجلٍ خط الشيب شعره مبتسما لا يحمل للدنيا أي هم، يبدو كمن ضميره مرتاحا فلا يخيفه في هذه الدنيا أي شيء، بجواره صورا عديدة لنفس الشخص، بزي القضاة، بعضها الآخر بجوار امرأة في نفس جمال ابنتها، وأخرى بجوار فتاة شابة تشبه البدر في تمامه، صبا عمران، لكم يليق اسمها بها، فهي الصبا و كل الصبا، صورة أخرى مندسة خلف الصور، نفس الوجه القمري و نفس الصبا، لكن وهي في نسخةٍ طفولية، ابتسم دون وعي وهو ينظر الى تلك الطفلة ذات الجدائل الذهبية النحاسية الناعمة كأمواج البحر ساعة الذهبية لحظة الغروب، ضحكة واسعة تضيء الكون. غمازتين عميقتين في وجنتيها الحمراوين، لم يرى الغمازتين، بالتأكيد فابنة المستشار لم تبتسم في وجهه منذ رأته، أمسك تلك الصورة ليخرجها من مخبئها خلف الصور الأخرى ليتطلع اليها مبتسما، تلك الجميلة لم يقلل الحجاب ذرة من جمالها، لكن تلك الروعة التي يراها في الصورة تعد بالكثير، في لحظةٍ واحدة وجد الصورة تختطف من يده بقسوةٍ، ليجد القطة البرية الذهبية تقف ممسكة بها ناظرة اليه بشراسة، تكاد أن تقتله بسهام عينيها الغاضبتين، ثم هدرت بصوت ٍ حازم (أنت تتخطى كل حدودك في هذا المكان يا سيد عاصم، فإما أن تحترم حرمته و إما أن تغادره حالا).
نظر اليها بهدوءٍ دون أن يرف له جفن، ثم قال بصوتٍ خافت فاتر (وأنتِ ثان مرة تهددين بطرد عاصم رشوان يا ابنة المستشار، ماذا كان والدك ليقول لو عرف بقلة تهذيبك؟).
نارا جامحة أطلت من عينيها، وفتحت شفتيها تنوي برمي كلماتِ الطرد النهائية حتى يكون له سببا وجيها يدعوه لقول، أنها قليلة التهذيب مرة أخرى، لكنه لم يمهلها لتنطق حرفا واحدا، بل اتجه الى مكانه في كرسيه الوثير وجلس بكل ثقةدخلت في تلك اللحظة سيدة متقدمة في السن. ترتدي عباءة و وشاح على رأسها، تبدو على وجهها علامات الرضا و الطيبة وبابتسامة بشوشة و ضعت صينية القهوة امام عاصم الذي ينظر اليها هو الآخر مبتسما، ثم قال مكلما صبا مازحا (لم تصنعي القهوة بيدك؟، الا تعلمين أن الفتاة التي لا تجيد إعداد قهوة جيدة لا تجد من يتزوجها بسهولة؟).
للحظةٍ وقفت أمامه دون حراكٍ وهي تنظر اليه بلا تعبير بينما العينان العسليتانِ تستعدان لشنِ الهجوم المتوقع، ومن موقعه رأى متسليا أنه الهدوء الذي سيسبق عاصفة منفجرة الآن، لكن تلك السيدة الطيبة لم تمنحها الفرصة وهي تهب مدافعة بحماس (من تلك التي لا تجيد اعداد القهوة؟، صبا؟، لقد أعدتها بيدها كما كانت تعدها دائما للمستشار رحمه الله، وماذا ستقول أن تذوقت طعام يديها؟، صبا سيدة منزل ممتازة، هنيئا لمن سيتزوجها).
ثم غمزت لصبا و الفرحة تكاد تغرق وجهها ظنا منها أن هذا الضخم الجالس بفخامةٍ واضعا ساقا فوق الأخرى هو خاطبا محتملا، أغمضت صبا عينيها غضبا منها. يالهي انها تقوم بالدعاية لها، عادت لتفتح عينيها و ترمقها شزرا تهز رأسها لتنصرف من أمامها الآنفأومأت فتحية برأسها و الجدية المضحكة ترتسم على وجهها، بينما هي ابعد ما تكون عنها، ثم أهدت عاصم ابتسامة أمل وحنان و زادت أن اقتربت لتربت على كتفه بيدها المكتنزة، فضحك عاصم وهو يربت هو الآخر على يدها الموضوعة فوق كتفه، بعد انصراف فتحية، حاولت صبا أخذ نفسا لتهدىء نفسها من هذا الوضع المستفز. بينما كان عاصم ينظر مبتسما الى فنجان القهوة الموضوع أمامه على الطاولة، و الذي كان، ذو وجهٍ صبوح، و رائحةٍ تماثل سحر المكان و سحر صاحبته الآتية من زمن الفرسان، أعاد وضع ساقه فوق الأخرى ثم أشار بكلِ عنجهية بيده دون أن يتكلم الى الأريكة بجواره، في دعوةٍ سمجةٍ منه، لأن تجلس بقربه، ظلت واقفة للحظات تتمرد على غطرسته، لكنها آثرت أن تجلس في النهاية حتى يلقي الكلمتين المحجوزتين في حلقه ثم يخرج سريعا، اتجهت بإباءٍ ثم جلست على الأريكة لكن في أبعد نقطة منه، جلست على حافتها كأنها تريد أن تخبره كم هي متشوقة لرحيله، نظر اليها متغلغلا أعماقها لا تعلم إن كان بوقاحةٍ أم سيطرة، ثم التقط فنجانه يرتشفه بصمتٍ متلذذا بكلِ رشفة، تاركا إيها تتأمله بغضبٍ يتزايد في كلِ لحظة، لم يتكلم الى أن أنهى قهوته لآخرها، تطلع اليها بعدها في تحدٍ صامت للعيون، وظلت هي تنظر اليه تريد أن تتحدى نظراته، الى أن تغلب عليها حياؤها فطرفت بعينيها تبعدها عن حينه لتنزل متحججة بالنظرِ الى سبحته التي يتلاعب بحباتها، أنزل ساقه فجأة فباغتها وهو يميل في مقعده الى الأمام مستندا بمرفقيه إلى ركبتيه، حتى يقترب منها على قدر استطاعته، رفعت ذقنها تنتظر كلامه، وتكلم بالفعل، بكلِ هدوءٍ قال (أريد البيت يا صبا، فقط ضعي الثمن الذي تريدينه و لا داعي لتضيع وقتينا أكثر).
لمعت عيناها بوحشية، مصدومة من وقاحته التي لم تر لها مثيلا، قالت بمنتهى الهدوء بعد لحظة (و البيت ليس للبيع، سيد عاصم)
لاحظ كيف شددت على لفظة سيد تهدده بأنها لا تسمح له بلفظ اسمها دون ألقاب، لكنه لم يأبه وهو يبتسم ابتسامة لم تصل الى عينيه ثم قال بنفس الهدوء لكن مع لمحة أعلى من الخطر (لا يوجد في قاموسي ما هو ليس للبيع، يا صبا).
شدد هو الآخر على اسمها فردت عليه بعينين اشتعل فيهما العسل ليصبح حمما لهبية (قاموسك لا أعترف به، يا سيد عاصم).
مالت ابتسامته بشكلٍ خطير وهو يبعد نظره عنها و كأنه يفكر في الأمر، ثم قال بصوتٍ خافت منذر (لكنه القاموس المفعل في عالمي، يبدو أنكِ لا تدركين حجم الأشخاص اللذين يريدون هذه الأرض، ولا حجم المشروع الذي سيخدم اقتصاد المدينة، هل تتخيلين أنه من الممكن أن نتنازل عن هذا كله، لأنه قطة صغيرة قررت اظهار مخالبها، معجبة بشجاعتها في مواجهة الأعاصير القادمة).
كانت نظراتها معلقة طوال الوقت بحباتِ سبحته التي يتلاعب بها بين أصابعه أثناء كلامه، لا تعلم لماذا تثير انتباهها بهذا الشكل. ولماذا يتمسك بها بهذه القوة، رفعت نظرها اليه لتقول بنعومةٍ وخفوت (هل تهددني سيد عاصم).
لم يرد عليها للحظة، وهو يتطلع الى عمق عينيها لا يحيد عنهما ثم قال أخيرا بوضوح (العند للعند لا فائدة منه، بل على العكس، قد يؤذيكِ يا صبا، لقد باع كل أصحاب المنازل المجاورة لك، لذا لا تحاولي الوقوف في وجه التيار، الأمر أكبر منكِ ومني صدقيني)
قامت من مكانها في حركةٍ واحدة وهي تقول بصوتٍ قاطع (لقد انتهت الزيارة يا سيد عاصم).
رفع رأسه ينظر اليها بوجه قد من حجر، لاتعبير له، حتى عيناه الجامدتان بدتا و كأنها صخرتين من حجر الرخام الأسود، لكن هذا الجمود كان يخفي خلفه غضبا يهدد بإحراق المكان، ابنة المستشار تنظر اليه من عليائها و تنهي الزيارة، قام من مكانه ببطء، يعدد حبات السبحة بيديه الاثنتين انتقل نظرها إلى أصابعه مرة أخرى فأفتر فمها عن ابتسامة واهية لترفع نظرها من السبحة اليه، وكأنه سمع ما تقوله فاشتد ضغط شفتيه و تضاعفت قسوة عينيه، وقف أمامها كجبلٍ عالٍ يطل عليها وهو على بعد خطوةٍ منها، ثم قال لوجهها الذي أشاحته بعيدا رافضة النظر اليه أكثر، (لا قبل لكِ على مواجهتي، يا، صبا، ولا مواجهة من يريدون الأرض و أنا لا أحب أن أكون طرفا في الضغط على امرأة).
ابتسامتها ظلت على شفاهها وهي تنظر اليه، لتقول بعد لحظة (أمثالك من، الرجال قد انقرضو منذ زمن يا سيد، أفق، فتلك، المرأة قادرة على مواجهتك أنت ومن خلفك، لذا فقم بدورك و أبعد قلقك المخزي، أنا لا أخاف الا من خالقي).
ماهو ذلك البريق الذي اشتعل في عينيه لحظة، لمحة اعجاب، أم أنها تتوهم وهي اشارة الخطر، أيا يكن فهو لا يهمها، فليشعر بما يريد وليفعل ما يستطيع، الوقح الذي مجرد وقوفه في هذا المكان يعتبر جريمة في حق صاحبه، المستشار الذي تثير مجرد ذكراه الاضطراب في أمثال ذلك الواقف أمامها، لذا فستريك، ابنة المستشار، أنها تستحق ذلك اللقب الذي جعلك تأتيها بنفسك لترى غريمتك، قالت بأدب (الى لقاءٍ قريب، سيد عاصم، لكن بالتأكيد ليس هنا).
نفث نفسا ساخنا ضرب وجنتيها فابتعدت بحدةٍ عنه لتتجه الى الباب المفتوح وتمسكه متعمدة تنتظر خروجه لتغلقه خلفه للأبد، خرج مندفعا الى الباب، لكن قبل أن يخرج وقف أمامها عندما مر بها ليقول بقوة (تذكري أنني قد أتيت الى بابك يوما، وأغلقته خلفي)
نظرت اليه مبتسمة وقالت برقة (سأتذكر، حين أضحك مرة تلو مرة على محاولاتكم الفاشلة، فلتركبوا أقوى خيولكم، حتى وإن لم تكونوا فرسان هذا الزمن).
قال لها بصوتٍ هدر الغضب فيه بالرغم من خفوته، (حسنا يا صبا، قرار الهزيمة كان لك، تذكري هذا).
ثم خرج دون كلمة أخرى، و لم يكد يمر من الباب حتى تسمر مكانه بصوت انصفاق الباب بشدةٍ خلفه، حتى اهتزت عواميده النحاسية بزجاجه الملون حتى ظن أن سيتحطم الى شظايا، التفت لينظر الى الباب المغلق ثم أعاد ارتداء نظارته الداكنة التي دخل بدونها و خرج بها، ليخفي غضبه و الذي يكاد أن يشتعل في صدره في تلك اللحظة، من هي تلك التي تجرأت للتو على رفض عرض عاصم رشوان!، تحدي عاصم رشوان!، صفق الباب خلف عاصم رشوان.!، لم يشعر أنه أهين يوما كما أهانته تلك الوقحة الآن، رجلا أشداء لم يتجرأو أبدا على فعل جزء من ذلك الذي فعلته، أخذ يتوعدها و هو ينظر من حوله الى العمارات التي صار يملكها، بينما هو يقف في الأرض الوحيدة التي لم يملكها بعد، حسنا يا صبا، يا ابنة المستشار، فلنرى من سيضحك في النهاية، نظر إلى ساعة يده وهو يفكر، أين هي؟، لقد جاء موعد القاء القمامة، لقد تأخرت اليوم، يبدو أن حدثا جلل قد أخرها فهي لا تتأخر عن موعد إخراج الحقيبة البلاستيكية السوداء الضخمة و التي تعادل نصف طولها تقريبا الى خارج المنزل حيث السلة الضخمة الموجودة بجانب السور لتأتي عربة القمامة لتأخذها ككل يوم، لقد تأخر على عمله و يجب أن يتحرك الآن، ألن تخرج هي وقمامتها ككلِ يوم؟، وأثناء انتظاره أبصرها أخيرا تخرج من باب البيت تتوازن وهي تحمل القمامة عبر الحديقة الصغيرة لتصل الى البوابة، اتسعت عيناه قليلا وهو يدقق في جسدها الذي كانت أشعة الشمس تغطيه من الخلف ليتحول ثوبها البيتي الخفيف و الذي يحف بركبتيها الى شاشةٍ سنيمائية شفافة أظهرت جسدها بكل تفاصيله، للحظاتٍ قليلة ترك لعينيه حرية الاستمتاع بهذا الصباح المذهل المكلل برؤية مثل هذا القوام، لكم تغير قوامها! غادرت عباءة الطفولة، والجسد المسطح أصبح ذو انحناءاتٍ خلابة تكاد تخطف أنفاسه و هي يتذكر يوما لامس جسدها الطفولي بشوقٍ تفجر في أعماقه، فكيف سيكون حاله ما أن يلامسها الآن، أغمض عينيه وهو يشعر بدقاتِ قلبه تتسارع كحالِ أنفاسه الغاضبة، يبدو أن الصيف قد وصل و ستكثر من ارتداء تلك الأشياء القليلة التي لا تغطي سوى القليل خاصة مع أشعة الشمس الفاضحة، شعربرغبةٍ في كسر عظامها حتى تتنبه الى ما تخرج به الى الطريق العام، ثم زفر بحنقٍ وهو يخرج ورقة من مفكرته ليكتب عليها شيئا بقلمه الذهبي، دق جرس البوابة الخارجي فخرجت حنين الى الصبي الصغير الممسك بملابسهم الآتية من التنظيف الجاف، ابتسمت له حنين كالعادة وهي تمازحه قليلا قبل أن تأخذ منه الملابس، لكن قبل أن ينصرف أخرج من جيب بنطاله ورقة مطوية وناولها إياها مبتسما ببراءة، وهو يقول (هذه لكِ آنسة حنين، شخصا ما أعطاني إياها ثم انصرف).
تناولت حنين الورقة و هي تقطب جبينها بحيرةٍ لتقرأها قبل أن يأخذها الشك طويلا، لحظة واحدة و اتسعت عيناها صدمة وهي تقرأ (الثوب الذي ترتدينه شفاف الى درجة الكرم القصوى، و سيشكرك كل ابناء الحي ما أن يرون هذا العرض الصباحي).
شهقت حنين عاليا وهي تغطي نفسها محتضنة الملابس التي تحملها بينما أخرجت أخذت تتلفت برأسها يمينا و يسارا تتطلع الى من يراقبها، ثم صرفت صبي التنظيف لتدخل جريا كالمجنونة إلى البيت، وهي تفكر، يالهي، من ذلك الذي شاهدها بهذا الشكل، يبدو أنه بالفعل أحد أبناء الحي و أراد تنبيهها دون أن يظهر نفسه حتى لا يحرجها، ياللغباء، ياللغباء، كان من أصعب الايام بالنسبة اليها في العمل، منذ أن وطأت قدماها الى مقره وهي تحاول تجنب النظر الى أي شخص، بالنسبةِ الى الجميع فمن المؤكد أن ما من أحدٍ سيتذكر موقفا تافها كالذي حدث في المقهى، لكن بالنسبةِ لها، فإن خللا معينا لا يعرفه الا المقربين ينتابها بين الحين والآخر، على مر السنين نجحت في إخفاء تلك الحالة عن معظم من عرفوها، الا أنها فشلت مع قليلين، حين سقطت علنا في مراتٍ قليلة، قد تكون بسبب شيئا أخافها، وأحيانا تكون سقطة بلا أي سبب، اختلال في التوازن، اختلال في نفسها، هي لا تعرف تحديدا ولم تحاول المعرفة يوما، ولا تريد أن تعرف أبدا، فقط فلتكون أكثر حرصا في مداراتها، حين أتى موعد الإستراحة في منتصف اليوم، كانت قد نجحت في تجنب الجميع، متشاغلة بعملها عما حولها، لكن الآن الى أين ستذهب، فلتظل هنا في مكتبها، قطعا لن تتوجه الى المقهى، لن تتحمل دخولها أبدا بعد اليوم، لكن دخول عامل النظافة الى المكتب لينظفه أجبرها على الخروج، الى أين ستتجه الآن فهي لن تستطيع الوقوف في الممر هكذا الى وقتِ الراحة كله، أمسكت بلفافة الشطائر التي أعدتها في البيت نفسها، تحتضنها وهي تنظر حولها، ثم عقدت القرار الى الخروج الى سلم الطوارىء، فخرجت منه و اغلقت بابه خلفها، جلست على أولى درجات السلم الضيقة وهي تفتح لفافة الشطائر متنهدة بأسى، وهي تقضم الشطيرة بعنف، تمضغها بقسوةٍ وكأنها نشارة خشبية، لكم تختلف حالتها الآن عن حالتها بالأمس وهي تدخل الى ذلك المقهى اللعين باحثة عنه، بينما هي الآن تجلس على الأرض مختبئة عن الجميع، انتفضت مكانها وهي تسمع صوتِ الباب يفتح من خلفها، أغمضت عينيها وهي تدعو الله أن يكون عامل النظافة، لكن من تخدع، فهي تعرف هذا العطر جيدا، وتعشق صاحبه، ما العمل؟، ما العمل الآن؟، هل ترمي بنفسها من فوقِ سور السلم لتهرب منه نهائيا و ترتاح، شعرت به يجلس بجوارها على درجة السلم، ففقد قلبها خفقاته، وتجمد الدم في عروقها بينما اختارت وجنتاها اللون الفاضح المعتاد للتزين به في وجوده، لقد ملأ وجوده المكان و ساقه كادت أن تلتصق بساقها القصيرة، حجمه الضخم يكاد أن يحجب الضوء الأبيض عنها ليغيبها في ظلهلم تنظر اليه، ولم تنطق بكلمة، وهو أيضا منحها الوقت لتهدأ قبل أن يقول بهدوء (لماذا تجلسين هنا بمفردك؟).
يالهي إن صوته رجولي للغاية، يبعث رعشة دفءٍ غريبةٍ بداخلها، لكنها لن ترد، لن ترد، لن ترد، ستتظاهر بالصمم، وحينها سيبتعد للأبد، وستموت بعدها!، لذا اختارت بعد تفكيرٍ عميق أن ترد باختناق (كيف عرفت بأنني هنا؟)
ضحك قليلا ثم قال (حين لم تظهري في المقهى عرفت بأنك ستختبئين في مكانٍ ما، فذهبت الى مكتبك لأحضرك، وحين لم أجدك قادتني قدماي إلى الباب التالي).
أطرقت برأسها بينما قلبها لازال يضرب صدرها كأرنبٍ مذعور، أخذت تدعو الله لألا يفتح موضوع السقوط الآن، كفى ما شهدته من احراج، لن تتحمل أن تتحدث به أيضا، ومع من؟، معه هو، (ماذا تأكلين؟).
قاطعها هذا السؤال الذي لا أثر للمزاح فيه، فنظرت اليه بطرف عينيها من تحتِ عدساتِ نظارتها، و خدها ممتلأ بقضمةٍ كبيرةٍ منتفخة، وشعرها، تلك الضفيرة قد تمردت و مالت خلال الساعات الماضية الى احد جانبي رأسها منسابة على كتفها، مفلتتة الكثير من الخصلاتِ الناعمة، أي أن ملخص القول، شكلها يرثى له كالعادة، أجابت على مضض وكأنها تتمنن عليه بالإجابة (شطائر جبن، بالخيار).
مد يده ليلتقط الخيارة الصحيحة الموجودة بين الشطائر، وقضم نصفها في مرة واحدة وهو يقول (كانت شطائري المفضلة في أيام الدراسة).
بعد لحظةٍ مدت يدها ليه بواحدٍ، هو الأغلى على قلبها، فتناوله منها مبتسما، لتلتقي عيناهما، فتتوه منها الكلمات بينما هو ينظر مبتسما متناولا نصفه هو الآخر في قضمةٍ واحدة، فكرت وهي تنظر اليه مسحورة، بأنها لم ترى من هو يملك فما أوسع من فمه من قبل، كيف يمكن لشيءٍ كهذا أن يجعله أكثر جاذبية، استمر الصمت بينهما أثناء تناولهما الشطائر، لا تجرؤ على تصديق أنها و صدىء القلب يجلسانِ معا، يتناولانِ من الشطائر التي أعدتها بيدها، الى أن قاطع شرودها صوته الرجولي وهو يقول دون أن ينظر اليها (حنين، حين تستنبت زهرة في صوبةٍ زجاجية، فهي تنجح في الحياة التي صممت من أجلها، أما حين تنمو زهرة برية بين الصخور فهي تصمد، فما عليك سوى الاختيار، لكن في كلتا الحالتين، ستنجين بنفسك).
نظرت اليه مذهولة، هل يتكلم معها؟، عنها؟، أم عن ماذا؟، زهرة مستنبتة، أم زهرة برية؟، نظرت أمامها لتكمل طعامها بصمتٍ امتد بينهما، مع ابتسامةٍ متسعةٍ حمقاء على شفتيهما، ومرت بهما الدقائق القليلة وهو يحاول جذبها الى موضوعاتٍ مبهجة، تارة تصمد و تارة تبتسم، وأخرى تفقد القدرة على التحمل فتنفجر ضحكا، وهو ينظر اليها مبتسما سعيدا برؤية ضحكتها التي لم يرها من قبل، والتي حولت تلك البطة الخرقاء الى أوزةٍ رائعة، فقط إن كانت تدرك ذلك، بينما من الواضح أن الغبي الذي يهاتفه كل يوم لا يعلم كم هي قابلة للعطب تلك البطة الصغيرة، هل يمكن أن يحسب عمر الإنسان بعدد الدقائق الثمينة الماسية التي تمر به؟، هكذا فكرت حنين و هي دائخة في هواه، شاردة فيما يقصه، تاهئهة ما بين سحر عينيه الحنونتين و دفء فمه المتكلم، والذي يتوقف فقط ليلتهم المزيد من شطائرها ثم يعاود الكلام مبتسما، هل يمكن أن أكون أكثر سعادة يوما؟، هل سيحمل لي القدر يوما أجمل من هذا؟، هل ستعود تلك الدقائق الماسية من جديد لتطويني بين ثنايها و تغيبني في نظراته؟..
لكن للأسف انقضت الدقائق كما ينقضي كل وقتٍ جميل بسرعة البرق، وبعد أن خرجت حنين متثاقلة من باب سلم الطوارىء، يتبعها عمر، التفتت اليه مبتسمة دون أن تجد القدرة على الكلام ثم أطرقت برأسها مباشرة ما أن طالعتها عيناه حتى عاودها الاحمرار الأحمق، لذا لم تقل سوى (اذن، سأذهب الى، مكتبي).
ابتسم عمر ابتسامته التي أهلكتها من الأعماق
يالهي ما أحنها من ابتسامة، هذا الرجل خلق ليكون أبا، حتى لمن سيحبها، يالهي اجعلني أنا هي، يا رب اجعلني أنا هي...
أفاقت على صوته وهو يقول برفقه المعتاد (الى اللقاء، وهذه آخر مرةٍ تتناولين طعامك هنا بمفردك كالمساكين، مفهوم؟).
أومأت برأسها مبتسمة، ثم استدارت لتبتعد بتعثر، وما أن اختفت من أمام ناظريه حتى رن هاتفه، نظر الى الإسم المضيء، بوجوم ليرد في النهايةِ قائلا مغتاظا قليلا (مرحبا، كيف حالك يا صديق؟، نعم، نعم الحمد لله)
سكت وهو يسمع السؤال اليومي المعتاد ليجيب في النهايةِ بالرغم من عدم اقتناعه بما يحدث (إنها بخير، لا تقلق، هل تعلم أنها)
ثم سكت بعد لحظةٍ ليقول (لا، لا شيء، اطمئن، حسنا هل سأراك هذا المساء؟).
بعد أن أغلق هاتفه، زفر بعمقٍ وهويضع يديه في جيبي بنطاله ناظرا أمامه الى الممر الطويل الفارغ، متسائلا إن كان ما يفعله صائبا أم أنه يخطىء في حق فتاة صغيرة لم ترى سوى الألم في حياتها...
في مساءِ هذا اليوم، شعرت حور بهمجية الغضب الأحمق وهي تستمع الى المربية المتلعثمة و التي تبلغها بأن والد معتز قد اتصل و أعلمها بنيته في ابقاء معتز للمبيت معه الليلة، اشتعلت عينا حور وهي تنظر اليها، أيجرؤ على أن يبلغ المربية دون أن يهاتفها هي، و قد اتخذ القرار دون حتى أن يسألها الموافقة، هل نسي أنها أم معتز وهي الوحيدة صاحبة أي قرار يخصه...
كانت لتوافق بالطبع مقابل أن تسمع صوت نادر يأتيها لطيفا مطالبا بإبقاء معتز، هي لن ترفض فمعتز لا ينام بجوارها في أي حال من الأحوال، لكنها كانت تود استغلال أن يهاتفها نادر ويطلب منها شيئا، أي شيء، قد يقرب بينهما من جديد حين يسمع صوتها الموافق و الذي كانت لتودعه كل إغراء العالم و سحره، منذ أن واجهها بطلب الطلاق و هي تبدو كالمجنونة، تشتعل حين يقترب منها أي أحد، سبحن من صبرها أمامه ساكتة هادئة، ضائعة العينين لكنها صمدت حتى خرج دون أن تنطق بكلمة...
بينما همست ما أن انصرف (في أحلامك يا نادر)
خرجت من غرفة معتز كالسهم وهي تدفع شعرها الأسود المجنون، في موجاته التي تشاركها غصبها الأسود بجنونه، نزلت درجات السلالم تلتفت حولها، لا تعلم أين هي ذاهبة، الى من ستلقي بغضبها الذي يحرق أحشائها بذلك الوخز المعتاد، حين تريد شيئا ولا تحصل عليه، أو حين يضيع منها شيئا رغما عنها...
وجدت أمها الحبيبة تحيك سترة لمعتز قد تكون العشرين ربما، لا تهتم حقا، اندفعت لترمي نفسها على الأريكة الكبيرة بجوار أمها تنظر اليها بعينينِ تشتعلانِ نارا، فنظرت اليها أمها بهدوء ثم أعادت نظرها الى ما تحيكه، تنتظر هبوب عاصفة حور التي تعرفها جيدا من نظرتها المجنونة، لكن رغم ذلك ستظل الأجمل، فهي الغالية حور...
صمتت الحاجة روعة، لن تتكلم، الى أن صرخت حور بحنق (لقد أبلغ نادر المربية أنه سيتبقي معتز لديه الليلة)
تنهدت الأم بتعب وهي تفكر، ها هي قد بدأت حور حملتها المعتادة، لكنها عاودت الحياكة بصبر، صمتت لعدة لحظات ثم قالت بهدوء دون أن تنظر اليها، تهتم فقط بما تفعله يداها، (وهل أنت غاضبة لأنه سيستبقي معتز، أم لأنه أبلغ المربية).
صمتت حور وهي تنظر غاضبة الى أمها، تلك المرأة البسيطة و التي لا تستطيع القراءة، لكنها تفهمها أكثر مما يفهمها العالم كله، لطالما شعرت حور بالحنق من انكشافها التام أمام تلك المرأة، لا تستطيع أخفاء مابداخلها أبدا، وهذا هو ما يجعلها تغتاظ من أمها لكن تعود اليها في النهاية، فهي تفهمها أكثر من نفسها...
كتفت حور ذراعيها تزفر بتذمر كالأطفال وهي تنزلق في جلستها قليلا، تعض شفتها السفلى بغضب، تبا لكلِ شيء، انها تريده، تريده لدرجةٍ أصبحت على وشكِ أن تسبب لها المرض...
تنهدت الحاجة روعة مرة أخرى، فنظرت اليها حور قليلا ثم قالت (ماذا بك؟).
ردت أمها بصوتٍ قلق (عاصم، عندما هاتفته كان غاضبا وصوته لم يعجبني أبدا. يبدو كالمجنون، يبدو أن هناك ما قد ضايقه اليوم في العمل، لكن أنتِ تعرفين شقيقك، مهما بلغت سيطرته فان الغضب يستبد به أحيانا، فلتمر تلك الليلة على خير فأنا لم أعد أحتمل نوبات غضبه).
شردت حور بعيدا، عاصم غاضب، لا يكون في هذه الحالة كثيرا، لكن حين تنتابه يكون قادرا على هدم الجدران فوق رؤسهم و تشهد أيام الحي القديم على ذلك، اتق غضب الحليم...
للحظة قالت لأمها بهدوء (متى سيعود عاصم؟)
قالت الأم بلهجةٍ قلقة (في منتصف الليل ككلِ يوم، لماذا تسألين؟)
لم ترد وهي ترمق أمها بنظراتٍ غامضة، ثم قالت أخيرا (أمي، أنا أشعر باختناق فظيع، و أريد أن أخرج قليلا).
نظرت اليها امها بنظرةٍ قاطعة وهي تقول بتهديد (انسي تماما، أخبرتك الآن أن عاصم يبدو كالمجنون دون حتى أن يقترب منه أحدا، فماذا إن عرف بخروجك، وليلا أيضا؟، انسي يا حور، لا تفتعلي المشاكل)
ابتسمت حور تلك الابتسامة التي لا تخيب ابدا وهي تقترب من أمها بدلال، لتقول بترجي (أمي، أرجوكِ، إنها لا تزال السابعة، وسأعود قبل عودته بالتأكيد).
زفرت الأم بحيرة، أنها تعلم بأن حور تعاني كثيرا هذه الأيام، بسبب انفصالها الذي طال عن نادر، وبسبب حالة معتز، لكن هذا لا يمنع أنها متهورة ومندفعة...
نظرت اليها وقالت، (يا حبيبتي، عاصم يسمح لك بالخروج نهارا كما تريدين، فلماذا الخروج مساءا أيضا طالما أن هذا يغضب أخاكِ).
اقتربت حور بدلال من أمها فتعلقت بذراعها وهي ترمش بعيونها بالحركة ِ التي لا تخيب أبدا، فما كان من الحاجة روعة الا أن ضحكت وهي تستقبلها في صدرها الرحب تضمها اليها بينما قلبها يتوجع من أجلها، تلك الشابة الجميلة التي راهن الجميع على أنها ستحصل على حياةٍ لا مثيل لها، لكن عين الحسد قد أصابتها، بالطبع و هذا ما كانت تخشاه دائما على حور...
ها هي قد أصيبت في زواجها و في إبنها، تنهدت الأم بحزنها المعتاد ثم قالت على مضض (إن وافقت فهل تعدينني بالرجوع قبل موعد أخيك، صدقيني يا ابنتى لم أعد أتحمل هذا الضغط عليا أكثر من ذلك).
ابتسمت حور وهي مختبئة في حضن أمها، وهي تهمس بداخلها، سامحيني يا أمي، نذرت لنفسي بأن أبذل كل ما بوسعي لأستعيده، وسأفعل، سأفعل كما حصلت عليه في المرة الأولى، حتى وإن كنت ستتألمين الآن قليلا، لكن أعلم بأنك ترتاحين و تقر عينك حين أعود اليه...
أغمضت عينيها تشعر بالسعادة المؤقتة من صواب نظرتها للأمر...
ما أن دخلت إلى منزل رنيم، حتى اندفعت لتلقي بنفسها على الأريكة المعتادة وهي تقذف بحقيبتها الجلدية الثمينة دون اهتمام...
نظرت رنيم اليها بحيرة ثم اغلقت الباب لتلحق بها، فجلست بجوارها تنظر اليها بتمعن، ثم قالت أخيرا (أنتِ تنوين ارتكاب جريمة).
تناولت حور وعاء المقرمشات الموضوع على المائدة أمامها لتتناول منه دون أن تنظر إلى رنيم بالرغم من ظهور تلك الإبتسامة الجانبية الغامضة على شفتيها، ثم همست بعد فترة (لست أنا من سترتكب الجريمة)
تنهدت رنيم بيأس ثم اسندت ظهرها وهي تنظر الى حور المتقدة بمشاعرٍ مختلفة ظاهرة على وجهها، قالت بهدوءٍ تسألها (من؟، وماذا سيفعل؟).
نظرت اليها حور من طرف عينيها و ابتسامتها تتلاعب بقسوةٍ على شفتيها ثم قالت (يكفي أن تعرفي بأني سأمضي وقتا طويلا معكِ الليلة، لذا أحضري كل ما لديكِ من العاب)
نظرت رنيم الى ساعة معصمها ثم قالت بحذر (بالتأكيد لن يكون وقتا طويلا جدا، اذكر حين جاء عاصم ليصطحبك من هنا آخر مرة ولم أسلم يومها من شظايا لسانه الطائشة).
ابتسمت حور أكثر وهي تقول بدلالٍ ماكر (اطمئني، لا أحد يعرف أنني عندك، أمي تعتقد أني خرجت الى أحد تلك الأماكن التي لا تعرف اسمها حتى)
ضحكت رنيم قليلا. ثم همست (اذن أنتِ تنوين افتعال مصيبة من مصائبك بالفعل)
ضحكت حور هي الأخرى تهز أكتافها بغموض، بينما هي تفكر، أخطر الخطط أبسطها، قد تصيب و قد تخيب، لكن الأمر يستحق التضحية...
تابعت رنيم بهدوء و ثقة وهي تسند رأسها الى يدها (وطبعا الأمر يخص نادر، اليس كذلك).
نظرت اليها حور بصلابة دون أن ترد عليها فتابعت رنيم (لقد مضى عامان على انفصالكما يا حور، لما لا تدعيه يغادر حياتك لتستطيعين البدء من جديد)
اشتعلت نظرات حور وهي تقول بهمس شرس (أنتِ من تقولين ذلك يا رنيم، لقد كنتِ معي من البداية، هل تظنين أن بعد كل ما بذلته سابقا، بأني سوف أستسلم هكذا بمنتهى السهولة، أنا زوجته، وأم أبنه، لقد وصلت الى ما لم تصله غيري، فما الذي يجعلني استسلم الآن).
تاهت رنيم وهي تنظر اليها بشرود، نعم بالفعل، فحور تصل دائما الى مالم يصل اليه غيرها، وحين رأت نادر لأول مرةٍ وضعته هدفا أمام عينيها، و أقسمت الا يكون لغيرها...
تريد أن توهم نفسها بأنه الحب، لكن رنيم تفهمها جيدا، ولا تعتقد بأنه الحب أبدا، فما أن يسلم نادر مانحا قلبه إياها وهذا ما تعتبره من درب المستحيلات بعد تريخهما القصير معا، لكن أيا يكن لو حدث فسوف تزهد حور حبه...
تماما كما تزهد ما تشتريه كل يوم و تكاد تحترق رغبة في الحصول عليه وما أن يكون في يدها حتى تسأمه...
بالرغم من تشابهما في كثيرٍ من الأمور الا أن رنيم تشعر بفارقٍ جوهري يفصل بينهما، حتى و إن كانت قد ساعدتها في ما مضى لتحصل على نادر...
نظرتا الى بعضهما، صداقتهما تمتد منذ سن السادسة عشر، بالرغم من الفارق الإجتماعي بينهما فرنيم هي ابنة أحد الدبلوماسيين، من مستوى عالٍ تماما كدانا لكن شتان بين الاثنتين فرنيم بالنسبةِ لحور تهتبر حالة مختلفة، تقريبا عاشت معها كل يومٍ بيومه. دخلت بيتها البسيط الطراز، والذي لا يقارن ببيتها العالي المستوى والتي حرصت والدة رنيم على أن تصمم كل ركنٍ فيه بنفسها و تجميع أجزاؤه من كل مكانٍ سافرت اليه في العالم...
لكن رنيم كانت دائما الأقرب لها من كلِ من عرفتهن، دائما بجوارها ظالمة أو مظلومة، هذه هي أحد أهم أعمدة صداقتهما، التضامن معا ضد أي شيء أو أيا كان، في سبيل نيل ماتريده الأخرى...
لكن إن أرادت حور أن تكون منصفة. فعلى الأغلب هي التي تكون المحور دائما. فرنيم ليس لها طلبات أو أحلام كثيرة أو مبهرة، و حور أيضا، ماعدا حلما واحدا، نادر، والذي لم تنله الى الآن، بالرغم من كل ما وصلت اليه الا أنها لم تصل الى نادر الى الآن وهذا هو ما يقتلها...
نظرت رنيم أمامها وهي تتنهد قليلا، محتضنة أحد وسائد الأريكة مسندة ذقنها اليها بوجوم، فقالت حور وهي تنظر اليها (ما بكِ؟).
لم تنظر اليها رنيم لكنها قالت بخفوت (هل أنتِ على استعداد لتسمعي)
التفتت اليها حور رافعة ركبتها الى الأريكة وهي تقول مقضبة جبينها (بالطبع، ماذا بكِ؟)
رفعت رنيم عينين جميلتين حزينتين وهي ترجع شعرها الى الخلف، ثم همست (تعرضت اليوم لموقف محرج للغاية)
قاطعها صوت رنين هاتف حور فاشارت اليها باصبعها ذو الظفرِ الطويل المصبوغ لتقول (لحظة، لحظة).
ثم ردت على الهاتف بصوتها الناعم (نعم، نعم يا أمي لا تخافي، لن أتأخر، أخبريني، هل هاتفك عاصم؟)
ظلت تستمع قليلا ثم ردت بغموض (متى سيعود تحديدا يا أمي؟، لا، لا تخافي سأعود قبلها بالتأكيد، حسنا، الى اللقاء)
اغلقت هاتفها وهي تنظر اليها بابتسامة رائعة شريرةٍ في روعتها، ثم همست بشرود (يبدو أن عاصم قد تعرض اليوم الى ما أغضبه بشدة، رائع، عاصم في غضبه يكون كالثور الهائج).
رفعت رأسها بحماسةٍ وهي تنظر مبتهجة الى رنيم لتقول (حسنا جهزي العاب الفيديو، أنا مستعدة لأمزقك شر تمزيق)
نظرت اليها رنيم للحظات ثم همست (نعم أعرف أنك مستعدة لاللعب، أرى نظرة عينيكِ البراقة، وأنت لست مستعدة لأي شيءٍ آخر الليلة، حسنا سأبدا لأعد ما نحتاجه).
ثم قامت من مكانها دون أن تلمح حور نبرة الحزن في صوتها، لأن تلك النشوة و التشوق في عينيها كان يمنعها عن ترقب ردة فعل نادر، والتي تتشوق لأن تراها و لو لمرةٍ في حياتها...
نظرت حور الى هاتفها الذي حولته للنظام الصامت في الأربع ساعاتٍ الماضية، لتجد أن لديها عشر مكالمات من أمها، وثلاثا من عاصم، كما أن أمها قد هاتفت رنيم لتسأل عن حور، لكن رنيم الضعيفة الإرادة أمام صديقتها الوحيدة اضطرت للكذب و انكار وجودها، إنها الواحدة صباحا، هذا يكفي تماما، فلتتجه إلى البيت الآن...
و بالفعل خلال نصف ساعة كانت تفتح باب البيت لتدخل بكلِ هدوء، رفعت رأسها لترى هيئة الاستقبال في انتظارها كما توقعت تماما، والدتها المرعوبة بوجهها الأصفر...
كان عاصم أقل ما يوصف به أنه مرعبا في غضبه، يبدو على وشكِ أن يقتلها، واجهت نظرته بنظرة تحدي مستفزة أشعلت غضبه أكثر و أكثر، لكنه لم ينطق سوى بسؤالٍ بسيط بمنتهى الهدوء (أين كنتِ؟).
نقلت نظرتها بينه وبين أمها المرعوبة الا أنها رفضت تماما الانصياع للشفقه المتجهة لأمها المسكينة، فقالت بمنتهى الصفاقة (ولماذا تسأل؟، من عينك وصيا علي؟)
اتسعت عينا عاصم قليلا و شهقت أمها من خلفه، لكنها لم تجد القدرة على النطق بشيء من شدة رعبها لمعرفتها بطبع عاصم في مثل هذه المواقف...
اقترب منها عاصم ببطء ليقول بصوتٍ خطير أكثر خفوتا (ماذا قلتِ؟).
ردت تدفع شعرها الى الخلف بتحدٍ أكبر وهي تعيد بنبرةٍ أعلى (ما سمعته)
امتدت يد عاصم لتقبض على لحم ذراعها بشراسةٍ كادت أن تمزقه، وهدر فيها بصوتٍ أثار رجفة بداخلها لكنها منعت ظهورها بمنتهى القوة (هل جننتِ كيف تجرؤين على مكالمتي بهذه الطريقة؟، أين كنتِ؟، انطقي حالا و ارحمي نفسك من غضبي).
لم تحاول التملص من يده المتشبثة في ذراعها و صرخت بثورةٍ زائفة (سهرت مع بعض أصدقائي، هل هي جريمة؟، ثم ما دخلك أنت؟، أنا متزوجة و في عصمة رجل أما أنت فلا سلطة لك على أبدا).
تركت يده ذراعها وامتدت لتجذبها من شعرها فصرخت بشدة بينما صرخت أمها و اقتربت جريا لتحاول أن تخلص شعر حور من يده لكن دون جدوى، فاخذت تستعطفه برحمةِ والده دون جدوى وهو يهدر بشدة (ماذا بكِ؟، هل جننتِ أم تناولتِ شيئا أفقدك صوابك. هل تظنين أن كونك متزوجة مع إيقاف التنفيذ فإن ذلك سيمنحك الحرية لتتصرفي كما يحلو لك، كما يتصرف اولائك السفهاء اللذين تختلطين بهم، إن ظننتِ للحظة أنكِ منهم أو أني أصبحت من مؤيدين تلك الحريةِ الهمجية بدعوى التحضر فأنتِ مخطئة تماما، أنا لازلت ابن الحاج اسماعيل رشوان، وحين تحاولين ولو من بعيد المساس بأحد قواعد هذا البيت فسأنسى تلك الحلة التي أرتديها وقسما بالله العظيم سأريكِ وجها لم تعرفيه طوال حياتك).
صرخت في وجهه و قد دفعها الخوف الى الصراخ أعلى و أعلى حتى لا تتراجع (من تظن نفسك، إن كنت أسكت لك أحيانا فهذا فقط لأريح نفسي من طباعك الغبية، لكن لا تظن للحظة واحدة أنك تخيفني، إن كنت حتى لا تخيف خطيبتك الغبية فهل تظن أنك ستخيفني).
للحظة اتسعت عيناه أكثر و لم يتمالك نفسه فرفع يده عاليا ليصفعها بقوة على وجهها، صرخت أمهما بشدة، وهي تضرب صدرها بيدها ودموعها تغرق وجهها، لكن ذهولها لم يطول وهي تعاود لمحاولة إبعاد حور في تلك اللحظة عن مرمى عاصم...
رفعت حور وجهها لتنظر اليه بشراسةٍ وقد احمرت وجنتها في الحال فقالت بوحشية (هيا، أرني رجولتك أكثر، فهذا ما تفتقده معها اليس كذلك، منصب والدها يمنعك من التجرؤ على ابداء أي ملحوظةٍ، تسير خلفها بمنتهى الخنوع وهي تتصرف كما يحلو لها، تمرح هنا وهناك، وأنت لا تفعل أكثر من أن تشيح بوجهك مدعيا ضعف النظر).
ضربها بشكلٍ أكثر قسوة حتى أدمى زاوية شفتيها، لكن الأم هذه المرة صرخت أعلى وهي تقف بينهما لكن عاصم تمكن من جذب حور من شعرها ليجعلها تتجاوز أمه المنتحبة بينهما، أمسك بشعرها بشدة وهو يرجع رأسها الى الخلف لينظر الى وجهها و قد تحول وجهه الى وجهٍ مريع من شدة الغضب وهو يقول بصوتٍ خافت على عكس صراخه منذ لحظة، (الى ماذا تسعين؟، هل تظنين أن بسفاهاتك الحقيرة تلك سأتغاضى عن تصرفاتك وأغط الطرف عنها؟، أقسم أنكِ سترين مني أياما لم تريها من قبل يا حور).
نظرت في عمق عينه بالرغم من ارتعاشها ثم ألقت بكلمةٍ واحدة في وجهه (منافق)
شعر عاصم في تلك اللحظة أن كل ذرة عقل لديه قد غادرته الى غير رجعة، حين صفعها للمرةٍ الثالثة وهو يصرخ بغضبٍ ناري أعمى عينيه وهو يعود ليصرخ (اصمتي، عديمة الحياء يا مجنونة).
في تلك اللحظة كانت حنين قد وصلت اليهما على صوتِ صراخهما وهي متسعة العينين بذعر على مرأى وجه حور المكدوم وعاصم الممسك بشعرها، بينما أمهما تضرب على رأسها منتحبة في قمة الإنهيار، احتاجت للحظةٍ واحدة فقط للتصرف قاذفة نفسها بينهما تتشبث بقميص عاصم صارخة به أن يتوقف وقد اغروقت عيناها بالدموع في لحظة، صدمت حنين للحظاتٍ وهي ترى عاصم يلهث بشدةٍ حتى خشيت بحقٍ عليه، كان يبدو كمن على وشكِ الإصابة بنوبةٍ قلبية ٍ من شدة لهاثه وعينيه الحمراوين، أخذت حنين تخلص شعر حور بصعوبةٍ من أصابعه المخلبيتين، وهي تصرخ وتدق على صدره بقوةٍ بينما بكائها يتعالى أكثر وأكثر، وعيناها تتسعانِ رعبا من هذا العنف المحيط بها...
لم تعرف عاصم على هذه الصورة الا في زمنٍ بعيد، بعيدٍ جدا، في سنواتِ الحي القديم، وقتها يتفجر بركانه الأخرق محرقا كل ما حوله...
ومن نظرة حور المتسعة لمحت حنين في جزءٍ من الثانية بريقا منتصرا غير مفهوم، أخذت حنين تترجاه باكية أن يتركها وهي تحتضن حور بشدةٍ بينما شعرها لازال بين أصابع عاصم...
أخذ لهاث عاصم يهدأ تدريجيا وعيناه مسمرتانِ في عيني أمه المنتحبةِ، ترك شعر حور بعد فترة وابتعد عنهما ومشى عدة خطوات لكنه استدار ونظر الى حور اللاهثة المشعثة الشعر ثم قال بصوته المجهد وعيناه المتعبت (لن أنسى ما قلته الآن يا حور، لن أنساه أبدا).
ثم تركهم ليصعد مبتعدا عن ذلك الجنون الذي كان يهدد بهم المنزل منذ دقائق، تقدمت أم حور منها لتتلقفها في أحضانها وهي تربت على وجنتها المتورمة بينما صدرها يهتز من شدة نحيبها، أخفضت حور نظرتها من نظرة حنين العاتبة المجروحة بينما لازالت دموعها تنهمر ناعمة على وجنتيها...
دخلت حور حجرتها متثاقلة متعبة، أغلقت الباب خلفها وهي تذهب مباشرة لفراشها لترتمي عليه بملابسها و قد نال منها التعب النفسي و الجسدي بشدة، لقد آلمت الجميع الليلة، لكنها ليست نادمة، سيداويهم اطمئنانهم عليها حين تعود الى بيتها، بجوار نادر، وهل هناك هدفا أسما من أن تعود الى زوجها، إنها مستعدة لفعل أكثر من ذلك بكثير، عند هذه النقطة أغمضت عينيها لتسافر في نومٍ عميق و ابتسامة أمل مرتسمة على شفتيها...
طرقت حنين على باب غرفة عاصم بهدوء وحين لم تسمع ردا فتحت الباب بحذر ودخلت، وجدت عاصم جالسا على حافة فراشه محنيا رأسه، ربطة عنقه محلولة و زري قميصه العلويين مفكوكين و كأنه لم يجد القدرة على إكمال خلع ملابسه، شعرت حنين بالشفقة عليه بالرغم من غضبها منه في نفس الوقت، اتجهت ببطءٍ وحذر اليه الى أن جلست بجواره، ظلا صامتين لا يتكلمانِ وقد عرفت تماما ما يشعر به في تلك اللحظة، نظر اليها عاصم بعد فترةٍ طويلة، ثم عاد لينظر أمامه، كانت تريد أن تعنفه بشدةٍ لما فعله لكنها ستؤجل هذا الى أن تطمئن عليه، الى أن يسكن نفسه اللاهث و قلبه المضطرب، المجنونة حور ماذا فعلت، أثناء نزولها على السلالم جريا سمعت الكثير من تلك التفاهات التي أطلقتها حور، ماذا دهها لتقول ما قالت، و كأن شيطانا قد تقمصها...
قال عاصم بصوتٍ مجهد (لقد أظهرت الجانب القديم، اليس كذلك؟).
أومأت حنين برأسها فقال بعدها (للحظةٍ شككت أن شيئا ما قد أصابها، للحظةٍ تيبست قدمي هنا في المنزل لا أدري السبيل للبحث عنها بعد أن اتصلنا بكل صديقاتها، شعرت بقلبي يكاد يتوقف و أنا أنوي النزول للبحث في الطرق، لا أعلم لماذا انتابني الرعب فجأة من عدم ردها على اتصالنا، لكن ما أن رأيتها أمامي بكل صلفها و سفاقتها حتى تحول الرعب كله الى غضبٍ لا حدود له، لم يسبق أن فقدت السيطرة على نفسي الى تلك الدرجة، حور ستؤذي نفسها يوما، و أنا أفكر كل يوم في هذه اللحظة و هذا ما يجعلني أرغب في سجنها هنا بين جدران المنزل الى أن تتعقل، ابنة عمك لا يراها أحدٌ دون أن يطمع بها، وهذا ما يثير حنقي عليها، حين تزوجت تنفست الصعداء ارتياحا، لكن ها هي عادت الى جنونها من جديد، أنا أثق بها لكني لا أثق بتهورها و الذي قد زاد أضعافا بعد انفصالها عن نادر، هل سمعتِ ما قالت؟، لم تعد تحسب حسابا لأحد، أخرجت أسوأ ما في، في لحظةٍ واحدة و الآن على أن أتعامل مع نفسي فيما فعلته).
رفعت حنين رأسها اليه و همست مرتجفة (أعلم أنك تخاف عليها، لكنك لم تحاول أبدا مصداقتها، مشاركتها ما تشعر به، كل معاملتك لها قاسية تبعدها عنا أكثر و أكثر و اليوم، لقد دمرت كل شيء، هي ترغب أن تهرب الى نادر احتماءا به).
نظر اليها عاصم ثم قال بعد أن انتهت (مصادقتها؟، أنا لا أفهم تلك الأساليب الحديثة، تلك الصداقة لن أجيدها ولا وقتا عندي لها، لما لا تحترم كلمة أخاها دون مناقشة و كفى.؟، لقد كبرت على تلك التفاهات، إنها أم و في السادسة و العشرين فماذا تنتظر بعد لتتعقل).
نظرت اليه حنين للحظة ثم قالت (حور، تحتاج اليك، دائما كان لدي مالك، يساندني، يدعمني، لكنه لم ينجح مع حور لأن شخصيتها غيري، فبنت حول نفسها قشرة صلبة، لن يكسرها غيرك، حتى وإن لم تكن تدرك ذلك، حور لم تحظى بالدعم الذي كانت بحاجةٍ اليه، حظيت بالدلال، لكن الدعم مفقود)
ابتسم عاصم قليلا ابتسامة حزينة مهزوزة ثم قال (نعم بالفعل، لطالما حظيتِ بدعم مالك، لكن حور، لاتحتاج لأحدٍ الا نفسها).
هتفت حنين بقوة (أنت مخطىء، أنت مخطىء يا عاصم، كلا منا كان يحتاج الآخر، وحور هي الوحيدة التي خرجت من الأمر بنفسها دون مساعدة أحد)
تابعت حنين بهدوء (فكر فيما قلته).
قامت من مكانها وغادرت الغرفة دون إضافة أي كلمةٍ أخرى، ومن ناحيته. لم يجد عاصم ما يقوله، وهو يشعر بأن أسرته تتفكك يوما بعد يوم، أحنى رأسه غارزا أصابعه في خصلاتِ شعره، وهو يفكر بأنه قد حافظ تماما على جهد والده في العمل، حتى التجارة القديمة لم يتركها إكراما لذكراه...
لكن أفراد أسرته يتباعدون يوما بعد يوم، الأمانة تتسرب من بين يديه، والطريق يتفرق بهم، واليوم، اليوم انكسر شيئا بينه وبين حور، لن يصلح بسهولة...
كان الصباح التالي كئيبا على الجميع، معلنا بأن شيئا ما قد هوى ما بين جدران هذا البيت، الحاجة روعة كانت متورمة العينين من شدة البكاء لليلةٍ كاملة، لم تستطع النهوض من فراشها صباحا، فبعد صلاة الفجر مكثت في الفراش تستمع للقرءان، لعل قلبها يهدأ من ألمه على أولادها الذين يتباعدون يوما بعد يوم، فلتعد حنين الإفطار هذا الصباح، فهي لن تتحمل أن تنظر الى كليهما...
أما عاصم فللمرةِ الأولى لم يواظب على عادة والده في جمع الكلِ على الإفطار، بل اتجه مباشرة الى مكتبه و أغلق الباب خلفه رافضا تناول الفطور، حور من جهتها لم ترد على حنين التي كانت تطرق بابها لتعلمها بان الافطار جاهز، الا بالصراخ عاليا من خلف الباب (لن أنزل، ابتعدو عني، لا أريد أن أرى أيا منكم).
حاولت حنين فتح الباب بالرغم مما ستلقاه من هجومٍ ضاري عليها لكن الباب كما توقعت كان مغلقا بالمفتاح تنهدت بحزن تريد أن تنزل لكن قلبها يتألم من أجل صديقتها القديمة، ليس من العدل أن تتعرض حور لمثل هذا العنف حتى إن كانت مخطئة...
طرقت الباب مرة أخرى وهي تحاول التكلم بهدوء متفهم (حور افتحي الباب حبيبتي، لا تبقي في الداخل بمفردك، دعيني ادخل أرجوكِ).
وصلها صراخ حور المجنون (ابتعدي من هنا، أعرف أن السعادة تملأ قلبك فلا تجهدي نفسك بتمثيل دور الطيبة معي)
صدمت حنين من تلك القسوة المنبعثة منها، بالرغم من أنها ليست المرةِ الأولى التي تسمع من حور مثل هذا الكلام المشبع بالكره، لا تستطيع الا أن تتذكر بأنهما كانا يوما كأختين، صديقتتين و ثالثتهما نوار، لكن في يومٍ وليلة انقضت الصداقة و نفذ الفراق بين ثلاثة زهراتٍ صغيرات...
أغمضت حنين عينيها بألم، منذ ذلك اليوم المحفور في ذاكرتها بنقوشٍ نازفة، وحور لا تدخر سبيلا في ايلامها بشتى الطرق...
نزلت السلم بقلبٍ مجروح، وكأن ما تعيشه ليس كافيا لتأتي حور وتكمل من تحقيرها...
كانت حور واقفة أمام مرآتها تنظر الى صورتها المشوهة، تحصد غنائمها، جانب فكها أزرق بشدة، بالإضافة الى الزاوية المجروحة بين شفتيها، ارتدت ثوبا صيفيا بحمالات رقيقة على أكتافها، فبانت أصابع عاصم الموشومة بلونٍ ازرق داكن على بشرة ذراعها الرقيقة، عقدت شعرها على هيئة ذيل حصان فبدت أنثى رقيقة قد خرجت للتو من مأساة، نظرت الى ساعة معصمها فوجدت أن موعد وصول نادر ومعتز قد اقترب، إنه دقيق في مواعيده دائما وكأن الساعة مضبوطة عليه...
كل ما عليها الآن أن تنتظره مرتدية نظرة الضياع التي تعلمتها و أتقنتها على مر السنين، فكرت في نفسها وهي تنظر اليها مبتسمة.
لا تحب الإغراء، لا يجذبك الإغواء، لا يهزمك الا دموع أنثى ضعيفة مكسورة الجناح، سلاحي الذي لا يخيب. أعرفك أكثر من نفسك، أفهمك ولا يفهمك غيري، كنت أريدك أن تتعلق بي كما أنا لكن إن كان الأمر يتطلب أن أكون الأنثى المكسورة المنتظرة شهامتك فسأكونها، من أجل عيونك أنت فقط يا متحجرالقلب، هل هنت عليك لتتركني كل تلك الفترة اللعينة، ألم تشتاق إلى ولو لمرة، الم تذكر أية لحظة بيننا تجذب روحك لتناديني، أنا أذكر، أذكرها لحظة لحظة، من ندرتها أذكرها جيدا...
وعدي الذي أعده لنفسي كل يوم، ستعود إلى جاثيا يا حبيبي، ولن أتدلل وقتها سأسلم كل راياتي وحصوني اليك...
قاطع تفكيرها صوت رنين جرس الباب فانتفض قلبها انتفاضته المعتادة، لقد وصل، سأراه، سأراه وكأن مر على سنين و قفزت من مكانها لتجري هابطة السلالم، ترن أساورها وخلخالها، الى أن وصلت الى الباب فتغيرت ملامحها في لحظةٍ واحدة بكلِ اقتدار لترسم تلك النظرة المنشودة، فتحت الباب ببطء لتراه أمامها من جديد، مرة أخرى خلال يومين لكنها اليوم ستكون مختلفة، وعدا...
ابتسمت بضعف وعيناها تتركانِ نادر بصعوبةٍ لا تريد أن تفارقانه أبدا، إلى رأس معتز الناعم المطرق أرضا و ممسكا بكف والده ثم انحنت اليه لتداعب شعره الناعم قائلة برفق (مرحبا صغيري، لقد اشتقت اليك للغاية)
حين لم يرد عليها كالعادة نزلت على ركبتيها لتضمه إلى صدرها متنشقة عطره وهي تهمس (ادعو الله الا يحرمني أبدا من تلك الرائحة المسكرة).
بعد لحظةٍ نهضت مرة أخرى وهي ممسكة بيد معتز الصغيرة، تنظر الى نادر في كل مكانٍ حوله دون أن تواجه عينيه قصدا ثم همست (مرحبا نادر)
تنازل ورد عليها مرغما (مرحبا)
اختارت اللحظة لتواجه عينيه أخيرا ففوجئت به ينظر اليها بعبوسٍ مخيف، ملاحقا تلك الكدمات على وجهها، الخطة تنجح، أثارت اهتمامه أكثر الف مرة من خطة الإغواء بالأمس، قال بعد فترة صمت بخشونة (ماذا حدث لك؟).
تظاهرت بالاجفال للحظة ثم رفعت يدها الى الكدمة في جانب وجهها، ثم همست تتلعثم (ل، لقد سقطت من على الدرج)
مد نادر يده ليرفع ذقنها اليه فاشتعل جسدها بنار الاشتياق من لمسته حتى كادت أن تخر على ركبتيها أمامه متوسلة بأن يعيدها اليه، لكنها استجمعت كل إرادتها، لكي تسبل جفنيها بانكسارٍ مرسومٍ بأروع صوره...
تحركت أصابعه تلامس صدغها برفق، والعبوس يرسم ملامحه، ثم قال بغضب (هناك أصابع مرسومة على وجنتك يا حور، فكفي عن الكذب، من فعل بكِ ذلك؟)
ارتجف قلبها بهجة، يختلط فيها الانتصار بالشوقِ المضني للمسته المتجولة، لم تجد ما تقوله، للحظةٍ لم يطاوعها قلبها لإكمال خطتها الفجة، فلتتركه يستنتج ما يريد، المهم أنها وصلت لى تلك النقطة...
تابع نادر بغضبٍ واثق لا يقبل الإنكار (إنه عاصم، اليس كذلك؟).
أخفضت رأسها بشعورٍ مقبض، حقيقي، لكن الألم لم يلبث أن تحول الى غضبٍ حارق حين أكمل كلامه قائلا بغضب (ماذا فعلتِ ليضربك عاصم؟)
رفعت اليه عينيها بنظرةٍ للحظة ضربته في الصميم، لم يكن يوما قاسيا بهذا الشكل قبل أن يعرفها، لا يستطيع الا أن يعاملها بقسوةٍ، فهي بكلِ بساطة شعلة خارجة عن نطاق السيطرة، في فترة زواجهما التي لم تتجاوز الأشهر القليلة أستطاعت أن تجعله يمشي وهو ينظر حوله من لوعها الفطري...
لم يعتد هذا النوع من النساء من قبل، بالرغم من عمره الذي يماثل عمر شقيقها عاصم، الا أنه لم يكن يوما من العابثين أو ممن يحبون الأختلاط بالفتيات، كان يحلم بفتاة بسيطة تحمل اسمه وأطفاله وتنجح في الحفاظ على كليهما، لم يكن من محبي القصص العنيفة أو الشخصيات المثيرة، لذا ففتاةٍ كحور لم تكن لتجذب أنظاره أبدا مهما بلغت جاذبيتها، تلك الهالة الإستعراضية من حولها تجعله يرغب في الإبتعاد عنها تلقائيا، الى أن وجد نفسه متزوجا منها يوما...
لكن قسوته معها الآن لم تكن في محلها، فأيا كان ما فعلته فهي بالتأكيد لم تفعل ما يبرر هجوم عاصم عليها كالثور بهذا الشكل الهمجي...
أعاد سؤاله بنبرةٍ جافةٍ لكن أخفت صوتا (ما الذي حدث بينكما ليفعل ما فعل؟).
ابتلعت غصةٍ في حلقها وهي تنظر اليه نظرة عتابٍ حقيقية، بالرغم من أنها قد طبخت الخطة جيدا لكن على مايبدو أنها قد صدقتها، شعرت بجرحٍ عميقٍ منه وهو يريد أن يعلم ما أجرمته، فهي في نظره المجرمة دائما، وكل من حولها معذورين بمجاورتها...
أطرقت برأسها وقد فقدت كل رغبةٍ في الاسترسال بتلك الخطة الغبية والتي لم تنل منها الا ذل نفسها بهذه القسوة البشعة، الى أين سيصل بها هذا الحب المهووس...
اقترب نادر منها خطوة واحدة وعاد ليمد يده مرة أخرى لكن ليمرر أصابعه على العلامات الزرقاء التي تلون ذراعها هذه المرة، أغمضت عينيها للحنين الغادر وهو يعود ليستشري في أوردتها ساخنا...
سمعت صوت نادر وهو يقول بقسوة (هل هناك المزيد؟).
لم تستطع الرد، فقدت كلِ شيطنتها التي ظلت تجمعها بالأمس، ففسر نادر صمتها على انه موافقة على ماقاله فأخذ نفسا عميقا غاضبا كاد أن يحرق الجو من حولها، فانتفض قلبها خوفا رغما عنها، سالها نادر مرة اخرى بخشونة (مالذي حدث يا حور؟)
لم تستطع الا أن تجيب باختناق (ليس شيئا مهما، مجرد شجار عادي بيننا ككلِ مرة، أنت تعرف أني وعاصم لا نتفق كثيرا).
عبس بشدة (شجار عادي؟، وهل الشجار العادي و ذلك الشيء الغير هام يعطيه العذر ليعاملك بمثلِ هذا العنف؟)
ارتبكت حور بشدة وظلت تنظر أرضا، ومن الأرض الى وجه ابنها الذي يحاول استيعاب ما يحدث بصمته المعتاد، لقد ابتعدت جدا في تصرفاتها هذه المرة، يالهي الأمور تخرج من يدها كل مرة...
انتفضت خوفا حين قال نادر بصوتٍ مخيف (أين هو عاصم؟، أريد أن أراه).
اتسعت عينا حور من تلك النقطة التي لم تحسب حسابها فقالت بسرعةٍ متلعثمة وهي تنظر اليه بترجي (لا، لا يا نادر، لقد انتهى الأمر، أرجوك، أمي لن تحتمل موقفا عصبيا آخر)
أمسك نادر بذراعها وهو يقول بخشونة (لقد ضرب أم ابني، لقد تجاوز منطقتي الخاصة).
للحظاتٍ نسيت أن تتنفس من بين شفتيها المفتوحتين قليلا وهي تنظر اليه، منطقته الخاصة، هل ستكون صادقة إن قالت أن هذه هي أروع كلمةِ غزل داعبت أذنها، امتلاك، امتلاكه لها، خوفه على أرضه التي أنبتت ثمرته الصغيرة...
أي شعورٍ دافىءٍ هذا الذي تملكها في هذه اللحظة، شفتيها المفتوحتين ارتفعتا قليلا في ابتسامةٍ لا تماثل ابتساماتها المدروسة، ابتسامة غريبة لم يرها من قبل، خاصة وعينيها تتوهانِ في عينيه بتلك الطريقة الشاردة والتي تجعله يشعر بأنه الرجل الوحيد في الدنيا، إنها دائما ترضي غروره، لا يمكنه أن ينكر ذلك، لكنه مع الوقت شعر بأن ذلك لم يقارب حتى أن يكون كافيا لبدء حياةٍ سويةٍ بينهما...